تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان - 1416 هـ - 1996 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 6
تحقيق : الشيخ زكريا عميران
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 3 "
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثالث من أجزاء القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
( البقرة : ( 252 - 254 ) تلك آيات الله . . . .
" تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون "
( القراآت )
لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعة ( بالفتح غير منون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ؛ الباقون : بالرفع والتنوين .
وكذلك في سورة إبراهيم : ( لا بيع فيه ولا خلال ) [ الآية : 31 ] وكذلك في سورة الطور : ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) [ الآية : 23 ] .
الوقف : الحق ط للابتداء ، بأن المرسلين 5 على بعض م ؛ لأنه لو وصل صار الجار والمجرور صفة لبعض فينصرف بيان تفضيل الرسل إلى بعض ، فيكون موسى عليه السلام من هذا البعض المفضَّل عليه غيره لا من البعض المفضَّل على غيره بالتكليم .
درجات ط للعدول ، القدس ط ، من كفره ط ، ما يريد ، ولا شفاعة ط ، الظالمون .
التفسير : ( تلك ( القصص المذكورة من حديث الألوف وإماتتهم ثم إحيائهم ، ومن تمليك طالوت وظهور الآية التى هى إتيان التابوت ، وغلبه الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ؛ ) آيات الله ( الباهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته ؛ ) نتلوها عليك ( بتلاوة جبرائيل وفيه تشريف عظيم بجبرائيل كقوله : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] ( بالحق ( باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت ، ولأن في تلاوتها حكمة شريفة وهي اعتبار المكلفين من أمتك ليحتملوا شدائد الجهاد كما
" صفحة رقم 4 "
احتملها الأمم السالفة ، ولأنها تدل على نبوّتك من قبل أنها أخبار بالغيب لما فيها من الفصاحة والبلاغة .
ثم اكّد ذلك بقوله : ( وإنك لمن المرسلين ( حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة ودراسة ، وفيه أيضاً تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يراه من الكفار وأهل النفاق من الخلاف والشقاق كما رآه الرسل قبله ، فالمصيبة إذا عمت طابت .
ولمثل هذا كرر فقال : ( تلك الرسل ( أي الذين تعرفهم وأنت من جملتهم ) فضلنا بعضهم على بعض منهم من ( فضله الله بأن كمله الله من غير سفير وهو موسى عليه السلام ) ورفع بعضهم درجات ( قيل إن ) درجات ( نصب بنزع الخافض ، وقيل رفع لبعضهم كقوله : ( ورفعناه مكاناً عالياً ) [ مريم : 57 ] أي له ، وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات ، وقيل مصدر في موضع الحال ، وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال : ورفعنا بعضهم رفعات .
وأيَّد عيسى بروح القدس ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم ، فلا تحزن على ما ترى من قومك ولو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضاه الله فهو كائن وما قدره فهو واقع .
واعلم أن الأمة أجمعت على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، وعلى أن محمداً أفضل الكل لوجوه منها قوله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ومنها قوله : ( ورفعنا لك ذكرك ) [ الشرح : 4 ] قرن ذكره بذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كلمة الشهادة وي الأذان وفي التشهد ، ولم يكن ذلك لساسر الأنبياء ؛ ومنها أنه قرن طاعته بطاعته : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [ النساء : 80 ] وبيعته ببيعته ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) [ الفتح : 10 ] وعزته بعزته : ( ولله العزة ولرسوله ) [ المنافقون : 8 ] ورضاه برضاه ) والله ورسوله أحق أن يرضوه ) [ التوبة : 62 ] وأجابته بإجابته ) يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول ) [ الأنفال : 2 ] ومحبته بمحبته : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] ومنها أن معجزاته أكثر وقد ترتقي إلى ألف من جملتها القرآن ، بل القرآن يشتمل على ألفي معجزة وأزيد ، لأن التحدي وقع بأقصر سورة هي الكوثر وإنها ثلاث آيات ، وكل ثلاث آيات من القرآن تصلح للتحدي فيكون معجزاً برأسه .
ومنها أن معجزته ، وهي القرآن ، باقية على وجه الدهر ومعجزاتهم قد انقضت وانقرضت مع أن معجزته من جنس ما لا يبقى زمانين وهي الأصوات والحروف ومعجزاتهم من جنس ما يبقى مدة طويلة .
ومنها أنه اجتمع فيه من الخصال الجميلة والخلال المرضية ما كان متفرقاً فيهم وإليه الإشارة بقوله : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] أي أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها ، فإنه لا يجوز أن يكون مأموراً
" صفحة رقم 5 "
بالاقتداء بهم في أصول الدين لأنه تقليد ، ولا في الفروع فإن شرعه ناسخ الشرائع ، فإذن المراد محاسن الأخلاق .
ومنها أنه بعث إلى الخلق كافة وكان يتحمَّل أعباء الرسالة أكثر فيكون ثوابه أزيد .
ومنها أن هذا الدين أفضل وإلا لم ينسخ به سائر الأديان فيكون شارعه أفضل ، ومنها أن أُمَّته أفضل : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ آل عمران : 110 ] وإذا كان التابع أفضل فالمتبوع أفضل ، ومنها أن أمته أكثر لكونه مبعوثاً إلى الجن والإنس ، ولا يخفى أن لكثرة التابعين أثراً قوياً في علو شأن المتبوع .
