عدد الزوار 74 التاريخ Tuesday, September 12, 2023 10:50 AM
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ سَبْعٌ نَسَبًا، وَسَبْعٌ صِهْرًا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَكَذَلِكَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا سَبْعٌ رَضَاعَةً.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ)؛ أَيْ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّضَاعَةُ، أَوِ المُصَاهَرَةُ، تَحْرِيمًا إِلَى الأَبَدِ، أَوْ تَحْرِيمًا إِلَى الأَمَدِ.
فَمِنَ النَّسَبِ سَبْعٌ مُحَرَّمَاتٌ بِالإِجْمَاعِ، وَهُنَّ: (أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ).
وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ المَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ الزَّانِي عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهَا بِنْتٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ فِي إِبَاحَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنْتًا شَرْعِيَّةً؛ لِذَا لَا تَرِثُ بِالإِجْمَاعِ، وَالقَوْلُ الأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (أُمَّهَاتُكُمْ)؛ أَيْ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَهُنَّ الجَدَّاتُ مِنْ جِهَةِ الأَبِ أَوِ الأُمِّ.
وَقَوْلُهُ: (وَبَنَاتُكُمْ)؛ أَيْ مِنْ أَصْلَابِكُمْ، أَوْ بَنَاتُ الأَبْنَاءِ، أَوْ بَنَاتُ البَنَاتِ وَإِنْ نَزَلْنَ.
وَقَوْلُهُ: (وَأَخَوَاتُكُمْ)؛ أَيْ سَوَاءٌ كُنَّ شَقِيقَاتٍ، أَوْ لِأَبٍ، أَوْ لِأُمٍّ.
وَقَوْلُهُ: (وَعَمَّاتُكُمْ)؛ أَيْ أَخَوَاتُ الأَبِ، وَعَمَّاتُ الأَبِ، وَعَمَّاتُ الأُمِّ، وَعَمَّاتُ الأَجْدَادِ وَالجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ.
وَقَوْلُهُ: (وَخَالَاتُكُمْ)؛ يَعْنِي أَخَوَاتِ الأُمِّ، وَخَالَاتِ الأَبِ، وَخَالَاتِ الأُمِّ، وَخَالَاتِ الأَجْدَادِ وَالجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ.
وَقَوْلُهُ: (وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ) سَوَاءٌ كَانَتِ الأُخُوَّةِ مِنَ الأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَبَنَاتُ أَوْلَادِهِمْ وَإِنْ نَزَلْنَ.
وَالْمُحَرَّمَاتُ مِنَ الرَّضَاعِ سَبْعٌ، وَهُنَّ نَظِيرُ المُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ فِي قَوْلِهِ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ).
وَقَوْلُهُ: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) لَا يُخْرِجُ مَا عَدَاهُنَّ مِمَّا ذُكِرَ فِي السِّيَاقِ السَّابِقِ.
وَهَلْ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ الوَاحِدَةُ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثٍ، أَمْ يُشْتَرَطُ خَمْسُ رَضْعَاتٍ، وَهَذَا الأَخِيرُ هُوَ الرَّاجِحُ.
وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الرَّضَاعَةُ فِي الحَوْلَيْنِ عَلَى قَوْلِ الجُمْهُورِ.
وَانْفَرَدَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ بَيْنِ العُلَمَاءِ بِأَنَّ رَضَاعَ الكَبِيرِ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَاحْتَجَّتْ بِقِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَبَاحَهُ آخَرُونَ لِلضَّرُورَةِ.
ثُمَّ إِنَّ نَشْرَ المَحْرَمِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ بأَقَارِبِ الْمُرْضِعِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقَارِبُ لِلرَّضِيعِ، وَأَمَّا أَقَارِبُ الرَّضِيعِ فَلَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرْضِعِ.
وَقَوْلُهُ: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ)؛ أَيْ وَإِنْ عَلَوْنَ، فَتَحْرُمُ الأُمُّ وَالجَدَّاتُ عَلَى التَّأْبِيدِ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلَى ابْنَتِهَا، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، فِي ذِمَّتِهِ ابْنَتُهَا، أَوْ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَتْ؛ فَالتَّحْرِيمُ بَاقٍ.
وَسَوَاءٌ كَانَتْ أُمُّهَا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الرَّضَاعَةِ عَلَى الأَرْجَحِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: إنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّحِمِ، وَفِي لَفْظٍ: مِنْ النَّسَبِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ: مِنَ النَّسَبِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ: كَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ إِلَّا فِي أَرْبَعِ صُوَرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِتُّ صُوَرٍ، هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الفُرُوعِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مِثْلُ بَعْضِهَا فِي النَّسَبِ، وَبَعْضُهَا إِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ، فَلَا يَرِدُ عَلَى الحَدِيثِ شَيْءٌ أَصْلًا الْبَتَّةَ".
