عدد الزوار 5141 التاريخ Feb 23 2020 3:26PM
قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِابْنِهِ يُوسُفَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا). فَكَانَ يُوسُفُ أَعْبَرَ النَّاسِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)؛ فَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا عِلْمٌ يَهَبُهُ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ أُصُولٌ وَضَوَابِطُ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا، وَالتَّعْبِيرُ مِنْ خِلَالِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ). قِيلَ: إِنَّ الكَوَاكِبَ الأَحَدَ عَشَرَ كَانَتْ إِخْوَتَهُ، وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ أَبَوَاهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا). قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: هَذَا السُّجُودُ - وَكَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَتِهِمْ - الَّذِي سَجَدْتَ أَنْتَ وَأُمِّي وَإِخْوَتِي لِي هُوَ تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ قِيلَ: وَقَعَتْ رُؤْيَاهُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سَنَةً. وَهَذَا لِأَنَّهَا رُؤْيَا حَسَنَةٌ، أَمَّا السَّيِّئَةُ الَّتِي قَدْ تُحْزِنُ صَاحِبَهَا فَالأَغْلَبُ أَنَّهَا لَا تَتَأَخَّرُ. وَفِي بَابِ الرُّؤَى آيَاتٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ.
وَخَرَّجَ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ). وَالأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا البَابِ.
وَمُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الرُّؤْيَا وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ مَذْمُومَيْنِ، وَهُمَا الغُلُوُّ فِيهَا، وَالجَفَاءُ عَنْهَا، فَالاقْتِصَادُ فِي الرُّؤْيَا المَنَامِيَّةِ، وَتَنْزِيلُهَا مَنْزِلَتَهَا، وَإِعْطَاؤُهَا مَكَانَتَهَا: مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ، أَمَّا الغُلُوُّ فِيهَا كَمَا فَعَلَتِ الرَّافِضَةُ وَالصُّوفِيَّةُ الغَالِيَةُ؛ بِأَنْ جَعَلَاهَا مَصْدَرًا لِلتَّشْرِيعِ، وَيَعْتَقِدُونَ بِصِحَّةِ مَدْلُولِهَا، وَالعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ خَالَفَ الأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ النَّقْلِيَّةَ، وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
وَأَمَّا الجَفَاءُ عَنْهَا؛ فَكَمَا فَعَلَ المَادِّيُّونَ وَبَعْضُ النَّفْسِيِّينَ، الَّذِينَ يُنْكِرُونَهَا بِكَامِلِهَا، وَيَرَوْنَ أَنَّهَا خُزَعْبَلَاتٌ وَأَخْلَاطٌ، فَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ ضَلَالًا مُبِينًا.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُعْتَدِلُونَ؛ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ المَرْءُ نَفْسَهُ)، وَهِيَ الأَضْغَاثُ المُشَارُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ)، إِذْ لَا حَقِيقَةَ لَهَا.
وَيَعْتَقِدُ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ المُعَبِّرَ مِنْ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ مَهْمَا كَانَ حَاذِقًا يُصِيبُ وَيُخْطِئُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لَمَّا عَبَّرَ الرُّؤْيَا قَالَ: (أخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ، أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا).
وَالتَّعْبِيرُ إِلْهَامِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَالإِلْهَامِيُّ فَتْحٌ مِنَ اللهِ عَلَى المُعَبِّرِ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِ الرُّؤْيَا وَرُمُوزِهَا وَأَمْثَالِهَا، وَقَدْ يَكُونُ فَهْمًا مُجْمَلًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَبِّرَ تَعْبِيرًا تَحْلِيلِيًّا لِمَعْنَى كُلِّ مَثَلٍ مَضْرُوبٍ. وَبَعْضُ الرُّؤَى عَلَى ظَاهِرِهَا، لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ؛ كَحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الثَّابِتِ فِي رُؤْيَا الأَذَانِ؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الأَكْثَرُ فَإِنَّهَا مِنْ ضَرْبِ الأَمْثَالِ، فَتَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ، وَبَعْضُهَا أَغْمَضُ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ الغَالِبُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ...- إلى قوله - يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)، وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا فَتْوَى، إِلَّا أَنَّهَا أَخَفُّ مِنَ الفَتْوَى فِي الحَلَالِ وَالحَرَامِ.
قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِوَاسِط، فَلَمْ أَرَ أَجْبَنَ مِنْ فَتْوَى مِنْهُ، وَلَا أَجْرَأَ عَلَى رُؤْيَا مِنْهُ.
وَدَلَّ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ الرُّؤْيَا عَلَى وَجْهِ العَبَثِ وَالتَّعَالُمِ، مَعَ الجَهْلِ بِأُصُولِ التَّعْبِيرِ.
وَمَنْ رَزَقَهُ اللهُ فَهْمًا لِلرُّؤَى فَلْيَسْتَعِنْ بِاللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ لْيَتَأَمَّلْ مَا فِي كِتَابِ اللهِ، وَمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرُّؤَى وَتَأْوِيلِهَا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا؛ بَلْ يَعْرِضُ الرُّؤْيَا عَلَى دِلَالَةِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ، وَمَا يَحْضُرُهُ مِنَ الأَمْثَالِ وَالحِكَمِ السَّائِرَةِ الدَّارِجَةِ، وَلْيَقْرَأْ فِي تَعْبِيرَاتِ مَنْ سَبَقَهُ مِمَّنِ اشْتُهِرَتْ إِصَابَتُهُ فِي التَّعْبِيرِ، وَشُهِدَ لَهُ بِالإِحْسَانِ فِي التَّأْوِيلِ، كَالإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: "قَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي التَّعْبِيرِ عَجَائِبُ يَطُولُ الكِتَابُ بِذِكْرِهَا، وَكَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ تَأْيِيدٌ إِلَهِيٌّ".
وَلْيَطَّلِعْ عَلَى مَا كَتَبُوهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوَاعِدَ فِي التَّعْبِيرِ، نَحْوَ كِتَابِ: "قَوَاعِدِ تَفْسِيرِ الأَحْلَامِ، المُسَمَّى البَدْرَ المُنِيرَ فِي عِلْمِ التَّعْبِيرِ وَشَرْحِهِ"؛ لِلْمُؤَلِّفِ: الشِّهَابِ العَابِرِ أَحْمَدَ النَّابُلْسِيِّ (المتوفى: 697هـ)، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ القَيِّمِ، وَابْنُ رَجَبٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَامْتَدَحُوهُ فِي التَّعْبِيرِ.
وَلْيَسْتَفِدْ مِنَ التَّجَارِبِ وَالخِبْرَاتِ فِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِ العَامَّةِ: إِنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا أَحْيَانًا عَلَى العَكْسِ؛ فَالبُكَاءُ الشَّدِيدُ قَدْ يُعَبَّرُ بِأَنَّهُ فَرَحٌ.
وَلْيُرَكِّزْ عَلَى مَعَانِي الأَسْمَاءِ وَاشْتِقَاقَاتِهَا؛ كَحَدِيثِ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: (رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، كَأنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعاقِبَةَ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَثِيرًا لَا يُرَادُ نَفْسُ الإِنْسَانِ المَرْئِيِّ، وَيُسْتَأْنَسُ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى لِأُسَيْدٍ رُؤْيَا، فَكَانَتْ لِابْنِهِ عَتَّابٍ، وَرَأَى فِي أَبِي جَهْلٍ رُؤْيَا، فَكَانَتْ لِابْنِهِ عِكْرِمَةَ.
وَإِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ، فَلْيُنَقِّبِ المُعَبِّرُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا المِثَالِ بِالأَشْبَاهِ، وَلْيَرْبِطْ بَيْنَ النَّظَائِرِ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى بَقَرًا تُذْبَحُ، فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَتْلِ أَصْحَابِهِ، فَالبَقَرُ تَصْلُحُ بِحَرْثِهَا الأَرْضُ، وَفِيهَا خَيْرٌ كَبِيرٌ، وَأَصْحَابُهُ مُصْلِحُونَ فِي الأَرْضِ، وَفِيهِمْ خَيْرٌ عَظِيمٌ.
وَقَدْ يَخْتَلِفُ المِثَالُ فِي الرُّؤْيَا مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ.
وَبَعْضُ الرُّؤَى يُسَاعِدُ فِي تَعْبِيرِهَا التَّعَرُّفُ عَلَى سِيرَةِ الرَّائِي الشَّخْصِيَّةِ، وَالظُّرُوفُ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ؛ لِذَا قَدْ يُفَسِّرُ الشَّخْصُ رُؤْيَا نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مُعَبِّرًا، إِلَّا أَنَّ المُعَبِّرَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْصُرَ تَفْكِيرَهُ عَلَى الظَّرْفِ وَتَرْكِيبِ الرُّؤْيَا عَلَيْهِ.
