الفرع الأوَّل: إذا تغيَّرَ الماءُ بالنَّجاسةِ
إذا لاقى الماءَ نجاسةٌ، فغيَّرَت أحَدَ أوصافِه: مِن طَعمٍ، أو لونٍ، أو رائحةٍ؛ فهو نجِسٌ، قليلًا كان أو كثيرًا.

الدليل من الإجماع:
نقل الإجماعَ على ذلك حُكي عن عبد الملك بن الماجشون، أنَّ التغيرَ بالرَّائحة لا يضرُّ، وهو قولٌ شاذٌّ. ((الذخيرة)) للقرافي (1/163).
الشافعيُّ: قال الشافعيُّ: (...إذا تغيَّرَ طَعمُ الماءِ أو ريحُه أو لونُه، كان نجسًا... هو قول العامَّة لا أعلم بينهم فيه اختلافًا) ((الأم)) (1/43). ، وابنُ المُنذِر قال ابن المُنذِر: (وأجمعوا على أنَّ الماءَ القليلَ والكثيرَ إذا وقعت فيه نجاسةٌ، فغيَّرت للماءِ طعمًا، أو لونًا، أو ريحًا: أنَّه نجِسٌ ما دام كذلك) ((الإجماع)) (1/35). ، وابنُ عبدِ البَرِّ قال ابن عبدِ البَرِّ: (والماءُ لا يخلو تغيُّرُه مِن أن يكونَ بنجاسةٍ أو بغير نجاسةٍ، فإن كان بنجاسةٍ فقد أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّه غيرُ طاهرٍ ولا مُطهِّرٍ) ((التمهيد)) (19/16). ، وابنُ قدامة قال ابن قدامة: (فأمَّا نجاسةُ ما تغيَّر بالنَّجاسة، فلا خلافَ فيه)) ((المغني)) (1/20). ، وابن تيميَّة قال ابن تيميَّة: (وأمَّا الماءُ إذا تغيَّرَ بالنَّجاساتِ، فإنَّه يَنجُسُ بالاتِّفاقِ) ((مجموع الفتاوى)) (21/30).

الفرع الثاني: الماءُ الكثيرُ إذا لاقى نجاسة
إذا كان الماء كثيرًا مُستبحِرًا، فإنَّه لا ينجُسُ إلَّا بالتغيُّرِ.
الدليلُ مِنَ الإجماع:
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ جريرٍ قال الطبريُّ: (وهم ... مُجمِعونَ على البطيحةِ [المكان المتَّسع يمرُّ به السيل]، والبَحر أنَّه لو وقعتْ فيهما نجاسةٌ، قلَّتْ أو كثُرت، أنَّهما لا ينجُسانِ). ((تهذيب الآثار- مسند ابن عباس)) (2/736). ، وابنُ المُنذِر قال ابن المُنذِر: (أجمعوا على أنَّ الماءَ الكثيرَ مِنَ النِّيل والبَحرِ، ونحو ذلك إذا وقعت فيه نجاسةٌ، فلم تغيِّرْ له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا؛ أنه بحاله، ويُتطهَّرُ منه) ((الإجماع)) (ص: 35). ، وابنُ حزم قال ابن حزم: (واتَّفقوا أنَّ الماءَ الرَّاكِدَ إذا كان من الكَثرةِ بحيث إذا حُرِّك وسَطه لم يتحرَّك طرَفاه ولا شيءٌ منهما؛ فإنَّه لا ينجِّسُه شيء إلَّا ما غيَّر لونَه، أو طَعمَه، أو رائحَتَه) ((مراتب الإجماع)) (ص: 17). ، وابنُ عبدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (الماءُ إذا غلَب على النَّجاساتِ وغمَرَها؛ طهَّرَها، وكان الحُكمُ له لا لها، ولو كان إذا اختلط بالنَّجاسات لحقتُه النجاسةُ ما كان طَهورًا، ولا وصَلَ به أحدٌ إلى الطَّهارةِ، وهذا مردودٌ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ سمَّاه طَهورًا، وأجمع المسلمونَ على ذلك في كثيرِه). ((التمهيد)) (9/108). ، وابنُ رشد قال ابن رشد: (اتَّفقوا على أنَّ الماءَ الكثيرَ المُستبحِرَ لا تضرُّه النجاسةُ التي لم تغيِّرْ أحدَ أوصافِه) ((بداية المجتهد)) (1/23). ، وشمسُ الدينِ ابنُ قدامة قال شمسُ الدِّين ابنُ قُدامة: (لا نعلَمُ خلافًا أنَّ الماءَ الذي لا يمكِنُ نزحُه إلَّا بمشقةٍ عظيمةٍ، مثل المصانع التي جُعِلَت موردًا للحاجِّ بطريقِ مكَّةَ يَصدُرونَ عنها، ولا يَنفَدُ ما فيها، أنَّها لا تنجُسُ إلَّا بالتغَيير). ((الشرح الكبير)) (1/27). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (البحرُ لا ينجِّسه شيءٌ بالنصِّ والإجماع) ((مجموع الفتاوى)) (21/499).

