عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020
الكتاب: الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبيالمؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)الْجِنَّ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَصَرَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ مِنْ نِينَوَى وَجَمَعَهُمْ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ اللَّيْلَةَ فَأَيُّكُمْ يَتَّبِعُنِي [؟ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ فَأَطْرَقُوا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْبًا يُقَالُ لَهُ (شِعْبُ الْحَجُونِ) وَخَطَّ لِي خَطًّا وَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَقَالَ:] لَا تَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ [. ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ، فَجَعَلْتُ أَرَى أَمْثَالَ النُّسُورِ تَهْوِي وَتَمْشِي فِي رَفْرَفِهَا، وسمعت لغطا وغمغة حَتَّى خِفْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ «1» كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ ذَاهِبِينَ، فَفَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْفَجْرِ فَقَالَ:] أَنِمْتَ [؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُكَ تَقْرَعُهُمْ بِعَصَاكَ تَقُولُ اجْلِسُوا، فَقَالَ:] لَوْ خَرَجْتَ لَمْ آمَنْ عَلَيْكَ أَنْ يَخْطَفَكَ بَعْضُهُمْ [ثُمَّ قَالَ:] هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا [؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَثْفِرِي «2» ثِيَابًا بِيضًا، فَقَالَ:] أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ سَأَلُونِي الْمَتَاعَ وَالزَّادَ فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ «3» وَرَوْثَةٍ وَبَعْرَةٍ [. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقْذَرُهَا النَّاسُ عَلَيْنَا. فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ. قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ! قَالَ:] إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا رَوْثَةَ إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَ [فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا؟ فَقَالَ:] إِنَّ الْجِنَّ تَدَارَأَتْ «4» فِي قَتِيلٍ بَيْنَهُمْ فَتَحَاكَمُوا إِلَيَّ فَقَضَيْتُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [. ثُمَّ تَبَرَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ:] هَلْ مَعَكَ مَاءٌ [، فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَعِي إِدَاوَةٌ «5» فِيهَا شَيْءٌ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ فَصَبَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ:] تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ [. رَوَى مَعْنَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَشُعْبَةَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وليس__________(1). أسودة (جمع السواد) والسواد والاسودات والأساود: جماعة الناس. وقيل هم الضروب المتفرقون.(2). الاستثفار: أن يدخل الإنسان إزاره بين فخذيه ملويا ثم يخرجه.(3). العظم الحائل: المتغير، قد غيره البلى.(4). تدارأ: اختلف.(5). الإداوة: إناء صغير من جلد.(16/212)فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ ذِكْرُ نَبِيذِ التَّمْرِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَبْصَرَ زُطًّا «1» فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزُّطُّ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَبَهَهُمْ إِلَّا الْجِنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا مُسْتَفِزِّينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ حَنَشٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَضَّأَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ بِنَبِيذٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ وَقَالَ:] شَرَابٌ وَطَهُورٌ [. ابْنُ لَهِيعَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَبِهَذَا السَّنَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَمَعَكَ مَاءٌ يَا بْنَ مَسْعُودٍ [؟ فَقَالَ: مَعِي نَبِيذٌ فِي إِدَاوَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] صُبَّ عَلَيَّ مِنْهُ [. فَتَوَضَّأَ وَقَالَ:] هُوَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ [تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقِيلَ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ. كَذَلِكَ رَوَاهُ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا شَهِدْتُ لَيْلَةَ الْجِنِّ. حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَشَهِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ لَيْلَةَ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ؟ قَالَ لَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي عَدَالَةِ رَاوِيهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ لَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْجِنُّ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ فَجَعَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ. وَقَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: كَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِنْ جَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً، ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ فِيهِ نَصِيبِينَ فَقَالَ:] رُفِعَتْ إِلَيَّ حَتَّى رَأَيْتُهَا فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُكْثِرَ مَطَرَهَا وَيُنْضِرَ شَجَرَهَا وَأَنْ يَغْزُوَ نَهَرَهَا [. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُقَالُ كَانُوا سَبْعَةً، وَكَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا، وَلِذَلِكَ قَالُوا" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وَقِيلَ في أسمائهم: شاصر «2» وماصر ومنشي__________(1). الزط: جيل أسود من السند. وقيل: إعراب" جت" بالهندية، وهم جيل من أهل الهند.(2). في كتاب اللغة:" شصار" ككتاب.(16/213)وَمَاشِي وَالْأَحْقَبُ، ذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةَ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَّامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودَ أَنَّهُ كَانَ فِي نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ فَرُفِعَ لَهُمْ إِعْصَارٌ ثُمَّ جَاءَ إِعْصَارٌ أَعْظَمُ مِنْهُ فَإِذَا حَيَّةُ قَتِيلٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنَّا إِلَى رِدَائِهِ فَشَقَّهُ وَكَفَّنَ الْحَيَّةَ بِبَعْضِهِ وَدَفَنَهَا، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ إِذَا امْرَأَتَانِ تَسْأَلَانِ: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ؟ فَقُلْنَا: مَا نَدْرِي مَنْ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ! فَقَالَتَا: إِنْ كُنْتُمُ ابْتَغَيْتُمُ الْأَجْرَ «1» فَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ، إِنَّ فَسَقَةَ الْجِنِّ اقْتَتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَقُتِلَ عَمْرٌو، وَهُوَ الْحَيَّةُ الَّتِي رَأَيْتُمْ، وَهُوَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ سَلَّامٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الَّذِي كَفَّنَهُ هُوَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ. قُلْتُ: وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الثَّعْلَبِيُّ بِنَحْوِهِ فَقَالَ: وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قُطْبَةَ جَاءَ أُنَاسٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالُوا: إنا كنا في سقر فَرَأَيْنَا حَيَّةً مُتَشَحِّطَةً فِي دِمَائِهَا، فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنَّا فَوَارَيْنَاهَا، فَجَاءَ أُنَاسٌ فَقَالُوا: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرًا؟ قُلْنَا: وَمَا عَمْرٌو! قَالُوا الْحَيَّةُ الَّتِي دَفَنْتُمْ فِي مَكَانِ كَذَا، أَمَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْجِنِّ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ قِتَالٌ فَقُتِلَ. فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرَ الدَّفْنَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ سَمَّاهُ: أَنَّ حَيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي خِبَائِهِ تَلْهَثُ عَطَشًا فَسَقَاهَا ثُمَّ أَنَّهَا مَاتَتْ فَدَفَنَهَا، فَأُتِيَ مِنَ اللَّيْلِ فَسُلِّمَ عَلَيْهِ وَشُكِرَ، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جِنِّ نَصِيبِينَ اسْمُهُ زَوْبَعَةُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَبَلَغَنَا في فضائل عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ الْأَشْبِيلِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَمْشِي بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَإِذَا حَيَّةٌ مَيِّتَةٌ فَكَفَّنَهَا بِفَضْلَةٍ مِنْ رِدَائِهِ وَدَفَنَهَا، فَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: يَا سُرَّقُ، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:] سَتَمُوتُ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَيُكَفِّنُكَ رَجُلٌ صَالِحٌ [. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ! فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَا وَسُرَّقٌ، وَهَذَا سُرَّقٌ قد مات. وقد قتلت__________(1). كلمة الأجر ساقطة من ل. [ ..... ](16/214)عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَيَّةً رَأَتْهَا فِي حُجْرَتِهَا تَسْتَمِعُ وَعَائِشَةُ تَقْرَأُ، فَأُتِيَتْ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكَ قَتَلْتِ رَجُلًا مُؤْمِنًا مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا دَخَلَ عَلَى حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهَا: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَأَنْتِ مُتَقَنِّعَةً «1»، وَمَا جَاءَ إِلَّا لِيَسْتَمِعَ الذِّكْرَ. فَأَصْبَحَتْ عَائِشَةُ فَزِعَةً، وَاشْتَرَتْ رِقَابًا فَأَعْتَقَتْهُمْ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءٍ هَؤُلَاءِ الْجِنِّ مَا حَضَرَنَا، فَإِنْ كَانُوا سَبْعَةً فَالْأَحْقَبُ مِنْهُمْ وَصْفٌ لِأَحَدِهِمْ، وَلَيْسَ بِاسْمِ عَلَمٍ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا ثَمَانِيَةٌ بِالْأَحْقَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: هَامَّةَ بْنَ الْهَيْمِ «2» بْنِ الْأَقْيَسِ بْنِ إِبْلِيسَ، قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ وَمِمَّنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه سورة" إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ" [الواقعة: 1] و" الْمُرْسَلاتِ" [المرسلات: 1] و" عَمَّ يَتَساءَلُونَ" [النبأ: 1] و" إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" [التكوير: 1] و" الْحَمْدُ" [الفاتحة: 1] و" المعوذتين" [الفلق: 1 - والناس: 1]. وَذُكِرَ أَنَّهُ حَضَرَ قَتْلَ هَابِيلَ وَشَرِكَ فِي دَمِهِ وَهُوَ غُلَامٌ ابْنُ أَعْوَامٍ، وَأَنَّهُ لَقِيَ نُوحًا وَتَابَ عَلَى يَدَيْهِ، وَهُودًا وَصَالِحًا وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَإِلْيَاسَ وَمُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَسْمَاءَهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ فَقَالَ: حَسَّى وَمَسَّى وَمُنَشَّى وَشَاصِرٌ وَمَاصِرٌ وَالْأَرَدُ وَأَنِيَّانُ وَالْأَحْقَمُ. وَذَكَرَهَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ قَالَ: حدثنا محمد ابن الْبَرَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍّ يُسَمِّي جِنَّ نَصِيبِينَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: حَسَّى ومسي وشاصر وماصر والأفخر والأرد وإنيان «3». قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا حَضَرُوهُ" أَيْ حَضَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: لَمَّا حَضَرُوا الْقُرْآنَ وَاسْتِمَاعَهُ." قالُوا أَنْصِتُوا" أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْكُتُوا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ__________(1). فِي ز ل: منقبة.(2). في بعض الأصول:" الأهيم".(3). لم نوفق لتحقيق هذه الأسماء. والأصول والمصادر التي بين أيدينا مضطربة فيها.(16/215)قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ" قالُوا أَنْصِتُوا" قَالُوا صَهٍ. وَكَانُوا سَبْعَةً: أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا" الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:" فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [الأحقاف: 32]. وَقِيلَ:" أَنْصِتُوا" لِسَمَاعِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ." فَلَمَّا قُضِيَ" وَقَرَأَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ وَخُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ" فَلَمَّا قُضِيَ" بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ، يَعْنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا حِينَ حُرِسَتِ السَّمَاءُ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لِيَسْتَخْبِرُوا مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ؟ فَجَاءُوا وَادِي نَخْلَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَانُوا سَبْعَةً، فَسَمِعُوهُ وَانْصَرَفُوا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ الْجِنَّ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَصَرَفَ اللَّهُ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَفَرَغَ انْصَرَفُوا بِأَمْرِهِ قَاصِدِينَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ، مُنْذِرِينَ لَهُمْ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ وَمُحَذِّرِينَ إِيَّاهُمْ بَأْسَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هذا قولهم:" يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ" [الأحقاف: 31] وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَيْلَةُ الْجِنِّ لَيْلَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ" «1» [الجن: 1]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَعْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ «2» النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ- يَعْنِي ابْنُ مَسْعُودٍ- أنه آذنته بهم شجرة.[سورة الأحقاف (46): الآيات 30 الى 31]قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31)__________(1). راجع ج 19 ص 1.(2). آذن: أعلم.(16/216)قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى " أَيِ الْقُرْآنَ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُوسَى. قَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا، وَلِذَلِكَ قَالُوا:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَّ لَمْ تَكُنْ سَمِعَتْ بِأَمْرِ عِيسَى، فَلِذَلِكَ قَالَتْ:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى "." مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" يَعْنِي ما قبله من التوراة." يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ" دِينِ الْحَقِّ." وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ" دِينُ اللَّهِ القويم." يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ" يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أُعْطِيَتْ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُعْطِيَتُ الشَّفَاعَةَ [. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ" وَبُعِثْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ"." وَآمِنُوا بِهِ" أَيْ بِالدَّاعِي، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:" بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ، لِقَوْلِهِ:" يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقُوهُ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ. مَسْأَلَةٌ- هَذِهِ الْآيُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ كَالْإِنْسِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لِمُؤْمِنِي الْجِنِّ ثَوَابٌ غَيْرَ نَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ". وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ ثَوَابُ الْجِنِّ إِلَّا أَنْ يُجَارُوا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ كما يعاقبون(16/217)وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)فِي الْإِسَاءَةِ يُجَازَوْنَ فِي الْإِحْسَانِ مِثْلُ الْإِنْسِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَدْ قَالَ الضَّحَّاكُ: الْجِنُّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَمْ يُقْطَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا" «1» [الانعام: 132] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُثَابُونَ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ قال في أول الآية:"امَعْشَرَ«2» ْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي- إِلَى أَنْ قَالَ- وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا" [الانعام: 132 - 130]. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا فِي سُورَةِ" الرَّحْمَنِ" «3» مزيد بيان إن شاء الله تعالى.[سورة الأحقاف (46): آية 32]وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ لَا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ" أَيْ لَا يَفُوتُ اللَّهَ وَلَا يَسْبِقُهُ" وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ" أَيْ أَنْصَارٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ." أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ".[سورة الأحقاف (46): آية 33]أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ" الرُّؤْيَةُ هُنَا بِمَعْنَى العلم. و" أَنَّ" وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا سَدَّتْ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ الرُّؤْيَةِ." وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى " احتجاج على منكري البعث. وَمَعْنَى" لَمْ يَعْيَ" يَعْجَزُ وَيَضْعُفُ عَنْ إِبْدَاعِهِنَّ. يُقَالُ: عَيَّ بِأَمْرِهِ وَعَيِيَ إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لِوَجْهِهِ، وَالْإِدْغَامُ أَكْثَرُ. وَتَقُولُ فِي الْجَمْعِ عَيُوا، مخففا، وعيوا أيضا بالتشديد. قال:__________(1). آية 132 سورة الانعام.(2). آية 130 سورة الانعام.(3). راجع ج 17 ص 167.(16/218)وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)عَيُّوا بِأَمْرِهِمْ كَمَا ... عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَةُ «1»وَعَيِيتُ بِأَمْرِي إِذَا لَمْ تَهْتَدِ لِوَجْهِهِ. وَأَعْيَانِي هُوَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" وَلَمْ يَعِي" بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَهُوَ قَلِيلٌ شَاذٌّ، لَمْ يَأْتِ إِعْلَالُ الْعَيْنِ وَتَصْحِيحُ اللَّامِ إِلَّا فِي أَسْمَاءٍ قَلِيلَةٍ، نَحْوُ غَايَةٍ وَآيَةٍ. وَلَمْ يَأْتِ فِي الْفِعْلِ سِوَى بَيْتٍ أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:فَكَأَنَّهَا بَيْنَ النِّسَاءِ سَبِيكَةٌ ... تَمْشِي بِسُدَّةِ «2» بَيْتِهَا فَتُعِيُّ" بِقادِرٍ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ:" وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً" «3» [النساء: 166]، وقوله:" تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ" «4» [المؤمنون: 20]. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْبَاءُ فِيهِ خَلَفَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْجَحْدِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْعَرَبُ تُدْخِلُهَا مَعَ الْجَحْدِ تَقُولُ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ. وَلَا تَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ. وَهُوَ لِدُخُولِ" مَا" وَدُخُولِ" أَنَّ" لِلتَّوْكِيدِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ" «5» [يس: 81]. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْرَجُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ" يَقْدِرُ" وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ فِي خَبَرِ" أَنَّ" قَبِيحٌ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عبد الله" خلق السموات والأرض قادر" بغير باء. والله أعلم.[سورة الأحقاف (46): آية 34]وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ" أَيْ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ يُعْرَضُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ:" أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا" فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُقَرَّرُ:" فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" أي بكفركم.__________(1). البيت لعبيد بن الأبرص.(2). السدة: الفناء.(3). راجع ج 5 ص 287.(4). آية 20 سورة المؤمنون.(5). آية 81 سورة يس.(16/219)فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)[سورة الأحقاف (46): آية 35]فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَوُو الْحَزْمِ وَالصَّبْرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ خَمْسَةٌ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهُمْ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِنَّ أُولِي الْعَزْمِ: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَإِبْرَاهِيمُ. فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ رَابِعَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ سِتَّةٌ «1»: إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقِيلَ: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبُ، وَلُوطٌ، وَمُوسَى، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَقِ فِي سورة" الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ". وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ مُدَّةً. وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ. وَإِسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ. وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ الْوَلَدِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ. وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبِئْرِ وَالسِّجْنِ. وَأَيُّوبُ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ وَأَيُّوبَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ يُونُسُ وَلَا سُلَيْمَانُ وَلَا آدَمُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ وَجَاهَدُوا الْكَفَرَةَ. وَقِيلَ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ" الْأَنْعَامِ" «2» وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَنُوحٌ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَأَيُّوبُ، وَيُوسُفُ، وَمُوسَى، وَهَارُونُ، وَزَكَرِيَّاءُ، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَالْيَسَعُ، وَيُونُسُ، وَلُوطٌ. وَاخْتَارَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ لِقَوْلِهِ فِي عَقِبِهِ:" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ" «3» [الانعام: 90] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ. وَاخْتَارَهُ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: وَإِنَّمَا دَخَلَتْ" مِنْ" لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ أَرْدِيَةً مِنَ الْبَزِّ وَأَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ. أَيِ اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ. وَقِيلَ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ أُولُو عَزْمٍ إِلَّا يُونُسَ بن متي، ألا ترى أن__________(1). ما بين المربعين ساقط من ب ل ن. [ ..... ](2). راجع ج 7 ص 35.(3). آية 90 سورة الانعام.(16/220)النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، لِخِفَّةٍ وَعَجَلَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ حِينَ وَلَّى مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِثَلَاثٍ: سَلَّطَ عَلَيْهِ الْعَمَالِقَةَ حَتَّى أَغَارُوا عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَسَلَّطَ الذِّئْبَ عَلَى وَلَدِهِ فَأَكَلَهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ الحوت فابتلعه، قاله أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أُولُو الْعَزْمِ اثْنَا عَشَرَ نَبِيًّا أُرْسِلُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشَّامِ فَعَصَوْهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنِّي مُرْسِلٌ عَذَابِي إِلَى عُصَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمُ اخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، إِنْ شِئْتُمْ أَنْزَلْتُ بِكُمُ الْعَذَابَ وَأَنْجَيْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنْ شِئْتُمْ نَجَّيْتُكُمْ وَأَنْزَلْتُ الْعَذَابَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابَ وَيُنَجِّيَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْجَى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْزَلَ بِأُولَئِكَ الْعَذَابَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُلُوكَ الْأَرْضِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمَنَاشِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُلِخَ جِلْدَةُ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صُلِبَ عَلَى الْخَشَبِ حَتَّى مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حُرِّقَ بِالنَّارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُولُو الْعَزْمِ أَرْبَعَةٌ: إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَدَاوُدُ، وَعِيسَى، فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَقِيلَ لَهُ:" أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" «1» [البقرة: 131] ثُمَّ ابْتُلِيَ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَوَطَنِهِ وَنَفْسِهِ، فَوُجِدَ صَادِقًا وَافِيًا فِي جَمِيعِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ. وَأَمَّا مُوسَى فَعَزْمُهُ حِينَ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ:" إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ" «2» [الشعراء: 62 - 61]. وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَخْطَأَ خَطِيئَتَهُ فَنُبِّهَ عَلَيْهَا، فَأَقَامَ يَبْكِي أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى نَبَتَتْ مِنْ دُمُوعِهِ شَجَرَةٌ، فَقَعَدَ تَحْتَ ظِلِّهَا. وَأَمَّا عِيسَى فَعَزْمُهُ أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ:" إِنَّهَا مَعْبَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا". فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ، أَيْ كُنْ صَادِقًا فِيمَا ابْتُلِيَتَ بِهِ مِثْلُ صِدْقِ إِبْرَاهِيمَ، وَاثِقًا بِنُصْرَةِ مَوْلَاكَ مِثْلُ ثِقَةِ مُوسَى، مُهْتَمًّا بِمَا سَلَفَ مِنْ هَفَوَاتِكَ مِثْلُ اهْتِمَامِ دَاوُدَ، زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا مِثْلُ زُهْدِ عِيسَى. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: مُحْكَمَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا أَصَابَهُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، تَسْهِيلًا عَلَيْهِ وَتَثْبِيتًا له. والله أعلم." وَلا تَسْتَعْجِلْ" قال مقاتل: بالدعاء__________(1). آية 131 سورة البقرة.(2). آية 61 سورة الشعراء.(16/221)عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: فِي إِحْلَالِ الْعَذَابِ «1» بِهِمْ، فَإِنَّ أَبْعَدَ غَايَاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَفْعُولُ الِاسْتِعْجَالِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْعَذَابُ." كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ" قَالَ يَحْيَى: مِنَ الْعَذَابِ. النَّقَّاشُ: مِنَ الْآخِرَةِ." لَمْ يَلْبَثُوا" أَيْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعَذَابُ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ يَحْيَى. وَقَالَ النَّقَّاشُ: فِي قُبُورِهِمْ حَتَّى بُعِثُوا لِلْحِسَابِ." إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ" يَعْنِي فِي جَنْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: نَسَّاهُمْ هَوْلَ مَا عَايَنُوا مِنَ الْعَذَابِ طول لبثهم في الدنيا. ثم قال:" بَلاغٌ" أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ بَلَاغٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ. ف" بَلاغٌ" رُفِعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، دَلِيلُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى:" هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ" «2» [إبراهيم: 52]، وَقَوْلُهُ:" إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ" «3» [الأنبياء: 106]. وَالْبَلَاغُ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ بَلَاغٌ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا عَلَى" بَلَاغٍ" وَعَلَى" نَهَارٍ". وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَ عَلَى" وَلا تَسْتَعْجِلْ" ثُمَّ ابْتَدَأَ" لَهُمْ" عَلَى مَعْنَى لَهُمْ بَلَاغٌ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّكَ قَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ الْبَلَاغِ وَبَيْنَ اللَّامِ،- وَهِيَ رَافِعَةٌ- بِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْهُمَا. وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: بَلَاغًا وَبَلَاغٌ، النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى إِلَّا سَاعَةً بَلَاغًا، عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى النَّعْتِ لِلسَّاعَةِ. وَالْخَفْضُ عَلَى مَعْنَى مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ. وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ" بَلِّغْ" عَلَى الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى" مِنْ نَهارٍ" ثُمَّ يَبْتَدِئُ" بَلاغٌ"." فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ" أَيِ الْخَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ" فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ" عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْقَوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا عَسِرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا تَكْتُبُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَالْكَلِمَتَيْنِ فِي صَحِيفَةٍ ثُمَّ تُغَسَّلُ وَتُسْقَى مِنْهَا، وَهِيَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً «4» أَوْ ضُحاها" [النازعات: 46]." كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ" صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ. وَعَنْ قتادة: لا يهلك الله»إلا هالك مشرك «6». وَقِيلَ: هَذِهِ أَقْوَى آيَةٍ فِي الرَّجَاءِ. وَاللَّهُ أعلم.__________(1). في ب ك ل: العقاب.(2). آخر سورة إبراهيم.(3). آية 106 سورة الأنبياء.(4). آخر سورة النازعات.(5). لفظ الجلالة ساقط من ب ك ل.(6). في تفسير الطبري:" تعلموا ما يهلك على الله الا هالك ولي الإسلام ظهره، أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله".(16/222)الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)[تفسير سورة محمد]سُورَةُ الْقِتَالِ، وَهِيَ سُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ إِلَّا ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي حُزْنًا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ" «1» [محمد: 13]. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَحَكَاهُ ابْنُ هِبَةِ الله عن الضحاك وسعيد ابن جُبَيْرٍ. وَهِيَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ آيَةً «2». وَقِيلَ ثَمَانٍ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ[سورة محمد (47): آية 1]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِالَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1)قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ كَفَرُوا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَصَدُّوا أَنْفُسَهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ بِنَهْيِهِمْ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَقَالَهُ السُّدِّيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:" عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" عَنْ بَيْتِ اللَّهِ بِمَنْعِ قَاصِدِيهِ. وَمَعْنَى" أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: أَبْطَلَ مَا عَمِلُوهُ فِي كُفْرِهِمْ بِمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ مَكَارِمَ، مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَفَكِّ الْأُسَارَى وَقِرَى الْأَضْيَافِ وَحِفْظِ الْجِوَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُطْعِمِينَ بِبَدْرٍ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رجلا: أبو جهل، والحارث ابن هِشَامٍ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُبَيٌّ وَأُمَيَّةُ ابْنَا خَلَفٍ، وَمُنَبِّهٌ وَنُبَيْهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأَبُو الْبُخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ.[سورة محمد (47): آية 2]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2)__________(1). آية 13(2). من ب ل ن.(16/223)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَنْصَارُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّهَا نَزَلَتْ خَاصَّةً فِي نَاسٍ مِنْ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: هُمَا عامتان فيمن كفروا وَآمَنَ. وَمَعْنَى" أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أَبْطَلَهَا. وَقِيلَ: أَضَلَّهُمْ عَنِ الْهُدَى بِمَا صَرَفَهُمْ عَنْهُ مِنَ التَّوْفِيقِ." وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" مَنْ قَالَ إِنَّهُمُ الْأَنْصَارُ فَهِيَ الْمُوَاسَاةُ فِي مَسَاكِنِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ فَهِيَ الْهِجْرَةُ. وَمَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ فَالصَّالِحَاتُ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى." وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ" لَمْ يُخَالِفُوهُ في شي، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقِيلَ: صَدَّقُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ." وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" يُرِيدُ أَنَّ إِيمَانَهُمْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، نَسَخَ بِهِ مَا قَبْلَهُ" كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ" أَيْ مَا مَضَى مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ قَبْلَ الْإِيمَانِ." وَأَصْلَحَ بالَهُمْ" أَيْ شَأْنَهُمْ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَالُهُمْ. ابْنُ عَبَّاسٍ: أُمُورُهُمْ. وَالثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ وَهِيَ مُتَأَوَّلَةٌ عَلَى إِصْلَاحِ مَا تَعَلَّقَ بِدُنْيَاهُمْ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ الْمَعْنَى أَصْلَحَ نِيَّاتِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:فَإِنْ تُقْبِلِي بِالْوُدِّ أُقْبِلْ بِمِثْلِهِ ... وَإِنْ تُدْبِرِي أَذْهَبْ إِلَى حَالٍ بَالِيًاوَهُوَ عَلَى هَذَا التَّأَوُّلِ مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاحِ دِينِهِمْ." وَالْبَالُ" كَالْمَصْدَرِ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْهُ فِعْلٌ، وَلَا تَجْمَعُهُ الْعَرَبُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَيَقُولُونَ فِيهِ: بَالَاتٌ. الْمُبَرِّدُ: قَدْ يَكُونُ الْبَالُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَعْنَى الْقَلْبِ، يُقَالُ: مَا يَخْطِرُ فُلَانٌ عَلَى بَالِي، أَيْ عَلَى قَلْبِي. الْجَوْهَرِيُّ: وَالْبَالُ رَخَاءُ النَّفْسِ، «1» يُقَالُ فُلَانٌ رَخِيُّ الْبَالِ. وَالْبَالُ: الْحَالُ، يُقَالُ مَا بَالُكَ. وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ هَذَا مِنْ بَالِي، أَيْ مِمَّا أُبَالِيهِ. وَالْبَالُ: الْحُوتُ الْعَظِيمُ مِنْ حِيتَانِ الْبَحْرِ، وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. وَالْبَالَةُ: وِعَاءُ الطيب، فارسي معرب، وأصله بالفارسية پيلة. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:كَأَنَّ عَلَيْهَا بَالَةً لَطَمِيَّةً ... لها من خلال الدأيتين أريج «2»__________(1). ما بين المربعين ساقط من ك.(2). اللطمية: العنبرة التي لطمت بالمسك فتفتقت به حتى نشبت رائحتها. والداي: فقر الكاهل والظهر. [ ..... ](16/224)ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)[سورة محمد (47): آية 3]ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ"" ذَلِكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَوْ ذَلِكَ الْإِضْلَالُ وَالْهُدَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمَا سَبَبُهُ هَذَا. فَالْكَافِرُ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ، وَالْمُؤْمِنُ اتَّبَعَ الْحَقَّ. وَالْبَاطِلُ: الشِّرْكُ. وَالْحَقُّ: التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ." كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ" أَيْ كَهَذَا الْبَيَانِ الَّذِي بُيِّنَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْرَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. وَالضَّمِيرُ فِي" أَمْثالَهُمْ" يَرْجِعُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ آمَنُوا.[سورة محمد (47): آية 4]فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ" لَمَّا مَيَّزَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ كِتَابِيٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ عَهْدٍ وَلَا ذِمَّةٍ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ." فَضَرْبَ الرِّقابِ" مَصْدَرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ أَيْ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا. وَخَصَّ الرِّقَابَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِهَا. وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ كَقَوْلِكَ يَا نَفْسُ صَبْرًا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ(16/225)اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ. وَقَالَ:" فَضَرْبَ الرِّقابِ" وَلَمْ يَقُلْ فَاقْتُلُوهُمْ، لِأَنَّ فِي الْعِبَارَةِ بِضَرْبِ الرِّقَابِ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ الْقَتْلِ بِأَشْنَعِ صُوَرِهِ، وَهُوَ حَزُّ الْعُنُقِ «1» وَإِطَارَةِ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْبَدَنِ وَعُلُوُّهُ وَأَوْجَهُ أَعْضَائِهِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ" أَيْ أَكْثَرْتُمُ الْقَتْلَ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْفَالِ" عِنْدَ قَوْلِهِ تعالى:" حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" «2» [الأنفال: 67]." فَشُدُّوا الْوَثاقَ" أَيْ إِذَا أَسَرْتُمُوهُمْ. وَالْوَثَاقُ اسْمٌ مِنَ الْإِيثَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا، يُقَالُ: أَوْثَقْتُهُ إِيثَاقًا وَوَثَاقًا. وَأَمَّا الْوِثَاقُ (بِالْكَسْرِ) فَهُوَ اسْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ كَالرِّبَاطِ، قَالَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَوْثَقَهُ فِي الْوَثَاقِ أَيْ شَدَّهُ، وَقَالَ تَعَالَى:" فَشُدُّوا الْوَثاقَ". وَالْوِثَاقُ (بِكَسْرِ الْوَاوِ) لُغَةٌ فِيهِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِشَدِّ الْوَثَاقَ لِئَلَّا يَفْلِتُوا." فَإِمَّا مَنًّا" عَلَيْهِمْ بِالْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ فدية" وَإِمَّا فِداءً". ولم يذكر القتل ها هنا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَتْلِ فِي صَدْرِ الكلام، و" مَنًّا" و" فِداءً" نصب بإضمار فعل. وقرى" فَدًى" بِالْقَصْرِ مَعَ فَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ مَنًّا، وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ فِدَاءً. رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الْحَجَّاجِ حِينَ أُتِيَ بِالْأَسْرَى مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ وَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَثَمَانمِائَةٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ حَتَّى قُدِّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ، لَا جَازَاكَ اللَّهُ عَنِ السُّنَّةِ وَالْكَرَمِ خَيْرًا! قَالَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ" فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" فِي حَقِّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَاللَّهِ! مَا مَنَنْتَ وَلَا فَدَيْتَ؟ وَقَدْ قَالَ شَاعِرُكُمْ فِيمَا وَصَفَ بِهِ قَوْمَهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ:وَلَا نَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ ... إِذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حِمْلُ الْمَغَارِمِفَقَالَ الْحَجَّاجُ: أُفٌّ لِهَذِهِ الْجِيَفِ! أَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ!؟ خَلُّوا سَبِيلَ مَنْ بَقِيَ. فَخُلِّيَ يَوْمئِذٍ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَسْرَى، وَهُمْ زُهَاءُ أَلْفَيْنِ، بِقَوْلِ ذَلِكَ الرجل.__________(1). في ح ل: جز العنق بالجيم.(2). راجع ج 8 ص 45 وما بعدها.(16/226)الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلِ- أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَهِيَ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادُوا وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ. وَالنَّاسِخُ لَهَا عِنْدَهُمْ قَوْلُهُ تعالى:" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" «1» [التوبة: 5] وَقَوْلُهُ:" فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ" «2» [الأنفال: 57] وقوله:" وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً" «3» [التوبة: 36] الآية، قاله قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَوْزِيُّ: كُتِبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي أَسِيرٍ أُسِرَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمُ الْتَمَسُوهُ بِفِدَاءِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ، لَقَتْلُ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا. الثَّانِي- أَنَّهَا فِي الْكُفَّارِ جَمِيعًا. وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ النَّظَرِ، مِنْهُمْ قتادة ومجاهد. قالوا: إذ أُسِرَ الْمُشْرِكُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يُفَادَى بِهِ فَيُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى عِنْدَهُمْ إِلَّا بِالْمَرْأَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ. وَالنَّاسِخُ لَهَا" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5] إِذْ كَانَتْ بَرَاءَةٌ آخِرُ مَا نَزَلَتْ بِالتَّوْقِيفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلُ كُلُّ مُشْرِكٍ إِلَّا مَنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ. وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، خِيفَةَ أَنْ يَعُودُوا حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ. ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" قَالَ نَسَخَهَا" فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نسخها" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5]. وهو قول الحكم. الثالث- أنها ناسخة، قاله الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ. رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضحاك" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" [التوبة: 5] قَالَ نَسَخَهَا" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً". وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً" فَلَا يُقْتَلُ الْمُشْرِكُ وَلَكِنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ وَيُفَادَى، كَمَا قال الله عز وجل. قال أَشْعَثُ: كَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ أَنْ يُقْتَلَ الْأَسِيرُ، وَيَتْلُو" فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً". وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. ثُمَّ قَالَ:" حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ".__________(1). آية 5 سورة التوبة.(2). آية 57 سورة الأنفال.(3). آية 36 سورة التوبة.(16/227)وَزُعِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ إِذَا حَصَلَ الْأَسِيرُ فِي يَدَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ، لَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: إِمَّا أَنْ يَمُنَّ، أَوْ يُفَادِيَ، أَوْ يَسْتَرِقَّ. الرَّابِعِ- قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ فِدَاءٌ وَلَا أَسْرٌ إِلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ" «1» [الأنفال: 67]. فَإِذَا أُسِرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا رَآهُ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. الْخَامِسِ- أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ حَالٍ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدِينَ فَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ، قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا، وَفَادَى سَائِرَ أُسَارَى بَدْرٍ، وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيِّ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي يَدِهِ، وَأَخَذَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَبَطَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَأَخَذَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ مَنَّ عَلَى سَبْيِ هَوَازِنَ. وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَقَدْ مَضَى جَمِيعُهُ فِي (الْأَنْفَالِ) «2» وَغَيْرِهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُحْكَمَتَانِ مَعْمُولٌ بِهِمَا، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ قَاطِعٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْآيَتَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، إِذَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ إِذَا لَقِينَا الَّذِينَ كَفَرُوا قَتَلْنَاهُمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَسْرُ جَازَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْمُفَادَاةُ وَالْمَنُّ، عَلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ مَذْهَبًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَبِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْفِيقُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها" قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ خُرُوجُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يَكُونَ دِينٌ إِلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ، فَيُسْلِمُ كُلُّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ وَصَاحِبِ مِلَّةٍ، وَتَأْمَنُ الشَّاةُ مِنَ الذِّئْبِ. ونحوه__________(1). آية 67 سورة الأنفال.(2). راجع ج 8 ص 45 وما بعدها.(16/228)عَنِ الْحَسَنِ وَالْكَلْبِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَتَّى يَظْهَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَتَّى لَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَوْزَارِ السِّلَاحُ، فَالْمَعْنَى شُدُّوا الْوَثَاقَ حَتَّى تَأْمَنُوا وَتَضَعُوا السِّلَاحَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ، أَيِ الْأَعْدَاءُ الْمُحَارَبُونَ أَوْزَارَهُمْ، وَهُوَ سِلَاحُهُمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوِ الْمُوَادَعَةِ. وَيُقَالُ لِلْكُرَاعِ أَوْزَارٌ. قَالَ الْأَعْشَى:وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ... رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورَاوَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ يُحْدَى بِهَا ... عَلَى أَثَرِ الْحَيِّ عِيرًا فَعِيرَا «1»وَقِيلَ:" حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها" أَيْ أَثْقَالُهَا. وَالْوِزْرُ الثِّقَلُ، وَمِنْهُ وَزِيرُ الْمَلِكِ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْأَثْقَالَ. وَأَثْقَالُهَا السِّلَاحُ لِثِقَلِ حَمْلِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، الْمَعْنَى فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ فَأَبَى وَقَالَ: لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ، وَقَرَأَ" حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ". قُلْنَا: قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَى حُكْمَ الْجَلْدِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الرَّجْمِ، وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ"" ذَلِكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ وَبَيَّنْتُ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى افْعَلُوا ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، الْمَعْنَى ذَلِكَ حُكْمُ الْكُفَّارِ. وَهِيَ كَلِمَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا الْفَصِيحُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تعالى:" هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ" «2» [ص: 55]. أَيْ هَذَا حَقٌّ وَأَنَا أُعَرِّفُكُمْ أَنَّ لِلظَّالِمِينَ كَذَا. وَمَعْنَى" لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ" أَيْ أَهْلَكَهُمْ بِغَيْرِ قتال. وقال__________(1). هذه رواية البيت في الأصول. وروايته في كتاب" الاعشين":وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ ... تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عيرا فعيراوالموضونة: الدرع المنسوجة. وفي شعراء النصرانية:... على أثر العيس ...(2). آية 55 سورة ص.(16/229)سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَهْلَكَهُمْ بِجُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ." وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" أَيْ أَمَرَكُمْ بِالْحَرْبِ لِيَبْلُوَ وَيَخْتَبِرَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فَيَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ وَالصَّابِرِينَ، كَمَا فِي السُّورَةِ نَفْسِهَا." وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" يريد قتلى أحد من المؤمنين" فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" قَاتَلُوا" وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ" قُتِلُوا" بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ الْحَسَنُ إِلَّا أَنَّهُ شَدَّدَ التَّاءَ عَلَى التَّكْثِيرِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَيْوَةَ" قَتَلُوا" بِفَتْحِ الْقَافِ وَالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، يَعْنِي الَّذِينَ قَتَلُوا الْمُشْرِكِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ، وَقَدْ فَشَتْ فِيهِمُ الْجِرَاحَاتُ وَالْقَتْلُ، وَقَدْ نَادَى الْمُشْرِكُونَ: اعْلُ هُبَلُ. وَنَادَى الْمُسْلِمُونَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُولُوا لَا سَوَاءَ. قَتْلَانَا أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ). فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذلك في (آل عمران) «1».[سورة محمد (47): آية 5]سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5)قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو" قُتِلُوا" بَعِيدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ" وَالْمَقْتُولُ لَا يُوصَفُ بِهَذَا. قَالَ غَيْرُهُ: يَكُونُ الْمَعْنَى سَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ سَيَهْدِي مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، أَيْ يُحَقِّقُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ. وَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: سَيَهْدِيهِمْ إِلَى مُحَاجَّةِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي الْقَبْرِ. قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَقَدْ تَرِدُ الْهِدَايَةُ وَالْمُرَادُ بِهَا إِرْشَادُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَسَالِكِ الْجِنَانِ وَالطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُجَاهِدِينَ: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ" «2» [الصافات: 23] معناه فاسلكوا بهم إليها.