بيان معنى قوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم . .)
عدد الزوار
89
التاريخ
01/01/2021
السؤال :
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 3137 في 11\7\1408هـ . الذي نصه: لقد كنا في حلقة تفسير في مسجد بمنطقة الصليبية في الكويت ، وقد تعرض إمام المسجد إلى تفسير قول الله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[الفتح: 10] . فقال: قيل معناها: منة الله عليهم ، وقيل: قوة الله معهم ، وقيل: الله عليم بحالهم ونياتهم . فتكلم أحد الشباب من إخواننا في الله بعد الدرس ، وقال: تفسيرك هذا ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة بل هو من كلام الأشاعرة ، فغضب الإمام وقال: إن هذا موجود في كتاب الماوردي وابن كثير ، فرد الشاب وقال: ليس هذا في ابن كثير ، وإنما هو عند الماوردي الأشعري ، فلما رأى العامة الشيخ غضبان غضبوا له ورمى بعضهم الشاب بكلمة ( أنت مسيحي ) ( أنت بوذي ) وكادوا أن يضربوه لولا أن بعضهم حماه ، والله يعلم أن هذا الشاب لم يتكلم إلا غيرة على عقيدة المسلمين ، ومن باب أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فأشار الشاب أن يقضي فضيلتكم بينهم فوافق العوام على ذلك ، فأفيدونا ونحن بانتظار ردكم وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء .
الإجابة :
وأفيدك أن ما نعتقده في إثبات صفة اليد لله تبارك وتعالى وغيرها في الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه العزيز ، أو وصفه بها رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- في سنته المطهرة هو: إثباتها لله تبارك وتعالى إثباتا حقيقيا على ما يليق بجلال الله سبحانه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل . ونؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه ولا نحرف الكلم عن مواضعه ، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه ؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى . فكما أن له سبحانه ذاتا حقيقية لا تشبه ذوات خلقه فكذلك له صفات حقيقية لا تشبه صفات خلقه ، ولا يلزم من إثبات الصفة للخالق سبحانه . مشابهتها لصفة المخلوق ، وهذا هو مذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم في القرون الثلاثة المفضلة ، ومن سلك سبيلهم من الخلف إلى يومنا هذا . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: حكى غير واحد إجماع السلف أن صفات الباري جل وعلا تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنه ، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله ، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فنقول: إن لله سبحانه يدا وعينا ، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة ، ومعنى السمع العلم ، ثم استدل رحمه الله على إثبات صفة اليد لله سبحانه من القرآن بقول الله سبحانه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾[المائدة: 64] وقال تعالى لإبليس: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾[ص: 75] وقال سبحانه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾[الزمر: 67] وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾[الملك: 1] وقال تعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[آل عمران: 26] ثم قال رحمه الله تعالى: فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله ، وأنه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس ، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى وأن يديه مبسوطتان ، ومعنى بسطهما: بذل الجود وسعة العطاء ؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها ، وتركه يكون ضما لليد إلى العنق ، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾[الإسراء: 29] وصار من الحقائق العرفية أنه إذا قيل: هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقية ، وقال رحمه الله تعالى: " إن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة ؛ لأن استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد لا أصل له في لغة العرب التي نزل بها القرآن ، فقوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾[ص: 75] لا يجوز أن يراد به القدرة ؛ لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز أن يراد به النعمة ؛ لأن نعم الله لا تحصى ؛ فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية . ثم استدل رحمه الله تعالى على إثبات صفة اليد لله سبحانه من السنة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» . رواه مسلم ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه ، والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض إلى يوم القيامة» . رواه مسلم ، وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم بيده خبزته في السفر» .
وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- يحكي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يأخذ الرب عز وجل سماواته وأرضه بيديه ، وجعل يقبض يديه ويبسطها ، ويقول: أنا الرحمن» . حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وفي رواية أنه «قرأ هذه الآية على المنبر: قال يقول الله: " أنا الله أنا الجبار» وذكره ، وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول: أنا الملك ، أين ملوك الأرض» ، وفي حديث صحيح: «أن الله لما خلق آدم قال له: ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته» ، وفي الصحيح: «أن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي»، وفي الصحيح: «أنه لما تحاج آدم وموسى قال آدم: يا موسى ، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده وقد قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه» ، وفي حديث آخر أنه قال سبحانه: «وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان» . وفي حديث آخر في السنن: «لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته ، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» . قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: فهذه الأحاديث وغيرها نصوص قاطعة لا تقبل التأويل ، وقد تلقتها الأمة بالقبول والتصديق . ثم قال - رحمه الله تعالى -: فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد ، وأن الله تعالى خلق بيده ، وأن يديه مبسوطتان ، وأن الملك بيده ، وفي الحديث ما لا يحصى ، ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأولي الأمر لا يبينون للناس إن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره ، حتى ينشأ جهم بن صفوان بعد انقراض عهد الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم ، ويتبعه عليه بشر بن غياث ومن سلكوا سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق ، وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى ( الخرأة ) ويقول: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ، تركتكم على البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» . ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة ، مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم ، وأن اعتقاد ظاهره ضلال ، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه ، وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت . مع أن معناها المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار . اهـ . باختصار من مجموع الفتاوى ج6 ص351 إلى 373 ، وبما ذكرنا يتضح للجميع أن ما ذكره الشاب هو الصواب . ونسأل الله أن يهدي الجميع لإصابة الحق في القول والعمل إنه سميع مجيب . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المصدر :
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز(24/273- 281)