الفرع الثَّالث: الماءُ الجاري إذا وقعت فيه نجاسةٌ
إذا كان الماءُ جاريًا اختلف أهلُ العلمِ في ضبْطِ الماء الجاري على عدَّةِ أقوال: فقيل: إنَّه ما يُعِدُّه النَّاسُ جاريًا.
وقيل: هو ما لا يخلُصُ بَعضُه إلى بَعضِه.
وقيل: بأن يدخُلَ الماءُ مِن جانبٍ ويخرُجَ من جانبٍ آخر. وقيل: هو ما لا يتكرَّر استعمالُه.
وقيل: إن وَضَع الإنسانُ يدَه في الماءِ عَرضًا لا ينقَطِعُ. وقيل: إنَّه ما لا ينحَسِرُ عن وجهِ الأرضِ بالاغترافِ بكَفَّيه. وقيل: هو ما اندفَعَ في مُستَوٍ أو منخفِضٍ.
وقيل غير ذلك.
انظر ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/23)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/24)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (39/370). ووقعَتْ فيه نجاسةٌ، فلا ينجُسُ إلَّا بالتغيُّرِ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (1/52)، ((الفتاوى الهندية)) (1/16). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (1/100)، ((الشرح الكبير)) للدردير (1/43). ، وهو قولٌ قديمٌ للشَّافعيِّ ((روضة الطالبين)) للنووي (1/26)، ((المجموع)) للنووي (1/66)، وينظر: ((شرح السنة)) للبغوي (2/67). ، اختاره بعضُ الشافعيَّة كالجويني، والغزالي، والشيرازي ((روضة الطالبين)) للنووي (1/26) وقوَّاه النووي ((المجموع)) للنووي (1/143). ، وهو أنصُّ الرِّوايتينِ عن أحمد ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/41)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/73)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/53، 54). ، واختاره ابنُ قُدامة قال ابن قدامة: (فعلى هذا لا يتنجَّسُ الجاري إلَّا بتغيُّره؛ لأنَّ الأصلَ طَهارَتُه، ولا نعلَمُ في تنجيسه نصًّا ولا إجماعًا، فبَقِيَ على أصلِ الطَّهارة) ((المغني)) (1/25). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (قد تنازع العلماءُ في الماءِ الجاري على قولين: أحدهما: لا يَنجُسُ إلَّا بالتغيُّرِ. وهذا مَذهَبُ أبي حنيفة مع تشديدِه في الماءِ الدَّائم، وهو أيضًا مذهَبُ مالك، والقولُ القديم للشافعيِّ، وهو أنصُّ الرِّوايتينِ عن أحمد واختيار محقِّقي أصحابه. والقول الآخر للشافعيِّ؛ وهي الرواية الأخرى عن أحمد: أنَّه كالدَّائم فتُعتبَر الجَرية. والصواب الأوَّل) ((مجموع الفتاوى)) (21/72، 73). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابن حزم: (فأمَّا الجاري فاتَّفقوا على جوازِ استعمالِه ما لم تظهَرْ فيه نجاسةٌ) ((مراتب الإجماع)) (ص: 17). لكنْ خالَفَه فيه ابنُ تيميَّة فيما كان دون القُلَّتينِ، فقال: (قلت: الشافعي في الجديدِ مِن قولَيه، وأحدُ القولين في مذهب أحمد: أنَّ الجاري كالرَّاكد في اعتبارِ القُلَّتين، فينجُسُ ما دون القُلَّتين بوقوعِ النجاسة فيه، وإن لم تظهَرْ فيه) ((نقد مراتب الإجماع)) (ص: 288).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَبولنَّ أحدُكم في الماء الدَّائِمِ الذي لا يَجري ثُمَّ يَغتسِل فيه)) رواه البخاري (239) واللفظ له، ومسلم (282).
وجه الدَّلالة: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فرَّقَ بين الدَّائمِ والجاري في نَهيِه عن الاغتسالِ والبَولِ فيه؛ فمفهومُ الحديثِ أنَّ الماءَ الجاريَ ليس منهيًّا عن البَولِ فيه، ولا عن الاغتسالِ منه ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/73)، ((طرح التثريب)) للعراقي (2/29).

ثانيًا: أنَّ الأصلَ طهارةُ الماءِ الجاري، وإذا لم تغيِّرْه النجاسةُ فلا وَجهَ لنجاسَتِه؛ فإنَّه طاهِرٌ بيقينٍ، وليس في نجاسَتِه نصٌّ ولا قياسٌ، فوجب البقاءُ على طهارَتِه مع بقاءِ صِفاتِه ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/41)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/73).

ثالثًا: أنَّ النَّجاسةَ في الماءِ الجاري منفصلةٌ عمَّا أمامها وما خَلفَها من الجَرَيات حكمًا، وإن اتَّصلَت بهما حسًّا؛ إذ كل جَريةٍ طالبةٌ لِما أمامها، هاربةٌ عمَّا خَلفَها، فلا تلحَقُ النَّجاسةُ بالماءِ الجاري حسًّا، فلا يُلحَقُ به نجاسَتُها حُكمًا ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/24، 25).

رابعا: أنَّ الماءَ الجاريَ بمجموعِه أكثَرُ مِنَ القلَّتين، إضافةً إلى قوَّةِ جَرَيانه، واختصاصُ كلِّ جَريةٍ بنفسها فلا تستَقِرُّ معها النَّجاسةُ ((الشرح الكبير)) لشمس الدِّين ابن قدامة (1/41)، ((الفقه الإسلامي وأدلته)) للزحيلي (1/293).

الفرع الرابع: الماءُ القليلُ إذا لاقى نجاسةً فلم يتغيَّرْالماءُ
القليلُ إذا لاقى نجاسةً فلم يتغيَّر لا يَنجُسُ، وهو مذهَبُ المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (1/98)، وينظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/362). ، والظاهريَّة ((المحلى)) لابن حزم (1/141)، ((التمهيد)) لابن عبدِ البَرِّ (1/328). ، وبه قالَت طائفةٌ من السَّلف قال ابن حزم: (وممَّن روى عنه هذا القولَ بمِثلِ قَولِنا- أنَّ الماءَ لا ينجِّسُه شيء- عائشة أم المؤمنين، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، والحسين بن علي بن أبي طالب، وميمونة أم المؤمنين، وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عن جميعهم، والأسود بن يَزيد وعبد الرحمن أخوه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق، والحسن البصري، وعكرمة، وجابر بن زيد، وعثمان البتِّي، وغيرهم، فإن كان التقليدُ جائزًا، فتقليدُ مَن ذَكَرنا من الصحابةِ والتابعينَ رَضِيَ اللهُ عنهم أَولى مِن تقليدِ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشَّافعيِّ) ((المحلى)) (1/168).
وقال ابن قدامة: (الماءُ لا ينجُسُ إلَّا بالتغيُّر؛ قليلُه وكثيرُه، ورُوي مثل ذلك عن حذيفة، وأبي هريرة، وابن عباس، قالوا: الماء لا ينجُسُ. وروي ذلك عن سعيد بن المسيَّب، والحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد، وابن أبي ليلى، ومالك والأوزاعي، والثوري، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المُنذِر، وهو قول للشافعي) ((المغني)) (1/20). وقال النوويُّ: (حكوه عن ابن عبَّاس، وابن المسيِّب، والحسن البصري، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعبد الرحمن ابن أبي ليلي، وجابر بن زيد، ويحيى بن سعيد القطَّان، وعبد الرحمن بن مهديٍّ: قال أصحابنا: وهو مذهَبُ مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وداود، ونقلوه عن أبي هريرة والنخعي) ((المجموع)) (1/113). ، وهو روايةٌ عن أحمد ((المغني)) لابن قدامة (1/20). ، اختارها عددٌ مِنَ الحنابلة قال المرداوي: (الرواية الثانية: لا ينجُسُ؛ اختارها ابنُ عَقيل في المفردات وغيرها، وابن المَنِّي والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق قال في الحاويين: وهو أصحُّ عندي، قال في مجمع البحرين: ونصَرَ هذه الروايةَ كثيرٌ من أصحابنا، قال الزركشي: وأظنُّ اختارها ابن الجوزي، قال الشيخ تقي الدين: اختارها أبو المظفر ابن الجوزي وأبو نصر) ((الإنصاف)) (1/53). ، واختارَه ابنُ المُنذِر قال ابن المُنذِر: (والذي نقول به في هذا الباب وفي غيره من أبواب الماء: أنَّ قليلَ الماءِ وكثيرَه لا ينجِّسهُ شيءٌ في نهرٍ كان أو غيرِه، وإن سقطت فيه نجاسةٌ إلَّا أن يُغيِّرَ للماء طعمًا، أو لونًا، أو ريحًا) ((الأوسط)) (1/386). ، والغزالي، وغيرُ واحدٍ مِنَ الشافعيَّة قال النووي: (اختاره الغزاليُّ في الإحياء، واختاره الرُّوياني في كتابيه البحر والحِلية، قال في البحر: هو اختياري واختيار جماعة رأيتهم بخراسان والعراق) ((المجموع)) (1/113). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (... ولهذا كان أظهرَ الأقوالِ في المياه، مذهَبُ أهل المدينة والبصرة: أنَّه لا يَنجُسُ إلَّا بالتغيُّرِ، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد؛ نصرها طائفةٌ من أصحابه كالإمام أبي الوفاء بن عقيل؛ وأبي محمد بن المنِّي) ((مجموع الفتاوى)) (20/518). ، والشَّوكانيُّ قال الشوكاني: (ليس مجرَّدُ وقوعِ النجاسةِ في القليلِ مقتضيًا لصيرورتِه نجسًا، ولا ثبَتَ ما يدلُّ على ذلك لا بمطابقةٍ ولا تضمُّنٍ ولا التزامٍ، بل المُعتَبَر أن تؤثِّرَ فيه النَّجاسةُ تغيرًا، فإنْ حصل ذلك فقد ضعُف عن حَملِ النَّجاسةِ وصار مُتنجِّسًا، وإن لم يحصل ذلك فلا تؤثِّر النجاسةُ الواقعةُ فيه شيئًا، ويكون حُكمُه الحكمَ الذي كان له قبل وقوعِها فيه وهو الطَّهارةُ؛ فاعرف هذا) ((السيل الجرار)) (1/37). ، والصَّنعاني قال الصَّنعاني: (وإذا عرفتَ ما أسلفناه، وأنَّ تحديدَ الكثيرِ والقليلِ لم ينهَضء على أحدِهما دليلٌ؛ فأقرَبُ الأقاويل بالنَّظَرِ إلى الدليل: قولُ القاسم بن إبراهيم، ومَن معه) ((سبل السلام)) (1/23). ، وابنُ باز قال ابن باز: (والصواب: أنَّ ما دون القُلَّتينِ لا ينجُسُ إلَّا بالتغيُّرِ، كالذي بلغ القلَّتين؛ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الماء طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ)) أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي، بإسنادٍ صحيح، من حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عنه. وإنَّما ذكَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القلَّتين؛ ليدلَّ على أنَّ ما دونهما يحتاجُ إلى تثبُّتٍ ونظرٍ وعنايةٍ؛ لا أنَّه ينجُسُ مطلقًا؛ لحديث أبي سعيد المذكور. ويُستفاد من ذلك: أنَّ الماءَ القليلَ جدًّا يتأثَّرُ بالنجاسة غالبًا، فينبغي إراقَتُه، والتحرُّز منه؛ ولهذا ثبت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: ((إذا وَلَغ الكلبُ في إناءِ أحدِكم فلْيُرِقْه، ثم لْيَغسِلْه سبعَ مرَّات)) أخرجه مسلم في صحيحه) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/16). ، وابنُ عثيمين قال ابن عثيمين: (القول الثالث:... أنه لا ينجُسُ إلَّا بالتغيُّر مطلقًا؛ سواء بلغ القُلَّتين أم لم يبلُغْ، لكن ما دون القلَّتين يجِبُ على الإنسانِ أن يتحرَّزَ إذا وقعت فيه النَّجاسةُ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ ما دونهما يتغيَّرُ، وهذا هو الصَّحيحُ للأثَرِ والنَّظَر) ((الشرح الممتع)) (1/40-41).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُورًا [الفرقان: 48].
وجه الدَّلالة:
أنَّ الماءَ إذا لم تتغيَّرْ أوصافُه؛ فهو على طَهوريَّتِه، قليلًا كان أو كثيرًا، فلا يزولُ عنه هذا الوَصفُ إلَّا ببُرهانٍ ((الكافي)) لابن عبدِ البَرِّ (1/156- 157).

2- قولُه تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء: 43].
وجه الدَّلالة:
أنَّ هذا الماءَ الذي وقعَت فيه النَّجاسةُ ولم تغيِّرْه؛ باقٍ على صِفَتِه التي خلقه اللهُ تعالى عليها طَعمًا ولونًا ورائحةً، فلا يُعدَلُ عنه إلى التيمُّمِ.ثانيًا: مِن السُّنَّةِعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الماءَ طَهورٌ لا يُنجِّسُه شيءٌ)) رواه أبو داود (66)، والترمذي (66)، والنَّسائي (326)، وأحمد (11275). صحَّحه يحيى ابن معين كما في ((خلاصة البدر المنير)) لابن الملقِّن (1/7)، والإمام أحمد كما في ((تهذيب الكمال)) للمِزِّي (12/219)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (21/41)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/381)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (66)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/485).
وجه الدَّلالة:
أنَّ هذا عمومٌ لا يخرُجُ منه شيءٌ إلَّا إذا تغيَّرَ بنجاسةٍ، فإنَّه يكون حينئذٍ نجِسًا بإجماعِ أهلِ العِلمِ ((الإجماع)) لابن المُنذِر (ص: 35).
ثالثًا: أنَّ علَّةَ النَّجاسةِ الخَبَثُ، فمتى وُجِدَ الخبَثُ في شيءٍ فهو نَجِسٌ، ومتى لم يُوجَدْ فليس بنجِسٍ، فالحُكمُ يدورُ مع علَّتِه وجودًا وعَدَمًا، ولا يُحكَمُ بالنَّجاسةِ إلَّا إذا وُجِدَت عينُها، فإذا بقِيَ الماءُ طَهورًا على ما هو عليه؛ فإنَّه لا يجوزُ سَلبُه وَصفَه الأصليَّ بمجرَّدِ توهُّمِ التنجُّسِ لمجرَّدِ المُلاقاةِ ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/41).

الفرع الخامس: المتغيِّرُ بمجاورةِ النَّجاسةِ
إذا تغيَّرت رائحةُ الماءِ بمُجاورةِ النَّجاسةِ، فإنَّه لا يَسلُبُه وصفَ الطُّهوريَّة [121] ومع كون الماءِ طهورًا؛ إلَّا أنَّ الأَولى التنزُّهُ عنه إن أمكن؛ فهو ماءٌ رائحتُهُ خبيثةٌ، وربَّما يكون فيه من الناحِيةِ الطبِّيةِ ضررٌ، وقد تحمِل هذه الرَّوائحُ مكروباتٍ تحُلُّ في هذا الماءِ. يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/35). ؛ نصَّ على هذا الجمهور: المالكيَّة [122] ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (1/75). ، والشافعيَّة [123] ((المجموع)) للنووي (1/106). ، والحنابلة [124] ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/26). ؛ وحُكِيَ عدمُ الخِلافِ على ذلك [125] ((المجموع)) للنووي (1/106)، ((المبدع)) لابن مفلح (1/10)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/75). ؛ وذلك لأنَّ ما تغيَّرَ بمجاورةٍ لا عن مخالطةٍ، لا يؤثِّرُ في الماء؛ لعَدَمِ انتقالِ عَينِ النَّجاسةِ إليه [126] ((الشرح الكبير)) للدردير (1/35)، ((المجموع)) للنووي (1/105).

الفرع السادس: تطهيرُ الماءِ المُتنجِّسِ
متى زال تغيُّرُ الماءِ النَّجِسِ بأيِّ وسيلةٍ كانت لتطهيرِ الماءِ المتنجِّسِ طُرُق؛ منها: أن يزولَ بتغيُّرِه بنَفْسِه، أو بإضافة ماءٍ أو ترابٍ أو غيرهما، أو بنَزْحِ بعضه. وللفقهاءِ تفاصيلُ كثيرةٌ في شروطِ وقيود كلِّ طريقة. ، ولو بالطُّرُقِ الحديثةِ كما تقوم به بعضُ المصانع الحديثة مِن إنتاجِ ماءٍ نقيٍّ صالحٍ للشُّرب من مياه المجاري عن طريقِ معالَجَتِها بالتَّنقية بالطُّرُق الكيماويَّة المعقَّدةِ من التَّرسيبِ والتَّهوية وقتْلِ الجراثيم، وتعقيمِه بالكلور. ((مجلة البحوث الإسلامية)) (17/40) (49/365، 366).
وقد اشتَرَط القائلون بذلك أن تكون تنقيتُها تنقيةً كاملةً بحيث تعود إلى خِلقَتِها الأولى، ولا يُرى فيها تغيرٌ بنجاسةٍ في طَعمٍ ولا لونٍ ولا ريح، ولا تكفي عملياتُ التنقية الأوليَّة أو الثانويَّة أو الجزئيَّة ممَّا لا يسلُبُ كامِلَ النجاسة بحيث يبقى أثَرُها من طَعمٍ أو رائحةٍ أو لون. كما استحسنوا: الاستغناءَ عنها في استعمالِها للشُّربِ متى وُجِد إلى ذلك سبيلٌ؛ احتياطًا للصحَّة واتِّقاءً للضَّرر، وتنزُّهًا عمَّا تستقذِرُه النُّفوس، وتنفِرُ منه الطباع . يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (5/79 رقم 2468)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (17/40)، (49/365،366)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/89-91). ، فقد طهُرَ، ولا فَرقَ في ذلك كلِّه بين القَليلِ والكثيرِ، وهذا مَذهَبُ مالكٍ في الجملة ((حاشية الدسوقي)) (1/46،47)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (10/280). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ ((المحلى)) (1/143). والشَّوكانيِّ قال الشَّوكاني: (أقول: قد قدَّمنا لك أنَّ الماءَ طاهرٌ مطهِّرٌ لا ينجِّسُه إلَّا ما غيَّرَ بعضَ أوصافِه مِن غيرِ فَرقٍ بين قليل وكثير.
فهذه المياهُ القليلة لا تنجُسُ بمجرَّدِ وُقوعِ النجاسة فيها إلَّا أن يتغيَّرَ بعضُ أوصافها على ما هو المذهَبُ الحقُّ والقولُ الرَّاجِحُ، فإن تغيَّرتْ حالُ قِلَّتِها صارت متنجِّسةً، فإن زال ذلك التغيُّرُ عند اجتماعها صارت طاهرةً بزوال التغيُّرِ، وسواء كانت حال اجتماعِها مستبحِرةً أم لا؛ فليس المقصودُ الذي هو مناطُ الطَّهارة إلَّا زوالَ التغيُّرِ) ((السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار)) (ص: 36). ، وابنِ باز قال ابن باز: (ماءُ المجاري إذا نقِّي... ولم يبقَ للنَّجاسة أثرٌ في طَعمِه، ولا في لَونِه، ولا في رِيحِه؛ صارَ طَهورًا)، وقال أيضًا: (إذا كانت مياه المجاري المتنجِّسةُ... تتخلَّص بالطُّرُق الفنيَّة الحديثة ممَّا طرأ عليها من النَّجاسات؛ فإنَّه يمكن حينئذٍ أن يُحكم بطهارَتها؛ لزوال علَّةِ تنجُّسها) ((اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية)) لخالد آل حامد (2/1513-1514). ، وابنِ عثيمين قال ابن عثيمين: (القول الصَّحيح: أنَّه متى زال تغيُّرُ الماءِ النَّجِس طهُر بأيِّ وسيلةٍ كانت) ((الشرح الممتع)) (1/57). وسُئل عن حكمِ تكريرِ الماء المتلوِّثِ بالنَّجاسات حتى يعود الماءُ نقيًّا سليمًا مِنَ الرَّوائح الخبيثة ومِن تأثيرِها في طَعمِه ولَونِه. فأجاب بقوله: (في حالِ تكريرِ الماءِ التكريرَ المتقدِّم، الذي يُزيلُ تلوُّثَه بالنجاسةِ حتى يعود نقيًّا سليمًا من الرَّوائحِ الخبيثةِ ومن تأثيرِها في طَعمِه ولَونِه، مأمونَ العاقبةِ مِنَ الناحية الصحيَّة؛ في هذه الحال لا شكَّ في طهارةِ الماء، وأنَّه يَجوزُ استعمالُه في طهارةِ الإنسانِ وشُربِه وأكْلِه وغير ذلك؛ لأنَّه صار طَهورًا لزوال أثَرِ النَّجاسةِ طعمًا ورائحةً ولونًا) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/89-91). ، وبه صدر قرارُ المَجمَعِ الفقهيِّ التَّابِعِ لرابطةِ العالَمِ الإسلاميِّ قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكَّة المكرَّمة، قرار رقم 64 في رجب 1409هـ. ((مجلة البحوث الإسلامية)) (49/365،366).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الحُكمَ إذا ثبت لعلةٍ، زال بزوالِها، والحُكمُ بنجاسةِ الماءِ يدورُ على معناه وجودًا وعَدَمًا، فحيث وُجِدَت النَّجاسةُ ثبَتَ حُكمُها، وحيث زالت بأيِّ طريقةٍ كانت، فإنَّه يزولُ حُكمُها ((مجلة البحوث الإسلامية)) (17/30).

