عدد الزوار 392 التاريخ Sunday, June 25, 2023 3:43 PM
فَأَجَابَ: نَعَمْ، يُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّدَ مِنَ العُمْرَةِ إِذَا كَانَ لِكُلِّ عُمْرَةٍ سَفْرَةٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: فِي البَابِ عَنْ عُمَرَ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبْشِيٍّ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَجَابِرٍ، «حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ».
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ.
وَأَمَّا أَنْ يُكَرِّرَ العُمْرَةَ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي، إِلَّا أَنْ يُقَالَ لِضَرُورَةٍ، كَمَا حَصَلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: «وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إذَا كُنَّا بِسَرِفٍ عَرَكَتْ ... حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْتُ، قَالَ: فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "سُنَنِهِ" عَنْ عَائِشَةَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ: عُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ». وَعَزَا نَحْوَهُ ابْنُ حَجَرٍ لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وقَالَ: وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، وَأَشَارَ إِلَى إِرْسَالِهِ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: قَالُوا: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا ذِكْرَ مَجْمُوعِ مَا اعْتَمَرَ، فَإِنَّ أَنَسًا، وَعَائِشَةَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَغَيْرَهُمْ قَدْ قَالُوا: إِنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهَا بِهِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَرَّةً فِي شَوَّالٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَهْمٌ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا عَنْهَا، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ، فَإِنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ بِلَا رَيْبٍ: الْعُمْرَةُ الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَى الْعَامِ الْقَابِلِ، فَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ ذَلِكَ الْعَامَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ فِي سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَهَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا قَالَ أَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَتَى اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ؟ وَلَكِنْ لَقِيَ الْعَدُوَّ فِي شَوَّالٍ، وَخَرَجَ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا، وَلَمْ يَجْمَعْ ذَلِكَ الْعَامَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ، وَلَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ". انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ بن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ".
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا لَمَّا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرَ إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ».
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "فَإِنْ قِيلَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَسْتَحِبُّونَ الْعُمْرَةَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا إِذَا لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ عَنِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قِيلَ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَخَالَفَهُ مُطَرِّفٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَابْنُ الْمَوَّازِ، قَالَ مُطَرِّفٌ: لَا بَأْسَ بِالْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدِ اعْتَمَرَتْ عائشة مَرَّتَيْنِ فِي شَهْرٍ، وَلَا أَرَى أَنْ يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَلَا مِنَ الِازْدِيَادِ مِنَ الْخَيْرِ فِي مَوْضِعٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ نَصٌّ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ ... وَاعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ. فَقِيلَ لِلْقَاسِمِ: لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ: أَعَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ.
وَيُذْكَرُ عَنْ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ مِرَارًا ... وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "اعْتَمِرْ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً"، وَرَوَى وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ أَبِي نَاجِيَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "اعْتَمِرْ فِي الشَّهْرِ إِنْ أَطَقْتَ مِرَارًا"، وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ بَعْضِ وَلَدِ أَنَسٍ، أَنَّ أَنَسًا كَانَ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَحَمَّمَ رَأْسَهُ، خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَ". انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَكَرِهَ العُمْرَةَ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ الحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَالِكٌ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَا كَانُوا يَعْتَمِرُونَ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَلَنَا، أَنَّ عَائِشَةَ اعْتَمَرَتْ فِي شَهْرٍ مَرَّتَيْنِ بِأمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عُمْرَةً مَعَ قِرَانِهَا، وَعُمْرَةً بَعْدَ حَجِّهَا ... إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَمَّا الإِكْثَارُ مِنَ الاعْتِمَارِ، وَالمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ السَّلَفِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ ... وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنَ الاعْتِمَارِ. وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَأَحْوَالُهُمْ تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمُ المُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ، وَالحَقُّ فِي اتِّبَاعِهِمْ.
قَالَ طَاوُسٌ: الَّذِينَ يَعْتَمِرُونَ مِنَ التَّنْعِيمِ، مَا أَدْرِي: يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا أَوْ يُعَذَّبُونَ؟ قِيل لَهُ: فَلِمَ يُعَذَّبُونَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَدَعُ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ، وَيَخْرُجُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ وَيَجِيءُ، وَإِلَى أَنْ يَجِيءَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ قَدْ طَافَ مِائَتَيْ طَوَافٍ، وَكُلَّمَا طَافَ بِالبَيْتِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يَمْشِيَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ.
وَقَدِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرٍ فِي أَرْبَعِ سَفْرَاتٍ، لَمْ يَزِدْ فِي كُلِّ سَفْرَةٍ عَلَى عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ جَمَعَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مَعَهُ، إِلَّا عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ؛ لِأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أَنَّ عُمْرَةَ قِرَانِهَا بَطَلَتْ، وَلِهَذَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ؟! فَأَعْمَرَهَا لِذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِهِ". انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ.