عدد الزوار 287 التاريخ 01/01/2021
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ يُعْتَبَرُ الخُلْعُ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَمْ كُبْرَى؟ وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إِرْجَاعَ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الخُلْعِ، هَلْ يَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ حَلَّ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِالخُلْعِ كَمَا يَكُونُ بِالطَّلَاقِ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ خِلَافٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ، هَلِ الخُلْعُ فَسْخٌ أَمْ طَلَاقٌ، أَمْ يُعْتَبَرُ فَسْخًا، إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ فَيُعْتَبَرُ طَلَاقًا؟
وَالأَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَالَ: "إِنَّهُ المَنْصُوصُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ". انتهى.
وَعَنْ طَاوُسَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَأَلَهُ، فَقَالَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، أَيَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ لِيَنْكِحْهَا، لَيْسَ الخُلْعُ بِطَلَاقٍ، ذَكَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ وَآخِرِهَا، وَالخُلْعَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ الخُلْعُ بِشَيْءٍ.
قَالُوا: "وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَكَانَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلْقَتَيْنِ ثَالِثًا، وَكَانَ قَوْلُهُ: "فَإِنْ طَلَّقَهَا" بَعْدَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى الطَّلَاقِ الرَّابِعِ، فَكَانَ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقًا بِأَرْبَعِ تَطْلِيقَاتٍ".
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَنَّ الخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَسْخٌ؛ هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسَ، وَعِكْرِمَةَ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي القَدِيمِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ".
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَلِلْعُلَمَاءِ فِيمَا إِذَا وَقَعَ الخُلْعُ مُجَرَّدًا عَنِ الطَّلَاقِ لَفْظًا وَنِيَّةً ثَلَاثَةُ آرَاءٍ، وَهِيَ أَقْوَالٌ لِلشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهَا: مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ الجَدِيدَةِ؛ أَنَّ الخُلْعَ طَلَاقٌ، وَهُوَ قَوْلُ الجُمْهُورِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي القَدِيمِ؛ أَنَّهُ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَا يُقَوِّيهِ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَوَى بِالخُلْعِ الطَّلَاقَ، هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ وَرَجَّحَ الإِمَامُ عَدَمَ الوُقُوعِ، وَصَرَّحَ أَبُو حَامِدٍ وَالأَكْثَرُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَنَقَلَهُ الخَوَارِزْمِيُّ عَنْ نَصِّ القَدِيمِ، قَالَ: "هُوَ فَسْخٌ لَا يَنْقُصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَا بِهِ الطَّلَاقَ".
وَيَخْدِشُ فِيمَا اخْتَارَهُ الإِمَامُ أَنَّ الطَّحَاوِيَّ نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَوَى بِالخُلْعِ الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَأَنَّ مَحَلَّ الخِلَافِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَنْوِهِ.
وَالثَّالِثُ: إِذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ أَصْلًا، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي "الأُمِّ"، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ، أَنَّهُ آخِرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ". انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: "اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الخُلْعِ، هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ، فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: هُوَ طَلَاقٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. فَمَنْ نَوَى بِالخُلْعِ تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إِنْ نَوَى بِالخُلْعِ طَلَاقًا وَسَمَّاهُ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا وَلَا سَمَّى لَمْ تَقَعْ فُرْقَةٌ، قَالَهُ فِي القَدِيمِ ... وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسُ، وَعِكْرِمَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ".