إشكال في قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين . .) والجواب عنه
عدد الزوار
97
التاريخ
01/01/2021
السؤال :
فتوى رقم(11324)
حدثت مناظرة بيني وبين شخص مسيحي، وقد فاجأني بقوله لي: هناك آية في القرآن تتضمن قول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾[النور: 26] إلخ الآية، والآية الأخرى تتضمن قوله تعالى ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾[هود: 45] و﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾[هود: 46] وهناك آية أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾[التحريم: 10- 11] إلخ الآية، وأن هناك على حد زعمه تناقضًا، فكيف يقول الله -سبحانه وتعالى- :﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ﴾[النور: 26] إلخ الآية، بينما زوجات أنبياء الله نوح ولوط خبيثات، وفرعون كما جاء فيه في القرآن وزوجته طيبة وحيث ليس لدي جواب مقنع آمل التكرم بإفتائي عن ذلك جزاكم الله خيرا؟
الإجابة :
أولا: قال الله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[النور: 26] هذه الآية ذكرت بعد الآيات التي نزلت في قصة الإفك تأكيدًا لبراءة عائشة -رضي الله عنها- مما رماها به عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين زورًا وبهتانًا، وبيانًا لنزاهتها وعفتها في نفسها ومن جهة صلتها برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وللآية معنيان:
الأول: أن الكلمات الخبيثات والأعمال السيئات أولى بها الناس الخبيثون، والناس الخبثاء أولى وأحق بالكلمات الخبيثات والأعمال الفاحشة، والكلمات الطيبات والأعمال الطاهرة أولى وأحق بها الناس الطيبون ذوو النفوس الأبية والأخلاق الكريمة السامية، والطيبون أولى بالكلمات والأعمال الصالحات والمعنى الثاني: أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين والرجال الخبيثون أولى بالنساء الخبيثات، والنساء الطيبات الطاهرات العفيفات أولى بالرجال الطاهرين الأعفاء، والرجال الطيبون الأعفاء أولى بالنساء الطاهرات العفيفات، والآية على كلا المعنيين دالة على المقصود منها وهو نزاهة عائشة -رضي الله عنها- عما رماها به عبد الله بن أبي بن سلول من الفاحشة ومن تبعه ممن انخدع ببهتانه واغتر بزخرف قوله.
ثانيًا: قال الله تعالى: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾[هود: 45- 46] ومعنى الآيتين: أن الله تعالى أخبر عن رسوله نوح -عليه السلام- أنه سأله تعالى أن ينجز له وعده إياه بنجاة ولده من الغرق والهلاك بناء على فهمه من ذلك من قوله تعالى له: ﴿احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ﴾[هود: 40] فقال: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾[هود: 45] وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف وأنت ﴿أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾[هود: 45- 46] أي الذين وعدتك بإنجائهم؛ لأني إنما وعدتك بإنجاء من آمن من أهلك بدليل الاستثناء في قوله تعالى ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾[هود: 40]؛ ولذلك عاتبه الله تعالى على تلك المساءلة وذلك الفهم بقوله: ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾[هود: 46] وبين ذلك بقوله ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾[هود: 46]؛ لكفره بأبيه نوح -عليه السلام- ومخالفته إياه فليس من أهله دينا وإن كان ابنا له من النسب، قال ابن عباس وغير واحد من السلف -رضي الله عنهم-: (ما زنت امرأة نبي قط) وهذا هو الحق، فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة؛ ولذلك غضب سبحانه على الذين رموا عائشة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- بالفاحشة وأنكر عليهم ذلك وبرأها مما قالوا فيها وأنزل في ذلك قرآنا يتلى إلى يوم القيامة.
ثالثًا: قال الله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾[التحريم: 10] الآيتين من سورة التحريم بعد أن عاتب الله تعالى أزواج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخاصة عائشة وحفصة -رضي الله عنهن جميعا- على ما بدر منهن مما لا يليق بحسن معاشرة النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى حلف أن يعتزلهن شهرا، وأنكر تعالى عليهن بعض ما وقع منهن من أخطاء في حقه عليه الصلاة والسلام وأنذرهن بالطلاق وأن يبدله أزواجا خيرا منهن، ختم سورة التحريم بمثلين، مثل ضربه للذين كفروا بامرأتين كافرتين امرأة نوح وامرأة لوط، ومثل ضربه للذين آمنوا بامرأتين صالحتين بآسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران؛ إيذانا بأن الله حكم عدل لا محاباة عنده، بل كل نفس عنده بما كسبت رهينة، وحث العباد على التقوى، وأن يخشوا يوما يرجعون فيه إلى الله، يوما لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، يوم لا تزر فيه وازرة وزر أخرى، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى، يوم لا تنفع فيه الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا فبين سبحانه أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين وكانتا تحت رسولين كريمين من رسل الله وكانت امرأة نوح تخونه بدلالة الكفار على من آمن بزوجها، وكانت امرأة لوط تدل الكفار على ضيوفه، إيذاء وخيانة لهما، وصدا للناس عن اتباعهما، فلم ينفعهما صلاح زوجيهما نوح ولوط، ولم يدفعا عنهما من بأس الله شيئا، وقيل لهاتين المرأتين أدخلا النار مع الداخلين جزاء وفاقًا بكفرهما وخيانتهما بدلالة امرأة نوح على من آمن به، ودلالة امرأة لوط على ضيوفه لا بالزنى، فإن الله سبحانه لا يرضى لنبي من أنبيائه زوجة زانية، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾[التحريم: 10] قال: (ما زنتا) وقال: (ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين) وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم. وبين الله سبحانه بالمثل الذي ضربه للذين آمنوا بآسية زوجة فرعون وكان أعتى الجبابرة في زمانه - أن مخالطة المؤمنين للكافرين لا تضرهم إذا دعت الضرورة إلى ذلك ما داموا معتصمين بحبل الله تعالى متمسكين بدينه كما لم ينفع صلاح الرسولين: نوح ولوط زوجتيهما الكافرتين، قال الله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾[البقرة: 28] ولذلك لم يضر زوجة فرعون كفر زوجها وجبروته، فإن الله حكم عدل لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره بل حماها وأحاطها بعنايته وحسن رعايته واستجاب دعاءها وبنى لها بيتا في الجنة ونجاها من فرعون وكيده وسائر القوم الظالمين مما تقدم في تفسير الآيات من أن ابن نوح ليس ابن زنى وأن عائشة -رضي الله عنها- برأها الله في القرآن مما رماها به رأس النفاق ومن انخدع بقوله من المؤمنين والمؤمنات، وأن كلا من امرأة نوح وامرأة لوط لم تزن وإنما كانتا كافرتين، ودلت كل منهما الكفار على ما يسوؤهما ويصد الناس عن اتباعهما، وأن زواج المؤمن بالكافرة كان مباحا في الشرائع السابقة وكذا زواج الكافر بالمؤمنة، وأن الله حمى امرأة فرعون من كيده وحفظ عليها دينها ونجاها من الظالمين -يتبين أن الآيات المذكورة متوافقة لا متناقضة وأن بعضها يؤيد بعضا.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
المصدر :
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء(3/270-276)
عبد الله بن غديان ... عضو
عبد الرزاق عفيفي ... نائب رئيس اللجنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز. ... الرئيس