عدد الزوار 148 التاريخ 01/01/2021
فأجاب: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَحَبِيبِنَا مُحَمَّدٍ - ﷺ -، أَمَّا بَعْدُ: فَيَسْأَلُ البَعْضُ عَنْ حُكْمِ الاحْتِفَالِ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، وَالذِي يُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِـ (بِدْعَةِ عِيدِ المَوْلِدِ)، حَيْثُ أَحْدَثَ ذَلِكَ البَاطِنِيُّونَ العُبَيْدِيُّونَ بِالقَرْنِ الرَّابِعِ الهِجْرِيِّ، وَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فَقَدْ طَعَنَ فِي اللهِ، وَفِي النَّبِيِّ، وَفِي الصَّحَابَةِ؛ لِوَصْفِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ، وَمَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً أَوْ عَمِلَ بِهَا، فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، قَالَ ذَلِكَ نَبِيُّنَا وَحَبِيبُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَقَدْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِكَثِيرٍ مِنَ الجَهَلَةِ بِدْعَةَ المَوْلِدِ، وَجَعَلَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الاحْتِفَالَ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ مُعَبِّرٌ عَنْ حُبِّهِمْ لِلنَّبِيِّ - ﷺ -، وَفِي الحَقِيقَةِ هُوَ بِذَلِكَ مُعَادٍ لَهُ؛ إِذْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ مِنْهَا المُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ للهِ، لَمْ يَشْرَعْهَا اللهُ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا رَسُولُ اللهِ - ﷺ -، فَيُقَالُ لِمَنْ فُتِنَ بِبِدْعَةِ المَوْلِدِ مَا ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الحَدِيثِ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: «أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كَبِّرُوا اللهَ كَذَا وَكَذَا، سَبِّحُوا اللهَ كَذَا وَكَذَا، وَاحْمَدُوا اللهَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، أَوْ لَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - ﷺ - عِلْمًا". قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: "وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ".
وَالعَجِيبُ أَنَّ بِدْعَةَ الاحْتِفَالِ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ - ﷺ - لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَوِ المُخْتَلَفِ فِيهَا.
فَهَذَا القُرْآنُ، لَيْسَ فِيهِ عِبَارَةٌ وَلَا إِشَارَةٌ وَلَا تَنْبِيهٌ وَلَا إِيمَاءٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاحْتِفَالِ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، وَقَالَ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)؛ أَيْ: مَا تَرَكْنَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ فِي القُرْآنِ؛ إِمَّا دِلَالَةً مُبَيَّنَةً، وَإِمَّا مُجْمَلَةً، إِمَّا تَفْصِيلًا وَإِمَّا تَأْصِيلًا. وَمَنِ اسْتَحْسَنَ بِدْعَةَ المَوْلِدِ لَمْ يَجِدْ وَلَا آيَةً مَنْسُوخَةً، أَوْ قِرَاءَةً شَاذَّةً يَتَعَلَّقُ بِهَا.
وَهَذِهِ السُّنَّةُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، أَنَّهُ قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، فَلَيْسَ هُنَاكَ حَدِيثٌ يَتَشَبَّثُ بِهِ المُتَوَرِّطُونَ بِبِدْعَةِ المَوْلِدِ، لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَلَا مُرْسَلٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنْ صَحَابِيٍّ أَوْ عَنْ تَابِعِيٍّ.
وَلَمْ يَقُلْ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، وَلَا عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ.
وَالعَجِيبُ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ، لَكِنْ يَقُولُونَ: هِيَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، وَالبِدَعُ بِالإِجْمَاعِ كُلُّهَا سَيِّئَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا البِدْعَةَ اللُّغَوِيَّةَ العُرْفِيَّةَ، وَهِيَ السُّنَّةُ المَهْجُورَةُ إِذَا جُدِّدَتْ وَأُظْهِرَتْ.
مِثَالُهُ: مَا جَاءَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانُوا أَوْزَاعًا عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلَا أَدَلَّ عَلَى أَنَّ بِدْعَةَ المَوْلِدِ بَتْرَاءُ لَا دَلِيلَ يُؤَيِّدُهَا، وَأَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا صِفْرُ اليَدَيْنِ؛ مِنْ أَنَّهُمْ أَجْلَبُوا بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ؛ لِيَجِدُوا دَلِيلًا، فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا - ﷺ - رَحْمَةٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي القُرْآنِ أَنْ نَفْرَحَ بِالرَّحْمَةِ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ، عَلَى بُطْلَانِ الاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَاهِيَةٌ، وَإِلَّا فَلِمَ لَا نَحْتَفِلُ بِبَعْثَتِهِ لَا بِمَوْلِدِهِ، فَهِيَ الرَّحْمَةُ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وَلَوْ سَلَّمْنَا بِأَنَّ مَوْلِدَهُ رَحْمَةٌ، فَتَخْصِيصُ يَوْمِ الاثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ بِدْعَةٌ؛ إِذِ التَّخْصِيصُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا، وَيُؤَيِّدُ مَا سَبَقَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: (فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ). فَلِمَ لَا يُحْتَفَلُ بِمَوْلِدِهِ كُلَّ أُسْبُوعٍ؟، وَلِمْ لَا يَكُونُ صِيَامًا بَدَلًا مِنَ الأَكْلِ؟، وَقَدْ صَامَ النَّبِيُّ - ﷺ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ الذِي أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِ، عَلَى رَغْمِ أَنَّ العِبَادَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، فَلَا يُقَالُ: يُصَامُ يَوْمَ المَوْلِدِ، فَضْلًا عَنِ الاحْتِفَالِ بِهِ؛ لِصِيَامِ النَّبِيِّ - ﷺ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
عِلْمًا بِأَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ، فَلَيْسَ هُوَ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ، بَلِ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّ يَوْمَ الاثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، هُوَ يَوْمُ وَفَاتِهِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ يَوْمَ مَوْتِهِ - ﷺ - احْتِفَالًا وَفَرَحًا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!!
وَأَمَّا الاسْتِدْلَالُ بِمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ العَبَّاسَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي بَعْدَ حَوْلٍ فِي شَرِّ حَالٍ، فَقَالَ: مَا لَقِيتُ بَعْدَكُمْ رَاحَةً، إِلَّا أَنَّ العَذَابَ يُخَفَّفُ عَنِّي كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - وُلِدَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ بَشَّرَتْ أَبَا لَهَبٍ بِمَوْلِدِهِ فَأَعْتَقَهَا.
فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا أَلْبَتَّةَ لِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا: انْقِطَاعُ سَنَدِهِ، وَاخْتِلَافُ لَفْظِهِ، وَلِأَنَّهُ مَنَامٌ، وَلَا تَثْبُتُ بِالمَنَامِ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ أَحْكَامٌ بِالاتِّفَاقِ، هَذَا لَوْ رَآهَا فِي حَالِ إِسْلَامِهِ، فَكَيْفَ لَوْ رَآهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ؟!.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمُوا يَا رَعَاكُمُ اللهُ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، فَتَمَسَّكُوا بِسُنَّتِهِ، وَلَا تَتَجَاوَزُوهَا، وَتَأَسَّوْا بِهِ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَتَعَرَّفُوا عَلَى سِيرَتِهِ وَشَمَائِلِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عُنْوَانُ مَحَبَّتِهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.