[سورة محمد (47): آية 6]وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6)__________(1). راجع ج 4 ص (234)(2). آية 23 سورة الصافات.(16/230)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)أَيْ إِذَا دَخَلُوهَا يُقَالُ لَهُمْ تَفَرَّقُوا «1» إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَهُمْ أَعْرَفُ بِمَنَازِلِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ إِذَا انْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ. قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ] فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بعض مظالم [كانت بينهم في الدنيا «2» [حتى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ] مِنْهُ «3» [بِمَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا (. وَقِيلَ:" عَرَّفَها لَهُمْ" أَيْ بَيَّنَهَا لَهُمْ حَتَّى عَرَفُوهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ. قَالَ الْحَسَنُ: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا دَخَلُوهَا عَرَفُوهَا بِصِفَتِهَا. وَقِيلَ: فِيهِ حَذْفٌ، أَيْ عَرَّفَ طُرُقَهَا وَمَسَاكِنَهَا وَبُيُوتَهَا لَهُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَقِيلَ: هَذَا التَّعْرِيفُ بِدَلِيلٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِعَمَلِ الْعَبْدِ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَتْبَعُهُ الْعَبْدُ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَنْزِلَهُ، وَيُعَرِّفَهُ الْمَلَكُ جَمِيعَ مَا جُعِلَ لَهُ فِي الْجَنَّةِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَرُدُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ" عَرَّفَها لَهُمْ" أَيْ طَيَّبَهَا لَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَرْفِ، وَهُوَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ. وَطَعَامٌ مُعَرَّفٌ أَيْ مُطَيَّبٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عَرَّفْتَ الْقِدْرَ إِذَا طَيَّبْتَهَا بِالْمِلْحِ وَالْأَبْزَارِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ يُخَاطِبُ رَجُلًا ويمدحه:عرفت كاتب عرفته اللطائم «4»يقول: كَمَا عُرِّفَ الْإِتْبُ، وَهُوَ الْبَقِيرُ وَالْبَقِيرَةُ، وَهُوَ قَمِيصٌ لَا كُمَّيْنِ لَهُ تَلْبَسُهُ النِّسَاءُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ وَضْعِ الطَّعَامُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ مِنْ كَثْرَتِهِ، يُقَالُ: حَرِيرٌ مُعَرَّفٌ، أَيْ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مِنَ الْعُرْفِ الْمُتَتَابِعِ كَعُرْفِ الْفَرَسِ. وَقِيلَ:" عَرَّفَها لَهُمْ" أَيْ وَفَّقَهُمْ لِلطَّاعَةِ حَتَّى اسْتَوْجَبُوا الْجَنَّةَ. وَقِيلَ: عَرَّفَ أَهْلَ السَّمَاءِ أَنَّهَا لَهُمْ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ فِيهَا. وَقِيلَ: عَرَّفَ المطيعين أنها لهم.[سورة محمد (47): آية 7]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)__________(1). في أز ل: تقربوا.(2). زيادة عن صحيح البخاري.(3). زيادة عن صحيح البخاري. [ ..... ](4). اللطائم (جمع لطيمة): قطعة مسك.(16/231)وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ" أَيْ إِنْ تَنْصُرُوا دِينَ اللَّهِ يَنْصُرُكُمْ عَلَى الْكُفَّارِ. نَظِيرُهُ" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ" [الحج: 40] وَقَدْ تَقَدَّمَ «1». وَقَالَ قُطْرُبٌ: إِنْ تَنْصُرُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ." وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ" أَيْ عِنْدَ الْقِتَالِ. وَقِيلَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ عَلَى الصِّرَاطِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَثْبِيتُ الْقُلُوبِ بِالْأَمْنِ، فَيَكُونُ تَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ عِبَارَةً عَنِ النَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ فِي مَوْطِنِ الْحَرْبِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْفَالِ" «2» هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ هُنَاكَ:" إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا" «3» [الأنفال: 12] فَأَثْبَتَ هُنَاكَ وَاسِطَةً وَنَفَاهَا هُنَا «4»، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ" «5» [السجدة: 11] ثُمَّ نَفَاهَا بِقَوْلِهِ:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ" «6» [الروم: 40]." الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ" «7» [الملك: 2] وَمَثَلُهُ كَثِيرٌ، فَلَا فَاعِلَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ.[سورة محمد (47): آية 8]وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ كَفَرُوا" يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبَ بِمَا يُفَسِّرُهُ" فَتَعْساً لَهُمْ" كَأَنَّهُ قَالَ: أَتْعَسَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَ" تَعْسًا لَهُمْ" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ بِسَبِيلِ الدُّعَاءِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، مِثْلُ سَقْيًا لَهُ وَرَعْيًا. وَهُوَ نَقِيضُ لَعًا «8» لَهُ. قَالَ الْأَعْشَى:فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعًا «9»وَفِيهِ عَشْرَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ- بُعْدًا لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ. الثَّانِي- حُزْنًا لَهُمْ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. الثَّالِثُ- شَقَاءٌ لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. الرَّابِعُ- شَتْمًا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. الْخَامِسُ- هَلَاكًا لَهُمْ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ. السَّادِسُ- خَيْبَةٌ لَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ. السَّابِعُ- قُبْحًا لَهُمْ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ. الثَّامِنُ- رغما لهم، قاله الضحاك أيضا. التاسع-__________(1). راجع ج 12 ص (72)(2). راجع ج 7 ص (371 377)(3). راجع ج 7 ص (371 377)(4). ما بين المربعين ساقط من ز ك ل.(5). آية 11 سورة السجدة.(6). آية 40 سورة الروم.(7). آية 2 سورة الملك.(8). لعا: كلمة يدعى بها للعاثر معناه الارتفاع.(9). في اللسان وكتاب الاعشين:" أدنى" بدل" أولى". وصدره:بذات لوث عفرناة إذا عثرتواللوث (بالفتح): القوة". عفرناة: قرية.(16/232)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)شَرًّا لَهُمْ، قَالَهُ ثَعْلَبٌ أَيْضًا. الْعَاشِرُ- شِقْوَةٌ لَهُمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ التَّعْسَ الِانْحِطَاطُ وَالْعِثَارُ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: التَّعْسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى وَجْهِهِ. وَالنَّكْسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ: وَالتَّعْسُ أَيْضًا الْهَلَاكُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَأَصْلُهُ الْكَبُّ، وَهُوَ ضِدُّ الِانْتِعَاشِ. وَقَدْ تَعَسَ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) يَتْعَسُ تَعْسًا، وَأَتْعَسَهُ اللَّهُ. قَالَ مُجَمِّعُ بْنُ هِلَالٍ:تَقُولُ وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا مِنْ خَلِيلِهَا ... تَعِسْتَ كَمَا أَتْعَسْتِنِي يَا مُجَمِّعُيُقَالُ: تَعْسًا لِفُلَانٍ، أَيْ أَلْزَمَهُ اللَّهُ هَلَاكًا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَجَوَّزَ قَوْمٌ تَعِسَ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ). قُلْتُ: وَمِنْهُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ «1» إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ" خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ" تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ" «2» خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" أَيْ أَبْطَلَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَتَعْساً" لِأَجْلِ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي" الَّذِينَ"، وَجَاءَ" وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" عَلَى الْخَبَرِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ الَّذِينَ، لِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي اللَّفْظِ، فَدُخُولُ الْفَاءِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَأَضَلَّ حَمْلًا عَلَى اللفظ.[سورة محمد (47): آية 9]ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)أَيْ ذَلِكَ الْإِضْلَالُ وَالْإِتْعَاسُ، لِأَنَّهُمْ" كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ" مِنَ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ." فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ" أَيْ مَا لَهُمْ مِنْ صُوَرِ الْخَيْرَاتِ، كَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَأَصْنَافِ الْقُرَبِ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ الْعَمَلَ إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ. وَقِيلَ: أحبط أعمالهم أي عبادة الصنم.[سورة محمد (47): آية 10]أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)__________(1). القطيفة: دثار. والخميصة: كساء أسود مربع له أعلام وخطوط.(2). قوله" شيك" أي أصابته شوكة. و" فلا انتقش" أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش.(16/233)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)بَيَّنَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ وَصَلَ هَذَا بِالنَّظَرِ، أَيْ أَلَمْ يَسْرِ هَؤُلَاءِ فِي أَرْضِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ لِيَعْتَبِرُوا بِهِمْ" فَيَنْظُرُوا" بِقُلُوبِهِمْ" كَيْفَ كانَ" آخِرُ أَمْرِ الْكَافِرِينَ قَبْلَهُمْ." دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" أَيْ أَهْلَكَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهُمْ. يُقَالُ: دَمَّرَهُ تَدْمِيرًا، وَدَمَّرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى. ثُمَّ تَوَاعَدَ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَقَالَ" وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها" أَيْ أَمْثَالَ هَذِهِ الْفَعْلَةِ، يَعْنِي التَّدْمِيرَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَالطَّبَرِيُّ: الْهَاءُ تَعُودُ عَلَى الْعَاقِبَةِ، أَيْ وَلِلْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ أَمْثَالُ عَاقِبَةِ تَكْذِيبِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.[سورة محمد (47): آية 11]ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (11)أَيْ وَلِيَّهُمْ وَنَاصِرَهُمْ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ" ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا". فالمولى: الناصر ها هنا، قاله ابن عباس وغيره. قال:فَغَدَتْ كِلَا الْفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّهُ ... مَوْلَى الْمَخَافَةِ خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا»قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ، إِذْ صَاحَ الْمُشْرِكُونَ: يَوْمٌ بِيَوْمٍ، لَنَا الْعُزَّى ولا عزى لكم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ [وَقَدْ تَقَدَّمَ «2»." وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ" أَيْ لَا ينصرهم أحد من الله.[سورة محمد (47): آية 12]إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)__________(1). البيت من معلقة لبيد. ويروى" فعدت" بالعين المهملة. أخبر أنها (أي البقرة) خائفة من كلا جانبيها من خلفها وأمامها. والفرج: الواسع من الأرض. والفرج: الثغر المخوف، وهو موضع المخافة.(2). راجع ص 230 من هذا الجزء. [ ..... ](16/234)وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ" وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ" فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُمْ أَنْعَامٌ، لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا بُطُونَهُمْ وَفُرُوجَهُمْ، سَاهُونَ عَمَّا فِي غَدِهِمْ. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا يَتَزَوَّدُ، وَالْمُنَافِقُ يَتَزَيَّنُ، وَالْكَافِرُ يَتَمَتَّعُ." وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ" أَيْ مَقَامٌ ومنزل.[سورة محمد (47): آية 13]وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ في" كأين" في (آل عمران) «1». وهي ها هنا بِمَعْنَى كَمْ، أَيْ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ قَوْلَ لَبِيدٍ:وَكَائِنْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ وَسُوقَةٍ ... وَمِفْتَاحِ قَيْدٍ لِلْأَسِيرِ الْمُكَبَّلِفَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ." هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ" أَيْ أَخْرَجَكَ أَهْلُهَا." فَلا ناصِرَ لَهُمْ" قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا خَرَجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْغَارِ الْتَفَتَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ:] اللَّهُمَّ أَنْتِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ وَأَنْتِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَيَّ وَلَوْلَا الْمُشْرِكُونَ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي لَمَا خَرَجْتُ مِنْكِ [. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ «2»، ذَكَرَهُ الثعلبي، وهو حديث صحيح.[سورة محمد (47): آية 14]أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ" الْأَلِفُ أَلِفُ تَقْرِيرٍ. وَمَعْنَى" عَلى بَيِّنَةٍ" أَيْ عَلَى ثَبَاتٍ وَيَقِينٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. أَبُو الْعَالِيَةِ: وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْبَيِّنَةُ: الْوَحْيُ." كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" أَيْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ وَالْكُفَّارُ.__________(1). راجع ج 4 ص 228(2). ساقط من ك.(16/235)مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)" وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ" أَيْ مَا اشْتَهَوْا. وَهَذَا التَّزْيِينُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ خَلْقًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ دُعَاءٌ وَوَسْوَسَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكَافِرِ، أَيْ زَيَّنَ لِنَفْسِهِ سُوءَ عَمَلِهِ وَأَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ" سُوءُ" عَلَى لَفْظِ" من"" وَاتَّبَعُوا" على معناه.[سورة محمد (47): آية 15]مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)قَوْلُهُ تَعَالَى:" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ" لَمَّا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ" [الحج: 14] وَصَفَ تِلْكَ الْجَنَّاتِ، أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُتَّقِينَ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي" الرَّعْدِ" «1». وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ" مِثَالُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ"." فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ" أَيْ غَيْرَ مُتَغَيِّرِ الرَّائِحَةِ. وَالْآسِنُ مِنَ الْمَاءِ مِثْلُ الْآجِنِ. وَقَدْ أَسَنَ الماء يأسن ويأسن] أسنا و [أسونا إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ. وَكَذَلِكَ أَجَنَ الْمَاءُ يَأْجُنُ وَيَأْجِنُ أَجْنًا وَأُجُونًا. وَيُقَالُ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا: أَجِنَ وَأَسِنَ يَأْسَنُ وَيَأْجَنُ أَسْنًا وَأَجْنًا، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ. وَأَسِنَ الرَّجُلُ أَيْضًا يَأْسَنُ (بِالْكَسْرِ «2» لَا غَيْرَ) إِذَا دَخَلَ الْبِئْرَ فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ مِنْ رِيحِ الْبِئْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَغُشِيَ عَلَيْهِ أَوْ دَارَ رَأْسُهُ، قَالَ زُهَيْرٌ:قَدْ أَتْرُكُ «3» الْقَرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... يَمِيدُ فِي الرُّمْحِ مَيْدَ الْمَائِحِ الْأَسِنْوَيُرْوَى" الْوَسِنِ". وَتَأَسَّنَ الْمَاءُ تَغَيَّرَ. أَبُو زَيْدٍ: تَأَسَّنَ عَلَيَّ تَأَسُّنًا اعْتَلَّ وَأَبْطَأَ. أَبُو عَمْرٍو: تَأَسَّنَ الرَّجُلُ أَبَاهُ أَخَذَ أَخْلَاقَهُ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: إِذَا نَزَعَ إِلَيْهِ فِي الشَّبَهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" آسِنٍ" بِالْمَدِّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحُمَيْدٌ" أَسِنَ" بِالْقَصْرِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلُ حَاذِرٍ وَحَذِرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَسِنَ لِلْحَالِ، وَآسِنٌ (مِثْلُ فاعل) يراد به الاستقبال."__________(1). راجع ج 9 ص (324)(2). أي في الماضي.(3). وفية رواية أخرى:" يغادر القرن".(16/236)