عدد الزوار 178 التاريخ Sunday, July 3, 2022 7:00 AM
فأجاب: قَالَ القُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْهَزْلِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: لَا يَلْزَمُ مُطْلَقًا. يَلْزَمُ مُطْلَقًا. التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ. فَيَلْزَمُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الطَّلَاقِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَلَا يَلْزَمُ فِي الْبَيْعِ. قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: يَلْزَمُ نِكَاحُ الْهَازِلِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: يُفْسَخُ قَبْلُ وَبَعْدُ. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الْهَازِلِ قَوْلَانِ. وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا الْقَوْلَانِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ فِي أَنَّ جِدَّ الطَّلَاقِ وَهَزْلَهُ سَوَاءٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْهَزْلِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَا غَلَبَ الْجِدُّ الْهَزْلَ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ. قُلْتُ: كَذَا فِي الْحَدِيثِ (وَالرَّجْعَةُ)، وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ، قَالَ: ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِمْ لَعِبٌ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالعِتْقُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، كُلُّهُمْ قَالَ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِنَّ، وَاللَّاعِبُ فِيهِنَّ جَادٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعِتْقُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: أَرْبَعٌ جَائِزَاتٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ: الْعِتْقُ، وَالطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنُّذُورُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالنُّذُورُ. انْتَهَى.
الأَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ بَيْعَ الهَازِلِ الظَّاهِرَ هَزْلُهُ لَا يَنْعَقِدُ، كَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِرُخْصٍ كَثِيرٍ، فَالرُّخْصُ قَرِينَةُ الهَزْلِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَبِيبٍ مِنْ ثِقَاتِ المَدَنِيِّينَ. وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ، فَقَالَ: قُلْتُ: فِيهِ لِينٌ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الحَدِيثَ فِيهِ ضَعْفٌ، وَإِنْ حَسَّنَهُ مَنْ حَسَّنَهُ لِطُرُقِهِ، فَلَا يَنْهَضُ إِلَى العَمَلِ بِهِ، إِذَا كَانَ الشَّخْصُ لَا يَعْلَمُ بِوُجُودِ هَذَا الحَدِيثِ، أَوْ لَمْ يَتَوَقَّعْ أَنَّ الهَزْلَ جِدٌّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ العُلَمَاءِ، فَجَهْلُهُ قَرِينَةُ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ.
أَمَّا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُودِ الحَدِيثِ، وَأَنَّ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ الَّذِينَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِي عِلْمِ الحَدِيثِ وَالفِقْهِ يُحَسِّنُهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، فَتَجَاهَلَ هَذَا كُلَّهُ وَاسْتَحْمَقَ فَهَزَلَ، فَإِنَّ إِلْزَامَهُ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ الصَّرِيحِ لَهُ وَجْهٌ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَتَضَمَّنَتْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا هَزَلَ بِالطَّلَاقِ أَوِ النِّكَاحِ أَوِ الرَّجْعَةِ لَزِمَهُ مَا هَزَلَ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْهَازِلِ مُعْتَبَرٌ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ كَلَامُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلَّفْظِ غَيْرُ مُرِيدٍ لِحُكْمِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا إِلَى الْمُكَلَّفِ الْأَسْبَابُ، وَأَمَّا تَرَتُّبُ مُسَبَّبَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا فَهُوَ إِلَى الشَّارِعِ، قَصَدَهُ الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَالْعِبْرَةُ بِقَصْدِهِ السَّبَبَ اخْتِيَارًا فِي حَالِ عَقْلِهِ وَتَكْلِيفِهِ، فَإِذَا قَصَدَهُ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ حُكْمَهُ، جَدَّ بِهِ أَوْ هَزَلَ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّائِمِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسُوا مُكَلَّفِينَ، فَأَلْفَاظُهُمْ لَغْوٌ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَاهَا وَلَا يَقْصِدُهُ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَصَدَ اللَّفْظَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَقْصِدِ اللَّفْظَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ، فَالْمَرَاتِبُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ أَرْبَعَةٌ:
إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ الْحُكْمَ وَلَا يَتَلَفَّظَ بِهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَلَا حُكْمَهُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ دُونَ حُكْمِهِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَالْحُكْمَ.
فَالْأُولَيَانِ لَغْوٌ، وَالْآخِرَتَانِ مُعْتَبَرَتَانِ. انْتَهَى.