عدد الزوار 131 التاريخ 01/01/2021
فأجاب: لَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ يَصْلُحُ لِلاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَجَبٍ وَحْدَهُ، وَلَا فِي صِيَامِهِ، أَوْ صِيَامِ يَوْمٍ مَخْصُوصٍ فِيهِ، وَلَا فِي صَلَاةٍ فِي نَهَارِهِ أَوْ فِي لَيْلِهِ، أَو الاعْتِمَارِ فِيهِ.
وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ إِمَّا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ. وَقَدْ جَزَمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الهَرَوِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ، وَيُرْجَعُ إِلَى كِتَابِهِ: «تَبْيِينُ العَجَبْ بِمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ رَجَبْ»
وَقَدِ اشْتُهِرَ عَلَى الأَلْسِنَةِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ بْنِ أَبِي الرُّقَادِ قَالَ: أَخْبَرَنَا زِيَادٌ النُّمَيْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ). قَالَ: لَا يُرْوَى هَذَا الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذَا الإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ زَائِدَةُ بْنُ أَبِي الرُّقَادِ. انتهى.
وَزَائِدَةُ قَالَ عَنْهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ. وَعَلَيْهِ فَالحَدِيثُ مُنْكَرٌ، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ.
وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ: مَا جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ؛ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ". متفق عليه.
فَالسَّيِّئَةُ فِيهَا أَعْظَمُ، وَكَذَلِكَ الحَسَنَةُ؛ لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ هَذَا بَعْضُ السَّلَفِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: "أَوَّلُهُنَّ رَجَبٌ". وَفِي إِسْنَادِهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، ضَعِيفٌ.
- وَأَفْضَلُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ: ذُو الحِجَّةِ، وَقِيلَ: رَجَبٌ، وَالأَوَّلُ أَرْجَحُ.
وَثَبَتَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: «ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لِشَهْرِ رَجَبٍ؛ لِكَوْنِهِ شَهْرًا حَرَامًا، وَلَرُبَّمَا لِأَجْلِ ذَلِكَ عَمِلُوا فِيهِ بَعْضَ العِبَادَاتِ المَشْرُوعَةِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ؛ اغْتِنَامًا لِلزَّمَانِ، كَمَا يَعْمَلُ فِي الحَرَمِ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَصَدَقَةٍ؛ اغْتِنَامًا لِلْمَكَانِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ".
وَالعَتِيرَةُ: ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ، وَيُسَمُّونَهَا: الرَّجَبِيَّةَ أَيْضًا.
وَقَدِ اسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَسَخَ مَشْرُوعِيَّتَهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَلَا عَتِيرَةَ). قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَكَذَا جَاءَ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَالمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَقَدْ وَرَدَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: "لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ فِي الإِسْلَامِ". انتهى.
وَالأَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا لَا تَخْتَصُّ بِرَجَبٍ، فَعَنْ نُبَيْشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، قَالَ: "اذْبَحُوا للهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ، وَبَرُّوا اللهَ وَأَطْعِمُوا". قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ المُنْذِرِ وَالحَاكِمُ. وَعَلَيْهِ تَجْتَمِعُ الأَحَادِيثُ فِيهَا.
وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ رَجَبٍ وَلَا غَيْرِهِ عِيْدًا؛ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْسِمًا لِعِبَادَةٍ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ، أَوْ يُقَامَ فِيهِ احْتِفَالٌ لِمُنَاسَبَةٍ تَارِيخِيَّةٍ.
وعَنْ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ، عَنْ أَبِيهَا، أَوْ عَمِّهَا، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: (صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ). قَالَهَا ثَلَاثًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: "صُمْ أَشْهُرَ الحُرُمِ". وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَضْعِيفِهِ وَتَحْسِينِهِ لِلاضْطِرَابِ وَالجَهَالَةِ. وَهُوَ عَامٌّ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ، لَا فِي رَجَبٍ وَحْدَهُ.
وَيُقَوِّي اسْتِحْبَابَ صِيَامِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ: مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ؛ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُا كُلَّهَا؛ مِنْهُمْ: ابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَفِي حَدِيثٍ خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ يَصُومُ الأَشْهُرَ الحُرُمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُمْ شَوَّالًا"، فَتَرَكَ أَشْهُرَ الحُرُمِ، وَصَامَ شَوَّالًا حَتَّى مَاتَ، وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ.
وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ. وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ يَصُومُونَ رَجَبًا، فَقَالَ: "أَيْنَ هُمْ مِنْ شَعْبَانَ؟".
وَرَوَى أَزْهَرُ بْنُ سَعِيدٍ الجُمَحِيُّ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ، فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتِ صَائِمَةً فَعَلَيْكِ بِشَعْبَانَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا، وَوَقْفُهُ أَصَحُّ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ أَكُفَّ الرِّجَالِ فِي صَوْمِ رَجَبٍ؛ حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الطَّعَامِ، وَيَقُولُ: مَا رَجَبٌ؟ إِنَّ رَجَبًا كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإِسْلَامُ تُرِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَرِهَ أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ سُنَّةً.
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ رَأَى أَهْلَهُ يَتَهَيَّأُونَ لِصِيَامِ رَجَبٍ فَقَالَ لَهُمْ: أَجَعَلْتُمْ رَجَبًا كَرَمَضَانَ؟، وَأَلْقَى السِّلَالَ وَكَسَرَ الكِيزَانَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَامَ رَجَبٌ كُلُّهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ أَيَّامًا.
وَكَرِهَهُ أَنَسٌ أَيْضًا، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكَرِهَ صِيَامَ رَجِبٍ كُلِّهِ: يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: يُفْطِرُ مِنْهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. انتهى.
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِي ذِي القَعْدَةِ. وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا ابْنُ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: القَاعِدَةُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: أَنَّ المُثْبِتَ مُقدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَهُوَ ثِقَةٌ، يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ نَفَاهُ. وَلِهَذَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ العُمْرَةُ فِي رَجَبٍ. انتهى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللهُ عَنْهُ -: لَكِنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَهَا وَسَكَتَ.
وَقَدِ اسْتَحَبَّ الاعْتِمَارَ فِي رَجَبٍ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَفْعَلُهُ، وَابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَنَقَلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ.
وَمَا ذَلِكَ - وَاللهُ أَعْلَمُ - إِلَّا لِحُرْمَتِهِ، وَحُرْمَةِ الاعْتِدَاءِ فِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ زَمَانًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حُكِيَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ أُمُورٌ وَحَوَادِثُ، لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا، كَقَوْلِهِمْ بِأَنَّ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَيْلَةَ إِسْرَائِهِ فِي رَجَبٍ، وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَوْ تَنَازَلْنَا جَدَلًا لِهَذَا الادِّعَاءِ؛ فَإِنَّ الاحْتِفَالَ بِهَا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.