تفسير الثعالبي الجواهر الحسان في تفسير القرآن 09

عدد الزوار 255 التاريخ 15/08/2020

 
تفسير سورة الكهف
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مكّيّة في قول جميع المفسّرين، وروي عن قتادة أنّ أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: جُرُزاً والأول أصحّ، وهي من أفضل سور القرآن «1» ، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السّموات والأرض، ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا: أيّ سورة هي، يا رسول الله؟ قال: سورة الكهف، من قرأ بها يوم الجمعة، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى، وزيادة ثلاثة أيّام» «2» وفي رواية أنس: «من قرأ بها، أعطي نورا بين السّماء والأرض، ووقي بها فتنة القبر» .
ت: وعن البراء بن عازب، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فقال: «تلك السّكينة نزلت بالقرآن» »
رواه البخاريّ، واللفظ له، ومسلم والترمذيّ والنسائيّ، والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير، وفي الحديث الصحيح من طريق النّوّاس بن سمعان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فمن أدرك الدّجّال منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ... » وذكر الحديث. رواه مسلم «4» وغيره، زاد أبو داود:
«فإنّها جوازكم من فتنته» . وعن أبي الدرداء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ عشر آيات من أوّل سورة الكهف، عصم من الدّجّال» «5» رواه مسلم وأبو داود والترمذيّ/ والنسائي، واللفظ
__________
(1) ذكره ابن عطية (3/ 494) .
(2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (4/ 379) ، وعزاه إلى ابن مردويه، عن عائشة. [.....]
(3) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.
(4) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.
(5) أخرجه مسلم (1/ 555) كتاب «صلاة المسافرين» باب: فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، حديث (257/ 809) ، وأبو داود (2/ 520) كتاب «الملاحم» باب: في ذكر خروج الدجال، حديث (4323) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم: (951) ، وأحمد (5/ 196) ، (6/ 449) ، والحاكم (2/ 368) ، وابن حبان (785- 786) ، والبيهقي (3/ 249) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 25- بتحقيقنا) من حديث أبي الدرداء.
(3/505)
1
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
لمسلم، وفي رواية لمسلم وأبي داود: «من آخر الكهف» ، وعن أبي سعيد الخدريّ، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، كانت له نورا من مقامه إلى مكّة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها، فخرج الدّجّال، لم يسلّط عليه «1» رواه الترمذيّ والحاكم في «المستدرك» والنسائيّ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وله في رواية: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النّور ما بين الجمعتين» «2» ، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه الدّارميّ في مسنده موقوفا ورواته «3» متّفق على الاحتجاج بهم إلا أبا هاشم يحيى بن دينار الرّمّاني وقد وثّقه أحمد ويحيى وأبو زرعة وأبو حاتم. انتهى من «السلاح» .
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ كان حفْصٌ عن عاصم «4» يَسْكُتُ عند قوله: عِوَجاً سكتةً خفيفة، وعند مَرْقَدِنا في يس [يس: 52] وسبب هذه البداءة في هذه السورة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما سألته قريشٌ عن المسائِلِ الثَّلاثِ: الرُّوحِ، وأصحابِ الكهف، وذِي القَرْنَيْنِ، حسب ما أمرتهم به يهود- قال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «غَداً أُخْبِرُكُمْ بِجَوَابِ مَا سَأَلْتُمْ» ولم يقلْ: إِن شاء اللَّه، فعاتَبَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمسك عنه الوحْيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً، وأرجف به كُفَّار قريشٍ، وشَقَّ ذلك على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وبلَغَ منه، فلما انقضى الأمَدُ الذي أراد اللَّهُ عِتَابَ نبيِّه، جاءه الوحْيُ بجوابِ ما سألوه، وغير ذلك، فافتتح الوحْي ب الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ، وهو القرآن.
وقوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، أي: لم ينزله عن طريق الاستقامة، «والعِوَج» فَقُدُ الاستقامة، ومعنى قَيِّماً، أي: مستقيماً قاله ابن «5» عباس وغيره، وقيل: معناه أنه قيّم
__________
(1) أخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم: (952، 954) ، والحاكم (2/ 368) ، والبيهقي (3/ 249) ، عن أبي سعيد مرفوعا، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وأخرجه الدارمي (2/ 454) عن أبي سعيد موقوفا.
(2) أخرجه الحاكم (2/ 368) .
(3) ينظر: «سنن الدارمي» (2/ 454) .
(4) ينظر: «العنوان» (122) ، و «شرح الطيبة» (5/ 3) ، و «شرح شعلة» (468) ، و «إتحاف» (2/ 208) .
(5) ذكره الطبري (8/ 173- 174) ، وابن عطية (3/ 495) ، والبغوي (3/ 144) ، بلفظ عدلا، والسيوطي
(3/506)
1
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
على سائر الكتب بتصديقها، ولم يرتضه ع «1» ، قال: ويصح أن يكون معنى «قيِّم» قيامَهُ بأمر اللَّه على العَالَمِ وهذا معنى يؤيِّده ما بعْده من النِّذارة والبشارة اللتَيْن عمتا العالَمَ، «والبأس الشديد» عذاب الآخرة، ويحتملُ أنْ يندرج معه في النِّذارة عذابُ الدنيا ببَدْرٍ وغيرها، «ومِنْ لَدُنْهُ» ، أي: من عنده، والمعنى: لينذر العالَمَ و «الأجر الحسن» نعيمُ الجنة، ويتقدَّمه خير الدنيا.
وقوله تعالى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً، أي: ما يقولون، فهي النافية.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 6 الى 8]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)
وقوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ هذه الآية تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والباخِعُ نَفْسَه هو مهلكها.
قال ص: «لعلَّ» للترجِّي في المحبوب، وللإِشفاق في المحذور، وهي هنا للإِشفاق. انتهى.
وقوله: عَلى آثارِهِمْ: استعارة فصيحةٌ من حيثُ لهم إِدبارٌ وتباعُدٌ عن الإِيمان فكأنهم من فرط إِدبارهم قَدْ بَعُدُوا، فهو في آثارهم يحزَنُ عليهم.
وقوله: بِهذَا/ الْحَدِيثِ، أي: بالقرآن، «والأسف» المبالغة في حزنٍ أو غضبٍ، وهو في هذا الموضع الحزنُ لأنه على مَنْ لا يملك، ولا هو تحت يدِ الآسِفِ، ولو كان الأَسَفُ من مقتدرٍ على من هو في قبضته ومِلْكه، لكان غضباً، كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: 55] أي: أغضبونا. قال قتادة: أَسَفاً: حُزْناً «2» .
وقوله سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ... الآية: بسط في التسلية، أي: لا تهتمَّ بالدنيا وأهلها، فإن أمرها وأمرهم أقلُّ لفناء ذلك وذهابه، فإِنا إِنما جعلنا ما على الأرض زينةً وامتحاناً واختباراً، وفي معنى هذه الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الدّنيا حلوة خضرة،
__________
- (4/ 381- 382) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق علي.
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 495) .
(2) أخرجه الطبري (8/ 177- 178) برقم: (22873) ، وذكره ابن عطية (3/ 496) ، وابن كثير (3/ 72) ، والسيوطي (4/ 382) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3/507)
1
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيا واتقوا النِّسَاءَ» «1» لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنختبرهم، وفي هذا وعيدٌ مَّا.
قال سفيانُ الثَّوْريُّ: أحسنهم عملاً: أزهدهم فيها «2» ، وقال أبو عاصم العَسْقَلاَنِيُّ:
أَحْسَنُ عَمَلًا. الترك لها «3» .
قال ع «4» : وكان أبي رحمه اللَّه يقولُ: أحسن العَمَلِ: أخْذٌ بحقٍّ، وإِنفاقٌ في حقٍّ، وأداء الفرائض، واجتناب المحارِمِ، والإِكثار من المندوب إِليه.
وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي: يرجع ذلك كُّله تراباً، «والجُرُز» : الأرض التي لا شيء فيها مِنْ عمارةٍ وزينةٍ، فهي البَلْقَعُ، وهذه حالة الأرض العَامِرَةِ لا بُدَّ لها من هذا في الدنيا جزءاً جزءاً من الأرض، ثم يعمُّها ذلك بأجمعها عند القيامة، و «الصعيدُ» وجْه الأرض، وقيل: «الصّعيد» : التراب خاصّة.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 10]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)
وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً، أي:
ليسوا بعجب من آياتِ اللَّهِ، أي: فلا يَعْظُمْ ذلك عليك بحسب ما عَظَّمه السائلون، فإِن سائر آيات اللَّه أعظَمُ من قصتهم، وهو قول ابن عباس «5» وغيره، واختلف الناس في الرَّقِيمِ ما هو؟ اختلافاً كثيراً، فقيل: «الرقيم» كتابٌ في لوحِ نُحَاسٍ، وقيل: في لوحِ رَصَاصٍ، وقيل: في لوحِ حجارةٍ كتبوا فيه قصَّة أهْل الكهفِ، وقيل غير هذا، وروي عن ابن عباس
__________
(1) أخرجه مسلم (4/ 2098) كتاب «الرقائق» باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، حديث (99/ 2742) ، والترمذي (4/ 483) كتاب «الفتن» باب: ما جاء ما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، حديث (2191) ، وابن ماجه (2/ 1325) كتاب «الفتن» باب: فتنة النساء، حديث (4000) ، وأحمد (3/ 19، 22، 46) ، وأبو يعلى (2/ 352- 353) برقم: (1101) ، وابن حبان (3221) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) ذكره ابن عطية (3/ 497) ، والسيوطي (4/ 383) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (8/ 178) برقم: (22878) ، وذكره ابن عطية (3/ 497) . [.....]
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 497) .
(5) أخرجه الطبري (8/ 180) برقم: (22890) بنحوه، وذكره ابن كثير (3/ 73) ، والسيوطي (4/ 384) بنحوه، وعزاه لابن أبي حاتم.
(3/508)
1
أنه قال: ما أدْرِي مَا الرَّقِيم «1» ؟
قال ع «2» : ويظهر من هذه الرواياتِ أنهم كانوا قوماً مؤَرِّخين، وذلك مِنْ نُبْل المملكة، وهو أمر مفيدٌ.
وقوله سبحانه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ: الْفِتْيَةُ، فيما روي قوم من أبناء أشرافِ مدينةِ دِقْيُوس المَلِكِ الكافِرِ، ويقال فيه «دقيانوس» ، وروي أنهم كانوا مُطَوَّقين مسَوَّرين بالذهب، وهم من الروم، واتبعوا دينَ عيسَى، وقيل: كانوا قبل عيسَى، واختلف الرواةُ في قصصهم، ونذْكُر من الخلافِ عُيُونَه، وما لا تستغني الآية عنه: فروي عن مجاهدٍ عن ابن عباس، أن هؤلاء الفتية كانوا في دينِ مَلِكٍ يعبد الأصنام «3» ، فوقَع للفتيةِ عِلْمٌ من بعض الحواريِّين، حَسْبما ذكره النَّقَّاش، أو من مؤمني الأمم قبلهم، فآمنوا باللَّه، ورأَوا ببصائرهم قَبِيحَ فعْل الناس، فرفع أمرهم إِلى المَلِك، فاستحضَرَهُمْ، وأمرهم بالرجُوعِ إِلى دينه، فقالوا/ له فيما روي: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... [الكهف: 14] الآية، فقال لهم الملك: إِنَّكُمْ شُبَّانٌ أغْمَارٌ، لا عَقْل لكم، وأَنا لا أعْجَلُ عليكم، وضَرَبَ لهم أجلاً ثم سافر خِلاَلَ الأجَلِ، فتشاور الفتْيَةُ في الهروبِ بأديانهم، فقال لهم أحَدُهم: إِني أعْرِفُ كهْفاً في جَبَلِ كذا، فلنذهب إِليه.
وروت فرقةٌ إنَّ أمر أصحاب الكهْف إنما كان أنهم من أبناء الأشْرَافِ، فحضر عيدٌ لأهْلِ المدينة، فرأى الفتْيَةُ ما ينتحله الناسُ في ذلك العِيدِ من الكُفْرِ وعبَادة الأصنام، فوقع الإِيمانُ في قلوبهم، وأجمعوا على مفارقة دِينِ الكَفَرة، وروي أنهم خَرَجُوا، وهُمْ يلعبون بالصَّوْلَجَانِ والكَرة، وهم يدحرجونها إِلى نحو طريقهم لئلاَّ يشعر الناس بهم حتى وصلوا إِلى الكهف، وأما الكلب فرِوِيَ أنه كان كَلْبَ صيدٍ لبعضهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم رَاعياً له كلْبٌ، فاتبعهم الراعي على رأيهم، وذهب الكلْبُ معهم، فدخلوا الغَارَ، فروت فرقة أن اللَّه سبحانه ضَرَبَ على آذانهم عند ذلك، لما أراد مِنْ سَتْرهم وخَفِيَ على أهْل المملكة مكانُهم، وعَجِبَ الناسُ من غَرَابة فَقْدهم، فأرَّخوا ذلك ورقَّموه في لوحَيْنِ من رصاصٍ أو نحاسٍ، وجعلوه على باب المدينةِ، وقيل على الرواية: إن الملك بنى باب
__________
(1) أخرجه الطبري (8/ 182) برقم: (22905) ، وذكره ابن عطية (3/ 498) ، وابن كثير (3/ 73) ، والسيوطي (4/ 384) ، وعزاه لابن جرير من طريق ابن جريج.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 497- 498) .
(3) ذكره ابن عطية (3/ 498) .
(3/509)
1
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
الغار، وإِنهم دفنوا ذلك في بِنَاءِ الملِك على الغار، وروت فرقة، أن المَلِك لما علم بذَهَاب الفتية، أَمَرَ بقَصِّ آثارهم إِلى باب الغار، وأمر بالدخول عليهم، فهَابَ الرجالُ ذلك، فقال له بعضُ وزرائه: «أَلَسْتَ أيها المَلِكُ إِن أخرجتَهم قتلَتهم؟ قال: نعم، قال: فأيُّ قِتْلة أبلغُ من الجُوع والعَطَش، ابن عليهم باب الغارِ، ودعْهم يموتوا فيه، ففعل، وقد ضَرَبَ اللَّه على آذانهم كما تقدَّم، ثم أخبر اللَّه سبحانه عن الفتْيَة أنهم لما أَوَوْا إِلى الكَهْف، أي: دخلوه وجعلوه مأوًى لهم وموضعَ اعتصام دَعَوُا اللَّه تعالى بأن يؤتيهم من عنده رحمةً، وهي الرْزقُ فيما ذكره المفسِّرون، وأن يهيِّىء لهم من أمرهم رَشَدَاً خلاصاً جميلاً، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم، وألفاظهم تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقةٍ من رَشَدِ الآخرة ورحمتها، وينبغي لكُلِّ مؤمن أنْ يجعَلَ دعاءه في أمر دنياه بهذه الآية الكريمة فقطْ فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 11 الى 13]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13)
وقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ... الآية: عبارةٌ عن إلقاء اللَّه تعالى النَوْمَ عليهم.
وقوله: عَدَداً نعت ل «السنين» والقصد به العبارة عن التكثير.
وقوله: لِنَعْلَمَ: عبارة عن خروج ذلك الشيءِ إِلى الوجود، أي: لنعلم ذلك موجوداً وإِلا فقد كان سبحانه علم أيَّ الحزبَيْن أحْصَى الأمَدَ، و «الحْزَبان» : الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية، إِذ ظنوا لبثهم قليلاً، والحزب الثاني هم أهْل المدينة الذين بعث الفتية على/ عَهْدهم حين كان عنْدَهم التاريخُ بأمْر الفتية، وهذا قولُ الجمهور من المفسِّرين، وأما قوله: أَحْصى فالظاهر الجيد فيه أنّه فعل ماض، وأَمَداً منصوبٌ به على المفعول، «والأمد» : الغاية، ويأتي عبارةً عن المدَّة، وقال الزَّجَّاج:
أَحْصى هو «أفْعَل» ، ويعترض بأن «أَفْعَل» لا يكون من فعل رباعيّ إلا في «1» الشاذّ،
__________
(1) يجوز فيه وجهان:
«أحدهما» : أنه أفعل تفضيل، وهو خبر ل «أيّهم» ، و «أيّهم» استفهامية، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها.
ولِما لَبِثُوا حال من «أمدا» ، لأنه لو تأخر عنه، لكان نعتا له، ويجوز أن تكون اللام على بابها من العلة، أي: لأجل، قاله أبو البقاء، ويجوز أن تكون زائدة، و «ما» مفعوله إما ب «أحصى» على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإضمار فعل، و «أمدا» مفعول «لبثوا» أو منصوب بفعل مقدّر يدلّ عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك.
(3/510)
1
وأَحْصى: فعلٌ رباعيٌّ ويحتجُّ لقول الزَّجَّاج بأن «أفْعَل» من الرباعيّ قد كثر كقولك: ما
__________
«والوجه الثاني» : أن يكون «أحصى» فعلا ماضيا. و «أمدا» مفعوله، و «لما لبثوا» متعلق به، أو حال من «أمدا» واللام فيه مزيدة، وعلى هذا ف «أمدا» منصوب ب «لبثوا» ، و «ما» مصدرية، أو بمعنى الذي، واختار الأول أعني كون «أحصى» للتفضيل الزجاج، والتبريزي، واختار الثاني أبو علي، والزمخشري، وابن عطية، قال الزمخشري: فإن قلت فما تقول فيمن جعله أفعل تفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس، نحو: «أعدى من الجرب» . و «أفلس من ابن المذلّق» شاذ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع، فكيف به؟ ولأن «أمدا» إما أن ينتصب بأفعل وأفعل لا يعمل، وإما أن ينتصب ب «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بفعل مضمر، كما أضمر في قوله:
.......... وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا فقد أبعدت عن المتناول، حيث أردت أن يكون فعلا، ثم رجعت مضطرا إليه، وناقشه الشيخ، فقال: أما دعواه أنه شاذ، فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أن أفعل فيه ثلاثة مذاهب: الجائز مطلقا، ويعزى لسيبويه. والمنع مطلقا، وهو مذهب الفارسي. والتفصيل بين أن تكون همزته للتعدية فيمتنع، وبين أن لا تكون، فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية، وأما قوله: أفعل لا يعمل فليس بصحيح، لأنه لا يعمل في التمييز، و «أمدا» تمييز لا مفعولا به كما تقول: زيدا أقطع النّاس سيفا، وزيدا أقطع للهام سيفا.
«قلت: الذي أحوج الزمخشري إلى عدم جعله تمييزا مع ظهوره في بادىء الرّأي عدم صحة معناه، وذلك أنّ التمييز شرطه في هذا الباب أن يصح نسبة ذلك الوصف الذي قبله إليه، ويتصف به، ألا ترى إلى مثاله في قوله: «زيدا أقطع النّاس سيفا» كيف يصح أن يسند إليه، فيقال: «زيد أقطع سيفه، وسيفه قاطع» إلى غير ذلك، وهنا ليس الإحصاء من صفة «الأمد» ولا يصح نسبته إليه، وإنما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق، وكان الشيخ نقل عن أبي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله «أحصى» أفعل تفضيل، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماض قال أبو البقاء: في «أحصى» وجهان:
«أحدهما» : هو فعل ماض، و «أمدا» مفعول «لبثوا» . وهو خطأ، وإنما الوجه أن يكون تمييزا، والتقدير:
لما لبثوه.
«الوجه الثاني» : هو اسم، و «أمدا» منصوب بفعل دلّ عليه الاسم، فهذا تصريح بأن «أمدا» حال جعله «أحصى» اسما ليس تمييزا، بل مفعولا به بفعل مقدّر، وأنه جعله تمييزا عن «لبثوا» .
ثم قال الشيخ: «وأما قوله: وأما أن ينصب ب «لبثوا» فلا يسد عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديدا، وقد ذهب الطبري إلى أنه منصوب ب «لبثوا» . قال ابن عطية: وهو غير متّجه انتهى، وقد يتجه، وذلك أنّ الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدّة، من حيث إنّ المدة غاية في أمد المدة على الحقيقة، و «ما» بمعنى الذي و «أمدا» منصوب على إسقاط الحرف، وتقديره: لما لبثوا من أمد، أي: من مدة، ويصير «من أمد» تفسيرا لما أبهم من لفظ «ما» ، كقوله: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ- ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، ولمّا سقط الحرف، وصل إليه الفعل. قلت: يكفيه أن مثل ابن عطية جعله غير متجه، وعلى تقدير ذلك، فلا نسلم أنّ الطبري عنى نصبه ب «لبثوا» ، مفعولا به، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزا، كما قاله أبو البقاء، ثم قال: وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره، فتقول: لا نحتاج إلى ذلك، لأن لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين، في أنه ينصب القوانس بنفس «اضرب» ، ولذلك جعل بعض النحاة أنّ «أعلم»
(3/511)
1
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
أعطاه للمال، وكقوله عليه الصلاة والسلام في صفة جهنَّمِ: «أَسْود مِنَ القَارِ» وفي صفة حوضِهِ «أَبْيَض مِنَ اللَّبَنِ» «1» .
ت: وقد تقَّدم أن «أسْوَد» من «سود» ، وما في ذلك من النقْدِ، وقال مجاهدٌ:
أَمَداً معناه عدداً «2» ، وهذا تفسيرٌ بالمعنى.
وقوله سبحانه: وَزِدْناهُمْ هُدىً، أي: يسَّرناهم للعمل الصالحِ، والانقطاع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، ومباعدةِ الناسِ، والزهْدِ في الدنيا، وهذه زيادات على الإيمان.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 14 الى 16]
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16)
وقوله سبحانه: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ: عبارة عن شدَّةِ عزمٍ، وقوةِ صبرٍ، ولما كان الفَزَعُ وخَوَرُ النفس يشبه بالتناسُب الانحلالَ، حَسُنَ في شدَّة النفْس، وقوَّة التصميمِ أنْ يُشْبِه الربْطُ، ومِنْه يقالُ: فلانٌ رَابِطُ الجأشَ إِذا كان لا تَفْرَقُ نفسه عند الفَزَعَ والحروبِ وغيرها، ومنْه الربْطُ على قَلْب أمِّ موسى.
وقوله تعالى: إِذا قامُوا
يحتمل أنْ يكون وصف قيامهم بين يَدَيِ الملك الكافِرِ، فإِنَّه مَقَامٌ يحتاج إلى الربْطِ على القَلْب، ويحتمل أن يعبر بالقيام على انبعاثهم بالعزم على
__________
ناصب ل «من» في قوله: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ، وذلك لأنّ أفعل مضمرة لمعنى المصدر، إذ التقدير: يريد ضربنا القوانس على ضرب غيرنا» . قلت: هذا مرجوح، وأفعل التفضيل ضعيف، وإذا جعلنا «أحصى» اسما فجوّز الشيخ في «أيّ» أن تكون الموصولة، و «أحصى» خبر لمبتدأ محذوف، هو عائدها، وأنّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه، لوجود شرط البناء، وهو إضافتها لفظا، وحذف صدر صلتها. وهذا إنما يكون على جعل العلم، بمعنى العرفان، لأنه ليس في الكلام إلّا مفعول واحد، وتقدير آخر لا حاجة إليه، إلّا أنّ إسناد «علم» بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالا، تقدم تحريره في الأنفال وغيرها. وإذا جعلناه فعلا امتنع أن تكون موصولة، إذ لا حاجة لبنائها حينئذ وهو حسن.
ينظر: «الدر المصون» (4/ 437- 438) .
(1) أخرجه البخاري (11/ 474) كتاب «الرقاق» باب: الحوض، حديث (6581) ، والترمذي (5/ 419) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الكوثر، حديث (3360) ، من حديث أنس بن مالك.
(2) أخرجه الطبري (8/ 188) برقم: (22917) ، وذكره ابن عطية (3/ 500) ، والبغوي (3/ 153) ، والسيوطي (4/ 389) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3/512)
1
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
الهُرُوب إلى اللَّه ومنابذة النَّاس كما تقول: قَامَ فُلاَنٌ إِلى أمْرِ كذا إذا اعتزم عليه بغايةِ الجِدِّ، وبهذه الألفاظ التي هي: قامُوا فَقالُوا، تعلَّقتِ الصوفيَّة في القيامِ والقَوْل، «والشَّطَط» : الجَوْر وتعدِّي الحدِّ والحقِّ بِحَسَبِ أَمْرٍ أَمْرٍ، و «السلطان» : الحجة، وقال قتادة: المعنى بعذرٍ «1» بيِّن، ثم عظموا جرم الداعين مع اللَّه غيره، وظُلُمَهم بقولهم: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وقولهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ... الآية: المعنى قال بعضهم لبعضٍ، وبهذا يترجَّح أن قوله تعالى: إِذْ قامُوا فَقالُوا إنما المراد به إِذ عزموا ونَفَذُوا لأمْرهم، وفي مصحف ابن مسعود: «ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ، ومضمَّن هذه الآية الكريمة أن بعضهم قال لبعض: إِذ قد فارَقْنَا الكفَّار، وانفردْنا باللَّه تعالى، فلنجعل الكَهْفَ مأوًى، ونَّتكل على اللَّهِ تعالى، فإنه سيبسُطُ علينا رحمته، وينشرها علينا ويهيِّىءُ لنا من أمرنا مرفقاً، وهذا كله دعاءٌ بحَسَب الدنيا، وهم على ثِقَة من اللَّه في أمر آخرتهم، وقرأ نافع وغيره: «مَرْفِقاً» بفتح الميم وكسر الفاء، وقرأ حمزة وغيره بكسر الميم وفتح الفاء، ويقالان معاً في الأمر، وفي الجارحة، حكاه الزَّجَّاج «2» .
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 18]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
وقوله سبحانه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وتَتَزاوَرُ، أي: تميل، وتَقْرِضُهُمْ معناه/ تتركهم، والمعنى: أنهم كانوا لا تصيبهم شمْسٌ البتة، وهو قول ابن عباس «3» ، وحكى الزَّجَّاج «4» وغيره، قال: كان بابُ الكَهْف ينْظُرُ إِلى بناتِ نَعْشٍ، وذهب الزَّجَّاج «5» إِلى أن فعْلَ الشمس كان آيةً من اللَّه تعالى دون أنْ يكون باب الكهْفِ إِلى جهة توجِبُ ذلك، وال فَجْوَةٍ: المتَّسِعَ، قال قتادة: في فضاء منه ومنه الحديث: «فَإِذَا وَجَدَ فجوة نصّ» «6» .
__________
(1) أخرجه الطبري (8/ 190) برقم: (22923) ، وذكره ابن عطية (3/ 501) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 502) .
(3) أخرجه الطبري (8/ 192) برقم: (22926- 22927) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 503) ، وابن كثير (3/ 75) بنحوه، والسيوطي (4/ 391) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4) أخرجه ابن عطية (3/ 503) ، والزجاج (3/ 273) ، والبغوي (3/ 154) . [.....]
(5) أخرجه ابن عطية (3/ 503) ، والزجاج (3/ 274) .
(6) أخرجه الطبري (8/ 193) ، برقم (22939) ، وذكره ابن عطية (3/ 503) .
(3/513)
1
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
وقوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإِشارة إلى الأمر بجملته.
وقوله سبحانه: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ ... الآية: ذكر بعض المفسِّرين أن تقليبهم إِنما كان حفظاً من الأرض، وروي عن ابن عبَّاس، أنه قال لو مَسَّتهم الشمْسُ، لأحرقتهم، ولولا التقليبُ، لأكلتهم «1» الأرض، وظاهر كلام المفسِّرين أن التقليب كان بأمر اللَّه وفعْلِ ملائكته، ويحتمل أنْ يكون ذلك بإِقدار اللَّه إِياهم على ذلك، وهم في غَمْرة النَّوْم.
وقوله: وَكَلْبُهُمْ: أكثر المفسِّرين على أنه كَلْبٌ حقيقة.
قال ع «2» : وحدثني أَبِي رحمه الله قال: سَمِعْتُ أبا الفضل بن الجَوْهَرِيِّ في جامِعِ مِصْرَ يقُولُ على منبر وعْظِهِ سنَةَ تسْعٍ وستِّينَ وأربعمائةٍ: مَنْ أحَبَّ أهْلَ الخير، نال مِنْ بركتهم، كَلْبٌ أحبَّ أهْل الفضل، وصَحبهم، فَذَكَره اللَّه في مُحْكَم تنزيله.
و «الوَصِيدُ» العَتَبة التي لباب الكهْفِ أو موضعها إِن لم تكنْ، وقال ابن عباس:
«الوصيد» »
الباب والأول أصحُّ، والباب المُوَصَدُ هو المُغْلَق، ثم ذكر سبحانه ما حفَّهم به من الرُّعْب، واكتنفهم من الهَيْبة، حْفظاً منه سبحانه لهم، فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ...
الآية.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 21]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ الإِشارة ب «ذلك» إلى الأمر الذي ذكَره اللَّه في جِهَتِهِمْ، والعبرة التي فعلها فيهم، «والبَعْث» : التحريك عن سكونٍ، واللام في قوله: لِيَتَسائَلُوا لام الصيرورة، وقول القائلِ: كَمْ لَبِثْتُمْ يقتضى أنه هجس في خاطره
__________
(1) أخرجه الطبري (8/ 194) برقم: (22944) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 504) ، وابن كثير (3/ 76) بنحوه.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 504) .
(3) أخرجه الطبري (8/ 195) برقم: (22955) ، وذكره ابن عطية (3/ 504) ، والبغوي (3/ 154) ، وابن كثير (3/ 76) ، والسيوطي (4/ 392) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(3/514)
1
طُولُ نومهم، واستشعر أنَّ أمرهم خَرَجَ عن العادة بعضَ الخروجِ، وظاهر أمرهم أنهم انتبهوا في حالٍ منَ الوَقْت، والهواء الزمانيُّ لا يباين الحالة التي ناموا عليها، وقولهم:
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ يروى أنهم انتبهوا، وهُمْ جيَاعٌ، وأنَّ المبعوثَ هو تَمْلِيخَا، وروي أن باب الكهف انهدَمَ بناءُ الكفَّار منه لطول السنين، ويروى أن راعياً هدمه ليدخل فيه غنمه، فأخذ تمليخا ثياباً رثَّةً منْكَرة ولبسها، وخرَجَ من الكهف، فأنكر ذلك البِنَاءَ المهدُومَ إذ لم يعرفه بالأمْسِ، ثم مَشى، فجعل يُنْكِر الطريق والمعالمَ، ويتحيَّر وهو في ذلك لا يشعر شعوراً تامًّا، بل يكذِّب ظنه فيما تغيَّر عنده حتى بَلَغَ بابَ المدينة، فرأى على بابها أمَارة الإِسلام، فزادَتْ حَيْرَتُه، وقال: كيف هَذَا بِبَلد دقْيُوس، وبالأمْسِ كنا معه تَحْتَ ما كنا، فنهض إلى بابٍ آخر، فرأى نحواً من ذلك حتى مشَى الأبوابَ كلَّها، فزادَتْ حيرته، ولم يميِّز بشراً، وسمع الناس يُقْسِمُون باسم عيسى، فاستراب بنَفْسه، وظنَّ أنه جُنَّ، أو انفسد عقله، فبقي حَيْرَان يدعو اللَّه تعالى، ثم نهض إِلى باب الطعام الذي أراد/ اشتراءه، فقال: يا عبد اللَّه، بِعْنِي من طعامك بهذه الوَرِقِ، فدفع إِليه دَرَاهِمَ، كأخْفَافِ الربع فيما ذُكِرَ، فعجب لها البائعُ ودَفَعَهَا إلى آخر يُعَجِّبُهُ، وتعاطَاهَا النَّاسُ، وقالوا له: هذه دراهِمُ عَهْدِ فلانٍ المَلِكِ، مِنْ أيْن أنْتَ؟ وكَيْفَ وجدتَّ هذا الكَنْزَ، فجعل يبهت ويعجَبُ، وقد كان بالبلد مشهوراً هو وبَيْتُهُ، فقال: ما أعرفُ غير أنِّي وأصْحَابي خَرَجْنا بالأمْس من هذه المدينةِ، فقال النَّاس: هذا مجنونٌ، اذهبوا به إِلى المَلِكِ، ففزِعَ عند ذلك، فَذُهِبَ به حتى جيءَ به إلى المَلِكِ، فلما لم يَرَ دْقيُوس الكافِرَ، تأنَّس، وكان ذلك المَلِكُ مؤمناً فاضلاً يسمَّى تبدوسِيس، فقال له المَلِكُ: أين وجدت هذا الكَنْز؟ فقال له: إِنما خرجْتُ أنا وأصْحَابي أمْس من هذه المدينة، فأوينا إِلى الكَهْف الذي في جَبَل أنجلوس، فلما سمع المَلِكُ ذلك، قال في بعض ما رُوِيَ: لعلَّ اللَّه قَدْ بعث لكُمْ أيُّها الناس آيَةً فَلْنَسِرْ إِلى الكهف، حتى نرى أصحابه، فساروا، وروي أنه أو بعض جلسائه قال: هؤلاءِ هُمُ الفتيةُ الذين ورِّخَ أمرهم على عهد دقْيُوس المَلِك، وكتب على لُوح النُّحَاس بباب المدينةِ، فسار الملك إليهم، وسار الناس معه فلما انتهوا إلى الكهف، قال تَمْليَخا: أدخُلُ عليهم لئلا يرعبوا، فدخل عليهم، فأعلمهم بالأمْر، وأن الأمة أمَّة إِسْلام، فروي أنهم سُرُّوا وخَرَجُوا إلى الملك، وعظَّموه، وعظَّمهم، ثم رجَعُوا إلى الكهف، وأكثرُ الروايات على أنهم ماتُوا حين حدَّثهم تملِيخَا، فانتظرهم النَّاسُ، فلما أبطأ خروجُهم، دَخَل الناس إليهم، فرعبَ كلُّ من دخل، ثم أقدموا فوجَدُوهم موتى، فتنازعوا بحَسَب ما يأتى، وفي هذه القصص من الاختلاف ما تَضِيقُ به الصُحفُ فاختصرته، وذكرت المهم الذي به تتفسَّر ألفاظ الآيةِ، واعتمدتُّ الأصحَّ واللَّه المعينُ برحمته، وفي هذا البعث بالورق جواز الوكالة، وصحّتها.
(3/515)
1
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
وأَزْكى معناه: أكثر فيما ذكر عكرمة «1» ، وقال ابن جُبَيْر: المراد أحَلّ «2» ، وقولهم: يَرْجُمُوكُمْ قال الزجاج: بالحجارة، وهو الأصح وقال حَجَّاج: «يرجموكم» معناه: بالقول وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ: الإِشارة في قوله: وَكَذلِكَ إلى بعثهم ليتساءلوا، أي: كما بعثناهم، أعثرنا عليهم، والضمير في قوله: لِيَعْلَمُوا يحتمل أن يعود على الأمَّة المسلمة الذين بُعِثَ أهّل الكهف على عهدهم، وإلى هذا ذهب الطبريُّ «3» وذلك أنهم فيما روي دخلتهم حينئذٍ فتنةٌ في أمْرِ الحَشْر وبَعْثِ الأجساد من القبور، فشَكَّ في ذلك بعضُ الناس، واستبعدوه، وقالوا: إِنما تُحْشَر الأرواح، فشَقَّ ذلك على مَلِكهم، وبقي حَيرَان لا يَدْرِي كيف يبيِّن أمره لهم، حتى لَبَس المُسُوح، وقعد على الرَّمَادَّ وتضرَّع إلى اللَّه في حُجَّة وبيانٍ، فأعثرهم اللَّه على أَهْل الكهف، فلما/ بعثهم اللَّه، وتبيَّن الناس أمرهم سُرَّ الملِكُ، ورَجَعَ مَنْ كان شَكَّ في بعث الأجساد إلى اليقين به، وإلى هذا وقعت الإِشارة بقوله: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ على هذا التأويل، ويحتمل أن يعود الضميرُ في لِيَعْلَمُوا على أصحاب الكهف، وقوله: إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا التأويل: ابتداءُ خبرٍ عن القوم الذين بُعِثُوا على عهدهم، والتنازع على هذا التأويل إِنما هو في أمر البناء أو المسجد، لا في أمر القيامة، وقد قيل: والتنازع إِنما هو في أنْ اطلعوا عَليْهم، فقال بعضهم: هم أمواتٌ، وبعضٌ: هم أحياء، وروي أنَّ بعض القومِ ذهبوا إلى طمس الكَهْف عليهم، وترْكِهِم فيه مغيِّبين، فقالت الطائفة الغالبة على الأمر: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، فاتخذوه، قال قتادة: الَّذِينَ غَلَبُوا هم الولاة «4» .
 
[سورة الكهف (18) : آية 22]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
وقوله سبحانه: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ... الآية: الضميرُ في سَيَقُولُونَ يراد به أهْل التوراةِ من معاصري نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهْل الكهف.
__________
(1) أخرجه الطبري (8/ 203) برقم: (22961) ، وذكره ابن عطية (3/ 506) ، والبغوي (3/ 155) .
(2) أخرجه الطبري (8/ 203) برقم: (22963) ، وذكره ابن عطية (3/ 506) .
(3) ينظر: «الطبري» (8/ 204) .
(4) ذكره ابن عطية (3/ 507) ، والسيوطي (4/ 392) بنحوه، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم.
(3/516)
1
وقوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ: معناه ظَنًّا وهو مستعارٌ من الرجْمِ، كأن الإِنسان يرمي الموضع المُشْكِلَ المجهول عنده بظنه المرةَ بعد المَرَّة يرجُمُه به، عَسَى أن يصيبه، والواو في قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ: طريق النحاة فيها أنها واو عَطْفٍ دخلَتْ في آخر الكلام إخباراً عن عددهم، لتفصِّل أمرهم، وتدلَّ على أن هذا نهايةُ ما قيل، ولو سقطَتْ، لصح الكلام، وتقول فرقةٌ منهم ابنُ خالَوَيْهِ: هي «1» واو الثمَانِيَةِ، وذكر ذلك الثعلبيُّ عن أبي بكر بن عَيِّاشٍ وأن قريشاً كانت تقول في عددها: ستة، سبعة وثمانية تسعةٌ، فتدخل الواو في الثمانية «2» .
قال ع «3» : وهي في القرآن في قوله: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] وفي قوله: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] وأما قوله: وَأَبْكاراً [التحريم: 5] وقوله:
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الحاقة: 7] فليستْ بواو الثمانيةِ بل هي لازمة إِذ لا يستغني الكلامُ عنها، وقد أمر اللَّه سبحانه نبيَّه في هذه الآية، أنْ يرد علْمَ عدَّتهم إِليه، ثم قال: مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ يعني: مِنْ أهل الكتاب، وكان ابن عبَّاس يقولُ: أنا من ذلك القليل «4» ، وكانوا سبعة، وثامنهم كلبهم.
__________
(1) في هذه الواو أوجه:
«أحدها» : أنها عاطفة، عطفت هذه الجملة على جملة قوله: هم سبعة، فيكونون قد أخبروا بخبرين:
«أحدهما» : أنهم سبعة رجال على البت.
«والثاني» : أن ثامنهم كلبهم، وهذا يؤذن بأن جملة قوله: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ من المتنازعين فيهم.
«والثاني» : أن الواو للاستئناف، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك، قال هذا القائل. وجيء بالواو لتعطي انقطاع هذا مما قبله.
«الثالث» : أنها الواو الداخلة على الصفة تأكيدا، ودلالة على لصوق الصفة بالموصوف، وإليه ذهب الزمخشري، ونظره بقوله: مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ.
وردّ الشيخ عليه «بأنّ أحدا من النّحاة لم يقله» .
«الرابع» : أن هذه الواو تسمى واو الثمانية، وأنّ لغة قريش إذا عدوا يقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة. ذكر ذلك ابن خالويه، وأبو بكر راوي عاصم.
قلت: وقد قال ذلك بعضهم، في قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها في الزمر، فقال: دخلت في أبواب الجنة، لأنها ثمانية، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنم، لأنها سبعة.
ينظر: «الدر المصون» (4/ 445- 446) .
(2) ذكره ابن عطية (3/ 508) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 508) .
(4) أخرجه الطبري (8/ 206) برقم: (22975) ، وذكره ابن عطية (3/ 508) ، والبغوي (3/ 156- 157) ، وابن كثير (3/ 78) ، والسيوطي (4/ 393) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن سعد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3/517)
1
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
قال ع «1» : ويدلُّ على هذا من الآية أنه سبحانه لَمَّا حكى قول من قال: ثلاثة، وخمسة، قَرَنَ بالقول أنه رَجْم بالغيب، ثم حكى هذه المقالة، ولم يقدَحْ فيها بشيء، وأيضاً فَيَقْوى ذلك على القول بواوِ الثمانية لأنها إِنما تكون حيث عدد الثمانية صحيحٌ.
وقوله سبحانه: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً معناه على بعض الأقوال: أي:
بظاهر ما أوحينا إِليك، وهو ردُّ علْمِ عدتهم إِلى اللَّه تعالى، وقيل: معنى الظاهر أنْ يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا يحتجّ هو على أمر مقرَّر في ذلك، وقال التِّبْرِيزِيُّ: ظاهِراً معناه: ذاهباً وأنشد: [الطويل] ... وَتلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا «2» ولم يبح له في هذه/ الآية أن يماري، ولكن قوله: إِلَّا مِراءً مجازٌ من حيث يماريه أهْلُ الكتاب، سمِّيت مراجعته لهم مِرَاءً، ثم قيد بأنه ظاهرٌ، ففارَقَ المراءَ الحقيقيَّ المذمومَ، و «المِرَاء» : مشتقٌّ من المِرْية، وهو الشكُّ، فكأنه المُشَاكَكَة. ت: وفي سماع ابن القاسمِ، قال: كان سليمان بن يَسَارٍ، إِذا ارتفع الصوْتُ في مجلسه، أو كانِ مَراءً، أخذ نعليه، ثم قام. قال ابنُ رُشْد: هذا مِنْ وَرَعه وفَضْله، و «المِرَاء» في العِلْم منهيٌّ عنه، فقد جاء أنه لا تُؤْمَنُ فتنته، ولا تفهم حِكْمته انتهى من «البيان» .
والضمير في قوله: وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ عائد على أهل الكَهْف، وفي قوله:
مِنْهُمْ عائدٌ على أهْل الكتاب.
وقوله: فَلا تُمارِ فِيهِمْ، أي: في عدّتهم.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 26]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)
وقوله سبحانه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ قد تقدّم
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 508) . [.....]
(2) عجز بيت لأبي ذؤيب وصدره:
وعيّرها الواشون أني أحبّها ...
وهو في ديوانه (1/ 21) ، و «اللسان» (ظهر) .
(3/518)
1
أن هذه الآية عتاب من اللَّه تعالى لنبيِّه حيث لم يستثْنِ، والتقدير: إِلا أنْ تقولَ إِلاَّ أنْ يشاء اللَّه أو إِلاَّ أنْ تقولَ: إِن شاء اللَّه، والمعنى: إِلا أن تذكُرَ مشيئَةَ اللَّهِ.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قال ابن عباس «1» والحسن «2» معناه:
إِلاشارة به إلى الاستثناء، أي: ولتستثْنِ بعد مدّة إذا نسيت، أو لا لِتَخْرُجَ من جُمْلة من لم يعلِّق فعله بمشيئة اللَّه، وقال عكرمة: واذكر ربَّك إِذا غَضِبْتَ «3» ، وعبارة الواحِدِيِّ:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، أي: إِذا نسيتَ الاستثناء بمشيئة اللَّه، فاذكره وقله إذا تذكّرت.
اه.
وقوله سبحانه: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي ... الآية: الجمهورُ أنَّ هذا دعاءٌ مأمورٌ به، والمعنى: عسى أنْ يرشدني ربِّي فيما أستقبل من أمري، والآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهي بعدُ تعمُّ جميع أمته.
وقال الواحديُّ: وقل عسى أن يهديني، أي: يعطيني ربي الآياتِ من الدلالاتِ على النبوَّة ما يكون أقرَبَ في الرشد، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف، ثم فعل اللَّه له ذلك حيثُ آتاه علْم غَيْوب المرسَلِينَ وخَبَرَهم. انتهى.
وقوله سبحانه: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ... الآية: قال قتادة وغيره:
الآية حكايةٌ عن بني إسرائيلُ «4» ، أنهم قالوا ذلك واحتجوا بقراءة «5» ابن مسعود وفي مُصِحفه: «وقَالُوا لَبِثُوا في كَهْفِهِمْ» ، ثم أمر اللَّه نبيَّه بأن يردَّ العلْم إِليه ردَّا على مقالهم وتفنيداً لهم، وقال المحقِّقون: بل قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ... الآية خبرٌ من اللَّه تعالى عن مُدَّة لبثهم، وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، أي: فليزل اختلافكم أيها المخرِّصون، وظاهر قوله سبحانه: وَازْدَادُوا تِسْعاً أنها أعوام.
__________
(1) أخرجه الطبري (8/ 208) ، برقم: (22990) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 509) ، والبغوي (3/ 157) ، وابن كثير (3/ 79) ، والسيوطي (4/ 394) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه.
(2) أخرجه الطبري (8/ 208) برقم: (22992) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 509) ، والبغوي (3/ 157) .
(3) أخرجه الطبري (8/ 209) برقم: (22993) بلفظ: «عصيت» ، وذكره البغوي (3/ 157) ، وابن كثير (3/ 79) ، والسيوطي (4/ 395) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» .
(4) أخرجه الطبري (8/ 210) برقم: (22996) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 510) ، والبغوي (3/ 157- 158) ، وابن كثير (3/ 79) ، والسيوطي (4/ 396) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 510) .
(3/519)
1
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
وقوله سبحانه: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ، أي: ما أَسْمَعَهُ سبحانه، وما أبْصَرَهُ، قال قتادة:
لا أحَدَ أبْصَرُ مِنَ اللَّه، ولا أسْمَعَ «1» .
قال ع «2» وهذه عبارةٌ عن الإِدراك، ويحتملُ أن يكون المعنى: أبْصِرْ به أي:
بوحيه وإِرشاده، هُدَاكَ، وحُجَجَكَ، والحَقَّ من الأمور، وأسْمِعْ به العَالَم، فتكون اللفظتان/ أمرين لا على وجْه التعجُّب.
وقوله سبحانه: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ: الضمير في لَهُمْ يحتمل أنْ يرجع إِلى أهْلِ الكهْفِ، ويحتمل أنَّ يرجع إلى معاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الكُفَّار، ويكون في الآية تهديدٌ لهم.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 28]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
وقوله سبحانه: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، أي: اتبع، وقيل: اسْرُدْ بتلاوتك ما أوحِيَ إليك من كتاب ربِك، لا نَقْضَ في قوله، ولا مُبَدِّلَ لكلماته، وليس لك سواه جَانِبٌ تميلُ إِليه، وتستند، و «المُلَتَحد» الجانب الذي يَمَالُ إِليه ومنه اللَّحْد.
ت قال النوويُّ: يستحبُّ لتالي القرآن إذا كان منفرداً أنْ يكون خَتْمُهُ في الصَّلاة، ويستحبُّ أن يكون ختمه أوَل الليلِ أو أول النهار، ورُوِّينا في مسند الإمام المُجْمَعِ على حْفظِهِ وجلالته وإِتقانه وبَرَاعته أبي محمَّدٍ الدَّارِمِيِّ رحمه اللَّه تعالى، عن سَعْدِ بنِ أبي وقَّاص رَضِيَ اللَّه عنه قَالَ: إِذَا وَافَقَ خَتْمُ القُرْآنِ أوَّلَ اللَّيّلِ، صَلَّتَ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ وَافَقَ خَتْمُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُمْسِي «3» . قال الدارمي: هذا حديثٌ حسنٌ وعن طلحة بن مُطَرِّفٍ، قال: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ أَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ النَّهَار، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ، وأيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاِئَكَةُ حَتَّى يصبح، وعن مجاهد نحوه انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (8/ 212) برقم: (23006) ، وذكره ابن عطية (3/ 510) ، وابن كثير (3/ 80) ، والسيوطي (4/ 396) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 510) .
(3) أخرجه الدارمي (2/ 470) كتاب «فضائل القرآن» باب: «في ختم القرآن» .
(3/520)
1
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
وقوله سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... الآية: تقدَّم تفسيرها.
وقوله سبحانه: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ، أي: لا تتجاوزْ عنهم إِلى أبناء الدنيا، وقرأ «1» الجمهور: «مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ» بنصب الباء على معنى جَعَلْنَاهُ غافلاً، «والفُرُط» :
يحتملُ أن يكون بمعنى التفريط، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، وقد فسَّره المتأوّلون بالعبارتين.
 
[سورة الكهف (18) : آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
وقوله سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ المعنى: وقل لهم يا محمَّد هذا القرآن هو الحقُّ، ت: وقد ذم اللَّه تعالى الغافلين عَنْ ذكره والمُعْرِضين عن آياته في غيرما آية من كتابه، فيجبُ الحذر مما وقَع فيه أولئك، ولقد أحسن العارفُ في قوله: غفلة ساعة عن ربك مكدرة لمرآة قلبك، فكيف بَغْفلتكَ جميعَ عُمُرك. وقد روي أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قالَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُروا اللَّهَ فِيه ولَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهمْ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ، فإنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وإِنْ شَاءَ غَفَر لَهُمْ» «2» رواه أبو داود والترمذيّ والنسائي والحاكم وابن
__________
(1) هذه قراءة الجمهور، وقد قرأ عمرو بن فائد، وموسى الأسواري: «من أغفلنا قلبه» .
قال أبو الفتح: يقال أغفلت الرجل: وجدته غافلا ... فإن قيل: فكيف يجوز أن يجد الله غافلا؟ قيل:
لما فعل أفعال من لا يرتقب ولا يخاف، صار كأن الله سبحانه غافل عنه. «المحتسب» (2/ 28) ، قلت:
يعني أنه ظننا غافلين عنه.
والقراءة ذكرها ابن عطية في «المحرر» (3/ 513) ، ثم قال: وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد.
وينظر: «البحر المحيط» (6/ 114) ، و «الدر المصون» (4/ 450) .
(2) أخرجه الترمذي (5/ 461) كتاب «الدعاء» باب: في القوم يجلسون ولا يذكرون الله، حديث (3380) ، والحاكم (1/ 496) ، وأحمد (2/ 446، 481، 484، 495) ، وإسماعيل القاضي في «في فضل الصلاة على النبي» (54) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (443) ، من طريق سفيان الثوري، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعا، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه، عن أبي هريرة اهـ.
وأخرجه أبو داود (2/ 680) كتاب «الأدب» باب: كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر الله، حديث (4856) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (404) ، وابن حبان (853) من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وأخرجه أحمد (2/ 432) من طريق إسحاق مولى عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة، وذكر هذا الطريق الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 83) وقال: وأبو إسحاق مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل لم يوثقه أحد، ولم يجرحه، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد ثقات.
(3/521)
1
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
حِبَّان في «صحيحهما» وهذا لفظ الترمذيِّ، وقال: حديثٌ حَسَن، وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرط مسلم، «والتِّرَةُ» - بكسر التاء المُثَنَّاة من فوقُ وتخفيفِ الراء- النقْصُ، وقيل:
التبعة، ولفظ ابن حِبَّان: «إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنْ دَخَلَوا الجَنَّةَ» انتهى من «السلاح» .
وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ... الآية: توعُّد وتهديد، أي: فليختر كلّ امرئ لنفسه ما يجدُه غداً عند اللَّه عزَّ وجلّ، وقال الداوديّ، عن ابن عباس: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ يقول: من شاء اللَّه له الإِيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر، هو كقوله:
وَما تَشاؤُنَ/ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: 29] «1» وقال غيره: هو كقوله:
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] بمعنى الوعيد، والقولان معاً صحيحان. انتهى وأَعْتَدْنا مأخوذٌ من العَتَاد، وهو الشيءُ المُعَدُّ الحاضر، «والسُّرادق» هو الجدار المحيطُ كالحُجْرة التي تدورُ وتحيطُ بالفسْطَاط، قد تكون من نَوْع الفُسْطَاط أديماً أو ثوباً أو نحوه، وقال الزَّجَّاج «2» : «السُّرَادِق» : كل ما أحاط بشيء، واختلف في سُرَادِقِ النار، فقال ابن عباس: سرادقها حائطٌ من نارٍ «3» ، وقالت فرقة: سرادقها دُخَانٌ يحيطُ بالكُفَّار، وهو قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] وقيل غير هذا، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طريق أبي سعيد الخدريِّ أنه قَالَ سُرَادِقُ النَّارِ أربَعَةُ جُدُر كِثَفُ عَرْض كُلِّ جَدارٍ مَسِيرَةُ أرْبَعيِنَ سَنَةً «4» و «المهل» قال أبو سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هو درديُّ الزيتِ، إِذا انتهى حَرُّه «5» ، وقال أبو سعيد وغيره: هو كلُّ ما أذيَب من ذهبٍ أو فضة، وقالت فرقةٌ:
«المُهْل» هو الصديدُ والدمُ إِذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر رضي اللَّه عنه في الكَفَن: إِنما هو للمهلة «6» ، يريدُ لما يسيلُ من المَيِّت في قبره، ويقوى هذا بقوله سبحانه: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ [إبراهيم: 16] والمرتفق: الشيء الذي يطلب رفقه.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 32]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32)
__________
(1) أخرجه الطبري (8/ 217) برقم: (23030) ، وذكره البغوي (3/ 159) ، والسيوطي (4/ 399) بلفظ:
«هذا تهديد ووعيد» ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ينظر: «تفسير الزجاج» (3/ 282) .
(3) أخرجه الطبري (8/ 217) برقم: (23034) ، وذكره ابن عطية (3/ 513) ، والبغوي (3/ 160) ، وابن كثير (3/ 81) ، والسيوطي (4/ 399) ، وعزاه لابن جرير. [.....]
(4) تقدم تخريجه في سورة هود.
(5) تقدم تخريجه.
(6) ذكره ابن عطية (3/ 514) .
(3/522)
1
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا تقدّم تفسير نظيره، والله الموفّق بفضله، وأَساوِرَ جمع «أسْوَار» ، وهي ما كان من الحُلِيِّ في الذراع، وقيل: «أَسَاور» جَمْعُ أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع أسْوَارٍ، و «السُّنْدس» :
رقيق الدِّيباج «والإستبرق» ما غلظ منه، قيل: إِستبرقٌ من البَرِيقِ، والْأَرائِكِ جمع أريكة، وهي السريرُ في الحجالِ، والضمير في قوله: وَحَسُنَتْ للجنَّات، وحكى النَّقَّاش عن أبي عمران الجَوْنيِّ، أنه قالَ: «الإِستبرقُ» : الحريرُ المنسوجُ بالذهب.
وقوله سبحانه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ...
الآية الضمير في لَهُمْ عائدٌ على الطائفة المتجبِّرة التي أرادت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يطرد فقراء المؤمنين، فالمثل مضروبٌ للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحِبُ الجنتين هو بإزاء متجبِّري قريشٍ، أو بني تميمٍ على الخلاف في ذلك، والرجُلُ المؤمنُ المُقِرُّ بالربوبية هو بإزاء فقراء المؤمنين، «وحففنا» بمعنى جعلنا ذلك لَهُمَا منْ كُلِّ جهة، وظاهر هذا المَثَل أنَّه بأمْرٍ وَقَعَ في الوجودِ، وعلى ذلك فَسَّره أكثر المتأوِّلين، فروي في ذلك أنهما كانا أخَويْنِ من بني إسرائيل، ورثا أربعَةَ آلاف دينارٍ، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيداً، وتزوَّج، وأثْرى، وأنفق الأخَرُ ماله في طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ حتى افتقَرَ، والتقيا، فافتخر الغنيُّ، ووبَّخ المؤمن، فجرَتْ بينهما هذه المحاورَةُ، وروي أنهما كانا شريكَيْن حَدَّادَيْنِ كسبا مالاً كثيراً، وصَنَعَا نحو ما رُوِيَ/ في أمر الأَخَوَيْنِ، فكان من أمرهما ما قَصَّ اللَّه في كتابه.
قال السهَيْلِيُّ: وذكر أن هذَيْن الرجلَيْن هما المذكوران في «والصافات» في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ إلى قوله فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وإِلى قوله: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: 5- 55، 61] انتهى.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 33 الى 34]
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)
وقوله سبحانه: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها الأَكُلُ: ثمرها الذي يؤكل وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص عن العُرُفِ الأتَمِّ الذي يشبه فيها، ومنه قولُ الشاعر: [الطويل]
(3/523)
1
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
وَيَظْلِمني مَالي كَذَا وَلَوى يَدي ... لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذي هُوَ غَالِبُهْ «1»
وقرأ «2» الجمهور: «ثُمُرٌ» و «بِثُمُرِهِ» [الكهف: 42]- بضم الثاء والميم- جمع «ثِمَارٍ» ، وقرأ أبو عمرو- بسكون الميم «3» - فيهما، واختلف المتأوِّلون في «الثُّمُر» - بضم الثاء والميم- فقال ابن عباس وغيره: «الثُّمُر» : جميع المال من الذهَبِ والفَّضة والحيوانِ وغير ذلك «4» ، وقال ابن زيد: هي الأصول «5» ، و «المحاورة» : مراجعةُ القولِ، وهو من «حَارَ يَحُورُ» .
وقوله: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً: هذه المقالة بإزاء مقالة متجبِّري قريْشٍ، أو بني تميمٍ، على ما تقدَّم في «سورة الأنعام» . ت وقوله: وَأَعَزُّ نَفَراً يضَعِّف قول من قال: «إِنهما أخوانِ» فتأمَّله، واللَّه أعلم بما صحَّ من ذلك.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 35 الى 37]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)
وقوله سبحانه: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ... الآية: أفْرَد الجنة من حيثُ الوجودُ كذلك إِذ لا يدخلهما معاً في وقت واحدٍ، وظلمه لنفسه هو كُفْره وعقائدُهُ الفاسدة في الشَّكِّ في البعث، وفي شكِّه في حدوث العالم، إن كانت إِشارته ب هذِهِ إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواعِ المخلوقات، وإِن كانت إِشارته إِلى جنته فقط، فإِنما الكلام تساخُفٌ واغترارٌ مفْرِط، وقلَّة تحصيلٍ، كأنه من شدَّة العُجْب بها والسرور، أفرط في وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنْيَا وظنَّ أنه لم يُمْلَ له في دنياه إِلا لكرامةٍ يستوجبها في نَفْسه، فقال: فإن كان ثمّ رجوع، فستكون حالي كذا وكذا.
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي، «اللسان» (ظلم) .
(2) ويعني بهم: ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وابن عباس، ومجاهد، وجماعة قراء المدينة ومكة، وخالف عاصم، فقرأ بفتح الميم والثاء «ثمره» ، و «بثمره» .
ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 516) ، و «السبعة» (390) ، و «الحجة» (5/ 142) ، و «شرح الطيبة» (5/ 8) ، و «العنوان» (123) ، و «حجة القراءات» (416) ، و «إتحاف» (2/ 214) .
(3) وهي قراءة الأعمش وأبي رجاء.
ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(4) أخرجه الطبري (8/ 223) برقم: (23058) بنحوه، وذكره ابن عطية (3/ 516) ، وابن كثير (3/ 83) بنحوه، والسيوطي (4/ 403) ، وعزاه لابن عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(5) أخرجه الطبري (8/ 223) برقم: (23063) ، وذكره ابن عطية (3/ 516) .
(3/524)
1
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
وقوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ يعني المؤمن.
وقوله: خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ إِشارةٌ إلى آدم عليه السلام.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 38 الى 41]
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وقوله: لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي معناه: لكن أنا أقول هو اللَّه ربِّي، وروى هارون عن أبي عمرو «1» «لَكِنَّهُ هُوَ اللَّهُ رُبِّي» ، وباقي الآية بيِّن.
وقوله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ... الآية: وصيَّةٌ من المؤمن للكافر، وَلَوْلا:
تحضيض بمعنى «هلا» ، وما تحتمل أن تكون بمعنى «الذي» بتقدير: الذي شاء الله كائنٌ، وفي شاءَ ضميرٌ عائد على «ما» ، ويحتمل أن تكون شرطيةً بتقدير: ما شَاءَ اللَّهُ كَانَ، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هو ما شاء اللَّهُ، أو الأمر ما شاء اللَّه.
وقوله: لاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ: تسليمٌ، وضدٌّ لقول الكافِرِ: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: 35] ، وفي الحديثِ: «إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، إِذَا قَالَهَا العَبْدُ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: «أَسْلَمَ/ عَبْدِيَ واستسلم» ، قال النوويُّ: ورُوِّينا في «سنن أبي داود والترمذيِّ والنسائي» وغيرهما، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ قَالَ يَعْنِي- إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتهِ- باسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيت، وَوُقِيتَ، وتَنَحَّى عَنْكَ الشِّيْطان» «2» . قال الترمذيُّ: حديث حسن، زاد أبو داود في روايته:
«فَيَقُولُ: - يَعْني الشِّيْطَانَ لِشَيْطَانٍ آخَرَ- كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِي» انتهى.
وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة، قال: قَالَ لِي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أكْثِرْ مِنْ قَوْلَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ فإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» «3» انتهى.
قال المحاسبيُّ في «رعايته» : وإِذا عزم العْبدُ في القيامِ بجميعِ حقوق اللَّه سبحانَهُ،
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 517- 518) .
(2) أخرجه أبو داود (2/ 746- 747) كتاب «الأدب» باب: ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (5095) ، والترمذي (5/ 490) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (3426) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ، حديث (89) ، وابن السني (178) ، وابن حبان (2375- موارد) من حديث أنس. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان.
(3) تقدم تخريجه.
(3/525)
1
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
فليرغَبْ إِليه في المَعُونَةِ مِنْ عِنْدِه على أداء حقوقه، ورعايتها، وناجاه بقَلْب راغِبٍ راهبٍ أني أَنْسَى إِن لم تذكِّرني، وأعْجِزُ أُنْ لم تُقَوِّني، وأجْزَعُ إِنْ لم تصِّبرني، وعَزَم وتوكَّل، واستغاث واستعان، وتبرَّأ من الحَوْل والقوَّة إِلا بربِّه، وقطع رجاءه مِنْ نفسه، ووَجَّه رجاءه كلَّه إِلى خالقه، فإِنه سيجدُ اللَّه عزَّ وجلَّ قريباً مجيباً متفضِّلاً متحِّنناً. انتهى.
قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «1» قال مالكٌ: ينبغي لكلِّ مَنْ دَخَل منزله أنْ يقول كما قال اللَّه تعالى: مَا شاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ انتهى.
وقوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ هذا الترجِّي ب «عَسَى» يحتملُ أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخِرَةِ، وتمنِّي ذلك في الآخرة أشرَفُ وأذهَبُ مع الخير والصلاح، وأنْ يكونَ ذلك يرادُ به الدنيا- أذْهَبُ في نِكَاية هذا المخاطَب، و «الحُسْبان» العذاب كالبردِ والصِّرِّ ونحوه، و «الصَّعيد» وجه الأرض، «والزَّلَق» : الذي لا تثبت فيه قَدَم، يعني: تذهب منافعها حتى منفعةُ المشْيِ فهي وَحَلٌ لا تثبُتُ فيه قَدَمٌ.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 42 الى 44]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
وقوله سبحانه: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ... الآية: هذا خبر من اللَّه عزَّ وجل عن إِحاطة العذابِ بحال هذا الممثّل به، ويُقَلِّبُ كَفَّيْهِ: يريد يضَعُ بطْن إِحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهِّف المتأسِّف.
وقوله: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يريد أن السقوف وَقَعَتْ، وهي العروش، ثم تهدَّمت الحيطانُ عليها فهي خاوية والحيطان على العُرُوشِ.
ت: فسرَّ ع «2» رحمه اللَّه لفظ خاوِيَةٌ في «سورة الحَجِّ والنَّمْل» ب «خالية» ، والأحسن أن تفسَّر هنا وفي الحجِّ ب «ساقطة» ، وأما التي في «النْمل» ، فيتَّجه أن تفسَّر ب «خالية» وب «ساقطة» قال الزبيدِيُّ في «مختصر العَيْن» خَوَتِ الدَّارُ: باد أهلها، وخَوتْ: تهدَّمت انتهى، وقال الْجَوْهَرِيُّ في كتابه المسمَّى ب «تاج اللُّغِة وصِحَاحِ العَرَبِيَّةِ» :
خَوَتِ النجومُ خَيًّا: أمحَلَتْ، وذلك إِذا سقطَتْ ولم تُمْطِرْ في نَوْئِهَا، وأَخْوَتْ مثله، وخوت
__________
(1) ينظر: «أحكام القرآن» (3/ 1240) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (3/ 519) .
(3/526)
1
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
الدارُ خُوَاءً ممدوداً: / أقْوَتْ وكذلك إِذا سقطَتْ، ومنه قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: 52] أي: خاليةً، ويقال: ساقطة كما قال: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [الحج: 45] أي ساقطة على سقوفها. انتهى وهو تفسيرٌ بارعٌ، وبه أقولُ، وقد تقدَّم إِيضاحُ هذا المعنى في «سورة البقرة» .
وقوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً قال بعض المفسِّرين: هي حكايةٌ عن مقالة هذا الكافِرِ في الآخرة، ويحتملُ أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلولِ المُصيبة، ويكون فيها زَجْرٌ لكَفَرة قريشٍ وغيرهم، «والفئة» : الجماعة التي يُلْجأُ إِلى نَصْرها.
وقوله سبحانه: هُنالِكَ يحتمل أنْ تكون ظرفاً لقوله: مُنْتَصِراً ويحتمل أن يكون الْوَلايَةُ مبتدأ، وهُنالِكَ: خبره، وقرأ حمزة «1» والكسائيُّ: «الوِلاَيَةُ- بكسر الواو-، وهي بمعنى الرِّيَاسَة ونحوه، وقرأ الباقون: «الوَلاَيَة» - بفتح الواو- وهي بمعنى المُوَالاَة والصِّلة ونحوه، وقرأ أبو عمرو «2» والكَسائيُّ: «الْحَقُّ» بالرفع على النعت ل «الولايةُ» وقرأ الباقون بالخفضِ على النعت لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وقرأ الجمهور: «عُقُباً» - بضم العين والقاف- وقرأ حمزة وعاصم- بسكون «3» القاف- والعقب- والعقب: بمعنى العاقبة.
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 48]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا يريد حياة الإنسان، كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
__________
(1) ينظر: «السبعة» (392) ، و «الحجة» (5/ 149) ، و «إعراب القراءات» (1/ 396) ، و «معاني القراءات» (2/ 111) ، و «حجة القراءات» (418) ، و «العنوان» (123) ، و «إتحاف» (2/ 216) . [.....]
(2) ينظر: «السبعة» (392) ، و «الحجة» (5/ 149) ، و «إعراب القراءات» (1/ 296) ، و «معاني القراءات» (2/ 111) ، و «العنوان» (123) ، و «شرح الطيبة» (5/ 10) ، و «شرح شعلة» (473) ، و «حجة القراءات» (419) و «إتحاف» (2/ 216) .
(3) ينظر: «السبعة» (392) ، و «الحجة» (5/ 150) ، و «إعراب القراءات» (1/ 397) ، و «معاني القراءات» (2/ 112) ، و «شرح شعلة» (473) ، و «العنوان» (123) ، و «إتحاف» (2/ 216) ، و «حجة القراءات» (419) .
(3/527)
1
، أي: فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب النماءِ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً أصبح عبارة عن صيرورته إِلى ذلك، و «الهَشِيم» المتفتِّت من يابس العُشْب، وتَذْرُوهُ بمعنى تفرِّقه، فمعنى هذا المَثَل تشبيهُ حالِ المَرْء في حياته ومالِهِ وعزَّته وبَطَره، بالنَّبات الذي له خُضْرة ونَضْرة عن الماءِ النازل، ثم يعودُ بعد ذلك هشيماً، ويصير إِلى عُدْم، فمن كان له عَمَلٌ صالح يبقى في الآخرةِ، فهو الفَائِزُ.
وقوله سبحانه: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا لفظه الخبر، لكنْ معه قرينة الصِّفة للمال والبنين لأنه في المَثَلِ قَبْلُ حَقَّر أمْرَ الدنيا وبيَّنه فكأنه يقول: المال والبنون زينةُ هذه الحياة الدنيا المحقّرة، فلا تتبعوها نفوسكم، والجمهور أنّ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ. هي الكلماتُ المذكورُ فضْلُها في الأحاديث: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ» ، وقد جاء ذلك مصرّحا به من لفظ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالحَاتُ» .
وقوله سبحانه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي: صاحبها ينتظرُ الثَّواب، وينبسطُ أمله، فهو خَيْرٌ من حال ذي المَالِ والبنينَ، دون عَمَلٍ صالحٍ، وعن أبي سعيد الخدريِّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» قيلَ: وَمَا هُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: «التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ والتَّسْبِيحُ وَالحَمْدُ للَّهِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّة/ إِلاَّ باللَّه» «1» رواه النسائيُّ وابنُ حِبَّان في «صحيحه» انتهى من «السلاح» .
وفي «صحيح مسلم» عن سمرة بن جندب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحَبُّ الكَلاَمِ إِلى اللَّهِ تَعَالى أَرْبَعٌ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبُرُ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» «2» وفي «صحيح مُسْلِم» ، عن أبي مالِكٍ الأشعريِّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «الطُّهوُرُ شَطْرُ الإِيمَانِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن أو تَمُلأُ مَا بَيْنَ السموات والأَرْضِ ... » «3» الحديث انتهى.
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وروى مالكٌ عن سعيد بن المسيَّب، أنَّ الباقيات الصالحات قولُ العبْدِ: اللَّهُ أكْبَرُ، وسبحانَ اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إِله إِلا اللَّه، ولا حَوْلَ
__________
(1) أخرجه أبو يعلى (2/ 524) برقم: (1384) ، وابن حبان (2332- موارد) ، والحاكم (1/ 512) ، والطبري (15/ 255) ، وأحمد (3/ 75) .
وقال الحاكم: هذا أصح إسناد للمصريين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.
(2) أخرجه مسلم (3/ 1685) كتاب «الآداب» باب: كراهية التسمية بالأسماء القبيحة، ونحوه حديث (12/ 2137) ، وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى مسلم.
(3) تقدم تخريجه.
(3/528)
1
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
ولاَ قوَّة إِلا باللَّه» «1» وروي عن ابْنِ عباس وغيره أن الباقياتِ الصَّالحات الصَّلواتُ الخَمْس «2» . انتهى.
ت: وما تقدَّم أولى، ومن كلام الشيْخِ الوليِّ العارف أبي الحَسن الشَّاذِليِّ رضي اللَّه عنه قال: عليك بالمطهرِّات الخمس في الأقوال والمطهِّرات الخمس في الأفعال، والتبرِّي من الحول والقَّوة في جميع الأحوال، وغُصْ بعقلك إِلى المعاني القائمة بالقَلْب، واخرج عنها وعنه إِلى الرَّبّ واحفظِ اللَّه يحفظْك، واحفظ اللَّه تجدْهُ أمامك واعبد اللَّه بها، وكُنْ من الشاكرين، فالمطهِّراتُ الخمس في الأقوالِ: سُبْحَانَ اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلا بالله، والمطهِّراتُ الخَمْسُ في الأفعال: الصلواتُ الخمْسُ، والتبرِّي من الحول والقوة: هو قولُكَ: لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. انتهى.
وقوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً: يحتمل أن الأرض لِذَهَابِ الجبال، والضِّرابِ والشَّجَرِ- بَرَزَتْ، وانكشفَتْ ويحتملُ أن يريد بُرُوزَ أهلها من بطنها للحِشَرْ، و «المغادرة» : الترك، عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
، أي: صفوفاً وفي الحديث الصحيح:
«يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفاً يُسْمِعُهُمُ الدَّاعي، ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ ... » الحديث «3» بطوله، وفي حديثٍ آخَرَ: «أَهْلُ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِائَةٌ وعِشْرُونَ صَفًّا، أنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صفّا» «4» .
وقوله سبحانه: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
: يفسِّره قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنكُمْ تُحْشَرُونَ إِلى اللَّه حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ «5» نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] » .
 
[سورة الكهف (18) : الآيات 49 الى 50]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى