عدد الزوار 148 التاريخ Monday, March 7, 2022 1:00 AM
(358)
لِمَاذَا لَمْ يُخَرِّجْ الإِمَامُ مُسْلِمٌ هَذَا الحَدِيثَ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ – حَفِظَهُ اللهُ -: لِمَاذَا لَمْ يُخَرِّجْ الإِمَامُ مُسْلِمٌ حَدِيثَ: "لَا تَغْضَبْ"، وَهُوَ مِنَ الأَحَادِيثِ الكُلِّيَّةِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ؟
فأجاب: لَمْ يُخَرِّجْهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللهُ - لِلاخْتِلَافِ فِي إِسْنَادِهِ، وَالبُخَارِيُّ رَوَاهُ مِنَ الطَّرِيقِ السَّالِمَةِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ - هُوَ ابْنُ عَيَّاشٍ -، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لاَ تَغْضَبْ».
وَأَمَّا الْأَعْمَشُ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ، فَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كَقَوْلِ أَبِي حَصِينٍ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعِنْدَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ: أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ جَابِرٍ، وَقِيلَ: عَنْهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ مُسَمًّى.
وَالبُخَارِيُّ رَائِدُ عِلْمِ العِلَلِ، وَخَبِيرُ الاخْتِلَافِ الوَاقِعِ فِي الإِسْنَادِ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي العِلَلِ الكَبِيرِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَالِمٍ البَرَّادِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ ... الحَدِيثَ". قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي البُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: رَوَاهُ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ سَالِمٍ البَرَّادِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، ابْنُ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثَهُ".
وَالإِعْلَالُ بِالاضْطِرَابِ وَالاخْتِلَافِ فِي المَتْنِ أَوِ الإِسْنَادِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ عُلُومِ الحَدِيثِ؛ إِذْ إِنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الخَطَأِ وَالغَلَطِ كَبِيرُ أَحَدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ.
قَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: وَمَنْ يَسْلَمُ مِنَ الوَهْمِ وَقَدْ وَهَّمَتْ عَائِشَةُ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ فِي رِوَايَاتِهِمْ؟
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: كَانَ مَالِكٌ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ وَكَانَ يُخْطِئُ. وَقَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا يُخْطِئُ شُعْبَةُ فِي أَسَامِي الرِّجَالِ!
وَقَالَ البَرْذَعِيُّ: شَهِدْتُ أَبَا زُرْعَةَ، وَذَكَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ وَمَدَحَهُ وَأَطْنَبَ فِي مَدْحِهِ، وَقَالَ: وَهِمَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ.
فَإِذَا حَصَلَ فِي المَتْنِ أَوِ الإِسْنَادِ اضْطِرَابٌ وَاخْتِلَافٌ، فَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى وَجْهٍ، وَبَعْضُهُمْ رَوَاهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ، مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ، وَلَا الجَمْعِ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ مِمَّا يُرَجِّحُ عَدَمَ ضَبْطِ الرَّاوِي: كَانَ ذَلِكَ عِلَّةً فِي الحَدِيثِ.
وَعِلَلُ الإِسْنَادِ وَالمَتْنِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، يَعْرِفُهَا أَسَاطِينُ الصِّنَاعَةِ الحَدِيثِيَّةِ، وَلَهُمْ قَوَاعِدُ وَأُصُولٌ وَذَوْقٌ وَخِبْرَةٌ يَكْتَشِفُونَ الصَّحِيحَ مِنَ الفَاسِدِ، وَالسَّقِيمَ مِنَ المُسْتَقِيمِ.
قَالَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ: "السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلَّةِ الحَدِيثِ: أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ طُرُقِهِ، وَيُنْظَرَ فِي اخْتِلَافِ رُوَاتِهِ، وَيُعْتَبَرَ بِمَكَانَتِهِمْ مِنَ الحِفْظِ، وَمَنْزِلَتِهِمْ مِنَ الإِتْقَانِ".
وَالاضْطِرَابُ يُضْعِفُ الحَدِيثَ، وَقَدْ يَكُونُ اخْتِلَافًا لَا اضْطِرَابًا، فَالاخْتِلَافُ أَعَمُّ مِنَ الاضْطِرَابِ، إِذِ الاخْتِلَافُ يُطْلَقُ عَلَى القَادِحِ وَعَلَى غَيْرِهِ، أَمَّا الاضْطِرَابُ فَلَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى القَادِحِ، وَلَا يَلْزَمُ تَضْعِيفُ الحَدِيثِ بِكُلِّ اضْطِرَابٍ، إِذْ مِنَ المُمْكِنِ اجْتِمَاعُ الاضْطِرَابِ وَالصِّحَّةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: "قَدْ يَدْخُلُ القَلْبُ وَالشُّذُوذُ وَالاضْطِرَابُ فِي قِسْمِ الصَّحِيحِ وَالحَسَنِ".
وَيُحْكَمُ عَلَى الإِسْنَادِ بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الوَصْلِ وَالإِرْسَالِ، أَوِ الوَقْفِ وَالرَّفْعِ، أَوِ الاتِّصَالِ وَالانْقِطَاعِ، وَهَذَا مَيْدَانٌ وَاسِعٌ، أَوْ زِيَادَةُ رَجُلٍ فِي أَحَدِ الإِسْنَادَيْنِ، أَوْ إِبْدَالُ الإِسْنَادِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، أَوِ التَّغْيِيرُ وَالتَّصْحِيفُ فِي اسْمِهِ وَنَسَبِهِ، إِذَا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ ثِقَةٍ وَضَعِيفٍ.
وَمِنْ عِلَلِ الإِسْنَادِ أَيْضًا: الجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَرِوَايَةِ الإِمَامِ الكَبِيرِ عَنْ مَجْرُوحٍ.
وَأَمَّا عِلَلُ المَتْنِ: فَإِحَالَةُ المَعْنَى، أَوْ تَحْرِيفٌ فِي لَفْظٍ، أَوْ مُخَالَفَةُ الرَّاوِي لِمَا رَوَى، أَوْ إِدْرَاجُ مَا لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ دُونَ تَمْيِيزٍ، أَوْ كَونُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَأَسْبَابُ ضَعْفِ الحَدِيثِ العَائِدَةُ لِلْإِسْنَادِ وَالمَتْنِ، مِنْهَا البَيِّنَةُ، وَمِنْهَا المُشْتَبِهَةُ، وَهُوَ عِلْمُ العِلَلِ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ المُشْتَغِلِينَ فِي تَحْقِيقِ الأَحَادِيثِ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ المُتَبَحِّرُ فِي أَفْرَادٍ مِنْهَا، وَيُعْرِضُ عَنْ إِخْرَاجِ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَيَعْلَمُهَا غَيْرُهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.