حُكْمُ بَيْعِ مَالِكِ الرَّهْنِ رَهْنَهُ بَعْدَ العَقْدِ وَقَبْلَ القَبْضِ

فأجاب: لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الرَّاهِنِ فِي الرَّهْنِ بِمَا يَضُرُّ المُرْتَهِنَ بَعْدَ العَقْدِ وَلَوْ قَبْلَ قَبْضِهِ، إِلَّا بِرِضَا المُرْتَهَنِ عَلَى القَوْلِ الرَّاجِحِ، خِلَافًا لِرَأْيِ الجُمْهُورِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إِلَّا بِالقَبْضِ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، لَا يَلْزَمُ رَهْنُهُ إِلَّا بِالقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَاهُمَا رِوَايَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: لَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالقَبْضِ. وَالأُخْرَى: يَلْزَمُ بمُجَرَّدِ العَقْدِ، كَالبَيْعِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا، فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ ... فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ، فَقَبْضُهُ أَخْذُهُ إِيَّاهُ مِنْ رَاهِنِهِ مَنْقُولًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، كَالدُّورِ وَالأَرَضِينَ، فَقَبْضُهُ بِتَخْلِيَةِ رَاهِنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ". انْتَهَى.
وَالأَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ القَبْضَ مِنْ تَمَامِ الرَّهْنِ وَكَمَالِ فَائِدَتِهِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلُّزُومِ وَالصِّحَّةِ، فَيَلْزَمُ الرَّهْنُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ، وَعَهْدٌ، وَوَعْدٌ، وَمِيثَاقٌ، وَشَرْطٌ، يَجِبُ الوَفَاءُ بِهِ، وَأَمَانَةٌ مُؤَدَّاةٌ، وَهُوَ قَوْلُ المَالِكِيَّةِ، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ).
وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.