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُخْرِجُ مَا يَحْرُمُ مِنَ المُصَاهَرَةِ.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ: هَلْ يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الصِّهَارِ؟ فذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرَّضَاعِ، قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَتَوَقَّفَ فِيهِ شَيْخُنَا - شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - وَقَالَ: إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَحَدٌ بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، فَهُوَ أَقْوَى. ثُمَّ أَطَالَ ابْنُ القَيِّمِ الكَلَامَ فِي المَسْأَلَةِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ؛ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرْتُهُ بِاَلَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ: «قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ عَلَيَّ أَفْلَحُ فَاسْتَتَرْت مِنْهُ، فَقَالَ: أَتَسْتَتِرِينَ مِنِّي وَأَنَا عَمُّكِ؟ قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: أَرْضَعَتْكِ امْرَأَةُ أَخِي، قُلْتُ: إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: إنَّهُ عَمُّكِ، فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ».
ففِيه تَحْرِيمُ لَبَنِ الْفَحْلِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: التَّحْرِيمُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ فَقَطْ، فَلَمْ يَجْعَلُوا الْمُرْتَضِعَ مِنْ لَبَنِ الْفَحْلِ وَلَدًا لَهُ، وَالأَوَّلُ أَرْجَحُ.
فَالحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرْضِعَةَ وَالزَّوْجَ صَاحِبَ اللَّبَنِ قَدْ صَارَا أَبَوَيْنِ لِلطِّفْلِ، وَصَارَ الطِّفْلُ وَلَدًا لَهُمَا، فَانْتَشَرَتِ الْحُرْمَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ، فَأَوْلَادُ الطِّفْلِ وَإِنْ نَزَلُوا أَوْلَادُ وَلَدِهِمَا، وَأَوْلَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُرْضِعَةِ وَالزَّوْجِ مِنَ الْآخَرِ وَمِنْ غَيْرِهِ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ مِنَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ.
وَهَلْ تَثْبُتُ أُبُوَّةُ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ أُمُومَةُ الْمُرْضِعَةِ؟ كَمَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ ارْتَضَعَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ خَمْسَ رَضْعَاتٍ فَقَطْ؛ فَالرَّاجِحُ مِنَ القَوْلَيْنِ نَعَمْ، وَقَدْ رَجَّحَهُ ابْنُ القَيِّمِ، وَيَبْقَيْنِ رَبِيبَاتٍ لِلرَّضِيعِ.
وَقَوْلُهُ: (وَرَبَائِبُكُمُ): "الرَّبَائِبُ": جَمْعُ "رَبِيبَةٍ"، وَهِيَ ابْنَةُ امْرَأَةِ الرَّجُلِ مِنْ زَوْجٍ سَابِقٍ أَوْ لَاحِقٍ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِوَلَدِ زَوْجِ المَرْأَةِ مِنَ امْرَأَةٍ سَابِقَةٍ أَوْ لَاحِقَةٍ: رَبِيبُهَا.
وقوله: (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم): قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "فَجُمْهُورُ الأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ حَرَامٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ أَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ، قَالُوا: وَهَذَا الخِطَابُ خَرَجَ مَخْرَجَ الغَالِبِ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ ... وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، وَالفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَجُمْهُورِ الخَلَفِ وَالسَّلَفِ. وَقَدْ قِيلَ بِأَنَّهُ لَا تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا تَحْرُمُ ... ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، رَوَاهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَفِيهَا: "إِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِكَ".
قَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَحَكَاهُ أَبُو القَاسِمِ الرَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَحَكَى لِي شَيْخُنَا الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ عَرَضَ هَذَا عَلَى الشَّيْخِ الإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ، فَاسْتَشْكَلَهُ، وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ".
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "قَدْ ثَبَتَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ جَوَازُ نِكَاحِ بِنْتِ امْرَأَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ".
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: "اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّبِيبَةَ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ أُمِّهَا إِذَا دَخَلَ بِالأُمِّ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الرَّبِيبَةُ فِي حِجْرِهِ، وَشَذَّ بَعْضُ المُتَقَدِّمِينَ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الرَّبِيبَةُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ المُتَزَوِّجِ بِأُمِّهَا ... قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ وَالطَّحَاوِيُّ: أَمَّا الحَدِيثُ عَنْ عَلِيٍّ فَلَا يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَإِبْرَاهِيمُ هَذَا لَا يُعْرَفُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ العِلْمِ قَدْ تَلَقَّوْهُ بِالدَّفْعِ وَالخِلَافِ".
وَلَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ وَأَنْجَبَتْ، وَتَزَوَّجَ هُوَ فَأَنْجَبَ؛ فَأَوْلَادُ كُلِّ وَاحِدٍ رَبَائِبُ الآخَرِ.
وَعَنْ قَتَادَةَ: بِنْتُ الرَّبِيبَةِ وَبِنْتُ ابْنَتِهَا لَا تَصْلُحُ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْفَلَ بِبُطُونٍ كَثِيرَةٍ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي العَالِيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: "لَا خِلَافَ بَيْنَ العُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً وَابْنَتَهَا مِنْ مِلْكِ اليَمِينِ، لِأَنَّ اللهَ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ".
وَقَوْلُهُ: (مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ).
قَالَ القُرْطُبِيُّ: "وَأَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ المَرْأَةَ ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا: حَلَّ لَهُ نِكَاحُ ابْنَتِهَا".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "فِي إِجْمَاعِ الجَمِيعِ عَلَى أَنَّ خَلْوَةَ الرَّجُلِ بِامْرَأَتِهِ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ ابْنَتَهَا إِذَا طَلِّقَهَا قَبْلَ مَسِيسِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا، أَوْ قَبْلَ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا بِالشَّهْوَةِ".
وَالرَّبِيبَةُ هِيَ بِنْتُ المَرْأَةِ، لَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلَى أُمِّهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا، فَإِنْ طَلَّقَ الأُمَّ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُهُمْ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الأُمَّهَاتِ وَالرَّبَائِبِ، فَقَالَ: لَا تَحْرُمُ وَاحِدَةٌ مِنَ الأُمِّ وَلَا البِنْتِ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلَى الأُخْرَى حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا ... وَقَدْ خَالَفَهُ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ، فَرَأَوْا أَنَّ الرَّبِيبَةَ لَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلَى الأُمِّ، وَأَنَّهَا لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالأُمِّ، بِخِلَافِ الأُمِّ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلَى الرَّبِيبَةِ ... وَهَذَا مَذْهَبُ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَالفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَجُمْهُورِ الفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا".
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: "جُمْهُورُ السَّلَفِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الأُمَّ تَحْرُمُ بِالعَقْدِ عَلَى الابْنَةِ، وَلَا تَحْرُمُ الابْنَةُ إِلَّا بِالدُّخُولِ بِالأُمِّ؛ وَبِهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَئِمَّةِ الفَتْوَى بِالأَمْصَارِ ... وَإِنَّمَا تَحْرُمُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ وَالحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الحَلَالَ".
وَرَجَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ الجُمْهُورِ، وَقَالَ: قَدْ رُوِيَ بِذَلِكَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرٌ، غَيْرَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرًا، وَهُوَ - وَسَاقَ إِسْنَادَهُ إِلَى - عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا نَكَحَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا، دَخَلَ بِالِابْنَةِ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الأُمَّ فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثُمَّ
طَلَّقَهَا، فَإِنْ شَاءَ تَزَوَّجَ الابْنَةَ.
وَهَذَا خَبَرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ مَا فِيهِ، فَإِنَّ فِي إِجْمَاعِ الحُجَّةِ عَلَى صِحَّةِ القَوْلِ بِهِ، مُسْتَغْنًى عَنِ الاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّتِهِ بِغَيْرِهِ. انْتَهَى.
وَعَزَاهُ السُّيُوطِيُّ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ البَيْهَقِيَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ،
يَعْنِي طَرِيقَ المُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، وَالآخَرُ طَرِيقُ ابْنِ لَهِيعَةَ - وَفِيهِمَا ضَعْفٌ - كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرٍو.
وَقَوْلُهُ: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ)؛ أَيْ يَحْرُمْنَ عَلَيْكُمْ زَوْجَاتُ الأَبْنَاءِ مِنَ النَّسَبِ لِلْآيَةِ أَوِ الرَّضَاعِ لِلْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ الجُمْهُورِ، وَحُكِيَ إِجْمَاعًا.
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: "أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الآبَاءُ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَمَا عَقَدَ عَلَيْهِ الأَبْنَاءُ عَلَى الآبَاءِ، كَانَ مَعَ العَقْدِ وَطْءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ".
وَقَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: "أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ، وَعَلَى أَجْدَادِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ".
وَقَوْلُهُ: (مِنْ أَصْلَابِكُمْ) أَيِ لَا الَّذِينَ تَبَنَّيْتُمُوهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "لَا خِلَافَ بَيْنَ جَمِيعِ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ حَلِيلَةَ ابْنِ الرَّجُلِ، حَرَامٌ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا بِعَقْدِ ابْنِهِ عَلَيْهَا النِّكَاحَ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا".
وَقَدْ أَخْرَجَتِ الآيَةُ الأَبْنَاءَ مِنْ جِهَةِ التَّبَنِّي، فَلَا تَحْرُمُ زَوْجَاتُهُمْ عَلَى مَنْ تَبَنَّاهُمْ. وَاللهُ أَعْلَمُ.