تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1416 هـ - 1996 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 6
تحقيق : الشيخ زكريا عميران
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 3 "
سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم
سورة هود مكية غير آية قوله ) وأقم الصلاة طرفي النهار (
وحروفها 7605 وكلامها 1715 وآياتها 123 ( هود : ( 1 - 24 ) الر كتاب أحكمت . . . .
" الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك
" صفحة رقم 4 "
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون "
( القراآت )
وإن تولوا ( بإظهار النون وتشديد التاء : البزي وابن فليح ) فإني أخاف ( بفتح الياء ، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. ) عني إنه ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابو عمرو. الوقوف : ( آلر ( ق كوفي ) خبير ( ه لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله ) إلا الله ( ط ) وبشير ( ه لا للعطف ) فضله ( ج ) كبير ( ه ) مرجعكم ( ج لاحتما الحال والاستئناف ) قدير ( ه ) منه ( ط ) ثيابهم ( لا بناء على أن عامل ) حين ( قوله : ( يعلم ( ) يعلنون ( ج ) الصدور ( ه ) ومستودعها ( ط ) مبين ( ه ) عملاً ( ط ) مبين ( ه ) ما يحبسه ( ط ) يستهزؤون ( ه ) منه ( ج لحذف جواب ) لئن ( أي لييأسن. وقيل : جوابها إنه والأول أوجه ) كفور ( ه ) عني ( ط ) فخور ( لا للاستثناء ) الصالحات ( ط ) كبير ( ه ) ملك ( ط ) نذير ( ه ) وكيل ( ه ط ( أم ) استفهام تقريع ) افتراه ( ط ) صادقين ( ه ) إلا هو ( ج ط للاستفهام مع الفاء. ) مسلمون ( ه ) يبخسون ( ه ) إلا النار ( ز بناء على أن ( ليس ) بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن ( ليس ) فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء. ) يعملون ( ه ) رحمة ( ط ) يؤمنون به ( ط ) يؤمنون به ( ط ) موعده ( ج لاختلاف الجملتين مع الفاء ) لا يؤمنون ( ه ) كذباً ( ط ) على ربهم ( الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الاشهاد أو ابتداء إخبار. ) الظالمين ( ه لا ) عوجاً ( ط ) من أولياء ( لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء ) العذاب ( ط ) يبصرون ( ه ) يفرون ( ه ) الأخسرون ( ه ) إلى ربهم ( لا لأن ما بعده خبر ( إن ). ) الجنة ( ج ) خالدون ( ه ) والسميع ( ط ) مثلاً ( ط ) تذكرون ( ه. التفسير : ( آلر ( إن كان اسماً للسورة فما بعده خبره ، وإن كان وارداً على سبيل
" صفحة رقم 5 "
التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله : ( كتاب ( خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب. والإِشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن. ومعنى ) أحكمت ( نظمت نظماً رصيناً من غير نقض ونقص ، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيماً. أو منعت من الفساد والبطلان من قوله : أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع ، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير. ) ثم فصلت ( كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص ، لكل معنى من هذه المعاني من هذه المعاني فصل انفرد به. أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية وآية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد. ومعنى ( ثم ) التراخي في الحال كقولك : فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. و ) أحكمت ( صفة كتاب. و ) من لدن ( صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها. وفي قوله : ( حكيم خبير ( لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. احتج الجبائي بقوله : ( أحكمت ثم فصلت ( على كون القرآن محدثاً لأن الإحكام والفصيل يكون بجعل جاعل ، وكذا بقوله : ( من لدن ( لأن القديم لا يصدر من القديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي. وقوله : ( ألا تعبدوا إلا الله ( مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون ( أن ) مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل : ثم قيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قل لهم لا تبعدوا. وجوز في الكشاف أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله محكياً على لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال : ترك عبادة غير الله مثل ) فضر الرقاب ) [ محمد : 4 ] والضمير في ) منه ( لله عز وجل حالاً من ) نذير وبشير ( أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد ، وبشير إن خصصتموه بذلك. ويجوز أن يكون ) منه ( صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه ، ويكون صلة بشير محذوفاً أي أبشركم بثوابه. ثم عطف على قوله : ( أن لا تعبدوا ( قوله : ( وأن استغفروا ( أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم. ن ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال : ( ثم توبوا إليه ( فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، وما كان آخراً في الحصول كان من ربكم المغفرة لذنوبكم. ثم الاستغفار على التوبة. وقيل : استغفروا أي توبوا ثم قال : ( توبوا ( أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل : استغفرا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب. وقيل : استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقيل : الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في
" صفحة رقم 6 "
إزالة ما لا ينبغي ، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس. ثم رتب على الامتثال أمرين : الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله ) فلنحيينه حياة طيبة ) [ النحل : 97 ]. سؤال : كيف الجميع بين هذا وبين قوله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ( ) الزخرف : 33 ] وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الدنيا سجن المؤمن ) ( البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ) ؟ وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان. والجواب الثاني أن الإِنسان إذا كان مشغولاً بطاعة الله مستغرقاً في نور معرفته وعبادته كان مبتهجاً في نفسه مسروراً في ذاته ، هيناً عليه ما فاته من اللذات العاجلة ، قانعاً بما يصيبه من الخيرات الزائلة. الثاني قوله : ( ويؤت ( أي في الآخرة ) كل ذي فضل فضله ( أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات. وتسمية العمل الحسن فضلاً تشريف ويجوز أن يعود الضمير في ) فضله ( إلى الله تعالى. وفيه تنبيه على ان الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات. ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال : ( وإن تولوا ( أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإِخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة ) فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضاً ( ويذورن وراءهم يوماً ثقيلا ) ) الدهر : 27 (. ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله : ( إلى الله مرجعكم ( أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه ، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر. وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة الاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزناً. اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة. ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطناً كالتوالي عنها ظاهراً فقال : ( ألا إنهم يثنون ( يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورَّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحاً .
" صفحة رقم 7 "
قال المفسرون : وههنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون ) ليستخفوا منه ( أي من الله. ثم كرر كلمة ) ألا ( تنبيهاً على وقت استخفائهم وهو ) حين يستغشون ثيابهم ( أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب. قال الكبي : ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا. وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار. وقيل : إنه حقيقة ، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما يتلو ن القرآن ، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن. ثم استأنف قوله : ( يعلم ما يسرون وما يعلنون ( تنبيهاً على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر. ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بكونه كافلاً لأرزاق جميع الحيوانات ضامناً لمصالحها ومهامها فضلاً وامتناناً وكرماً وإحساناً فقال : ( وما من دابة ( الآية. والمستقر مكانها من الأرض ، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة. وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه. وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام. واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن أيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر. ثم إنا نرى إنساناً لا يأكل من الحال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقاً. ثم ختم الآية بقوله : ( كل في كتاب مبين ( أي كل واحد من الدواب. في قوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب بمين ) [ الأنعام : 59 ] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أنيضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية ، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة ، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. ثم أكد دلائل قدرته بقوله : ( وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ( قال كعب الأحبار : خلق الله ياقوته خضراء ، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرض على الماء ، وقال أبو بكر الأصم : هذا كقولك : لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقاً بالآخر. وعلى هذا فيكون الآن أيضاً عرشاً على الماء. وقال في الكشاف : المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض ،
" صفحة رقم 8 "
وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبرا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثاً إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى. وقال أبو مسلم : العرش البناء أي الماء أي وكان عرشه يتحرك. وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير. أما قوله : ( ليبلوكم ( فالمعتزلة قالوا : اللام للتعليل ، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكفلين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه. والأشاعرة قالوا : إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلاً لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض. وإما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن كلاماً. قال في الكشاف : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون. وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وارءهم من الفساق والكفار تشريفاً لهم. قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين. ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله : ( ولئن قلت ( الآية. الإشارة في قوله : ( إن هذا إلا سحر ( إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من العبث. وقال القفال : معناه أنهذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناي عن لذات الدنيا واجذابهم إلى الانقايد لكم الدخول تحت طاعتكم. ومن قرأ الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال : ( ولئن أخرنا عنهم ( الآية : والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد المراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود. وقيل : هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يصل فيه كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين. فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس. وقال في الكشاف. أي جماعة من الأوقات. والعذاب عذاب الآخرة. وقيل : عذاب يوم بدر. عن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين. ومعنى ) ما يحبسه ( أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالاً له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله : ( أَلا يوم يأتيهم ( وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم. واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع. ثم قال : ( وحاق بهم ( أي أحاط بهم ) ما كانوا به
" صفحة رقم 9 "
يستهزؤون ( أراد يستعجلون ولكنه وضع ) يستهزؤون ( موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء. وإنما قال : ( وحاق ( بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع. ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال : ( ولئن أذقنا الإنسان ( الآية. واختلف المفسرون فقيل : الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله : ( إلا الذين آمنوا ( ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات. وقيل : المراد الكافر ، والاستثناء منقطع واللام للعهد. وقد مر ذكر الكافر ، ( صلى الله عليه وسلم )
1548 ; ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر ، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية ، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد ، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الل بل يكفره ، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد. وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير. أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم ، وفيه دليل على أن الإِنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عيه ، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين. والرحمة والنعمة من صحة أو أمن أو جدة ، ونزعها سلبها واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة ، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضراء مضرة كذلك. قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء. والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته. ثم سلى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله : ( فلعلك تارك ( قال ابن عباس : إن رؤساء مكة قالوا : إن كنت رسولاً فاجعل لنا جبال مكة ذهباً أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله : ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له : ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا. حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال الحسن : طلبوا منه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يترك قوله : ( إن الساعة آتية ) [ طه : 15 ] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إيه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة ، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب بعدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها ، أو لعله ( صلى الله عليه وسلم ) بين محذورين : أحدهما ترك أداء شيء من الوحي ، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء ، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإِنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما ، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره : لعلك تفعل كذا أي لا
" صفحة رقم 10 "
تفعل. وإنما قال : ( وضائق ( ولم يقل وضيق ) به صدرك ( دلالة على أنه ضيق حادث لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أفسح الناس صدراً. ومعنى ) أن يقولوا ( مخافة أن يقولوا : ( لولا أنزل ( أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نرديه ولا نقترحه ، ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها إلى إنزال المقترحات ، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء ، ومن كما لقدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله : ( أم يقولون ( الآية. وق مر مثله في سورة يونس. عن ابن عباس : السورة العشر هي من أول القرآن إلى ههنا. واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السورة المتقدمة عليها مدنية ، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد. فالأولى أن يقال : إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه. تحداهم أوّلاً بمجموع القرآن في قوله : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) [ الإسراء : 88 ] الآية. وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود ، ثم بسورة في يونس وفي البقرة ، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه : اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال : اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب ، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر : قد اقتصرت منك على سطر واحد مثلهن ثم إذا أراد غاية المبالغة قال : قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال النفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال : ( فإن لم يستجيبوا ( إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان ) لكم ( أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة الغائبة. ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة. ثم ختم الآية بقوله : ( فهل أنتم مسلمون ( وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وازددتم بصيرة وطمانينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة. وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في ) لم يستجيبوا ( لمن في ) من استطعتم ( والخطاب في ) لكم ( للمشركين ، وكذا في قوله : ( فاعلموا ( وفي ) أنتم ( والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب. ثم رغبهم في أصل الإِسلام وهددهم على تركه بقوله : ( فهل أنتم ( بعد لزوم الحجة ) مسلمون ( ثم أوعد من كانت
" صفحة رقم 11 "
همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلاً عن الدين جهلاً أو عناداً فقال : ( من كان يريد ( الآية. عن أنس أنهم اليهود والنصارى. وقيل : المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان ( صلى الله عليه وسلم ) يسهم لهم فيها. وقال الأصم : هم منكرو البعث. وقال آخرون : هي عامة في الكافر والمسلم المرائي. وقال القاضي : المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم ، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات المنافع. عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له : ما عملت فيه ؟ فيقول : يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار. فيقول الله : كذبت أردت أن يقال فلان قارىء. وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه ؟ فيقول : وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله : كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول : قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء. ) قال أبو هريرة : ثم ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركبتي وقال : ( يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة ). ( وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال : صدق الله ورسوله : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ( الآيتان. ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتاً بيناً فقال : ( أفمن كان ( والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عندا لله ولا يقاربونهم ؟ نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول : الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولاً ثم الجهال. ويمكن أن يقال : التقدير أفمن كان ) على بينة من ربه ( كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله ) أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ) [ فاطر : 35 ] ( أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائما ) [ الزمر : 9 ] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة : الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو ؟ الثاني ما المراد بالبينة ؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو ؟ الرابع الشاهد من هو ؟ وللمفسرين فيها أقوال : أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق ، والذي هو على البينة مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة
" صفحة رقم 12 "
بتأويل البيان والبرهان ، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله : ( أم يقولون افتراه ( ، ) ومن قبله كتاب موسى ( أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها ) إماماً ( أو أعني إماماً كتاباً مؤتماً به في الدين قدرة فيه ) ورحمة ( ونعمة عظيمة على المنزل إليهم. والحاصل أن المعارف اليقينية وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق. ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق ، ثم إنه حصل على تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعاً : البينة. وهي الدلائل العقلية اليقينية ، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي ، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به ، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب. وقيل : أفمن كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، والبينة القرآن ، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه ، أو شاهد من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو صورته ومخايله ، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولاكاهن. وقيل : الكائن على البينة هم المؤمنون ، والبينة القرآن ، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجداً قبله ، أو ذلك الشاهد كونه القرآن واقعاً على وجه يعرف المتأمل فيه عجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم : ثم مدح الكائن على البينة بقوله : ( أولئك يؤمنون به ( أي بالقرآن. ثم أوعد غيرهم بقوله : ( ومن يكفر به من الأحزاب ( يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس ) فالنار موعده فلا تك في مرية ( في شك ) منه ( من القرآن أو من الموعد ، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله : ( من كان يريد الحياة الدنيا ( ومن إنكارهم نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك قوله : ( أفمن كان على بينة ( أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال ، ) ومن أظلم (. ثم قال : ( أولئك يعرضون ( لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام ، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف. أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد. ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضو على الأماكن المعد للحساب. والسؤال أو المراد عرضهم على من
" صفحة رقم 13 "
يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين ، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب. قال مجاهد : الأشهاد الملائكة والحفظة. وقال قتادة : هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس. وقيل : هم الأنبياء لقوله : ( ولنسألن المرسلين ) [ الأعراف : 6 ] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي : وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن ) ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ البقرة : 143 ] ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) [ النساء : 41 ] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضحية. وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في ) الأعراف (. ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ( أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي. ) وما كان لهم من دون الله من أولياء تنصرهم وتمنعهم من عقابه. جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة. وقيل : هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم ) يضاعف لهم العذاب ( من قبل الكفر والصد أي الضلال والإِضلال. ) ما كانوا يستطيعون السمع ( يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب. وعمى البصائر. ثم إن الأشاعرة قالوا : إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق ، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال : إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله : ( ما كانوا يستطيعون ( الآية. وفي الآخرة كما قال : ( يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) [ القلم : 42 ]. وقالت المعتزلة : المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل : هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره. والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال : الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء. ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يمسعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية ؟ وعلى هذا يكون قوله : ( يضاعف لهم العذاب ( اعتراضاً بوعيد. واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة. الأولى ) ومن أظلم ممن افترى ( الثانية ) أولئك يعرضون ( أي في موقف الذل والهوان. الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله : ( ويقول الأشهاد ( الرابعة اللعنة عليهم. الخامسة الصد عن سبيل الله. السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله : ( ويبغونها عوجاً ( السابعة كونهم كافرين بالآخرة. الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار ) أولئك لم يكونوا (. التاسعة ) وما كان لهم
" صفحة رقم 14 "
من دون الله من أولياء (. العاشرة مضاعفة العذاب لهم. الحادية عشرة والثانية عشرة ) ما كانوا يستطيعون ( الآية. الثالثة عشرة ) أولئك الذين خسروا أنفسهم ( وقد مر في ) الأنعام (. الرابعة عشرة ) وضل عنهم ما كانوا يفترون ( وقد سبق في ) يونس (. الخامسة عشرة ) لا جرم ( قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً. وقال النحويون : ( لا ( حرف فس وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع ) أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( وقال الزجاج ) لا ( نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و ) جرم ( معناه كسب ، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين. قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين ) وأخبتوا إلى ربهم ( معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأررض المطمئنة ، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله. وقيل : المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده. وقيل : المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال. ثم ضرب للفريقين مثلاً وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع ، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع. ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة ، وأما الفريق المؤمن فقيل : المراد به قوله : ( أفمن كان على بينة ( وقيل : المذكرون في قوله : ( إن الذين آمنوا ( ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله ) هل يستويان مثلاً ( أي تشبيهاً. وفي قوله : ( أفلا تذكرون ( تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه. التأويل : ( آلر ( إشارة إلى الله ، واللام إلى جبرائيل ، والراء إلى الرسول. يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله : ( وعلمناه من لدنا ) [ الكهف : 65 ] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد ) أن لا تعبدوا إلا الله وأن استغفروا ربكم ( مما ضاع من عمركم في غير طلب الله ) ثم توبوا ( ارجعوا ) إليه ( بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار. ) يمتعكم متاعاً حسناً ( هو الترقي في المقامات العلية ) إلى أجل مسمى ( هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول ) ويؤت كل ذي فضل فضله ( أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول ، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات. والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله. ) عذاب يوم كبير ( هو عذاب الانقطاع
" صفحة رقم 15 "
عن الله الكبير ) ألا حين يستغشون ( ثياب الجسمية على وجه الروح كان ) يعلم ما يسرون ( من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب ) وما يعلنون ( من ثني الصدور ) إنه عليم بذات الصدور ( أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية. ) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ( لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائماً لمزاجه. فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقاً لمزاج كل منها ، ثم يهديها إلىما هو أوفق لها ) ويعلم مستقرها ( في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها ) ومستودعها ( الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل. ) ليبلوكم ( فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقاء. ) ولئن قلت ( للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريق لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية ) ليقولن الذين كفروا ( ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية ) إن هذا إلا سحر مبين ( أي كلام مموه لا أصل له. ) ولئن أخرنا عنهم ( عذاب البعد ) إلى أمة ( إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. ( هود : ( 25 - 49 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . .
" ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من
" صفحة رقم 16 "
قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين "
( القراآت )
إني لكم ( بكسر الهمزة : نافع وابن عامر وعاصم وحمزة. الآخرون بفتحها ) بادىء ( بالهمزة : أبو عمرو ونصير. ) الرأي ( بالياء : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الموقف ) فعميت ( مجهولاً مشدداً. حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون بضدهما ) أنلزمكموها ( باختلاس ضمة الميم : عباس ) أجري إلا ( بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص ) ولكني أريكم ( بالفتح حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) نصحي إن ( أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ) بأعيننا ( مدغماً. حيث كان : عباس ) من كل ( بالتنوين حيث كان : حفص والمفضل ) مجريها ( بفتح الميم بالإِمالة : حمزة وعلي وخلف وحفص ) اركب معنا ( مظهراً : عاصم وحمزة ) عمل ( على أنه فعل غير بالنصب : علي وسهل ويعقوب. الآخرون ) عمل ( غير بالرفع فيهما ) تسألن ( بالنون المشددة المسكورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في
" صفحة رقم 17 "
الحالين : ابن عامر وقالون : بإثبات الياء في الوصل : أبو جعفر ونافع غي قالون بفتح النون المشددة : ابن كثير ) تسألني ( بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير يا في الحالين ) إني أعظك ( ) إني أعوذ ( بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. الوقوف : ( مبين ( ه لا ) إلا الله ( ط ) أليم ( ه ) الرأي ( ج ) كاذبين ( ه ) فعيمت عليكم ( ط ) كارهون ( ه ) مالاً ( ط ) آمنوا ( ط ) تجهلون ( ه ) طردتهم ( ط ) تذكرون ( ه ) خيراً ( ط ) أنفسهم ( ج ) الظالمين ( ه ) الصادقين ( ه ) بمعجزين ( ه ) أن يغويكم ( ط ) ترجعون ( ه ط ) افتراه ( ط ) تجرمون ( ه ) يفعلون ( ه ج للآية والعطف ) ظلموا ( ج لا حتمال التعليل. ) مغرقون ( ه ) سخروا منه ( ه ) تسخرون ( ه ط ) تعلمون ( ه لا لأن ما بعده مفعول ) مقيم ( ه ) التنور ( ه لا لأن ما بعده جواب ( إذا ) ) ومن آمن ( ط ) قليل ( ه ط ) ومرساها ( ط ) رحيم ( ه ) الكافرين ( ه ) من الماء ( ط ، ) رحم ( ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل. ) المغرقين ( ه ) الظالمين ( ه. ) الحاكمين ( ه ) من أهلك ( ج ) علم ( ط ) الجاهلين ( ه ) علم ( ط ) الخاسرين ( ه ) معك ( ط ) أليم ( ه ) إليك ( ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف ) هذا ( ط وعلى قوله : ( فاصبر ( أحسن للابتداء ب ( أن ) ) للمتقين ( ه. التفسير : لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح. ومعنى ) إني لكم ( أي متلبساً بهذا الكلام وهو قوله : ( إني لكم ( فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول. و ) أن لا تبعدوا ( بدل من ) إني لكم نذير ( أي أرسلناه بأن لا تعبدوا ) إلا الله ( أو يكون ( أن ) مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازاً. وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار. ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات. الأولى أنه بشر مثلهم. الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا : لو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. والأراذل جمع أرذل. وقيل : جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته. ومعنى ) بادي الرأي ( أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية ، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر ، ومنه البادية للبرية لظهروها وبروزها للناظر. وهذا تفسير من
" صفحة رقم 18 "
قرأ بغير همز. وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه ، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يتعلق ) بادي الرأي ( بقوله : ( أراذلنا ( أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عياناً ، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ ) إلا الذين هم أراذلنا رأي العين ( وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه ، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعناً في النبوة وفي متابعة النبي. الشبهة الثالثة : ( وما نرى لكم علينا من فضل ( لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل ) بل نظنكم كاذبين ( خطاب لنوح ولم نآمن به بتبعيته ، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان. ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله : ( أرأيتم إن كنت على بينة ( برهان ) من ربي وآتاني ( بإيتاء تلك البينة ) رحمة ( وعلى هذا البينة هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس ) فعيمت ( خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم. والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازاً باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيراً اهتدوا وإن كان أعمى بقول خابطين متحيرين. ثم قال : ( أنلزمكموها ( أي أنكرهكم على قبول البينة ) وأنتم لها كارهون ( والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك. وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق. ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنياً أو فقيراً ) وما أنا بطارد الذين آمنوا ( عن ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم ، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله ) إنهم ملاقو ربهم ( فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم ، أو المراد أنهم متقدون لقاء ربهم ) ولكني أراكم قوماً تجهلون ( لقاء ربكم وأنهم خير منكم ، أو قوماً تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذلنا. ثم أكد عدم طردهم بقوله : ( ويا قوم من ينصرني من الله ( من يمنعني من عقابه ) إن طردتهم ( لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية. سؤال : إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نهي عنه بقوله : ( ولا
" صفحة رقم 19 "
تطرد الذين يدعون ربهم ( ؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طرداً مطلقاً وإنما عين لأجلهم أوقاتاً مخصوصة ، ولأشراف قريش أوقاتاً أخرى فعوتب على ذلك القدر. احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى ، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه. وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو. ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالاً فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلاً عليهم من هذه الجهة. ) ولا أعلم الغيب ( حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر ) ولا أقول إني ملك ( أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في ( الأنعام ) سائر ما يتعلق بالآية. ومعنى ) تزدري ( تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه. وفي قوله تعالى ) الله أعلم بما في أنفسهم ( دلالة على أنهم كانا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق ) إني إذا ( أي إن قلت شيئاً من ذلك كنت من الظالمين لنفسي. أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيراً مع أنه لا وقوف لي على باطنهم. ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين ) يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ( قال أهل المعاني : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقوله : جاد لي فلان فأكثر. لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف. وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء. ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجباب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد. وقوله : ( ولا ينفعكم نصحي ( كقول القائل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز. ولهذا قال الفقهاء : المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل : ( إن كان الله يريد أن يغويكم ( فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي. واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر. وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه ، ولعل نوحاً إنا قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة ، ولو تشبث الخصم بالجبر لزم إفحام النبي. ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك ، أو يراد به الخيبة كقوله : ( فسوف يلقون غياً ) [ مريم : 59 ] أي خيبة من خير الآخرة ، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مراراً. ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله : ( هو ربكم وإليه ترجعون ( ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال : ( أم يقولون افتراه ( فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله : ( قل إن افتريته فعليّ إجرامي ( أي عقاب إثمي وهو الافتراء. ) وأنا بريء مما تجرمون ( أي من
" صفحة رقم 20 "
إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وههنا إضمار كأنه قيل : لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه. وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح. وعن مقاتل أنها من قصة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقعت في أثناء قصة نوح. قوله سبحانه : ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن ( إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله : ( إلا من قد آمن ( فإن ( قد ) للتوقع. وقوله : ( فلا تبتئس ( تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم. قال أكثر المعتزلة : إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أو في أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ( إلى قوله : ( إلا فاجراً كفاراً ) [ نوح : 27 ] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك. وذهب كثير منهم إلى الجواز ، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح. ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء. ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال : ( واصنع الفلك ( وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك ، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقيل : أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً يسكنها. والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته. وقوله : ( بأعيننا ووحينا ( في موضع الحال أي متلبساً بذلك. والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين : أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله : ( بأعيننا ( وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة. والثاني أن يكون عالماً بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها. عن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وقيل : المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة. ثم قال : ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا ( أي في شأنهم. وقيل : علل عدم الخطاب بقوله : ( إنهم مغرقون ( أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة. وقيل : لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل. وقيل : المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه. ثم حكى الحال الماضية بقوله : ( ويصنع الفلك ( الحال أنه ) كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ( يحتمل أن يكون هذا جواباً ل ( كلما ) وقوله : ( قال إن تسخروا ( استئناف
" صفحة رقم 21 "
على تقدير سؤال سائل كأنه قيل : ماذا قال حينئذٍ ؟ ويحتمل أن يكون ) سخروا ( بدلاً من ) مر ( أو صفة ل ) ملأ ( و ) قال ( جواب ) قيل ( كانوا يقولون : يا نوحكنت نبياً فصرت نجاراً ، ولو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وقيل : إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون. وقيل : إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون. وقيل : طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا ولاحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذباً فيسخرون منه فأجابهم بقوله : ( إن تسخروا منا ( في الحال ) فإنا نسخر منكم ( في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة. أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله ، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر. والبناء على ظاهر الحال كما هو عدة الإغمار. وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] ثم هددهم بقوله : ( فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ( من الدنيا وهو عذاب الغرق ) ويحل عليه عذاب مقيم ( في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم. و ( من ) موصولة أو استفهامية وقد مر في ( الأنعام ). وري أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وارتفاعها ثلاثين. وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون : الأسفل للوحوش والسباع والهوام ، والأوسط للدواب والأنعام ، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزد وحمل معه جسد آدم. وقال الحسن : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة. قوله : ( حتى إذا جاء أمرنا ( هي غاية لقوله : ( ويصنع الفلك ( أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك. ) وفار التنور ( أي نبع الماء من بشدة وسرعة تشبيهاً بغليان القدر. والتنور هي التي يختبز فيها فقيل : هو ما استوى فيه العربي والعجمي. وقيل : معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء. عن ابن عباس والحسن ومجاهد : هو تنور نوح. وقيل : كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي. وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبياً. وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل. وقيل : بالهند. روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان. ويروى عن علي رضي الله عنه
" صفحة رقم 22 "
أيضاً أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله : ( وفجرنا الأرض عيوناً ) [ القمر : 12 ] وعنه أيضاً كرم الله وجهه أن معنى ) فار التنور ( طلع الصبح. وقيل : معناه اشتد الأمر كما يقال حي الوطيس. والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله ) قلا احمل فيها من كل زوجين اثنين ( والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى. فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين ، ومن قرأ بالتنوين. فالمراد حمل من كل شيء زوجين. واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلاً فيه لاحتياج الناس إليه ) وأهلك ( معطوف على مفعول ) احمل ( وكذا ) من آمن ( وقوله ( إلا من سبق عليه القول ( قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذا علم منهما ذلك. ثم قال ) وما آمن معه إلا قليل ( أي نفر قليل : عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحة الموصل لأنهم لما خرجا من السفينة بنوها. وقيل : اثنان وسبعون رجلاً وامرأة ، وأولاد نوح : سام وحام ويافث ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة ، وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا ثمانية ، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم. وقيل في بعض الروايات : إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه. قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله ) وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها ( الآية. فيه أبحاث الأول : أن الركوب متعد بنفسه يقال : ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها. فما الفائدة في زيادة لفظة ( في ) ؟ قال الواحدي : فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره. الثاني قوله : ( بسم الله ( إما أن تتعلق بقوله : ( اركبوا ( حالاً من الواو أي مسمين الله ، أو قائلين باسم الله ) ومجريها ومرسيها ( مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم : جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج ، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانها. وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل ، أو بالقول المقدر. وعلى التقادير يكون مجموع قوله : ( وقال اركبوا ( إلى قوله : ( ومرساها ( كلاماً ترسوا قال بسم الله فرست. ويجوز أن يقحم الاسم كقوله : تم اسم السلام عليكما ، وإذا أراد أن بالله إجراؤها وإرساؤها ، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلاً ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا
" صفحة رقم 23 "
فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم لله تعالى. يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، وأرساه غيره. يروى أنا سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم. ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعاً فأعقتها الله من الغرق. البحث الثالث قوله : ( إن ربي لغفور رحيم ( كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة ؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم ، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته. وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذ ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل بلسان الحال بسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان ، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام. قال في الكشاف : ( وهي تجري بهم ( متصل بمحذوف كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها ) في موج كالجبال ( في التراكم والارتفاع ، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج. واختلف المفسرون في قوله : ( ونادى نوح ابنه ( فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة ، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافراً كعكسه. واعترض عل هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ) [ نوح : 26 ] وأجيب بأنه كان منافقاً وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله : ( ولا تكن مع الكافرين ( أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء. وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه قرأ ) ونادى نوح ابنها ( ويؤكد هذا الظن قوله : ( إن ابني من أهلي ( دون أن يقول ( إنه مني ) وقيل : إنه ولد على فراشه لغير رشده وإليه الإشارة بقوله تعالى ) فخانتاهما ) [ التحريم : 10 ] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله : ( الخبيثات للخبيثين ) [ النور : 26 ] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوي مجنون. وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه. وقوله : ( وكان في معزل ( هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها ، أو كان في معزل عن دين أبيه. وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة ، ولكن قوله : ( ولا تكن مع الكافرين ( لا يساعد هذا القول. وقوله ( يا بني ( بكسر الياء
" صفحة رقم 24 "
لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة ، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء ، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال ) سآوي إلى جبل ( فأجاب نوح بأنه ) لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ( واعترض عليه بأن معنى ) من رحم ( من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم ؟ وأجيب بأن ( من ) فاعلة في المعنى لا مفعول ، والمراد نو ح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام ، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله : ( إن ربي لغفور رحيم ( وهو عاصم لا معصوم ، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم ، أو العاصم بمعنى ذو العصمة مفرغ والتقدير لا وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة ، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم ) وحال بينهما الموج ( أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى. وقوله سبحانه : ( وقيل يأرض ( الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد ههنا بعض ما استفدنا منهم فنقول : النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز الاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي ، وأن تستوي السفينة على الجودي - وهو جبل بقرب الموصل - فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه - لكمال هيبته - العصيان ، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويراً لاقتداره ، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته وإعداماً وتغييراً وتصريفاً كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علماً يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما ، فاستعمل ) قيل ( بدل ( أريد ) مجازاً إطلاقاً للمسبب على السبب ، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته. وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله : ( يا أرض ابلعي ماءَك ويا سماء ( والخطابان أيضاً على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضاً
" صفحة رقم 25 "
استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ. ووجعل قرينة الاستعارة نسبه الفعل إلى المفعول ، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضاً استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام ، وجع لقرينة الاستعارة لفظة ) ابلعي ( لكونها موضعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحاً لاستعارة النداء إذ كونه مخاطباً من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال ) ماءك ( بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب دون أن يقول ( ليبلع ماؤها ) لأجل الترشيح المذكور. ثم اختار مستعيراً لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في لمثل ما تقدم في ) ابلعي ( من ترشيح استعارة النداء. ثم قال ) وغيض الماء ( غاض الماء قل ونضب ، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى ) قضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً ( فلم يصرح بالفاعل سلوكاً لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره ، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية ، ثم ختم الكلام بالتعرض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيام الطوفان. وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير ( يا للنداء لأنها أكثر استعمالاً ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة ، ولهذا لم يقل ) يا أرضي ( بالإضافة تهاوناً بالمنادى ، ولم يقل ) يا أيتها الأرض ( للاختصار مع الاحتراز عن تكلفة التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه. واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة ، واختير ) ابلعي ( على ) ابتلعي ( لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين ) أقلعي ( أوفر. وقيل : ( ماءك ( بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار ، وكذا في إفراد الأرض والسماء. ولم يحذف مفعول ) ابلعي ( لئلا يلزم تعميم ) أقلعي ( حذراً من التطويل. وإنما لم يقل ) ابلعي ماءك فبلعت ( لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم. واختير ) غيض ( على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان ، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة
" صفحة رقم 26 "
بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل ، ولأن ) استوت ( أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل : ( بعداً للقوم ( دون أن يقال ) ليبعد القوم من بعد ( بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك ، للتأكيد مع الاختصار ودلالة ) لام ( الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل ) بعداً له ( من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي ، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله : ( وفار التنور ( ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله : ( وغيض الماء ( ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله ) وقضي الأمر ( أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله : ( واستوت على الجودي ( وكان جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل : كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب أجرام الكفار ؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل ، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أقعم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمسى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات. والظاهر أن القائل في قوله : ( وقيل بعداً ( هو الله تعالى لتناسب صدر الآية ، ويحتمل أن يكون القائل نوحاً وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام ، ولأنه جارٍ مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق. وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية المرا بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي كالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة عذبه على العذبات سلسة على الأسلات ، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه. ) ونادى نوح ربه ( أي أراد أن يدعوه ) فقال رب إن ابني من أهلي ( بعض سواء كان من صلبه أو ببياً له ) وإن وعدك ( أي كل ما تعد به ) الحق ( الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي ) وأنت أحكم الحاكمين ( أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدراع. ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك ( أي من أهلك دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح
" صفحة رقم 27 "
بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال : ( إنه عمل غير صالح ( من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملاً غير صالح وهو الإشراك والتكذيب ، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال : فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله : ( غير صالح ( دون أن يقول ) فاسد ( تعريض بل تصريح أنه إنما نجا من نجا بالصلاح ، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في ) إنه ( إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح. وقيل : المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه. ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم إن يأعظك أن تكون من الجاهلين ( قال المحققون : الظاهر أن ابنه كان منافقاً فلذلك اشتبه أمره على نوح ، وحمله شفقة الأبوة أوّلاً على دعوته إلى ركوب السفينة ، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق ، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمناً لإإنه يخلص من الغرق لا محالة. ولما لم يصبر لى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلاً ) رب إن يأعوذ بك أن أسألك ( فيما يستقبل من الزمان ) ما ليس بن علم ( تأدباً بآدابك واتعاظاً بعظتك. ) وألا تغفر لي ( ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد ، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر ، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله : ( ربنا ظلمنا ) [ الأعراف : 23 ] الآية. فلذلك عفى عنه. ) وقيل يا نوح اهبط ( أي من السفينة بعد استوائها على الجبل ، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبساً ) بسلام منا ( بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات ، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفاً من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات ، بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو ذريته ، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته ، دليله قوله سبحانه ) وجعلنا ذريته هم الباقين ) [ الصافات : 77 ] فنوح آدم الأصغر. وقيل : لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايذ والثبات لا عليك وحدك بل ) وعلى أمم ممن معك ( إن كان ) من ( للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات ، أو هم أصل
" صفحة رقم 28 "
الأمم التي انشبعت منه. وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر. وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال : ( وأمم ( وهو رفع على الباتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم ) سنمتعهم ( في الدنيا ) ثم يمسهم ( في الآخرة ) منا عذاب أليم ( عن ابن زيد : هبوطوا والله عنهم راض ، ثم أخرج منهم نسلاً منهم من رحم ومنهم من عذب ، وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب و ) تلك ( إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار. وقوله ( ولا قومك ( للمبالغة كقول القائل : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك. والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى. ومعنى ) من قبل هذا ( أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي ، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله : ( فاصبر ( كما صبر نوح و ) إن العاقبة ( الحميد ) للمتقين ( التأويل : ( ما نراك إلا بشراً مثلنا ( أي مخلوقاً محتاجاً مثلنا. وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفلياً فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة ، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون ) إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ( والأراذل من اتباع الروح الجوارح والجوارح الظاهرة ، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة نيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق. ) وما أنا بطارد الذين آمنوا ( من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح : إن ترد أن أومن بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف ) من ينصرني من الله ( من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة ، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون : إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة. ) أفلا تذكرون ( أن جميعة الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر ؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع ، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال ) وأنا برىء مما تجرمون ( من التكذيب. وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئاً من ذنوب النفس متأسفاً على معاملات
" صفحة رقم 29 "
النفس وتتبع هواها. ) وأوحي إلى نوح ( الروح ) أنه لن يؤمن من قومك ( وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه ) إلا من قد آمن ( من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه. فأما النفس فإنها لا تؤمن أبداً اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحياناً دون الإيمان ) فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهباً مقبولاً عند طرح الروح عليها ، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيراً عند طرح التوبة عليها ) أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم ، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم ) واصنع الفلك ( اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها ) ولا تخاطبني في الذين ظلموا ( فإن الظلم من شيم النفوس ) إنهم مغرقون ( في بحر الدنيا وشهواتها. ) وكلما مر عليه ملأ ( هم النفس وهواها وصفاتها ) يسخرون ( من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها ) حتى إذا جاء أمرنا ( وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة ) وفار ( ماء الشهوة من تنور القالب ) قلنا احمل ( في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها : كالشهوة وزوجها العفة. والحرص وزوجها القناعة ، والبخل وزوجها السخاء ، والغضب وزوجه الحلم ، وكذا الحقد مع السلامة ، والعداوة مع المحبة ، والكبر مع التواضع ، والتأني مع العجلة ) وأهلك ( وهم سفات الروح لا النفس ) ومن آمن ( وهم القلب والسر. وفي قوله تعالى : ( وقال اركبوا فيها باسم الله ( إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتلقيد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقة كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله : ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] ( في موج ( من الفتن ) كالجبال ونادى نوح ( الروح ) ابنه ( كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب ) وكان في معزل ( من معرفة الله وطلبه ) سآوي إلى الجبل ( العقل ) يعصمني من الماء ( الفتن ) لا عاصم اليوم ( أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة ) ابلغي ( ماء شهواتك ) اقلعي ( عن إنزال مطر الآفات ) وغيض ( ماء الفتن ببركة الشرع ) وقضي الأمر ( ما كان مقدراً من طوفان الفتن للابتلاء والتربية ، ) واستوت ( سفينة الشريعة ) على الجودي ( وهو مقام التمكين بعدمقامات التلوين ) وإن وعدك الحق ( وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من الرجوع إلى العالم العلوي : ( إنه ليس من أهلك ( وكان للروح أربعة بنين : ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل ، وواحد
" صفحة رقم 30 "
كافر وهو النفس. فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية ) اهبط ( من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن ) وأمم سنمتعهم ( هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية ) ثم يمسهم ( في الآخر عذاب البعد عن المألوفات ، ) فاصبر ( على تربية الروح والنفس ) إن العاقبة ( لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى. ( هود : ( 50 - 68 ) وإلى عاد أخاهم . . . .
" وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود "
( القراآت )
فطرني ( بفتح الياء : أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي ) إني أشهد (
" صفحة رقم 31 "
بالفتح : أبو جعفر ونافع. ) فإن تولوا ( بتشديد التاء : البزي وابن فليح. ) ويستخلف ( بالجزم : الخزاز عن هبيرة. الباقون بالرفع ) يومئذ ( بفتح الميم وكذلك في ( المعارج ) : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس. الآخرون بالجر. ) ألا ان ثمود ( غير منصرف والوقف بغير الألف : حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الباقون بالتنوين والوقف بالألف. ) لثمود ( بالتنوين في الوصل : علي. الوقوف : ( هوداً ( ط ) غيره ( ط ) مفترون ( ه ) أجراً ( ط ) فطرني ( ط ) تعقلون ( ه ) مجرمين ( ه ) بمؤمنين ( ه ) بسوء ( ط ) تشركون ( ه لا ) لا تنظرون ( ه ) وربكم ( ط ) بناصيتها ( ط ) مستقيم ( ه ) به إليكم ( ط للاستئناف إلا لمن قرأ ) ويستخلف ( بالجزم ) غيركم ( ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال ) شيئاً ( ط ) حفيظ ( ه ) منا ( ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم ) غليظ ( ه ط ) عنيد ( ه ) ويوم القيامة ( ط ) ربهم ( ط ) هود ( ه ) صالحاً ( لم امر في ( الأعراف ). ) غيره ( ط ) إليه ( ط ) مجيب ( ه ) مريب ( ه ) تخسير ( ه ) قريب ( ه ) أيام ( ط ) مكذوب ( ط ) يومئذٍ ( ط ) العزيز ( ه ) جاثمين ( ه لا لكاف التشبيه ) فيها ( ط ) ربهم ( ط ) لثمود ( ه. التفسير : قد مر في ( الأعراف ) تفسير قوله : ( وإلى عاد ( الآية. ومعنى قوله : ( إن أنتم إلا مفترون ( أنكم كاذوبن في قولكم إن هذ الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور. ثم قال مثل قول نوح ) يا قوم لا أسألكم عليه أجراً ( لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع ) أفلا تعقلون ( أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء. قيل : إنما قال في قصة نوح ) مالاً ( دون أجراً ( لذكر الخزائن بعده ، فلفظ المال بها أليف. وحذف الواو من ) يا قوم ( لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف. ) ويا قو استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ( قد مر مثله في أول السورة. وقال الأصم : المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله. ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإِيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصاً على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة ، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية ، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم ، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم. وقيل : المراد بالقوة الزيادة في المال. وقيل
" صفحة رقم 32 "
في النكاح. وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحياء الله بلادهم ورزقهم المال والولد. والمدرار الكثير الدر كما مر في أول ( الأنعام ). عن الحسن بن علي رضي الله عه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال : عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته مم قال ذلك ؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود ) ويزدكم قوة إلى قوتكم ( وقول نوح ) ويمددكم بأموال وبنين ) [ نوح : 12 ] ثم قول هود ) لا تتولوا ( أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ) مجرمين ( مصرين على الإِجرام والآثام. فجحدوا هوداً وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لولا أنزل عليه آية من ربه ) [ الرعد : 27 ] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا : إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوانٍ آية من الآيات. وقوله : ( عن قولك ( حال من الضمير كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك ) وما نحن لك بمؤمنين ( لا يصدق مثلنا مثلك أبداً. ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم : ( إن نقول إلا اعتراك ( وإلا لغو أي ما نقول شيئاً إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين. والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح. وأشهدهم أيضاً وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية : أشهد عليَّ أني لا أحبك تهكماً به. وقد مر قوله : ( فكيدوني ( الآية في آخر سورة الأعراف. وقوله : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ( تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره. قالت المعتزلة : هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا ملك إلا هو. وقوله : ( إن ربي على صراط مستقيم ( دليل العدل. والأشاعرة قالوا : معناه معنى. ) إن ربك لبالمرصاد ) [ الفجر : 14 ] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب ) فإن تولوا فقد أبلغتكم ( كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى. والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة. وفي قوله : ( ويستخلف ( إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئاً ) إن ربي على كل شيء حفيظ ( يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها ، أو يحفظني من شرككم وكيدكم ، أو ي