عدد الزوار 83 التاريخ Tuesday, September 5, 2023 2:15 PM
فَأَجَابَ: كَانَ المُتَعَيِّنُ عَلَيْكَ أَنْ تُحْرِمَ مِنَ الحِلِّ بِالعُمْرَةِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: (نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْمُحَصَّبَ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: اُخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنْ الْحَرَمِ فَتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ لِتَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَإِنَّمَا أَنْتَظِركُمَا هَاهُنَا، قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فَأَهْلَلْتُ ثُمَّ طُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ... الحَدِيثَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ أَحْرَمَ بِالعُمْرَةِ مِنَ الحَرَمِ، انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِتَرْكِهِ الإِحْرَامَ مِنَ المِيقَاتِ.
ثُمَّ إِنْ خَرَجَ إِلَى الحِلِّ قَبْلَ الطَّوَافِ، ثُمَّ عَادَ، أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الحِلِّ وَالحَرَمِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَضَى عُمْرَتَهُ، صَحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِأَرْكَانِهَا، وَإِنَّمَا أَخَلَّ بِالإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهَا، وَقَدْ جَبَرَهُ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ المِيقَاتِ بِالحَجِّ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ المُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَالقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ الجَمْعُ بَيْنَ الحِلِّ وَالحَرَمِ، كَالحَجِّ.
فَعَلَى هَذَا، وُجُودُ هَذَا الطَّوَافِ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الحِلِّ، ثُمَّ يَطُوفُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْعَى.
وَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ إِحرَامِهِ، فَعَلَيْهِ فِدْيَتُهُ. وَإِنْ وَطِئَ، أَفْسَدَ عُمْرَتَهُ، وَيَمْضِى في فاسِدِهَا، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِفْسَادِهَا، ويَقْضِيهَا بِعُمْرَةٍ مِنَ الحِلِّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ؛ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ العُلَمَاءُ: أَنَّ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ العُمْرَةَ، فَمِيقَاتُهُ لَهَا أَدْنَى الحِلِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا مِنَ الحَرَمِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحْرَمَ بِهَا مِنَ الحَرَمِ، وَخَرَجَ إِلَى الحِلِّ قَبْلَ الطَّوَافِ، أَجْزَأَهُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ؛ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الحِلِّ، ثُمَّ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ، وَالثَّانِي - وَهُوَ الأَصَحُّ -: يَصِحُّ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ المِيقَاتَ.
هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: أَنَّهُ يَجِبُ الخُرُوجُ لِإِحْرَامِ العُمْرَةِ إِلَى أَدْنَى الحِلِّ، وَأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي الحَرَمِ وَلَمْ يَخْرُجْ، لَزِمَهُ دَمٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الحِلِّ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ فِي "النَّيْلِ": قَوْلُهُ: (اُخْرُجْ بِأُخْتِك مِنْ الْحَرَمِ): لَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ، وَيُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ»، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ: هَلْ يَتَعَيَّنُ التَّنْعِيمُ لِمَنْ اعْتَمَرَ مِنْ مَكَّةَ؟ قَالَ الطَّحَاوِيُّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا مِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ إِلَّا التَّنْعِيمَ، وَلَا يَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ، كَمَا لَا يَنْبَغِي مُجَاوَزَةُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي لِلْحَجِّ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، فَقَالُوا: مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ الْحِلُّ، وَإِنَّمَا أَمَرَ عَائِشَةَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْحِلِّ إلَى مَكَّةَ.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: "فَكَانَتْ أَدْنَانَا مِنْ الْحَرَمِ التَّنْعِيمُ، فَاعْتَمَرَتْ مِنْهُ"، قَالَ: فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّنْعِيمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْهَدْيِ: وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ مُدَّةَ إقَامَتِهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَلَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ قَطُّ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إلَى الْحِلِّ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَلَا ثَبَتَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِعْلُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، إلَّا عَائِشَةَ وَحْدَهَا.
قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَبَعْدَ أَنْ فَعَلَتْهُ عَائِشَةُ بِأَمْرِهِ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ. انْتَهَى.
وَلَكِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ لِأَجَلِ تَطْيِيبِ قَلْبِهَا كَمَا قِيلَ. انتهى.
وَجَاءَ فِي المُغْنِي: قَالَ طَاوُسٌ: الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنَ التَّنْعِيمِ، مَا أَدْرِي يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا أَوْ يُعَذَّبُونَ؟ قِيلَ لَهُ: فَلِمَ يُعَذَّبُونَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَدَعُ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ، وَيَخْرُجُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَيَجِيءُ، وَإِلَى أَنْ يَجِيءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ طَوَافٍ، وَكُلَّمَا طَافَ بِالبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ.
وَقَدِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرٍ فِي أَرْبَعِ سَفْرَاتٍ، لَمْ يَزِدْ فِي كُلِّ سَفْرَةٍ عَلَى عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ جَمَعَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ فِي سَفَرٍ واحِدٍ مَعَهُ، إِلَّا عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّ عُمْرَةَ قِرَانِهَا بَطَلَتْ، وَلِهَذَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ. فَأَعْمَرَها لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهِ. انْتَهَى.