وَعَلَى المُعَبِّرِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى صَلَاحِ الرُّؤْيَا وَصَلَاحِ الرَّائِي وَصِدْقِهِ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَاَل: (الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَلْيَعْتَبِرْ بِمُسْتَوَى الرُّؤْيَا، فَالَّتِي تَوَاطَأَ عَلَيْهَا عَدَدٌ أَحْرَى بِالصِّدْقِ، كَرُؤْيَا الصَّحَابَةِ لِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ: (أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ)، وَالرُّؤْيَا الَّتِي تَتَكَرَّرُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهَا، كَرُؤْيَا المَرْأَةِ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَكَانَتْ تَرَاهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. رَوَاهَا الدَّارِمِيُّ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ الرَّائِي فَرِحًا بِرُؤْيَاهُ مَسْرُورًا، يَشْعُرُ أَنَّهَا رُؤْيَا خَيْرٍ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الشُّعُورِ لَهُ حَظٌّ فِي صِدْقِ الرُّؤْيَا، وَكَوْنِهَا مُبَشِّرَةً، وَالعَكْسُ حِينَ تَكُونُ حُلْمًا يَسْتَيْقِظُ رَائِيهِ بِسَبَبِهِ مَذْعُورًا مَهْمُومًا؛ فَإِنَّهَا غَالِبًا مَا تَكُونُ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ وَتَهَاوِيلِهِ.
وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَا لِلرَّائِي، أَوْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ أَقَلُّهَا.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا المُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ).
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلْيُوَظِّفِ المُعَبِّرُ مَوْهِبَتَهُ فِي التَّعْبِيرِ بِتَوْجِيهِ النَّاسِ وَإِرْشَادِهِمْ، وَالوَعْظِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَالحَثِّ عَلَى التَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، كَمَا وَجَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَ عُمَرَ لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ، فَقَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ». قَالَ سَالِمٌ: "فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ لِلَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَبُولُ دَمًا: أَنْتَ تَأْتِي امْرَأَتَكَ وَهِيَ حَائِضٌ، فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَلَا تَعُدْ.
وَإِذَا قَصَّ الرَّائِي رُؤْيَاهُ، فَعَلَى المُعَبِّرِ أَنْ يُبَشِّرَ وَلَا يُنَفِّرَ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ خَيْرٌ مِنْ إِدْخَالِ الهُمُومِ وَالغُمُومِ وَالأَحْزَانِ، دُونَ لَعِبٍ فِي التَّعْبِيرِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: (إِذَا عَبَرْتُمْ لِلْمُسْلِمِ الرُّؤْيَا فَاعْبُرُوهَا عَلَى خَيْرٍ). رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ، وَقَدْ حُسِّنَ.
وَلَا يُوقِعِ الرَّائِيَ فِي بَلَابِلَ؛ كَأَنْ يَتَلَكَّأَ عَنِ التَّعْبِيرِ بِطَرِيقَةٍ مُقْلِقَةٍ لِلرَّائِي، وَلَكِنْ إِذَا أَحْجَمَ فَلْيَكُنْ بِأُسْلُوبٍ مُطَمْئِنٍ.
وَلَا يُؤْذِ الحَيَّ فِي مَيِّتِهِ، وَلَا يُوجِبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللهُ، كَالصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَحُضُّهُ وَيُرَغِّبُهُ فِي فِعْلِ الخَيْرِ، كَذَلِكَ لَا يُحَرِّمْ عَلَيْهِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ، وَلَكِنْ يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّ تَفْسِيرَهُ مِنْ قَبِيلِ الظَّنِّ، إِلَّا لَوْ تَيَقَّنَ لِأَمَارَاتٍ وَاضِحَةٍ، كَحِكَايَةِ رُؤْيَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ. رَوَاهَا الحَاكِمُ وَصَحَّحَهَا، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وَلَا يَجْزِمْ فِي التُّهْمَةِ، كَأَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّ المَرْئِيَّ هُوَ العَائِنُ أَوِ الخَائِنُ فَيُوَلِّدَ العَدَاوَةَ.
وَلَا يُبَالِغْ فِي العَجَائِبِ البَاعِثَةِ لِلتُّهْمَةِ، كَالدَّقَائِقِ الغَيْبِيَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ لِلشَّيْخِ الشِّهَابِ العَابِرِ؛ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَيَّرُونَ مِنْهُ إِذَا عَبَّرَ الرُّؤْيَا؛ لِمَا يُخْبِرُ الرَّائِيَ بِأُمُورٍ جَرَتْ لَهُ، وَرُبَّمَا أَخْبَرَهُ بِاسْمِهِ وَبَلَدِهِ وَمَنْزِلِهِ، وَيَكُونُ مِنْ بَلَدٍ نَاءٍ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ غَرِيبَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ العُلَمَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ لَهُ رِئْيًا مِنَ الجِنِّ ... وَذَكَرَ بَعْضَ المُؤَاخَذَاتِ عَلَيْهِ.
بِقَلَمِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ المُحَدِّثِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ النُّمَيِّ حَفِظَهُ اللهُ.