اختلف أهلُ العِلمِ في أقسامِ المياهِ على أقوالٍ؛ أقواها قَولانِ:
القول الأوّل: أنَّ الماءَ ثلاثةُ أقسامٍ: طَهورٌ قال القرطبيُّ: (أجمعت الأمَّةُ لغةً وشريعةً على أنَّ وصفَ طَهورٍ يختصُّ بالماءِ، ولا يتعدَّى إلى سائِرِ المائعاتِ، وهي طاهرةٌ، فكان اقتصارُهم بذلك على الماءِ أدلَّ دليلٍ على أنَّ الطَّهورَ هو المطهِّرُ). ((الجامع لأحكام القرآن)) (13/41). ، وطاهِرٌ، ونَجِسٌ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ في الجُملة لاختلافِهم في بعضِ المياه؛ هل تُلحَقُ بالطَّاهِرِ أو الطَّهورِ. : الحنفيَّة ((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح)) (ص: 17)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/67). ، والمالكيَّة ((الكافي)) لابن عبدِ البَرِّ (1/155)، ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (1/82). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/80) ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/24). .الأدلَّة:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ - عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن ماءِ البَحرِ، فقال: هو الطَّهورُ ماؤُه)) رواه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنَّسائي (59)، وابن ماجه (386)، وأحمد (8720). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان في ((المجروحين)) (2/316)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وقال ابن البر في ((التمهيد)) (16/217): لا يحتج أهل الحديث بإسناده لكنه صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/24): (في إسناد هذا الحديث اختلافٌ، لكن قال البخاري والترمذي: هو حديثٌ صحيح)، وصححه ابن العراقي في ((طرح التثريب)) (6/11)، وصححه أحمد شاكر في تحقيق ((المحلى)) (1/221)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (386).
وجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الصَّحابة يعلمونَ أنَّ ماءَ البَحرِ طاهِرٌ وليس نَجِسًا- بلا شكٍّ- فسؤالُهم إنَّما كان عن تطهيرِ ماءِ البَحرِ لا عن طهارَتِه، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك ماءً طاهرًا ليس بطَهورٍ ((المجموع)) للنووي (1/85).
ثانيًا: أحاديثُ النَّهيِ عن الاغتسالِ في الماءِ الرَّاكدِ كحديث أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه في الصَّحيحين مرفوعًا: ((لا يَبولنَّ أحدُكم في الماءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجري، ثُمَّ يَغتسِل فيه)).أخرجه البخاري (239) واللفظ له، ومسلم (282) والنَّهيِ عن غمْسِ اليَدِ في الإناءِ قبل غَسلِها لِمَن قام مِنَ النَّومِ فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا استيقظ أحدُكم مِن نومِه فلْيغسِلْ يدَه قبل أن يُدخِلَها في وَضوئِه؛ فإنَّ أحدَكم لا يدري أين باتَتْ يدُه)). رواه البخاري (162) واللفظ له، ومسلم (278).
وجهُ الدَّلالةِ منها: أنَّه قد ورد النَّهيُ عن الاغتسالِ في هذه المياهِ، مع عدم نجاسَتِها، فدلَّ ذلك على وجودِ نَوعٍ مِنَ الماءِ ليس بنَجِسٍ، ولا يمكِنُ التطهُّرُ به، وهو الطَّاهِرُ.
القول الثاني: أنَّ الماء قسمانِ فقط: طَهورٌ ونجِسٌ، وهو محكيٌّ عن بعضِ الحنفيَّة قال ابن تيميَّة: (وقال كثيرٌ من أصحابِ أبي حنيفة: بل الطَّاهِرُ هو الطَّهورُ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/297). ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (اسمُ الماءِ مُطلقٌ في الكتابِ والسُّنةِ، ولم يقسِّمه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى قِسمينِ: طهورٍ وغيرٍ طَهورٍ، فهذا التقسيمُ مخالفٌ للكتابِ والسُّنة، وإنَّما قال الله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً, و... كلُّ ما وقع عليه اسمُ الماءِ فهو طاهِرٌ طَهورٌ، سواءٌ كان مستعمَلًا في طهرٍ واجبٍ أو مُستحَبٍّ أو غيرِ مُستحَبٍّ). ((مجموع الفتاوى)) (19/236). ، وابنِ باز قال ابن باز: (الصَّوابُ: أنَّ الماءَ المُطلَق قسمان: طَهورٌ، ونجِسٌ؛ قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا **الفرقان: 48**. وقال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ **الأنفال: 11**. الآية. وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الماءَ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ)). أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ومرادُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إلَّا ما تغيَّر طَعمُه أو رِيحُه أو لَونُه بشيءٍ مِنَ النَّجاساتِ؛ فإنَّه يَنجُسُ بإجماعِ العُلَماءِ، أمَّا ما يقَعُ في الماء من الشَّرابِ أو أوراقِ الشَّجر أو نحوهما، فإنَّه لا ينجِّسه، ولا يُفقِدُه الطُّهوريَّة ما دام اسمُ الماءِ باقيًا. أمَّا إن تغيَّر اسمُ الماءِ بما خالطه إلى اسمٍ آخَرَ؛ كاللَّبَنِ، والقهوةِ، والشاي، ونحو ذلك؛ فإنه يخرُجُ بذلك عن اسمِ الماءِ، ولا يُسمَّى ماءً، ولكنَّه في نفسِه طاهِرٌ بهذه المُخالطة، ولا يَنجُسُ بها. أمَّا الماءُ المقيَّد؛ كماءِ الوردِ، وماء العِنَبِ، وماء الرُّمَّانِ، فهذا يسمَّى طاهرًا، ولا يسمَّى طَهورًا، ولا يحصُلُ به التطهيرُ مِنَ الأحداثِ والنَّجاسة؛ لأنَّه ماءٌ مُقيَّدٌ، وليس ماءً مُطلقًا، فلا تَشمَلُه الأدلَّةُ الشرعيَّةُ الدالَّة على التَّطهيرِ بالماء، والشَّرعُ إنَّما وصَفَ الماءَ المطلَقَ بالتَّطهيرِ؛ كماءِ المَطَر، وماءِ البحر، والأنهارِ، والعيون). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/14). ، وابنِ عُثيمين قال ابن عثيمين: (الرَّاجِحُ أنَّ الماءَ قسمان: طَهورٌ ونَجِسٌ، فما تغيَّرَ بالنجاسةِ، فهو نجِسٌ، وما لم يتغيَّرْ بنجاسة، فهو طَهورٌ. أمَّا إثباتُ قسم ثالث، وهو الطَّاهِرُ، فلا أصلَ لذلك في الشريعة، والدليلُ على هذا هو عَدَمُ الدَّليلِ؛ إذ لو كان القِسمُ الطَّاهِرُ ثابتًا بالشَّرع، لكان أمرًا معلومًا مفهومًا، تأتي به الأحاديثُ البيِّنةُ الواضِحةُ؛ لأنَّ الحاجةَ تدعو إلى بيانِه، وليس بالأمرِ الهيِّنِ؛ إذ يترتَّبُ عليه: إمَّا أن يتطهَّرَ بماءٍ أو يتيمَّم). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/86).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قولُه تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان: 48].
2- قوله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11].
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ الماءَ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ)) رواه أبو داود (66)، والترمذي (66)، والنَّسائي (326)، وأحمد (11275). صحَّحه يحيى ابن معين كما في ((خلاصة البدر المنير)) لابن الملقِّن (1/7)، والإمام أحمد كما في ((تهذيب الكمال)) للمِزِّي (12/219)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (21/41)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/381)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (66)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/485).
وجهُ الدَّلالةِ مِنَ الآيتينِ والحديثِ: أنَّ اسمَ الماءِ مُطلقٌ في الكتابِ والسُّنةِ، ولم يرِدْ فيهما تقسيمُه إلى: طَهورٍ وطاهرٍ، فهذا التَّقسيمُ مخالفٌ للكتابِ والسُّنةِ، ولا أصلَ له في الشَّريعةِ؛ إذ لو كان القِسمُ الطَّاهِرُ ثابتًا بالشَّرع، لكان أمرًا معلومًا مفهومًا، تأتي به الأحاديثُ البيِّنةُ الواضِحةُ؛ لأنَّ الحاجةَ تدعو إلى بيانِه، وليس بالأمرِ الهيِّنِ؛ إذ يترتَّبُ عليه: إمَّا أن يتطهَّرَ بماءٍ أو يتيمَّم ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/14)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/86).
ثالثًا: أنَّ الماءَ إمَّا أن يبلُغَ اختلاطُ الطَّاهِرِ به إلى حدِّ زَوالِ وَصفِ الماءِ عنه، فلا يكون ماءً مُطلقًا، وإمَّا ألَّا يبلُغَ به ذلك، فيجوز التطهُّرُ به، يدلُّ على ذلك ما جاء عن أمِّ عطيَّةَ الأنصاريَّة رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((دخل علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين تُوفِّيتِ ابنَتُه، فقال: اغسِلنَها ثلاثًا أو خَمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتُنَّ ذلك، بماءٍ وسِدرٍ، واجعَلنَ في الآخِرة كافورًا أو شيئًا مِن كافورٍ، فإذا فرغتُنَّ فآذِنَّنِي)) رواه البخاري (1253) واللفظ له، ومسلم (939). ، فهذا ماءٌ مُختلِط، ولكنَّه لم يبلُغْ مِنَ الاختلاطِ بحيث يُسلَبُ عنه اسمُ الماءِ المُطلَقِ ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/27). انظر أيضا:
المبحث الثَّاني: الماءُ المُطلَق (الطَّهور).
المبحث الثَّالث: الماء النَّجِس.
المبحث الرَّابع: الماءُ المختلِط أو المتغيِّر.
المبحث الخامس: الماءُ المستعمَل .