ثانيًا: أنَّ العَينَ النَّجِسةَ إذا استحالت صِفاتُها بطَل عنها اسمُها الذي به ورد ذلك الحُكمُ فيه, وانتقل إلى اسمٍ آخَرَ واردٍ على حلالٍ طاهرٍ, فليس هو ذلك النَّجِسَ ولا الحرامَ, بل قد صار شيئًا آخر ذا حُكمٍ آخرَ، فالأحكامُ للأسماءِ، والأسماءُ تابعةٌ للصِّفاتِ ((المحلى)) لابن حزم (1/143)، ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (20/522)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/71)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (17/30).
انظر أيضا:
المطلب الثَّاني: الماءُ المختَلِط بطاهرٍ .

الفرع الأوَّل: المُختَلِط بطاهرٍ غيرِ مُمازِج
إذا تغيَّرَ الماءُ بدُهْنٍ، أو قِطَع كافورٍ، أو عَنبرٍ، وغيرِ ذلك ممَّا لا يُستهلَك في الماء، ولا يتحلَّلُ فيه؛ فالماءُ طَهورٌ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح)) (ص: 18)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/72). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/105)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/28،29). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/31)، ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/32). ، وهو قولٌ عند المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (1/75)، ((الشرح الكبير)) للدردير (1/35).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ العِبرةَ ببقاءِ اسمِ الماءِ، والمُخالِطُ الطَّاهِرُ غيرُ الممازِجِ؛ لا يسلُبُه اسمَ الماءِ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/72)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 18).
ثانيًا: أنَّ هذه الأشياءَ لا تُمازِجُ الماءَ؛ فالدُّهنُ مثلًا يكون طافيًا على أعلاه، فتغيُّرُه به، إنَّما هو تغيُّرُ مجاورةٍ لا ممازجةٍ؛ فلم تختلطْ فيه أجزاؤه، والتغيرُ بالمجاورةِ لا يسلُبُه الطُّهوريَّة، ولا فَرقَ في المجاوِرِ إنْ كان منفصِلًا عن الماءِ أو ملاصِقًا له ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (1/75).

الفرع الثَّاني: المُختلِط بطاهرٍ يَشُقُّ صَونُ الماءِ عنه
إذا تغيَّرَ الماءُ بما يشقُّ صَونُه عنه المتغيِّرُ بما كان طاهرًا ويشقُّ صونُ الماءِ عنه كالطُّحلُب الذي ينبت في الماءِ، أو المتغيِّرُ بأوراق الشجر، أو بتغيُّره في مقرِّه أو ممرِّه، أو المتغيِّر بما تَحمِلُه السيولُ من العيدان والتبن، ومنه المتغيِّرُ بماء الحمام، أو بأواني الجلد والنُّحاس، ومثله الآن الماء المتغيِّر بصدأ المواسير والصَّنابير.
والطُّحلُب- بضمِّ الطاء وضم اللام وفتحها-: خُضرة تعلو الماء لطول مكثه، وقيل: هي من دوابِّ البحر ممَّا لا نفْس له سائلة. ((الشرح الكبير)) للدردير (1/36)، ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/27). ، فإنَّه طَهورٌ، وذلك في الجملةِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الإجماع
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ رُشدٍ قال ابن رشد: (أجمعوا على أنَّ كلَّ ما يغيِّر الماء ممَّا لا ينفك عنه غالبًا، أنه لا يُسلب صفة الطهارة والتطهير إلَّا خلافًا شاذًّا رُوي في الماء الآجن عن ابن سيرين وهو أيضًا محجوجٌ بتناول اسم الماء المطلَق له) ((بداية المجتهد)) (1/23). ، وابنُ قُدامةَ قال ابن قدامة: (الثاني: ما لا يمكن التحرُّز منه، كالطُّحلب والخز وسائر ما ينبت في الماء، وكذلك ورق الشجر الذي يسقط في الماء، أو تحمله الريِّح فتلقيه فيه، وما تجذبه السُّيول من العيدان والتبن ونحوه، فتلقيه في الماء، وما هو في قرار الماء كالكبريت والقار وغيرهما، إذا جرى عليه الماء فتغيَّر به، أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء. فهذا كلُّه يعفى عنه؛ لأنَّه يشقُّ التحرُّز منه... ولا نعلم في هذه الأنواع خلافًا) ((المغني)) (1/12). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (... فما كان من التغيُّرِ حاصلًا بأصل الخِلقةِ، أو بما يشقُّ صَونُ الماءِ عنه، فهو طَهورٌ باتِّفاقِهم) ((مجموع الفتاوى)) (21/25).
ثانيًا: أنَّ هذا الماءَ يتناوَلُه اسمُ الماءِ المُطلَق ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/23).
ثالثًا: أنَّ هذا ممَّا لا ينفَكُّ عنه الماءُ غالبًا، ولا يمكِنُ التحفُّظُ عنه، ويشقُّ تركُ استعمالِه، فعُفيَ عنه، كما عُفيَ عن النَّجاسةِ اليسيرةِ، والعملِ القليلِ في الصَّلاةِ ((المجموع)) للنووي (1/101)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/8).

الفرع الثَّالث: المتغيِّرُ بمُكثِه
الماء المتغيِّرُ بمُكثِه الماءُ المتغيِّرُ بمُكثِه: هو الماءُ الآجِنُ، المتغيِّرُ الطَّعمِ واللَّون؛ بسببِ طُولِ مُكثِه. ((لسان العرب)) لابن منظور (13/8،16)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (1/93،94). وقال أبو عبيد: (معنى الآجِنِ: الذي يَطولُ مُكثُه ورُكودُه بالمكانِ حتى يتغيَّرَ طَعمُه أو ريحُه، مِن غَيرِ نجاسةٍ تخالِطُه) ((الأوسط)) لابن المُنذِر (1/367). ، ماءٌ طَهورٌ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/71)، ((البناية شرح الهداية)) (1/364). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/78)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/68). والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/90)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/19). والحنابِلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/26)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/12). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابن المُنذِر: (أجمع كلُّ مَن نَحفَظُ عنه من أهل العِلمِ على أنَّ الوضوءَ بالماءِ الآجِنِ الذي قد طال مُكثُه في الموضع من غير نجاسةٍ حلَّت فيه؛ جائزٌ، إلَّا شيئًا رُوِيَ عن ابنِ سيرين) ((الأوسط)) (1/366)، ((الإجماع)) (ص: 34). وقال ابن رشد: (أجمعوا على أنَّ كلَّ ما يغيِّرُ الماء ممَّا لا ينفَكُّ عنه غالبًا، أنَّه لا يُسلَبُ صفةَ الطَّهارة والتَطهير، إلَّا خلافًا شاذًّا رُوي في الماءِ الآجِنِ عن ابن سيرين) ((بداية المجتهد)) (1/23). وقال ابنُ تيميَّة: (أمَّا ما تغيَّرَ بمُكثِه ومَقَرِّه، فهو باقٍ على طُهوريَّته باتِّفاقِ العُلَماء) ((الفتاوى الكبرى)) (1/214).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن عبد الله بن الزُّبير، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((خرَجْنا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصعِدينَ في أُحُد، قال: ثمَّ أمرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليَّ بنَ أبي طالبٍ فأتى بالمِهراسِ قال ابن الأثير: (المهراس: صخرةٌ منقورةٌ تَسَعُ كثيرًا مِنَ الماءِ، وقد يُعمل منها حياضٌ للماءِ) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (5/259). ، فأُتي بماءٍ في دَرَقَتِه قال ابن منظور: (الدَّرَقَة: الحَجَفة، وهي تُرسٌ من جلودٍ، ليس فيها خشبٌ ولا عَقَبٌ) ((لسان العرب)) (10/95). ، فأراد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يشرَبَ منه، فوجد له ريحًا، فعافَه، فغسَلَ به الدِّماءَ التي في وَجهِه)) أخرجه الترمذيُّ (3738)، وأحمد (1417) مختصراً، وابن حبَّان (6979) واللفظ له قال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (1/269): إسناده موصول، وصحَّحه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/152)، وحسَّن إسنادَه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (1/26)، وصحح إسناده البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/221)، وابن حجر في ((المطالب العالية)) (4/396)، وأحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (3/12)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1692)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (349).
وجه الدَّلالة:
أنَّ غَسلَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدَّمَ به، دليلٌ على طَهارَتِه ((الأوسط)) لابن المُنذِر (1/368).
2- النُّصوصُ المطلقَةُ في التطهُّرِ مِنَ الماءِ تتناولُ الماءَ المُتغيِّرَ بِطُولِ مُكثِه انظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (39/358).
ثانيًا: أنَّه لا يُمكِنُ الاحترازُ منه، فأشبَهَ بما يتعذَّرُ صَونُه عنه ((المجموع)) للنووي (1/91).

الفرع الرابع: المتغيِّرُ بالمِلحِ
المِلحُ لا يَسلُبُ الماءَ الطُّهوريَّةَ، وهذا مَذهَبُ الحنفيَّةِ ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (1/180). لكنَّهم يفرِّقون بين ماء ينعقد به ملح، والماء الحاصل بذوبان ملح لبقاء الأوَّل على طبيعته الأصليَّة، وانقلاب الثاني إلى طبيعة الملحيَّة، ولأنَّه يجمد في الصَّيف، ويذوب في الشِّتاء عكس الماء. ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/71). والمالكيَّة ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/37)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (1/33). ، ووجهٌ للشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/102). ، وقولٌ للحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/32). ، واختاره ابن تيميَّة قال ابن تيميَّة: (وقد ثبت بسنَّة رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال في البحر: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه)) والبحر متغيِّرُ الطعم تغيرًا شديدًا لشدَّة ملوحته، فإذا كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أخبر أنَّ ماءَه طَهورٌ- مع هذا التغيُّر- كان ما هو أخفُّ ملوحةً منه أولى أن يكون طَهورًا، وإن كان المِلحُ وُضِع فيه قصدًا؛ إذ لا فَرقَ بينهما في الاسم من جهة اللُّغة) ((مجموع الفتاوى)) (21/26). ، وابن باز سئل ابن باز: ما حُكم الوضوءِ بالماءِ المالحِ؟ فأجاب: (لا حَرَج في ذلك؛ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئل عن البَحرِ، فقال: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه))، ماء البحرِ مالحٌ، فلا حرج في الوضوء بالماءِ المالح، والغُسلُ به من الجنابةِ، لا حرج في ذلك، والحمدُ لله. وسئل: إذا كانت آبارٌ أخرى غير البحر؟ فقال: ولو، إذا كانت مالحةً أو سَمدةً... لا حرج في ذلك) ((الموقع الرسمي لابن باز((. ، وابن عثيمين قال ابن عثيمين: (يصحُّ الوضوء بالماءِ المالِحِ بطبيعته أو بوضعِ مِلحٍ فيه؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن الوضوءِ بماءِ البَحرِ، فقال: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه)) ومن المعلوم أنَّ مياه البَحرِ مالحة، فيجوز للإنسانِ أن يتوضَّأ بالماءِ المالحِ، سواءٌ كان الملح طارئًا، أو كان مالحًا مِن أصلِه). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/88).
الدليل:عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِل عن الوضوءِ بماءِ البَحرِ، فقال: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه)) رواه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنَّسائي (59)، وابن ماجه (386)، وأحمد (8720). قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان في ((المجروحين)) (2/316)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وقال ابن البر في ((التمهيد)) (16/217): لا يحتج أهل الحديث بإسناده لكنه صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/24): (في إسناد هذا الحديث اختلافٌ، لكن قال البخاري والترمذي: هو حديثٌ صحيح)، وصححه ابن العراقي في ((طرح التثريب)) (6/11)، وصححه أحمد شاكر في تحقيق ((المحلى)) (1/221)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (386). .ومِنَ المعلومِ أنَّ مياهَ البَحرِ مالحةٌ، فيجوزُ للإنسانِ أن يتوضَّأَ بالماءِ المالح، سواء كان المِلحُ طارئًا عليه، أو كان مالحًا مِن أصلِه ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/88).

الفرع الخامس: حُكمُ الطَّهارةِ بالنَّبيذ
لا يصحُّ التطهُّرُ بالنَّبيذِ النَّبيذ: هو ما يُتَّخَذ من تمرٍ أو زَبيبٍ، فيُنبَذُ في وعاءٍ أو سِقاءٍ ويُوضَعُ عليه الماء، فإذا تُرِكَ حتى يفورَ، صار مسكرًا. ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/511)، ويقاس عليه ما كان شبيهًا به من المشروباتِ المعاصرة. وجد الماءُ أو عُدِمَ نقل الإجماعَ على عدم صحَّتِه إذا وُجِدَ الماء، الطحاويُّ، وقال: (وقد أجمَعَ العُلَماءُ أنَّ نبيذَ التَّمرِ إذا كان موجودًا في حالِ وُجودِ الماءِ, أنَّه لا يُتوضَّأ به؛ لأنَّه ليس بماءٍ) ((شرح معاني الآثار)) (1/96). وأبو الحسن بن القطان، وقال: (أجمع الكلُّ أنَّ نبيذَ التَّمرِ لا يُتوضَّأُ به مع وجودِ الماءِ) ((الإقناع في مسائل الإجماع)) (1/77). ، وهو مذهَبُ الجمهورِ: المالكيَّة ((المدونة الكبرى)) لسحنون (1/114)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/168). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/93)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/47). ، والحَنابلةِ ((الفروع)) لابن مفلح (1/56)، وينظر: ((الشرح الكبير)) لابن قدامة (1/23). ، والظاهريَّة ((المحلى)) لابن حزم (1/195). ، وهو روايةٌ عن أبي حنيفةَ، اختارها أبو يوسُفَ والطَّحاويُّ ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/35)، ((حاشية رد المحتار)) لابن عابدين (1/255). ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ الحسن وعطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور وغيرهم، انظر ((الأوسط)) لابن المُنذِر (1/359)، ((المحلى)) لابن حزم (1/195)، ((مرعاة المفاتيح)) لأبي الحسن المباركفوري (2/178).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة: 6].
وجه الدَّلالة:
أنَّه وقع الانتقالُ عند عَدَمِ الماءِ إلى التراب بلا وسيطٍ، وليس النَّبيذُ ماءً مطلقًا، لا في اللُّغةِ، ولا في الشَّرع، فلا تجوز الطَّهارةُ إلَّا بالماءِ، أو الصَّعيدِ إذا لم يجِدِ الماءَ، ومن توضَّأ بالنَّبيذِ فقد ترك المأمورَ به ((الأوسط)) لابن المُنذِر (1/363)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/35)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/48)، ((المجموع)) للنووي (1/94).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى ثم رأى رجلًا معتزلًا لم يصلِّ مع القَومِ، فقال: يا فلانُ، ما منعك أن تُصلِّيَ مع القَومِ؟ فقال: يا رسولَ الله، أصابتْني جَنابةٌ ولا ماءَ، فقال: عليك بالصَّعيدِ؛ فإنَّه يكفيكَ)) رواه البخاري (348)، واللفظ له، ومسلم (682).
وجه الدَّلالة: أنَّ الطَّهارةَ لو كانت تُجزِئُ بغيرِ الماءِ، لأشبه أن يقول له: اطلُبْ نبيذَ كذا، أو شَرابَ كذا ((الأوسط)) لابن المُنذِر (1/364).
ثالثًا: أنَّه لَمَّا كان اسمُ الماءِ لا يقَعُ على ما غَلَب عليه غيرُ الماءِ، حتى تزولَ عنه جميعُ صِفاتِ الماءِ التي منها يُؤخَذ حدُّه- صحَّ أنَّ النبيذَ ليس ماءً, ولا يجوزُ الوضوءُ بِغَيرِ الماء ((المحلى)) لابن حزم (1/195).
انظر أيضا:
المطلب الأوَّل الماءُ المُختلِط أو المتغَيِّر بنجاسةٍ.