عدد الزوار 144 التاريخ Sunday, July 3, 2022 7:35 AM
فأجاب: أَوَّلًا: لَا بُدَّ أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الخَائِفِ وَالمُكْرَهِ؛ فَإِنَّ الخَائِفَ يُؤَاخَذُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْجَأْ بِالقُوَّةِ إِلَى مُنْكَرِ القَوْلِ أَوِ الفِعْلِ، بِخِلَافِ المُكْرَهِ؛ فَقَدِ اضْطَرَّهُ مُكْرِهُهُ عَلَى مُنْكَرِ القَوْلِ أَوِ الفِعْلِ بِالقُوَّةِ وَالإِجْبَارِ، بِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَحَمُّلِهِ، كَالتَّهْدِيدِ بِالقَتْلِ، فَاسْتَجَابَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، بِخِلَافِ الأَذِيَّةِ بِضَرْبٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُهُ تَحَمُّلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهِ، كَذَلِكَ لَا يُعْذَرُ فِي قَتْلِ مَعْصُومٍ وَإِيقَاعِ الإِضْرَارِ البَالِغِ بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ تَعَالَى: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
قَالَ القُرْطُبِيُّ: لَمَّا سَمَحَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالكُفْرِ بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، عِنْدَ الإِكْرَاهِ وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ، حَمَلَ العُلَمَاءُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا، فَإِذَا وَقَعَ الإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَبِهِ جَاءَ الأَثَرُ المَشْهُورُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" الحَدِيثُ.
وَالخَبَرُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ مِنَ العُلَمَاءِ؛ قَالَهُ القَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ أَنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ، قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الأَصِيلِيُّ فِي الفَوَائِدِ، وَابْنُ المُنْذِرِ فِي كِتَابِ الإِقْنَاعِ.
الرَّابِعَةُ: أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الكُفْرِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ القَتْلَ، أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، وَلَا تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الكُفْرِ؛ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالكُوفِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّ ...
الخَامِسَةُ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي القَوْلِ، وَأَمَّا فِي الفِعْلِ فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ، مِثْلَ: أَنْ يُكْرَهُوا عَلَى السُّجُودِ لِغَيْرِ اللهِ، أَوِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ القِبْلَةِ، أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ، أَوْ ضَرْبِهِ، أَوْ أَكْلِ مَالِهِ، أَوِ الزِّنَا، وَشُرْبِ الخَمْرِ، وَأَكْلِ الرِّبَا؛ يُرْوَى هَذَا عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ وَسُحْنُونٍ مِنْ عُلَمَائِنَا ... وَاحْتَجَّ مَنْ قَصَرَ الرُّخْصَةَ عَلَى القَوْلِ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ كَلَامٍ يَدْرَأُ عَنِّي سَوْطَيْنِ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كُنْتُ مُتَكَلِّمًا بِهِ. فَقَصَرَ الرُّخْصَةَ عَلَى القَوْلِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الفِعْلَ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْكَلَامِ مِثَالًا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ الفِعْلَ فِي حُكْمِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الإِكْرَاهُ فِي الفِعْلِ وَالقَوْلِ سَوَاءٌ إِذَا أَسَرَّ الإِيمَانَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَمَكْحُولٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ. رَوَى ابْنُ القَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوِ الإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَنَّ الإِثْمَ عَنْهُ مَرْفُوعٌ.
السَّادِسَةُ: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ وَلَا انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى البَلَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الزِّنَا، فَقَالَ مُطَرِّفٌ، وَأَصْبغُ، وَابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ، وَابْنُ المَاجَشُونِ: لَا يَفْعَلُ أَحَدٌ ذَلِكَ، وَإِنْ قُتِلَ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَهُوَ آثِمٌ وَيَلْزَمُهُ الحَدُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالحَسَنُ. قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الإِقْدَامُ عَلَى الزِّنَا وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِمَنْ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا شَهْوَةٌ خِلْقِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ الإِكْرَاهُ عَلَيْهَا، وَغَفَلَ عَنِ السَّبَبِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ، وَهُوَ الإِلْجَاءُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَسْقَطَ حُكْمَهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الحَدُّ عَلَى شَهْوَةٍ بَعَثَ عَلَيْهَا سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ، فَقَاسَ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَمْ يَحِلَّ بِصَوَابٍ مِنْ عِنْدِهِ.
وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزٍ مِنْدَادٌ فِي أَحْكَامِهِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَتَى أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَا؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْهِ الحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ خُوَيْزٍ مِنْدَادٌ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ فَالقِيَاسُ أَنْ يُحَدَّ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِنُ أَلَّا يُحَدَّ. وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالَا: لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي الوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُرَاعُوا الانْتِشَارَ، وَقَالُوا : مَتَى عَلِمَ أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ مِنَ القَتْلِ بِفِعْلِ الزِّنَا جَازَ أَنْ يَنْتَشِرَ. قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ السُّلْطَانِ.
وَأَطَالَ القُرْطُبِيُّ فِي مَسَائِلِ المُكْرَهِ، فَلْيُرَاجَعْ.
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَعَلَى هَذَا، فَكَلَامُ الْمُكْرَهِ كُلُّهُ لَغْوٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يَكْفُرُ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَجَاوَزَ عَنِ الْمُكْرَهِ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُرَادُ بِهِ كَلَامُهُ قَطْعًا، وَأَمَّا أَفْعَالُهُ، فَفِيهَا تَفْصِيلٌ؛ فَمَا أُبِيحَ مِنْهَا بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُتَجَاوَزٌ عَنْهُ، كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَالْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ، وَلُبْسِ الْمَخِيطِ فِي الْإِحْرَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمَا لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ، كَقَتْلِ الْمَعْصُومِ، وَإِتْلَافِ مَالِهِ، وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، هَلْ يُحَدُّ بِهِ أَوْ لَا؟ فَالِاخْتِلَافُ هَلْ يُبَاحُ ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ لَا؟ فَمَنْ لَمْ يُبِحْهُ حَدَّهُ بِهِ، وَمَنْ أَبَاحَهُ بِالْإِكْرَاهِ لَمْ يَحُدَّهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فِي الْإِكْرَاهِ، أَنَّ الْأَفْعَالَ إِذَا وَقَعَتْ لَمْ تَرْتَفِعْ مَفْسَدَتُهَا، بَلْ مَفْسَدَتُهَا مَعَهَا، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهَا يُمْكِنُ إِلْغَاؤُهَا وَجَعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَقْوَالِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ، فَمَفْسَدَةُ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ ثَابِتَةٌ، بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الْقَوْلِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَثْبُتُ إِذَا كَانَ قَائِلُهُ عَالِمًا بِهِ مُخْتَارًا لَهُ. انْتَهَى.