عدد الزوار 168 التاريخ Wednesday, March 9, 2022 3:10 AM
(364)
لِمَاذَا لَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ هَذَا الحَدِيثَ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ – حَفِظَهُ اللهُ -: لِمَاذَا لَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»، وَهُوَ مِنَ الأَحَاديِثِ الكُلِّيَّةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ؟
فأجاب: قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: هَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَظُنُّ مُسْلِمًا لَمْ يُخَرِّجْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ قَوْمٌ، فَقَالُوا: عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،، فَاخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الْحُفَّاظِ حَكَمُوا بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، مِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْهُ.
وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا. انتهى.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "قَوْلُهُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، حَكَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ أَيْضًا عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قُلْتُ: رِوَايَتُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ رِبْعِيٌّ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ، وَمِنْ حُذَيْفَةَ جَمِيعًا".
وَهُنَا تَنْبِيهٌ، وَهُوَ أَنَّ البُخَارِيَّ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُسْلِمٍ، وَصَحِيحُهُ أَصَحُّ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْنِي أَنَّ مُسْلِمًا لَا يُعْرِضُ عَنْ حَدِيثٍ قَبِلَهُ البُخَارِيُّ فَأَخْرَجَهُ فِي صَحِيحِهِ.
وَنَحْوُ هَذَا عُلَمَاءُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَإِنَّ مِنْهُمُ المُتَشَدِّدِينَ، وَمِنْهُمُ المُعْتَدِلِينَ، وَمِنْهُمُ المُتَسَاهِلِينَ.
وَلَا يَعْنِي هَذَا أَنَّ المُتَشَدِّدَ مَا يَتَسَاهَلُ البَتَّةَ، وَأَنَّ المُعْتَدِلَ مَا يَمِيلُ مُطْلَقًا، وَأَنَّ المُتَسَاهِلَ مَا يَتَشَدَّدُ أَبَدًا.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ اخْتِلَافِ الرَّاوِي فِي سَنَدِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ، بِأَنْ يَأْتِيَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَجْهٍ، وَالکَلَامُ عَلَى أَهَمِّ صُوَرِ الاخْتِلَافِ، وَالحُکْمُ عَلَى الحَدِيثِ مَعَ وُجُودِ الاخْتِلَافِ، بِحَسَبِ القَرَائِنِ المُحْتَفَّةِ بِهِ، إِذْ لَيْسَ کُلُّ اخْتِلَافٍ يُعَدُّ اضْطِرَابًا فِي الحَدِيثِ، وَالمُتَعَيِّنُ جَمْعُ الطُّرُقِ وَالرِّوَايَاتِ؛ لِيَتَسَنَّى الحُكْمُ عَلَى الحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ وَالمَتْنُ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: "لَوْ لَمْ نَكْتُبْ الحَدِيثَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ".
وَأَسْبَابُ اخْتِلَافِ الحَدِيثِ تَعُودُ إِلَى أُمُورٍ؛ مِنْهَا: سَعَةُ عِلْمِ الرَّاوِي وَكَثْرَةُ شُيُوخِهِ، كَمَا حَصَلَ مِنْ عِكْرِمَةَ، وَتَعُودُ إِلَى سُوءِ حِفْظِهِ وَعَدَمِ ضَبْطِهِ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَقَدْ تَعُودُ إِلَى نَشَاطِ الرَّاوِي، فَيَصِلُ الحَدِيثَ فِي حَالِ الرِّوَايَةِ، وَيُرْسِلُهُ فِي حَالِ المُذَاكَرَةِ مَثَلًا، أَوْ يُسْنِدُهُ الصَّحَابِيُّ تَارَةً فَيَرْفَعُهُ، وَيَقُولُهُ هُوَ تَارَةً عَلَى سَبِيلِ الإِفْتَاءِ مَثَلًا، فَيُرْوَى عَنْهُ عَلَى الوَجْهَيْنِ، كَمَا يَقَعُ مِثْلُ ذَلِكَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَتَعُودُ إِلَى أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَسْمَعُ الحَدِيثَ مِنْ رَاوٍ عَنْ طَرِيقِ وَاسِطَةٍ، ثُمَّ يَسْمَعُهُ مِنْهُ مُبَاشَرَةً، فَتَسْقُطُ الوَاسِطَةُ، فَيُرْوَى عَلَى الوَجْهَيْنِ: الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ.
وَالحُكْمُ عَلَى الحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّاوِي وَالقَرَائِنِ، فَفَرْقٌ بَيْنَ الرَّاوِي الثِّقَةِ الحَافِظِ المُكْثِرِ، وَبَيْنَ الرَّاوِي غَيْرِ الثِّقَةِ، فَالاخْتِلَافُ إِنْ صَدَرَ مِنْ مُتَّهَمٍ نُسِبَ لِلْكَذِبِ، وَإِنْ صَدَرَ مِنْ ضَعِيفٍ جِدًّا نُسِبَ لِلنَّكَارَةِ، وَإِنْ صَدَرَ مِنْ سَيِّئِ الحِفْظِ نُسِبَ إِلَى الاضْطِرَابِ، وَإِنْ نُسِبَ إِلَى ثِقَةٍ حَافِظٍ كَثِيرِ الرِّوَايَةِ، كَالزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ وَأَمْثَالِهِمْ، فَهُوَ اخْتِلَافٌ يَحْتَاجُ إِلَى إِمْعَانِ نَظَرٍ فِي الطُّرُقِ وَالقَرَائِنِ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِهِ، حَيْثُ الرَّاوِي الثِّقَةُ قَدْ يُصَرِّحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الوَجْهَيْنِ، أَوْ يُوجَدُ مُتَابِعٌ لِكُلِّ وَجْهٍ، أَوْ يَخْتَلِفُ لَفْظُ الرِّوَايَتَيْنِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ المَصْدَرِ، أَوْ اعْتِمَادِ الأَئِمَّةِ – كَالشَّيْخَيْنِ - الوَجْهَيْنِ.