حكم استعمال الكحول في تعقيم الجروح وحكم خلطها بالأدوية
عدد الزوار
96
التاريخ
01/01/2021
السؤال :
سُئل: عن حكم استعمال الكحول في تعقيم الجروح وخلط بعض الأدوية بشيء من الكحول؟
الإجابة :
استعمال الكحول في تعقيم الجروح لا بأس به للحاجة لذلك، وقد قيل إن الكحول تذهب العقل بدون إسكار، فإن صح ذلك فليست خمرًا، وإن لم يصح وكانت تسكر فهي خمر، وشربها حرام بالنص والإجماع.
وأما استعمالها في غير الشرب، فمحل نظر، فإن نظرنا إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة: 90]. قلنا إن استعمالها في غير الشرب حرام، لعموم قوله: (فاجتنبوه). وإن نظرنا إلى قوله تعالى في الآية التي تليها: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾[المائدة: 91]. قلنا: إن استعمالها في غير الشرب جائز لعدم انطباق هذه العلة عليه، وعلى هذا فإننا نرى أن الاحتياط عدم استعمالها في الروائح، وأما في التعقيم فلا باس به لدعاء الحاجة إليه، وعدم الدليل البين على منعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ص 270 جـ 24 من مجموع الفتاوى: التداوي بأكل شحم الخنزير لا يجوز، وأما التداوي بالتلطخ به ثم يغسله بعد ذلك فهذا مبني على جواز مباشرة النجاسة في غير الصلاة وفيه نزاع مشهور، والصحيح أنه يجوز للحاجة، وما أبيح للحاجة جاز التداوي به ا هـ. فقد فرق شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- بين الأكل وغيره في ممارسة الشيء النجس، فكيف بالكحول التي ليست بنجسة؟ لأنها إن لم تكن خمرا فطهارتها ظاهرة، وإن كانت خمرا فالصواب عدم نجاسة الخمر وذلك من وجهين:
الأول: أنه لا دليل على نجاستها، وإذا لم يكن دليل على ذلك فالأصل الطهارة ولا يلزم من تحريم الشيء أن تكون عينه نجسة، فهذا السم حرام وليس بنجس، وأما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾[المائدة: 90]. فالمراد الرجس المعنوي لا الحسي، لأنه جعل وصفا لما لا يمكن أن يكون رجسه حسيا كالميسر والأنصاب والأزلام، ولأنه وصف هذا الرجس بكونه من عمل الشيطان، وأن الشيطان يريد به إيقاع العداوة والبغضاء فهو رجس عملي معنوي. الثاني: أن السنة تدل على طهارة الخمر طهارة حسية، ففي صحيح مسلم ص 1206ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- «أن رجلاً أهدى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- راوية خمر فقال له رسول الله: هل علمت أن الله قد حرمها؟. قال: لا، فسار إنسانا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بم ساررته؟ قال: أمرته ببيعها. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الذي حرم شربها حرم بيعها. قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها»، وفي صحيح البخاري ص 112 جـ 5 من الفتح ط السلفية: عن انس بن مالك- رضي الله عنه- أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة (وهو زوج أمه) فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مناديًا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فقال لي أبو طلحة: «أخرج فأهرقها»، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. ولو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحب الراوية أن يغسل راويته، كما كانت الحال حين حرمت الحمر عام خبير، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اهريقوها واكسروها» (يعني القدور) فقالوا: أو نهريقها ونغسلها؟ فقال: «أو ذاك». ثم لو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية ما أراقها المسلمون في أسواق المدينة، لأنه لا يجوز إلقاء النجاسة في طرق المسلمين.
قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه ص1631 من مجموعة فتاوى المنار: وخلاصة القول: أن الكحول مادة طاهرة مطهرة وركن من أركان الصيدلة، والعلاج الطبي، والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يحصى من الأدوية، وأن تحريم استعمالها على المسلمين يحول دون إتقانهم لعلوم وفنون وأعمال كثيرة، هي من أعظم أسباب تفوق الإفرنج عليهم، كالكيمياء والصيدلة والطب والعلاج والصناعة، وإن تحريم استعمالها في ذلك، قد يكون سببا لموت كثير من المرضى والمجروحين أو لطول مرضهم وزيادة آلامهم ا هـ. وهذا كلام جيد متين. -رحمه الله تعالى-.
وأما خلط بعض الأدوية بشيء من الكحول، فإنه لا يقتضي تحريمها، إذا كان الخلط يسيرا لا يظهر له أثر مع المخلوط، كما أن على ذلك أهل العلم. قال في المغني ص 306 جـ 8ط المنار: وإن عجن به (أي بالخمر) دقيقا ثم خبزه وأكله لم يحد، لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره. ا هـ. وفي الإقناع وشرحه ص 71 جـ 4ط مقبل: ولو خلطه ـ أي المسكر ـ بماء فاستهلك المسكر فيه أي الماء، ثم شربه لم يحد، لأنه باستهلاكه في الماء لم يسلب اسم الماء عنه، أو داوى به -أي المسكر- جرحه لم يحد، لأنه لم يتناوله شربا ولا في معناه. ا هـ. وهذا هو مقتضى الأثر والنظر. أما الأثر فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بناجسة تحدث فيه». وهذا وإن كان الاستثناء فيه ضعيفا إلا أن العلماء أجمعوا على القول بمقتضاه، ووجه الدلالة منه أنه إذا سقط فيه نجاسة لم تغيره فهو باق طهوريته، فكذلك الخمر إذا خلط بغيره من الحلال ولم يؤثر فيه فهو باق على حله، وفي صحيح البخاري تعليقا ص 64جـ 9 ط السلفية من الفتح قال: أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس جمع نون وهو الحوت، المري أكله تتخذ من السك المملوح يوضع في الخمر ثم يلقى في الشمس فيتغير عن طعم الخمر، فمعنى الأثر أن الحوت بما فيه من الملح، ووضعه في الشمس أذهب الخمر فكان حلالاً.
وأما كون هذا مقتضى النظر: فلأن الخمر إنما حرمت من أجل الوصف الذي اشتملت عليه وهو الإسكار، فإذا انتفى هذا الوصف انتفى التحريم، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما إذا كانت العلة مقطوعا بها بنص أو إجماع كما هنا. وقد توهم بعض الناس أن المخلوط بالخمر حرام مطلقا ولو قلت نسبة الخمر فيه، بحيث لا يظهر له أثر في المخلوط، وظنوا أن هذا هو معنى حديث: «ما أسكر كثيره فقليله حرام». فقالوا: هذا فيه قليل من الخمر الذي يسكر كثيره فيكون حراما، فيقال هذا القليل من الخمر استهلك في غيره فلم يكن له أثر وصفي ولا حكمي، فبقي الحكم لما غلبه في الوصف، وأما حديث: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، فمعناه: أنه إذا كان الشراب إن أكثر منه الشارب سكر، وإن قلل لم يسكر فإن القليل منه يكون حراما؛ لأن تناول القليل وإن لم يسكر ذريعة إلى تناول الكثير، ويوضح ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كل مسكر حرام وما أسكر الفَرَق منه فملءُ الكَفِّ منه حرام». الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا، ومعنى الحديث: أنه إذا وجد شراب لا يُسكر منه إلا الفَرَق، فإن ملءُ الكفّ منه حرام فهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
المصدر :
مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين(11/256- 260)