عدد الزوار 101 التاريخ 01/01/2021
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ... الآية).
لَمْ يُعَيِّنِ القُرْآنُ كَمَا لَمْ تُعَيِّنِ السُّنَّةُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِهَا مَصْلَحَةٌ لِلأُمَّةِ لَعَيَّنَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ. وَهَذَا حَدَثٌ عَظِيمٌ، وَوَاقِعَةٌ تَبْعَثُ عَلَى الاهْتِمَامِ المَشْرُوعِ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: ثَبَتَ الإِسْرَاءُ فِي جَمِيعِ مُصَنَّفَاتِ الحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الإِسْلَامِ، فَهُوَ مِنَ المُتَوَاتِرِ بِهَذَا الوَجْهِ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ مِمَّنْ رَوَاهُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا. انتهى.
وَمَعَ أَنَّ الإِسْرَاءَ حَدَثٌ جَلَلٌ، إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ لَيْلَتَهُ بِشَيْءٍ مِنَ العِبَادَاتِ وَلَا الاحْتِفَالَاتِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُرَغِّبُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، وَلَا فِي تَحْدِيدِهَا وَتَعْيِينِهَا، وَهُوَ القَائِلُ: (لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ). رَوَاهُ البَزَّارُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ حُسِّنَ لِشَوَاهِدِهِ.
وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ تَخْصِيصُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِعِبَادَةٍ وَلَا عَادَةٍ، وَلَا حَضَّ عَلَى ذَلِكَ العُلَمَاءُ المَشْهُودُ لَهُمْ بِالإِمَامَةِ.
فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الإِسْرَاءَ فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَاسْتَحَبَّ فِيهَا شَيْئًا مِنَ العِبَادَاتِ أَوِ الاحْتِفَالَاتِ؛ فَقَدْ أَحْدَثَ بِدْعَةً مَرْدُودَةً عَلَيْهِ، وَمَنْ قَلَّدَ أَحَدًا فِي ذَلِكَ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ وَلَا أَصْحَابِهِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا للهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ يُشْرَعُ صِيَامُهُ جَاءَتِ الأَحَادِيثُ المُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهَا بِتَعْيِينِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ؛ فَكَيْفَ يَدَّعِي مَنْ لَا بَيِّنَةَ مَعَهُ: أَنَّ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ يُجْتَهَدُ فِيهَا بِالطَّاعَاتِ وَالاحْتِفَالَاتِ، وَلَمْ يَأْتِ حَرْفٌ وَاحِدٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَيُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي ذَلِكَ؟!.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ وَأَصْحَابُ التَّارِيخِ فِي زَمَنِ وُقُوعِ الإِسْرَاءِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، فِي عَامِهَا وَشَهْرِهَا وَلَيْلَتِهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ حَصَلَ فِي أَوَائِلِ البَعْثَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَعْدَ البَعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ: حَدَثَ فِي شَهْرِ ذِي القَعْدَةِ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنْ أَرْدَى الأَقْوَالِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: حَدَثَ فِي رَجَبٍ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا، عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَا: وُلِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفِيلِ، يَوْمَ الاثْنَيْنِ، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَفِيهِ بُعِثَ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ هَاجَرَ، وَفِيهِ مَاتَ. فِيهِ انْقِطَاعٌ. وَقَدِ اخْتَارَهُ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ المَقْدِسِيُّ فِي سِيرَتِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، ذَكَرْنَاهُ فِي فَضَائِلِ شَهْرِ رَجَبٍ، أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَهِيَ لَيْلَةُ الرَّغَائِبِ التِي أُحْدِثَتْ فِيهَا الصَّلَاةُ المَشْهُورَةُ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ. انتهى.
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ بَعْضَ القُصَّاصِ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي رَجَبٍ، قَالَ: وَذَلِكَ كَذِبٌ. انتهى.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا، وَلَا عَلَى عَشْرِهَا، وَلَا عَلَى عَيْنِهَا، بَلِ النُّقُولُ فِي ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْطَعُ بِهِ، وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ التِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَيْلَةُ الإِسْرَاءِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَقَالَ: "لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أَنَّهُ جَعَلَ لِلَيْلَةِ الإِسْرَاءِ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهَا، لَا سِيَّمَا عَلَى لَيْلَةِ القَدْرِ، وَلَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَقْصِدُونَ تَخْصِيصَ لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ بِأَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ وَلَا يَذْكُرُونَهَا؛ وَلِهَذَا لَا يُعرَفُ أَيُّ لَيْلَةٍ كَانَتْ". انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.