كيف يتعامل المفتي مع بعض السائلين ممن لا يقتنع بالأدلة النقلية؟
عدد الزوار
106
التاريخ
01/01/2021
السؤال :
السؤال الأول من الفتوى رقم( 1591 )
ما موقف العالم من سائل لا يقنع من بعض القضايا التي يستفهم عنها بالدليل النقلي، بل يطلب دليلا عقليا مثل توحيد الألوهية، أو بقاء القرآن محفوظا ونحو ذلك؟
الإجابة :
يختلف حال الداعية في استدلاله باختلاف حال من يسأله عن قضية أو يحاجه فيها، فقد يكون مقرا بأصول تلك القضية، معترفا بما يوجب عليه التزامها والعمل بها، فلا يشغل المستدل نفسه بإثبات تلك الأصول وإقامة الحجة عليها، فقد أغناه اعتراف سائله أو خصمه بها عن الاحتجاج عليها، بل يوجه عنايته إلى بيان اقتضاء هذه الأصول إثبات دعواه فيما خالفه فيه خصمه؛ ليحمله على موافقته فيها، واعتقاده إياها والعمل بها، من ذلك استدلال الرسل عليهم الصلاة والسلام بما أقر به المشركون من توحيد الربوبية على إثبات ما أنكروه من توحيد الإلهية، وقد أرشد الله جل شأنه إلى هذا في كثير من آيات القرآن، وهي أدلة عقلية نقلية في وقت واحد. ومن ذلك أيضًا احتجاج المسلم على المسلم بقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9] على حفظ القرآن وصيانة نصوصه وألفاظه من التحريف والتبديل، وبقائه بلفظه كما نزل؛ ليكون حجة على عباده إلى أن تقوم الساعة. وهذا دليل نقلي تقوم به الحجة على من آمن ببقاء ما بين دفتي المصحف إلى وقت الخصومة، لكنه خالف في استمرار حفظه في المستقبل.
وقد يكون السائل شاكًا في أصول ما سأل عنه، طالبا الدليل على تلك الأصول، أو منكرًا لها حتى إذا ما ثبت بالحجة ثبت ما تبعا لها ما سأل عنه أو أنكره؛ فيضطر المستدل إلى إثبات هذه الأصول بالأدلة العقلية، كالذي حاج إبراهيم عليه السلام في ربه، فإن إبراهيم عليه السلام استدل على إثبات الربوبية لله بأنه هو الذي يحيي ويميت، فسلك الكافر في جداله طريق التمويه، وادعى لنفسه أنه يحيي ويميت، وقصد معنى سوى الذي قصد إليه إبراهيم عليه السلام في استدلاله، فأتاه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بآية أخرى من آيات الربوبية على سبيل المثال لا يجد الكافر سبيلا إلى التمويه والمغالطة فيها، فقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 258] وكفرعون فإنه قال لقومه: أنا ربكم الأعلى، وقال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾[القصص: 38] وقال: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظنُّهُ كَاذِبًا﴾[غافر: 36-37] وذكر الله في آيات من سورة الشعراء محاجة فرعون لموسى عليه السلام في ربه، وإنكاره عليه أن يتخذ ربا سواه، وإقامة موسى الحجة عليه، فقال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾[الشعراء: 23-29]، فهذا الاستدلال عقلي استدل فيه بالأثر على المؤثر وبالآيات الكونية على بارئها، ولا شك أن ذلك مما يدل عقلا على اختصاصه تعالى بالربوبية، ويلزم من ذلك اختصاصه تعالى بالألوهية، وكذلك منكرو النبوة يستدل عليهم بالمعجزات وخوارق العادات لإثبات النبوة، كما هي سنة الله في رسله عليهم الصلاة والسلام، فإنه يؤيدهم بالمعجزات التي تدل على صدقهم في دعوى الرسالة وتقوم بها الحجة على أممهم.
وليس يجدي في مثل ذلك الاستدلال بالنقول الخبرية المحضة، كقوله تعالى ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص: 1] في إثبات التوحيد، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبأ: 28] في إثبات الرسالة، ولا يكفي من ينكر بقاء القرآن محفوظا منذ نزل إلى زمن المحاجة الاستدلال بقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9] بل الإثبات بذلك مستحيل؛ لما يترتب عليه من الدور السبقي أو التسلسل الممنوع، والذي يتعين الاستدلال به في مثل ذلك الدليل العقلي المحض أو النقلي المتضمن للدليل العقلي، كالآيات التي استدل بها إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من حاجه في ربه، والآيات التي استدل بها موسى على فرعون، وكثير من الآيات القرآنية التي استدل بها على البعث والنشور يوم القيامة، بل يستدل على إثبات بقاء القرآن محفوظا إلى يومنا بنقله نقلا متواترا، وبكونه معجزة خالدة إلى يوم القيامة، وإليك بيان ذلك:
أما بيان كونه ضبط من حين نزوله ونقل نقلًا متواترًا يفيد القطع واليقين: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان له كتاب يكتبون له الوحي وغيره، وكان إذا نزلت عليه سورة أو آيات أو آية أو بعض آية أملى ذلك على كاتب منهم، فكتبه على ما تيسر له من العسب والحجارة الرقيقة والعظام ونحوها، واستمر ذلك حتى أكمل الله دينه، وأتم على الأمة الإسلامية نعمته، ومع ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ ما نزل عليه منه، قراءة تثبت وتفهم ودراسة في الصلاة وغيرها، وكان ينزل عليه جبريل عليهما الصلاة والسلام، فيدارسه القرآن في شهر رمضان، واستمر ذلك حتى توفاه الله، هذا مع عصمته في البلاغ والتشريع.
وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأون ما نزل من القرآن، ويتدارسونه بينهم، فلا يكادون ينتهون مما تعاهدوه بالتلاوة والدراسة من السور أو الآيات، إلا وقد حفظوه وفهموه، وعملوا به؛ فجمعوا بذلك الحفظ والعلم والعمل، يعرف ذلك من قرأ دواوين السنة والسيرة، وعلم ما فيها من الأحاديث والآثار، وكان عنده إلمام بحياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحياة أصحابه -رضي الله عنهم-، وعرف مدى عنايتهم بحفظ الدين عامة، وحفظ القرآن خاصة.
وقد اشتهر بحفظ القرآن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-، منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبو زيد الأنصاري -رضي الله عنهم-.
ولما كان يوم اليمامة وكثر القتل فيمن كان في جيش المسلمين من القراء؛ لزيادة حرصهم على القتال، وحث بعضهم بعضا عليه بكلمة (يا أهل القرآن) إثارة لشعورهم، وغيرتهم على الإسلام، حتى يتسابقوا إلى القتال؛ نصرة لدين الله؛ لما كان ذلك اتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على جمع القرآن مما كتب فيه، ومن صدور الحفاظ الثقات، فتم ذلك على أكمل وجه وأحكمه، وكانت الصحف التي جمع فيها عند أبي بكر، خليفة رسول الله، إلى أن توفي، ثم عند عمر أيام خلافته إلى أن توفي -رضي الله عنهما-، ثم كانت عند بنته حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها-، وقد علم أن القرآن نزل على سبعة أحرف، أي: لغات، وكان كل جماعة من الصحابة يقرؤون بحرف منها. فلما تولى عثمان -رضي الله عنه- الخلافة أشير عليه أن يجمع القرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة؛ خشية الاختلاف من تعدد الأحرف، فأمر -رضي الله عنه- بذلك، وتمت كتابة القرآن على حرف واحد بأيدي القراء الثقات، وقوبل بالصحف التي كانت عند حفصة -رضي الله عنها-، وثبت اتفاقهما، ونسخ منها مصاحف أرسلها إلى عواصم الإمارات الإسلامية، بعد أن قرئت على الصحابة بين يديه، فأقروها -رضي الله عنهم-، واحتفظ بالأصل عنده بالمدينة المنورة، وصار المعتبر عند الصحابة -رضي الله عنهم- هذه المصاحف، وثبت ثبوتا يوجب اليقين، يفيد القطع بأن ما جمع هو ما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستمر العمل عليها إلى يومنا هذا، تنقلها كل طبقة من الأمة عمن قبلها، كتابة وحفظا، وقد بلغ عدد من كتبه وحفظه في كل طبقة حدا فوق التواتر الذي لا يبقى معه موضع لريبة ولا يدع مجالا لشك، في أن ما وصلنا هو ما جمعه أبو بكر الصديق أولا ثم عثمان ثانيا -رضي الله عنهما-. وهذا في إفادة اليقين كالأخبار الكثيرة عن المدن المشهورة، في إفادة اليقين بوجودها، ولو لم يكن إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على أن ما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر وفي المصحف في خلافة عثمان -رضي الله عنهما- هو القرآن المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- مفيدا لليقين لما كان هناك ما يفيد اليقين سوى المحسوسات، ولو لم تكن الأخبار عن حفظ القرآن في صدور قراء المسلمين وعن كتابتهم إياه مع الإحكام والدقة في الضبط في جميع الطبقات مفيدة لليقين لما كان هناك أخبار تفيد اليقين، ولو أن إنسانا في عصرنا الحاضر الذي خفت فيه عناية المسلمين بالدين أراد أن يجمع القرآن من أفواه القراء وحفاظ القرآن دون الرجوع إلى ما كتب مخطوطا أو مطبوعا أو مسجلا في أشرطة لوسعه ذلك بيسر وسهولة، فكيف بذلك في العصور الإسلامية الزاهرة التي بلغت فيها العناية بالدين أصوله وفروعه شأوا بعيدا وغاية قصوى في النهوض به في شتى جوانبه وجميع نواحيه، إن الواقع لأعظم بينة وأوفى شهيد على بقاء القرآن محفوظة نصوصه من يوم نزل إلى وقتنا.
وأما إثبات بقائه محفوظا بكونه معجزة خالدة إلى يوم القيامة فإن ما كان به معجزة ودليلا على نبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن نزوله عليه لا يزال قائمًا، فهو لا يزال يتحدى العالم أن يأتوا بمثله في فصاحته وبلاغته وقوة أسلوبه وفي أحكام تشريعه وصلاحيته للنهوض بالأمم، مع تفاوت طبقاتها واختلاف أحوالها في كل زمان ومكان، وفي قصصه الصادق عن الأمم السابقة وأخباره عن سائر الغيبيات السابقة واللاحقة، ولم يأت أحد بمثله حتى وقتنا الحاضر، مع بعد العهد بنزوله، ومضي أكثر من ثلاثة عشر قرنًا على ذلك، ومع كثرة خصوم الإسلام والمسلمين، وشدة مكرهم وكيدهم لهم، ودأبهم في العمل للقضاء على هذا الدين، ومع تقدم الناس في العلوم الكونية والثقافات المتنوعة، ويأبى الله إلا أن يحفظ دينه ويعلي كلمته، ويكتب للقرآن والسنة الصحيحة البقاء؛ لتقوم بذلك الحجة على الناس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر :