عدد الزوار 192 التاريخ Monday, May 30, 2022 8:11 AM
٨٩-
فأجاب: نَعَمْ، هَذَا الحَدِيثُ صَحِيحٌ، رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ فِي أَسَانِيدِهَا كَلَامٌ، أَحْسَنُهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ، وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ أَشْرَفُ حَدِيثٍ فِي مَنْزِلَةِ الأَوْلِيَاءِ، وَأَصْلٌ فِي السُّلُوكِ إِلَى اللَّهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ.
وَمَا أَشْكَلَ ظَاهِرُهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَقَدْ عَلِمَ وَجْهَهُ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ الَّذِينَ يَرُدُّونَ المُتَشَابِهَ إِلَى المُحْكَمِ، لَا الاتِّحَادِيَّةُ وَالحُلُولِيَّةُ، أَهْلُ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ.
وَالرَّاسِخُونَ يُفَسِّرُونَ النُّصُوصَ عَلَى مُرَادِ اللهِ وَمُرَادِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا عَلَى أَهْوَائِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وَكُلُّ مَا صَحَّ مِنَ الأَحَادِيثِ، وَأَشْكَلَ ظَاهِرُهَا - بَادِيَ الرَّأْيِ - عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّ رَفْعَ الإِشْكَالِ فِي الحَدِيثِ نَفْسِهِ لِمَنْ تَمَعَّنَهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الفَهْمِ مِنَ الحَدِيثِ ذَاتِهِ، فَالأَحَادِيثُ الأُخْرَى تَرْفَعُ الإِشْكَالَ، وَتُزِيلُ اللَّبْسَ.
قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".
وَالمَعْنَى: أَنَّ هَذَا العَبْدَ الَّذِي أَحَبَّهُ اللهُ لِقِيَامِهِ بِالفَرَائِضِ، وَتَقَرُّبِهِ بِالنَّوَافِلِ، خَصَّهُ اللهُ بِأَنَّهُ بِاللهِ يَسْمَعُ، وَبِهِ يُبْصِرُ، وَبِهِ يَبْطِشُ، وَبِهِ يَمْشِي، فَاللهُ يَهْدِيهِ، وَيُرْشِدُهُ، وَيُوَفِّقُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُجِيبُهُ، لَا أَنَّ اللهَ جَارِحَتُهُ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَلَا تُرَدُّ الأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا المُؤْمِنُ يَكْرَهُ المَوْتَ، وَاللهُ يَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ المَوْتِ: سُمِّيَ هَذَا تَرَدُّدًا.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ ... وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ "الصَّحِيحِ"، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدٍ، وَلَيْسَ فِي "مُسْنَدِ أَحْمَدَ"، مَعَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَخْلَدٍ الْقَطْوَانِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: لَهُ مَنَاكِيرٌ، وَعَطَاءٌ الَّذِي فِي إِسْنَادِهِ قِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ يَسَارٍ، وَإِنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ "الصَّحِيحِ" مَنْسُوبًا كَذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، لَا تَخْلُو كُلُّهَا عَنْ مَقَالٍ".
وَقَالَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: هَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، مُخَرَّجٌ لَهُمْ فِي "الصَّحِيحِ"، سِوَى شَيْخِ الطَّبَرَانِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ ... إلخ.
وَقَالَ عَنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ: عَنْ عَطاء: هُوَ ابْنُ يَسَارٍ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّسْخِ، وَقِيلَ: هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيبُ، وَسَاقَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ خَالِدٍ مِنَ الْمِيزَانِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ فِيهِ: لَهُ مَنَاكِيرُ، وَقَوْلَ أَبِي حَاتِمٍ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ مِنْ حَدِيثِهِ اسْتَنْكَرَهَا، هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، لَوْلَا هَيْبَةُ الصَّحِيحِ لَعَدُّوهُ فِي مُنْكَرَاتِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، فَإِنَّ هَذَا الْمَتْنَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَا خَرَّجَهُ مَنْ عَدَا الْبُخَارِيَّ، وَلَا أَظُنُّهُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، قُلْتُ: لَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ جَزْمًا، وَإِطْلَاقُ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ هَذَا الْمَتْنُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَرْدُودٌ، وَمَعَ ذَلِكَ: فَشَرِيكٌ شَيْخُ شَيْخِ خَالِدٍ: فِيهِ مَقَالٌ أَيْضًا، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ الَّذِي زَادَ فِيهِ وَنَقَصَ، وَقَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَتَفَرَّدَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهَا كَمَا يَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ مُسْتَوْعَبًا فِي مَكَانِهِ، وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى يَدُلُّ مَجْمُوعُهَا عَلَى أَنْ لَهُ أَصْلًا؛ مِنْهَا:
عَنْ عَائِشَةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا، وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: إِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، لَكِنْ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُرْوَةَ، وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ عُرْوَةَ إِلَّا يَعْقُوبُ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ.
وَمِنْهَا: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَمِنْهَا: عَنْ عَلِيٍّ، عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَسَنَدُهُمَا ضَعِيفٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ، أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مُخْتَصَرًا، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مُخْتَصَرًا، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا.
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَقْطُوعًا، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَفِيهِ تَعَقَّبَ عَلَى ابْنِ حِبَّانَ، حَيْثُ قَالَ بَعْدَ إِخْرَاجِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يُعْرَفُ لِهَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا طَرِيقَانِ - يَعْنِي غَيْرَ حَدِيثِ الْبَابِ -، وَهُمَا هِشَامٌ الْكِنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ، وَسَأَذْكُرُ مَا فِي رِوَايَاتِهِمْ مِنْ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ.
وَقَدِ اسْتُشْكِلَ كَيْفَ يَكُونُ الْبَارِي - جَلَّ وَعَلَا - سَمْعَ الْعَبْدِ وَبَصَرَهُ إِلَخْ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ ... وَذَكَرَهَا.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: فَمَتَى امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مَحَا ذَلِكَ مِنَ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَاهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ، وَلَا إِرَادَةٌ، إِلَّا لِمَا يُرِيدُهُ مِنْهُ مَوْلَاهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْطِقُ الْعَبْدُ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ، وَإِنْ سَمِعَ سَمِعَ بِهِ، وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»، وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ هَذَا فَإِنَّمَا يُشِيرُ إِلَى الْإِلْحَادِ، مِنَ الْحُلُولِ، أَوِ الِاتِّحَادِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: «مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ: يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».
الْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَوْتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، وَالْمَوْتُ: هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَلَمٍ عَظِيمٍ جِدًّا، وَهُوَ أَعْظَمُ الْآلَامِ الَّتِي تُصِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا، ... فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ بِهَذِهِ الشَّدَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَتَّمَهُ عَلَى عِبَادِهِ كُلِّهِمْ، وَلَا بُّدَ لَهُمْ مِنْهُ، وَهُوَ تَعَالَى يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ وَمَسَاءَتَهُ، سَمَّى ذَلِكَ تَرَدُّدًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ.