عدد الزوار 187 التاريخ Saturday, September 10, 2022 11:00 AM
فأجاب: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حُكْمِ الصَّبْغِ بِالسَّوَادِ عَلَى أَقْوَالٍ:
القَوْلُ الأَوَّلُ: التَّحْرِيمُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمُجَاهِدُ اتِّفَاقًا".
القَوْلُ الثَّانِي: الكَرَاهَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، وَعَلَيْهِ الجُمْهُورُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْرُمُ لِغَرَضِ الغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ اتِّفَاقًا.
القَوْلُ الثَّالِثُ: الجَوَازُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: "العُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الحَثِّ عَلَى الخُرُوجِ مِنَ الخِلَافِ، إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِخْلَالٌ بِسُنَّةٍ، أَوْ أَوْقَعَ فِي خِلَافٍ آخَرَ".
القَوْلُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَلِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ لِلتَّزَيُّنِ لِزَوْجِهَا.
وَالأَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - تَجَنُّبُ صَبْغِ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ بِالسَّوَادِ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ مُحَقَّقَةٌ، كَالمَرْأَةِ تَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ لِزَوْجِهَا.
وَأَصَحُّ حَدِيثٍ فِي البَابِ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ».
وَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا لَيْثٌ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ - زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ بِهِ، وَلَفْظُهُ: «غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ»، وَلَمْ يَقُلْ: «وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ».
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مِهْرَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى بِهِ، فَوَهِمَ لِمُخَالَفَتِهِ مُسْلِمًا وَغَيْرَهُ، فَقَالَ: "غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ".
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِدْرَاجِ قَوْلِهِ: «وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ»، وَفِي كَوْنِهِ مَحْفُوظًا؛ فَمَنْ قَالَ بِالإِدْرَاجِ وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَيَّدَ رَأْيَهُ بِمَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَا: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي قُحَافَةَ - أَوْ جَاءَ عَامَ الْفَتْحِ - وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ مِثْلُ الثَّغَامِ - أَوْ مِثْلُ الثَّغَامَةِ - قَالَ حَسَنٌ: فَأَمَرَ بِهِ إِلَى نِسَائِهِ، قَالَ: "غَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ". قَالَ حَسَنٌ: قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ لِأَبِي الزُّبَيْرِ: أَقَالَ: جَنِّبُوهُ السَّوَادَ؟ قَالَ: "لَا".
وَتَابَعَهُ فِي تَرْكِ «وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ»: عَزْرَةُ وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
وَقَدْ تَابَعَ ابْنَ جُرَيْجٍ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ كَمَا فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو عَلِيٍّ القُهُسْتَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الفَتْحِ، وَكَانَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ مِثْلَ الثَّغَامَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ابْعَثُوا بِهِ إِلَى عِنْدَ نِسَائِهِ فَلْيُغَيِّرْنَهُ، وَلْيُجَنِّبْنَهُ السَّوَادَ".
وَيَشْهَدُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي اجْتِنَابِ السَّوَادِ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ شَابَ إِلَّا يَسِيرًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ خَضَبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. قَالَ: وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ، حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بَكْرٍ: "لَوْ أَقْرَرْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ، لَأَتَيْنَاهُ تَكْرُمَةً لِأَبِي بَكْرٍ". فَأَسْلَمَ وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "غَيِّرُوهُمَا، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ".
وَفِي البَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَحَدِيثُ أَسْمَاءَ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.
وَحَدِيثٌ مَوْضُوعٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو يَرْفَعُهُ، رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ.
وَقَدْ عَمِلَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقَدْ رَوَى الخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: وَأَكْرَهُ السَّوَادَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ). فَلَا يَعْجِبُنِي الْخِضَابُ بِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ الصَّبْغِ بِالسَّوَادِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عَبْدَ الكَرِيمِ المُخْتَلَفَ فِيهِ هُوَ الجَزَرِيُّ، وَرَوَاهُ كَذَلِكَ البَيْهَقِيُّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ - يَعْنِيَ ابْنَ عَمْرٍو - عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يُخَضِّبُونَ بِهَذَا السَّوَادِ، كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يُرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ. أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُتَّهَمُ بِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي الْمُخَارِقِ أَبُو أُمَيَّةَ الْبَصْرِيُّ، ثُمَّ نُقِلَ تَجْرِيحُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، قُلْتُ: وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ الثِّقَةِ الْمُخَرَّجِ لَهُ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ التَّرَجُّلِ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يُرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ". وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي الزِّينَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ هُوَ الرَّقِّيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي الأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ مِمَّا لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا. انْتَهَى.
وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ العِرَاقِيُّ وَابْنُ مُفْلِحٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا: "وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَحُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَلِهَذَا اخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الصَّبْغَ بِالسَّوَادِ يُكْرَهُ كَرَاهِيَةَ تَحْرِيمٍ، وَعَنِ الْحَلِيمِيِّ: أَنَّ الْكَرَاهَةَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ لِأَجْلِ زَوْجِهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ وَاسِعٌ، وَالصَّبْغُ بِغَيْرِ السَّوَادِ أَحَبُّ إِلَيَّ". انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: "اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْخِضَابِ وَفِي جِنْسِهِ".
وَالرَّاجِحُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - اسْتِحْبَابُ الخِضَابِ بِغَيْرِ السَّوَادِ مُخَالَفَةً لِأَهْلِ الكِتَابِ، وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ مَنْ يُسْتَشْنَعُ شَيْبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ، وَعَنْهُ يَجِبُ وَلَوْ مَرَّةً، وَعَنْهُ لَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ تَرْكَ الْخَضْبِ وَيَتَشَبَّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِي السَّوَادِ عَنْهُ كَالشَّافِعِيَّةِ رِوَايَتَانِ: الْمَشْهُورَةُ: يُكْرَهُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِمَنْ دَلَّسَ بِهِ".
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِيضٌ لِحَاهُمْ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، حَمِّرُوا وَصَفِّرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ". قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ خَلَا الْقَاسِمِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَفِيهِ كَلَامٌ لَا يَضُرُّ. وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّعَاقُبِ، وَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا ... وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا، وَالْكَتَمُ نَبَاتٌ بِالْيَمَنِ يُخْرِجُ الصَّبْغَ أَسْوَدَ يَمِيلُ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَصِبْغُ الْحِنَّاءِ أَحْمَرُ، فَالصَّبْغُ بِهِمَا مَعًا يَخْرُجُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ".
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: إنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّسْوِيدِ الْبَحْتِ، فَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْحِنَّاءِ شَيْءٌ آخَرُ، كَالْكَتَمِ وَنَحْوِهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ الْكَتَمَ وَالْحِنَّاءَ يَجْعَلُ الشَّعْرَ بَيْنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، بِخِلَافِ الْوَسْمَةِ، فَإِنَّهَا تَجْعَلُهُ أَسْوَدَ فَاحِمًا، وَهَذَا أَصَحُّ الْجَوَابَيْنِ.
... وَقَالَ: قَدْ صَحَّ عَنِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا كَانَا يَخْضِبَانِ بِالسَّوَادِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمَا فِي كِتَابِ "تَهْذِيبِ الْآثَارِ"، وَذَكَرَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَمُوسَى بْنُ طَلْحَةَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَيُّوبُ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ.
وَحَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، وَيَزِيدَ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَزِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، وَغَيْلَانَ بْنِ جَامِعٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ المُقَدَّمِيِّ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ فِي الْجِهَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ الْأَوْلَى كَرَاهَتُهُ، وَجَنَحَ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهُ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ؛ مِنْهُمْ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَجَرِيرٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْخِضَابِ لَهُ، وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: "يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ بِالسَّوَادِ لَا يَجِدُونَ رِيحَ الْجَنَّةِ"؛ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ؛ بَلْ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ، وَعَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: "جَنِّبُوهُ السَّوَادَ"؛ بِأَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ صَارَ شَيْبُ رَأْسِهِ مُسْتَبْشَعًا، وَلَا يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ خِلَافُ مَا يَتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثَيْنِ، نَعَمْ يَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: "كُنَّا نَخْضِبُ بِالسَّوَادِ إِذْ كَانَ الْوَجْهُ جَدِيدًا، فَلَمَّا نَفَضَ الْوَجْهُ وَالْأَسْنَانُ تَرَكْنَاهُ"، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ: "مَنْ خَضَبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَسَنَدُهُ لَيِّنٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ فَأَجَازَهُ لَهَا دُونَ الرَّجُلِ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ.