عدد الزوار 170 التاريخ Tuesday, March 15, 2022 9:48 AM
(371)
لِمَاذَا لَمْ يُخَرِّجْ البُخَارِيُّ هَذَا الحَدِيثَ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ – حَفِظَهُ اللهُ -: حَدِيثُ: (البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يُخْرِجْهُ البُخَارِيُّ، وَهُوَ مِنَ الأَحَادِيثِ الجَوَامِعِ وَالأَرْبَعِينَ الكُلِّيَّةِ، فَلِمَاذَا؟
فأجاب: الحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ كُلُّ صَحِيحٍ الْتَزَمَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِهِ.
قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ: "مَا أَدْخَلْتُ فِي كِتَابِي "الجَامِعِ" إِلَّا مَا صَحَّ، وَتَرَكْتُ مِنَ الصَّحِيحِ حَتَّى لَا يَطُولَ. وَقَالَ: لَمْ أُخَرِّجْ فِي هَذَا الكِتَابِ إِلَّا صَحِيحًا، وَمَا تَرَكْتُ مِنَ الصَّحِيحِ أَكْثَرُ". وَقَالَ: "صَنَّفْتُ كِتَابِي "الصَّحِيحَ" لِسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، خَرَّجْتُهُ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَجَعَلْتُهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى".
وَانْتَقَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ أَحَادِيثَ “صَحِيحِهِ” مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ: "لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٌ وَضَعْتُهُ هَهُنَا - يَعْنِي صَحِيحَهُ - إِنَّمَا وَضَعْتُ هَهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ".
وَجَمَعَ الدَّارَقُطْنِيُّ مَا يَلْزَمُ البُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا إِخْرَاجُهُ فَبَلَغَ مَا لَمْ يَذْكُرَاهُ، أَحَادِيثَ يَسِيرَةً.
وَكَذَلِكَ الحَاكِمُ جَمَعَ مَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا أَوْ عَلَى شَرْطِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُوَافَقُ عَلَى الكَثِيرِ مِمَّا ذَكَرَ.
وَالمَقْصُودُ هُوَ أَنَّ العَدَدَ الَّذِي ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ يُحْمَلُ عَلَى المُتُونِ وَالطُّرُقِ، وَقَدْ قَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: جَمَعَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَا، وَصَالِحًا، وَعَبْدَ اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْنَا المُسْنَدَ وَقَالَ لَنَا: "هَذَا كِتَابٌ جَمَعْتُهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ مِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا". وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: جَمَعْتُ كِتَابَ السُّنَنِ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: "كَانَ أَبُو زُرْعَةَ يَحْفَظُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا فِي التَّفْسِيرِ وَالقُرْآنِ". وَيَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا الكَمِّ الهَائِلِ: المَوْقُوفُ وَالمَقْطُوعُ.
وَحَدِيثُ: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».
وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَبُوهُ، تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِهِمْ مُسْلِمٌ دُونَ الْبُخَارِيِّ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ ابْنُ قَانِعٍ: صَدُوقٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ. وَقَالَ الفَلَّاسُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ المَدِينِيِّ: هُوَ كَذَّابٌ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: مِنَ الشُّيُوخِ النُّبْلِ. وَخَلُصَ ابْنُ حَجَرٍ بِحُكْمٍ وَسَطٍ، فَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ، رُبَّمَا وَهِمَ، وَكَانَ فَاضِلًا. وَفِي الزُّهْرَةِ: رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ ثَلَاثَمِائَةِ حَدِيثٍ.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِينَ انْفَرَدَ البُخَارِيُّ بِالإِخْرَاجِ لَهُمْ دُونَ مُسْلِمٍ، أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا، المُتَكَلَّمُ فِيهِمْ بِالضَّعْفِ: (نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا)، وَالَّذِينَ انْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِإِخْرَاجِ حَدِيثِهِمْ دُونَ البُخَارِيِّ، سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، المُتَكَلَّمُ فِيهِمْ بِالضَّعْفِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، عَلَى الضِّعْفِ مِنْ كِتَابِ البُخَارِيِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّخْرِيجَ عَنْ مَنْ لَمْ يُتَكَلَّمْ فِيهِ أَصْلًا أَوْلَى مِنَ التَّخْرِيجِ عَنْ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ سَدِيدٍ.
الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمُ البُخَارِيُّ مِمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ يُكْثِرُ مِنْ تَخْرِيجِ أَحَادِيثِهِمْ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ نُسْخَةٌ كَبِيرَةٌ أَخْرَجَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا، إِلَّا نُسْخَةَ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.
بِخِلَافِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ أَكْثَرَ تِلْكَ النُّسَخِ الَّتِي رَوَاهَا عَمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، كَأَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَسُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَالعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَنَحْوِهِمْ.
الوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمُ البُخَارِيُّ مِمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، أَكْثَرُهُمْ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ، وَعَرَفَ أَحْوَالَهُمْ، وَاطَّلَعَ عَلَى أَحَادِيثِهِمْ، فَمَيَّزَ جَيِّدَهَا مِنْ رَدِيِّهَا، بِخِلَافِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَفَرَّدَ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِهِ مِمَّنْ تُكُلِّمَ فِيهِ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ خَرَّجَ أَكْثَرَ نُسَخِهِمْ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ المَرْءَ أَشَدُّ مَعْرِفَةً بِحَدِيثِ شُيُوخِهِ وَبِصَحِيحِ حَدِيثِهِمْ مِنْ ضَعِيفِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ عَنْ عَصْرِهِمْ.
الوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الَّذِينَ تُكُلِّمَ فِيهِمْ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ يُخَرِّجُ البُخَارِيُّ أَحَادِيثَهُمْ غَالِبًا فِي الاسْتِشْهَادَاتِ، وَالمُتَابَعَاتِ، وَالتَّعْلِيقَاتِ، بِخِلَافِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ يُخَرِّجُ لَهُمُ الكَثِيرَ فِي الأُصُولِ وَالاحْتِجَاجِ، وَلَا يُعَرِّجُ البُخَارِيُّ فِي الغَالِبِ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ لَهُمْ مُسْلِمٌ فِي المُتَابَعَاتِ، (فَأَكْثَرُ مَنْ يُخَرِّجُ لَهُمُ البُخَارِيُّ فِي المُتَابَعَاتِ يَحْتَجُّ بِهِمْ مُسْلِمٌ، وَأَكْثَرُ مَنْ يُخَرِّجُ لَهُمْ مُسْلِمٌ فِي المُتَابَعَاتِ لَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِمُ البُخَارِيُّ). فَهَذَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ ظَاهِرٌ.
وَالأَوْجُهُ الأَرْبَعَةُ المُتَقَدِّمَةُ كُلُّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَدَالَةِ الرُّوَاةِ.
وَبَقِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالاتِّصَالِ: وَهُوَ الوَجْهُ الخَامِسُ: وَهُوَ أَنَّ مُسْلِمًا كَانَ مَذْهَبُهُ - بَلْ نَقَلَ الإِجْمَاعَ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ - أَنَّ الإِسْنَادَ المُعَنْعَنَ لَهُ حُكْمُ الاتِّصَالِ إِذَا تَعَاصَرَ المُعَنْعِنُ وَالمُعَنْعَنُ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ اجْتِمَاعُهُمَا. وَالبُخَارِيُّ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى الاتِّصَالِ حَتَّى يَثْبُتَ اجْتِمَاعُهُمَا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَقَدْ أَظْهَرَ البُخَارِيُّ هَذَا المَذْهَبَ فِي التَّأْرِيخِ، وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ مِمَّا يَرْجُحُ كِتَابُهُ بِهِ، لِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِنَ الحُكْمِ بِالاتِّصَالِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ شَرْطَ البُخَارِيِّ أَوْضَحُ فِي الاتِّصَالِ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ شَرْطَهُ فِي كِتَابِهِ أَقْوَى اتِّصَالًا وَأَشَدُّ تَحَرِّيًا. - وَاللهُ أَعْلَمُ -.
وَأَسْبَابُ وُجُودِ الرُّوَاةِ المُتَكَلَّمِ فِيهِمْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَالتَّالِي:
السَّبَبُ الأَوَّلُ: اخْتِلَافُ وِجْهَةُ النَّظَرِ فِي الحُكْمِ عَلَى الرُّوَاةِ. قَالَ العَيْنِيُّ: فِي الصَّحِيحِ جَمَاعَةٌ جَرَّحَهُمْ بَعْضُ المُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ جَرْحُهُمْ بِشَرْطِهِ، فَإِنَّ الجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مُفَسَّرًا مُبَيَّنَ السَّبَبِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِعِكْرِمَةَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، وَعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَجَمَاعَةٍ اشْتُهِرَ الطَّعْنُ فِيهِمْ. قَالَ: وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الجَرْحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا إِذَا فُسِّرَ سَبَبُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيَّنَ الجَارِحُ سَبَبَ الجَرْحِ، وَاسْتَبَانَ لِمُسْلِمٍ بُطْلَانُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
السَّبَبُ الثَّانِي: أَنَّ الإِمَامَ مُسْلِمًا نَصَّ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ، أَنَّهُ خَرَّجَ فِي صَحِيحِهِ عَنِ القِسْمِ الأَوَّلِ: أَهْلِ الاسْتِقَامَةِ فِي الحَدِيثِ وَالإِتْقَانِ لِمَا نَقَلُوا، قَالَ: فَإِذضا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالمَوْصُوفِ بِالحِفْظِ وَالإِتْقَانِ كَالصِّنْفِ المُتَقَدِّمِ قَبْلَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا وَصَفْنَا دُونَهُمْ، فَإِنَّ اسْمَ السَّتْرِ وَالصِّدْقِ وَتَعَاطِي العِلْمِ يَشْمَلُهُمْ، كَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَأَضْرَابِهِمْ. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ رُوَاةَ الشَّوَاهِدِ وَالمُتَابَعَاتِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا فِي الثِّقَةِ وَالحِفْظِ كَأَهْلِ الأُصُولِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ الرَّاوِي فِيهِ ضَعْفٌ فِي حِفْظِهِ، لَكِنَّهُ مُتْقِنٌ لِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ شُيُوخِهِ، مِثْلَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ إِلَّا رِوَايَاتِهِ عَنْ المَشْهُورِينَ، نَحْوِ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ ثَابِتًا وَطُولِ صُحْبَتِهِ إِيَّاهُ، حَتَّى بَقِيَتْ صَحِيفَةُ ثَابِتٍ عَلَى ذِكْرِهِ وَحِفْظِهِ بَعْدَ اخْتِلَاطِهِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الاخْتِلَاطِ. وَأَمَّا أَحَادِيثُهُ عَنْ آحَادِ البَصْرِيِّينَ، فَإِنَّ مُسْلِمًا لَمْ يُخَرِّجْ مِنْهَا شَيْئًا لِكَثْرَةِ مَا يُوجَدُ فِي رِوَايَاتِهِ عَنْهُمْ فِي الغَرَائِبِ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مُمَارَسَتِهِ لِحَدِيثِهِمْ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ: نَجِدُ أَنَّ مُسْلِمًا انْتَقَى صَحِيحَهُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، فَقَدْ يَثْبُتُ الحَدِيثُ عِنْدَهُ مِنْ طَرِيقٍ نَازِلٍ، فَيَخْتَارُ طَرِيقًا عَالِيًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِجَالُهُ فِي الغَايَةِ مِنَ الحِفْظِ. وَهَذَا مَعْنَى رَدِّ مُسْلِمٍ عَلَى شَيْخِهِ أَبِي زُرْعَةَ عِنْدَمَا قَالَ عَنْ مُسْلِمٍ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَرَادُوا التَّقَدُّمَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَعَمِلُوا شَيْئًا يَتَسَوَّقُونَ بِهِ، أَلَّفُوا كِتَابًا لَمْ يُسْبَقُوا إِلَيْهِ لِيُقِيمُوا لِأَنْفُسِهِمْ رِيَاسَةً قَبْلَ وَقْتِهَا. وَأَتَاهُ رَجُلٌ بِكِتَابِ الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِذَا حَدِيثٌ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مَا يُعَدُّ هَذَا مِنَ الصَّحِيحِ! يُدْخِلُ فِي كِتَابِهِ أَسْبَاطَ بْنَ نَصْرٍ؟! ثُمَّ رَأَى فِي الكِتَابِ قَطَنَ بْنَ نُسَيْرٍ، فَقَالَ: وَهَذَا أَطَمُّ مِنَ الأَوَّلِ، قَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ وَصَلَ أَحَادِيثَ ثَابِتٍ جَعَلَهَا عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ نَظَرَ، فَقَالَ: يَرْوِي عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى المِصْرِيِّ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ؟! قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مَا رَأَيْتُ أَهْلَ مِصْرَ يَشُكُّونَ فِي أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ عِيسَى - وَأَشَارَ أَبُو زُرْعَةَ إِلَى لِسَانِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: الكَذِب ... ثُمَّ قَالَ الرَّاوِي، وَهُوَ أَبُو عُثْمَانَ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى نَيْسَابُورَ فِي المَرَّةِ الثَّانِيَةِ ذَكَرْتُ لِمُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ إِنْكَارَ أَبِي زُرْعَةَ عَلَيْهِ، وَرِوَايَتَهُ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ عَنْ أَسْبَاطَ بْنِ نَصْرٍ، وَقَطَنَ بْنِ نُسَيْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى المِصْرِيِّ.
فَقَالَ مُسْلِمٌ: إِنَّمَا قُلْتُ: صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا أَدْخَلْتُ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطَ بْنِ نَصْرٍ، وَقَطَنَ، وَأَحْمَدَ، مَا قَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ شُيُوخِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ إِلَيَّ عَنْهُمْ بِارْتِفَاعٍ، وَيَكُونُ عِنْدِي مِنْ رِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُمْ بِنُزُولٍ، فَأَقْتَصِرُ عَلَى أُولَئِكَ، وَأَصْلُ الحَدِيثِ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ.
السَّبَبُ الخَامِسُ: وَهُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الاخْتِلَاطِ، كَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَأَحْمَدَ الوَهْبِيِّ، فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْهُمْ قَبْلَ اخْتِلَاطِهِمْ. فَقَدْ سُئِلَ مُسْلِمٌ عَنْ سَبَبِ رِوَايَتِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الوَهْبِيِّ، فَقَالَ: إِنَّمَا نَقَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ خُرُوجِي مِنْ مِصْرَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.