حكم إطالة الثياب بغير قصد الخيلاء
عدد الزوار
92
التاريخ
01/01/2021
السؤال :
هذه رسالة وصلتنا من المستمع أحمد أ. ع. الرياض، يقول في رسالته: أنا شاب في العشرين من عمري، محافظ على أداء الصلوات المكتوبة، وعلى تلاوة القرآن الكريم، وأوامر ربي عزّ وجلّ، إلا أنني أعاني أمراً هو أن ثيابي التي ألبسها عادة ما تكون طويلة، وأنا لا أقصد بذلك الكبر والخيلاء، أو أي شيء يغضب الله عزّ وجلّ، وحاولت مراراً أن أقصر ثيابي، لكنني أقول في نفسي: ما دام أنني لم أقصد الكبر أو غير هذا، فهذا إن شاء الله ليس فيه ذنب، أرجو من فضيلتكم إجابة شافية عن هذا الموضوع، وفقكم الله؟
الإجابة :
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، تضمن هذا السؤال مسألتين، المسألة الأولى أن الرجل أثنى على نفسه بكونه قائماً بطاعة الله، محباً لما يرضي الله عزّ وجلّ، أرجو أن يكون هذا الثناء على نفسه من باب التحدث بنعم الله عزّ وجلّ، لا من باب تزكية النفس، وذلك أن الذي يتحدث عن نفسه بفعل الطاعات لا يخلو من حالين، الحال الأولى أن يكون الحامل له على ذلك تزكية نفسه، وإدلاله بعمله على ربه، وهذا أمر خطير، قد يؤدي إلى بطلان عمله وحبوطه، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عباده عن تزكية نفوسهم، فقال تعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى﴾[النجم: 32].
الحال الثانية: أن يكون الحامل له على ذلك التحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى، وأن يتخذ من هذا الإقفال عن نفسه سبيلاً إلى أن يقتدي به نظاره وأشكاله من بني جنسه، وهذا قصد محمود لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى: 11]، وقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة». أما المسألة الثانية مما تضمنه السؤال فهي السؤال عن كونه يرخي ثوبه، وينزله إلى أسفل من الكعبين، وكان يمني نفسه بأنه لم يفعل ذلك من باب الكبر، ولا من باب الخيلاء، فيكون هذا مباحاً، والجواب عن ذلك أن عمله هذا محرم، بل إن ظاهر النصوص أنه من كبائر الذنوب، وذلك لأنه ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار»، وهذا الحديث مطلق لم يقيده النبي-صلى الله عليه وسلم-بكونه خيلاء أو بطراً، ولا يمكن أن يحمل على المقيد بذلك، لأن الحكم فيهما مختلف، وقد ذكر أهل العلم أنه لا يحمل المطلق على المقيد إلا إذا كان الحكم فيهما واحداً، ولتستمع إلى فرق الحكم بينهما، فإن من جر ثوبه خيلاء فعقوبته أن الله -عزّ وجلّ- لا يكلمه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم - قالها ثلاثة - فقال أبو ذر -رضي الله عنه-: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ فقال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». فبين النبي-صلى الله عليه وسلم-في هذا الحديث أن عقوبة المسبل أن الله تعالى لا يكلمه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، وهذا الحديث مطلق لكنه مقيد بما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه»، فقيده النبي-صلى الله عليه وسلم-بكونه خيلاء، وقال: «لم ينظر الله إليه»، وهذه العقوبة بعض العقوبة التي دل عليها حديث أبي ذر، فيحمل حديث أبي ذر المطلق على هذا الحديث المقيد، إذاً عقوبة من جر ثوبه خيلاء أعظم من عقوبة من نزل إزاره عن كعبيه، لأن من نزل إزاره عن كعبيه عقوبته أن يعذب بالنار، بأن ما قابل النازل من الإزار عن الكعبين، و أما عقوبة من جر ثوبه خيلاء فهي أعظم وأكبر، فإنه لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، وله عذاب أليم، وبهذا فالفرق علماً أنه لا يمكن حمل المطلق على المقيد اتباعاً للقاعدة التي ذكرها الأصوليون، والتي دل عليها كتاب الله عزّ وجلّ، وإيضاح ذلك أن الله سبحانه وتعالى ذكر في آية الطهارة في الوضوء أن غسل اليدين يكون إلى المرافق، فقال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾[المائدة: 6] فقيّد غسل اليدين ببلوغ الغسل إلى المرافق، وقال في التيمم: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾، ولم يقيد الأيدي ببلوغ التيمم إلى المرافق، ولا تحمل هذه الآية، بل ولا يحمل حكم التيمم على حكم الوضوء، وذلك لاختلافهما في الحكم ففي الوضوء تتعلق الطهارة بأربعة أعضاء، وفي التيمم بعضوين، وفي الوضوء تكون الأعضاء بعضها مغسولاً وبعضها ممسوحاً، وفي التيمم تكون ممسوحة، وكذلك في طهارة التيمم، التيمم تتفق الطهارتان، الصغرى، والكبرى، وفي طهارة الماء تختلف الطهارتان، الصغرى، والكبرى، وعليه، فلا يحمل المطلق في حكم التيمم على المقيد في الوضوء، ويدل لذلك أن النبي-صلى الله عليه وسلم-لما علم عمار بن ياسر كيفية التيمم ضرب الأرض بيديه ضربة واحدة، ومسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه، ولم يبلغ النبي-صلى الله عليه وسلم-بالتيمم إلى المرافق، فدل هذا أن القاعدة التي قررها الأصوليون قاعدة مستقرة دل عليها الكتاب والسنة، فليتق الله تعالى المرء، وليجتنب ما حرم الله عليه في لباسه، فإن فعل ما حرم الله على المرء في لباسه من كفران النعم، وقد أشار الله تبارك وتعالى حين ذكر أنه أنزل على عباده لباساً يواري سوآتهم وريشاً، أشار الله تبارك وتعالى إلى أنه يجب على الإنسان أن يراعي جانب التقوى في ذلك، حيث قال: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾[الأعراف: 26]، وتقوى الله -عزّ وجلّ- واجبة على كل مسلم، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران: 102]، ولقد عاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين طعن، عاده شاب من الأنصار، وكان عليه ثوب يضرب على الأرض، فلما ولى دعاه عمر -رضي الله عنه-، فقال له: يا ابن أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه أتقى لربك، وأتقى لثوبك. وفي لفظ: أنقى لثوبك. فذكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن في رفع الثوب فائدتين عظيمتين، إحداهما تقوى الله -عزّ وجلّ- التي أعد الله سبحانه وتعالى للمتصفين بها جنة عرضها السموات والأرض، كما قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾[آل عمران: 133] والفائدة الثانية أن ذلك أتقى للثوب، فإن الثوب إذا انجر على الأرض أكلته، وقطعت أسفله، وأنقى له أيضاً، فإن الثوب إذا انجر على التراب تلوث به، فإن قلت: هل يمكن أن تكون العقوبة على جزء من البدن دون جميعه؟ ف نعم، يمكن ذلك، ألا ترى إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رأى تقصيراً من بعض الصحابة -رضي الله عنهم- في غسل أرجلهم، نادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار»، فجعل العقوبة في العضو الذي حصل فيه الخلل، وهكذا نقول فيمن نزل ثوبه عن كعبيه: إن عقوبته تكون في مقدار ما حصلت به المخالفة، فيعذب بالنار ما أسفل، أو ما كان أسفل من الكعبين، وإني أوجه إلى السائل بارك الله فيه، وإلى غيره ممن ابتلوا بهذه المسألة، أعني: مسألة الإسبال، أوجه إليهم نصيحة بأن يتقوا الله -عزّ وجلّ- في أنفسهم، وفي مجتمعهم، وأن يذكروا بقلوبهم وعلى ألسنتهم أناساً لا يجدون ما يسترون به عوارتهم، أو يتقون به الحر والبرد من الثياب، حتى يكون ذلك داعياً إلى شكرهم نعمة الله سبحانه وتعالى، والتزامهم في أحكام الله في هذه الثياب التي أنعم الله عليهم في وفرتها وكثرتها.
المصدر :
الشيخ ابن عثيمين من فتاوى نور على الدرب