عدد الزوار 138 التاريخ 01/01/2021
فأجاب: نَعَمْ، الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ كَبِيرَةٌ، وَشِرْكٌ أَصْغَرُ أَوْ أَكْبَرُ، بِحَسَبِ مَا يَقُومُ فِي قَلْبِ الحَالِفِ مِنَ الاعْتِقَادِ، وَقَدْ دَلَّتِ الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ عَلَى حُرْمَتِهِ، وَأَمَّا مَا أَحْدَثَهُ لَفْظُ: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" مِنْ إِشْكَالٍ؛ فَكَشْفُ الإِشْكَالِ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ المُتَشَابِهِ إِلَى المُحْكَمِ، فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِالسِّلْسِلَةِ الذَّهَبِيَّةِ؛ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ). وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا مُحْكَمٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ: «أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ». فَمِنَ المُتَشَابِهِ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ إِسْمَاعِيلُ مَا وَرَدَ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ، وَخَالَفَ رِوَايَةَ مَالِكٍ، فَقَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ، وَذَكَرَ الحَدِيثَ بِلَفْظِ: (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ). وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْلِمٌ صَدْرًا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِهَا عَلَى الشَّاذَّةِ عِنْدَهُ.
وَرِوَايَةُ مَالِكٍ هِيَ المُوَافِقَةُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي المُسْنَدِ، وَأَبِي أَيُّوبَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَنَسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: «وَالحَلِفُ بِالمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فِي حُكْمِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ، لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتجٌّ بِحَدِيثِ "إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ"؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ"، قِيلَ لَهُ: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِي هَذَا الحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ لَمْ يَقُولُوا َذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ هَذَا الحَدِيثُ، وَفِيهِ: "أَفْلَحَ وَاللهِ إِنْ صَدَقَ"، أَوْ "دَخَلَ الجَنَّةَ وَاللهِ إِنْ صَدَقَ"، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى "وَأَبِيهِ"؛ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ تَرُدُّهَا الآثَارُ الصِّحَاحُ».
وَقَالَ: "هَذِهِ لَفْظَةٌ إِنْ صَحَّتْ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ، وَبِغَيْرِ اللهِ".
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "فَإِنْ قِيلَ: مَا الجَامِعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ بِأَنَّهَا كَلِمَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى اللِّسَانِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الحَلِفُ، كَمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِمْ "عَقْرَى"، "حَلْقَى"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ فِيهِ إِضْمَارُ اسْمِ الرَّبِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَرَبِّ أَبِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ وَاللهِ، فَقُصِرَتِ اللَّامَانِ". انتهى.
وَكَانُوا فِي المَاضِي لَا يَنْقُطُونَ الكَلِمَاتِ. وَتَوْجِيهُ العُلَمَاءِ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ طَرِيقُ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، حَيْثُ يُقَدِّمُونَ المُحْكَمَ عَلَى المُتَشَابِهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.