عدد الزوار 63 التاريخ Friday, December 15, 2023 12:12 PM
فأجاب: يَجِبُ سَتْرُ الفَخِذِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى مَنْ تَعَمَّدَ كَشْفَ فَخِذِهِ فِي الصَّلَاةِ الإِعَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ البُخَارِيُّ: بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الفَخِذِ: وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَرْهَدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفَخِذُ عَوْرَةٌ»، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «حَسَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَخِذِهِ»، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنَ اخْتِلاَفِهِمْ»، وَقَالَ أَبُو مُوسَى: «غَطَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ»، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي». انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: أَشَارَ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي هَذَا البَابِ إِلَى اخْتِلَافِ العُلَمَاءِ فِي أَنَّ الفَخِذَ: هَلْ هِيَ عَوْرَةٌ، أَمْ لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ؟ وَأَشَارَ إِلَى أَطْرَافِ كَثِيرٍ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الفَخِذِ، وَعَدَمِ وُجُوبِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْلِيقًا، وَلَمْ يُسْنِدْ غَيْرَ حَدِيثِ أَنَسٍ المُسْتَدَلِّ بِهِ عَلَى أَنَّ الفَخِذَ لَا يَجِبُ سَتْرُهَا وَلَيْسَتْ عَوْرَةً، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَسْنَدُ مِنْ حَدِيثِ جَرْهَدٍ - يَعْنِي: أَصَحُّ إِسْنَادًا -؛ وَأَنَّ حَدِيثَ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ؛ لِمَا فِي الأَخْذِ بِهِ مِنَ الخُرُوجِ مِنَ اخْتِلَافِ العُلَمَاءِ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَحَادِيثِ البَابِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، إِلَى أَنْ قَالَ: وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الفَخِذِ: هَلْ هِيَ عَوْرَةٌ، أَمْ لَا؟
فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: هِيَ عَوْرَةٌ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي المَشْهُورِ عَنْهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَتِ الفَخِذُ عَوْرَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَدَاوُدَ، وَابْنِ جَرِيرٍ وَالطَّبَرِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الإِصْطَخْرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَجَّحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَطَاءٍ، وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ.
وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ: أَنَّ الفَخِذَ فِي المَسَاجِدِ عَوْرَةٌ، وَفِي الحَمَّامِ وَنَحْوِهِ مِمَّا جَرَتِ العَادَةُ بِكَشْفِهَا فِيهِ لَيْسَتْ عَوْرَةً، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالأَوْزَاعِيِّ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حُكْمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا.
فَأَمَّا الصَّلَاةُ: فَمِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ كَشْفِهَا عَنْ أَحْمَدَ خِلَافٌ، قَالَ: لِأَنَّ أَحْمَدَ لَا يُصَحِّحُ الصَّلَاةَ مَعَ كَشْفِ المَنْكِبَيْنِ، فَالفَخِذُ أَوْلَى.
قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا خِلَافٌ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَأْمُورٌ فِيهَا بِأَخْذِ الزِّينَةِ، فَلَا يُكْتَفَى فِيهَا بِسَتْرِ العَوْرَةِ.
وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ يُخَالِفُ هَذَا: قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَيْسَ بِصَفِيقٍ، قَالَ: إِنْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ الفَخِذُ فَلَا. قُلْتُ لِأَحْمَدَ: وَمَا العَوْرَةُ؟ قَالَ: الفَرْجُ وَالدُّبُرُ.
وَقَدْ حَكَّى المُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ المَالِكِيُّ فِي (شَرْحِ البُخَارِيِّ): الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى مَكْشُوفَ الفَخِذِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ. وَهُوَ خَطَأٌ. انْتَهَى.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَيْسَتْ الْعَوْرَةُ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَبِطَةً بِعَوْرَةِ النَّظَرِ، لَا طَرْدًا وَلَا عَكْسًا ...
وَقَالَ فِي ذِكْرِ أَنْوَاعِ العَوْرَةِ: وَفِي الصَّلَاةِ نَوْعٌ ثَالِثٌ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ صَلَّتْ وَحْدَهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِالاخْتِمَارِ، وَفِي غَيْرِ الصَّلاةِ يَجُوزُ لَهَا كَشْفُ رَأْسِهَا فِي بَيْتِهَا؛ فَأَخْذُ الزِّينَةَ فِي الصَّلاةِ لِحَقِّ اللَّهِ، فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ بِاللَّيْلِ، وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ.
وقَدَ يَسْتُرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلاةِ مَا يَجُوزُ إبْدَاؤُهُ فِي غَيْرِ الصَّلاةِ، وَقَدْ يُبْدِي فِي الصَّلاةِ مَا يَسْتُرُهُ عَنْ الرِّجَالِ: فَالأَوَّلُ: مِثْلُ الْمَنْكِبَيْنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهَذَا لِحَقِّ الصَّلاةِ، وَيَجُوزُ لَهُ كَشْفُ مَنْكِبَيْهِ لِلرِّجَالِ خَارِجَ الصَّلاةِ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تَخْتَمِرُ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ"، وَهِيَ لَا تَخْتَمِرُ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلا عِنْدَ ذَوِي مَحَارِمِهَا؛ فَقَدْ جَازَ لَهَا إبْدَاءُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِهَؤُلَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُكْشَفَ رَأْسُهَا لِهَؤُلَاءِ وَلَا لِغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ: "إِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ، وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ فِي الصَّلَاةِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ: الْفَخِذِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ جَوَّزْنَا لِلرَّجُلِ النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ. فَإِذَا قُلْنَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الْعَوْرَةَ السَّوْأَتَانِ وَإِنَّ الْفَخِذَ لَيْسَتْ بِعَوْرَةِ؛ فَهَذَا فِي جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَيْهَا؛ لَيْسَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَكْشُوفَ الْفَخْذَيْنِ، سَوَاءٌ قِيلَ هُمَا عَوْرَةٌ أَوْ لَا، وَلَا يَطُوفَ عُرْيَانًا؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، إنْ كَانَ ضَيِّقًا اتَّزَرَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ كَانَ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ بَادِيَ الْفَخِذَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الإِزَارِ؛ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، وَمَنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْعَوْرَةِ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَةٌ؛ فَقَدْ غَلِطُوا، وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُصَلِّي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ. كَيْفَ وَأَحْمَدُ يَأْمُرُهُ بِسَتْرِ الْمَنْكِبَيْنِ، فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ كَشْفَ الْفَخِذِ؟. اهـ. وَاللهُ أَعْلَمُ.