السؤال :
أرجو شرح معنى هذه الآية وبيان القول الراجح في تفسيرها , يقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[هود: 103- 108] هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله ؟ وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكية ؟
الإجابة :
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله , وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه . أما بعد: فالآيتان ليستا منسوختين بل هما محكمتان, وقوله جل وعلا: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ﴾[هود: 108] اختلف أهل العلم في بيان معنى ذلك , مع إجماعهم بأن نعيم أهل الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها, ولهذا قال بعده سبحانه: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾[هود: 108] لإزالة ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا , فهم خالدون فيها أبدا , وأن هذا العطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع , ولهذا في الآيات الأخرى يبين هذا المعنى فيقول سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ﴾[الحجر: 45- 46] فبين سبحانه أنهم آمنون - أي آمنون من الموت وآمنون من الخروج وآمنون من الأمراض والأحزان وكل كدر - ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾[الحجر: 47- 48] فبين سبحانه أنهم فيها دائمون لا يخرجون ، وقال عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[الدخان: 51- 57] فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعترضهم خوف ولا زوال نعمة وأنهم آمنون أيضا , فلا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج منها ولا حزن ولا غير ذلك من المكدرات , وأنهم لا يموتون أبدا , ومعنى ذلك أن أهل الجنة يخلدون فيها أبد الآباد .
وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾[هود: 108] قال بعض أهل العلم: معناه: مدة بقائهم بالقبور وإن كان المؤمن في روضة من رياضها ونعيم من نعيمها , لكن ذلك ليس هو الجنة , ولكن هو شيء من الجنة , فيفتح على المؤمن في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها ولكنه ليس المحل الجنة، بل ينقل إليها بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء , وقال بعضهم: معنى ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 108]أي مدة مقامهم في موقف القيامة للحساب والجزاء بعد خروجهم من القبور ثم ينقلون بعد ذلك إلى الجنة .
وقال بعضهم: المراد جميع الأمرين مدة مقامهم في القبور ومدة مقامهم في الموقف ومرورهم على الصراط كل هذه الأوقات هم فيها ليسوا في الجنة، لكن ينقلون منها إلى الجنة، وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾[هود: 108] يعني إلا وقت مقامهم في القبور , وإلا وقت مقامهم في الموقف، وإلا وقت مرورهم على الصراط فهم في هذه الحالة ليسوا في الجنة ولكنهم منقولون إليها وسائرون إليها , وبهذا يعلم أن الأمر واضح ليس فيه شبهة ولا شك ولا ريب فالحمد لله . فأهل الجنة ينعمون فيها وخالدون أبد الآباد ، لا موت ولا مرض , ولا خروج , ولا كدر , ولا حزن , ولا حيض , ولا نفاس , ولا شيء من الأذى أبدا , بل في نعيم دائم وخير دائم .
وهكذا أهل النار مخلدون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها ولا تخرب أيضا هي، بل تبقى وهم باقون فيها .
وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾[هود: 108] قيل: مدة مقامهم في المقابر , أو مدة مقامهم في الموقف كما تقدم في أهل الجنة , وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد ونسأل الله العافية , وكما قال عز وجل في سورة البقرة: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[البقرة: 168] وقال عز وجل في سورة المائدة في حق الكفرة: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾[المائدة: 37] وقال بعض السلف: إن النار لها أمد ولها نهاية بعدما يمضي عليها آلاف السنين والأحقاب الكثيرة وأنهم يموتون أو يخرجون منها، وهذا قول ليس بشيء عند جمهور أهل السنة والجماعة، بل هو باطل ترده الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة كما تقدم ، وقد استقر قول أهل السنة والجماعة أنها باقية أبد الآباد وأنهم لا يخرجون منها وأنها لا تخرب أيضا , بل هي باقية أبد الآباد في ظاهر القرآن الكريم وظاهر السنة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام , ومن الأدلة على ذلك مع ما تقدم قوله سبحانه في شأن النار: ﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾[الإسراء: 97] وقوله سبحانه في سورة النبأ يخاطب أهل النار: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾[النبأ: 30] نسأل الله السلامة والعافية منها ومن حال أهلها .