عدد الزوار 116 التاريخ Monday, April 8, 2024 10:04 AM
فَأَجَابَ: الأَصْلُ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَالتَّقَيُّدُ بِهَا، وَعَدَمُ الرَّغْبَةِ عَنْهَا؛ فعَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ: "وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي التَّمْرَ، إلَّا عَامًا وَاحِدًا، أَعْوَزَ التَّمْرُ فَأَعْطَى الشَّعِيرَ".
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ». أَخْرَجَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: إنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ يَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ؛ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَا أَزَالُ ... إِلَخْ، وَابْنُ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةً أَوْ شَيْئًا مِنْهُ.
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: «مَا أَخْرَجْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ لِسُفْيَانَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إنَّ أَحَدًا لَا يَذْكُرُ فِي هَذَا الدَّقِيقِ، فَقَالَ: بَلَى هُوَ فِيهِ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى إجْزَاءِ الدَّقِيقِ.
فَلَمْ تَذْكُرِ الأَحَادِيثُ إِلَّا الأَطْعِمَةَ، وَلَوْ كَانَتِ النُّقُودُ مُجْزِئَةً عَلَى الإِطْلَاقِ؛ لَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَفَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ إِظْهَارًا لِلْإِجْزَاءِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَهَا نُقُودًا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الْفِطْرَةِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وَالثَّوْرِيِّ، قَالَ: وَقَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُجْزِئُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ" انْتَهَى.
وَاخْتَارَ القَوْلَ الثَّانِي البُخَارِيُّ، وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ جَوَازَهَا نُقُودًا لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ.
قَالَ: وَلِلنَّاسِ فِي إخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُجْزِئُ بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُ بِحَالِ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ مِثْلُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي الْإِبِلِ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَمِثْلُ مَنْ يَبِيعُ عِنَبَهُ وَرُطَبَهُ قَبْلَ الْيُبْسِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد صَرِيحًا؛ فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إخْرَاجِ الْقِيَمِ، وَجَوَّزَهُ فِي مَوَاضِعَ لِلْحَاجَةِ؛ لَكِنَّ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ جَوَازَهُ، فَجَعَلُوا عَنْهُ فِي إخْرَاجِ الْقِيمَةِ رِوَايَتَيْنِ، وَاخْتَارُوا الْمَنْعَ؛ لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِثْلَهُ فِي الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْعَيْنِ نَصًّا وَقِيَاسًا: كَسَائِرِ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَصْلَحَةَ وُجُوبِ الْعَيْنِ قَدْ يُعَارِضُهَا أَحْيَانًا فِي الْقِيمَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَفِي الْعَيْنِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الْمَنْفِيَّةِ شَرْعًا. انْتْهَى.
وَالأَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - الأَخْذُ بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ إِخْرَاجُ الطَّعَامِ، وَيَجُوزُ إِخْرَاجُ القِيمَةِ لِلْعُذْرِ، كَأَنْ لَا يَجِدَ طَعَامًا، أَوْ لِلضَّرُورَةِ، كَحَاجَةِ اللَّاجِئِينَ الَّذِينَ يَصْعُبُ نَقْلُ وَإِيصَالُ الطَّعَامِ لَهُمْ؛ إِعْمَالًا لِلْأَدِلَّةِ جَمِيعِهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ: الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضٍ، ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ، فِي الصَّدَقَةِ، مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إِلَى طَاوُسٍ، لَكِنْ طَاوُسٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، فَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِالتَّعْلِيقِ الْجَازِمِ فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الصِّحَّةَ إِلَى مَنْ عُلِّقَ عَنْهُ، وَأَمَّا بَاقِي الْإِسْنَادِ فَلَا، إِلَّا أَنَّ إِيرَادَهُ لَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ يَقْتَضِي قُوَّتَهُ عِنْدَهُ، وَكَأَنَّهُ عَضَّدَهُ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْبَابِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَثَرَ طَاوُسٍ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فَرَّقَهُمَا كِلَاهُمَا عَنْ طَاوُسٍ ... وَقَوْلُهُ: "فِي الصَّدَقَةِ"، يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْخَرَاجِ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ فِيهِ: "مِنَ الْجِزْيَةِ" بَدَلَ "الصَّدَقَةِ"، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْخُذُ الْعُرُوضَ فِي الصَّدَقَةِ، وَأَجَابَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ائْتُونِي بِهِ آخُذْهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ الَّذِي آخُذُهُ شِرَاءً بِمَا آخُذُهُ، فَيَكُونُ بِقَبْضِهِ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَكَانَهُ مَا يَشْتَرِيهِ مِمَّا هُوَ أَوْسَعُ عِنْدَهُمْ وَأَنْفَعُ لِلْآخِذِ، قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنَ الزَّكَاةِ لَمْ تَكُنْ مَرْدُودَةً عَلَى الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَيَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ ... انْتَهَى.
وَاحْتَجَّ البُخَارِيُّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ؛ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ عَلَى وَجْهِهَا، وَعِنْدَهُ ابْنُ لَبُونٍ؛ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ.
قَالَ فِي الشَّرْحِ: ظَاهِرُ المَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ القِيمَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الزَّكَوَاتِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وَالحَسَنِ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ، فِيمَا عَدَا زَكَاةَ الفِطْرِ؛ فَأَمَّا زَكَاةُ الفِطْرِ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ: وَأَنَا أُعْطِيَ دَرَاهِمَ، يَعْنِي فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ، خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْطِي قِيمَتَهُ، قِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ كَانَ يَأْخُذُ بِالقِيمَةِ، قَالَ: يَدَعُونَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَقُولُونَ: قَالَ فُلَانٌ؟! قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرَضَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).