ومنها أن نبيٍّ نودي في القرآن فقد نودي باسمه .
) يا آدم اسكن ) [ البقرة : 35 ] ، ) يا موسى إني أنا الله ) [ القصص : 30 ] ، ) وناديناه أن يا إبراهيم ) [ الصافات : 14 ] ، ) يا عيسى إني متوفِّيك ) [ آل عمران : 55 ] .
وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه نودي بقوله : ( يا أيها النبي ) [ الأنفال : 64 وغيرها كثير ] ( يا أيها الرسول ) [ المائدة : 41 ، 67 ] ، بل أقسم بحياته ، ) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) [ الحجر : 72 ] وأما الأحاديث في هذا الباب ؛ فعن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه .
قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم لبعض : عجباً إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلاً واتخذ إبراهيم خليلاً .
وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليماً .
وقال آخر : ماذا بأعجب من جَعْل عيسى كلمة الله وروحه .
وقال آخر : ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته .
فسلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحابه ، وقال : ( قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وأن موسى نجيّ الله وهو كذلك ، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك ، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك .
ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيُدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ) .
وفي الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحِلت ل يالغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجُعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونُصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة ) وروى البيهقي
" صفحة رقم 6 "
في كتابه في فضائل الصحابة ظهر علي بن أبي طالب من البعيد فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا سيد العرب ) فقالت عائشة : ألست سيد العرب ؟ فقال : ( أنا سيد العالمين وهو سيد العرب ) .
ومما يؤكّد هذه المعاني ما ركز في العقول أن ذخائر كل ملك ينبغي أن تكون على مقدار من تحت تملكه فأمير المدينة يحتاج إلى عدة أكثر من عدة ريئس القرية .
ولما كانت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعمّ من نبوة سائر الأنبياء فإنه مبعوث إلى الثقلين كافة ، فلا جرم أُعطي من كنوز العلم والحكمة وذخائز المعارف والحقائق ، ومن جوامع الكلم وبدائع الحكم ومحاسن العادات ومكارم الأخلاق ما لم يؤت نبي قبله ولن يؤتى أحد بعده .
هذا وقد طعن فيه بعض الملحدة بأن معجزات سائر الأنبياء كانت أعظم من معجزاته ؛ فآدم جُعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النار فانقلبت روحاً وريحاناً ، وأُوتي موسى العصا واليد البيضاء ، وداود لان الحديدُ في يده ، وسليمان أُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وكان الجن والإنس والطير مًسَخرين له ، وقد اعترف محمد بفضلهم حتى قال : ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) .
وقال : ( لا تخيروا بين الأنيباء ) .
وقال ( لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا ) وذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها .
والجوان أن كون آدم مسجوداً للملائكة لا يوجب كونه أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آدم ومَن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) وقوله : ( كنت نبياً وأدم بين الماء والطين ) .
ونُقل أن جبريل عليه السلام أخذ ركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود ، وأنه تعالى يصلي بنفسه على محمد إلى يوم القيامة ، وسجود الملائكة لآدم ما كان إلا مرَّة واحدة على أن ذلك السجود أيضاً إنما كان لأجل نور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كان في جبهته ، وأن أول الفكر آخر العمل ولهذا قال : ( لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك ) ومَنْ تأمَّل دلائل النبوة وجد في مقابلة كل معجزة كان لنبي قبله معجزة أفضل منها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأما قوله : ( لا تفضلوني. .. ولا تخيروا ) ، فنوع من التواضع وسلوك طريق الأدب .
وأيضاً التمييز بين الشخصين إنما يمكن بعد الإحاطة بفضائلهما جميعاً وذلك مرتبة لا تليق بكل أحد ، فورد النهي عنه حتى لا يؤدي إلى محذور ، والحاصل أن التوفيق بين قوله ( لا تفضلوني ) وبين ما مرّ من الأحاديث أن كلاً منهما ورد في مقام آخر ولغرض آخر ، فحيث رآهم يزدرون بشأنه ويتعجبون من الأنبياء
" صفحة رقم 7 "
السالفة منعهم عن ذلك ، وقال : ( أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين ) .
وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال : ( لا تفضلوني ) ؛ على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء ، للواقع فقد يكون الشيء حقاً في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف ، فالمراد بهذا الأمر : لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم ، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم .
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله : ( من كل الله ( التقدير : من كلمه ، فحذف العائد وقرىء كلم الله بالنصب وليس بقوي ؛ فإن كلّ مصلٍّ فإنه يكلم الله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المصلي يناجي ربه ) وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري : المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت ، مكما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة .
وقالت المعتزلة : سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال .
واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختُلف في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج هل كلمة الله أم لا ؛ منهم مَنْ قال نعم بدليل قوله : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 10 ] وأورد ههنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة ، فقد كلم الله إبليس حيث قال : ( أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين ) [ الأعراف : 14 ، 15 ] الآيات ، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمه من غير واسطة ، فلعلّ الواسطة كانت موجودة ، قلت : هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة فسمان : مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى ، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس : ( وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) [ ص : 78 ] وكما في أهل النار : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) [ المؤمنون : 108 ] أما قوله : ( ورفع بعضهم درجات ( فقيل : المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلاً ، وأعطى داود الملك والنبوة ، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح .
وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان ، وخصّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه .
هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب .
أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه ؛ وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه ؛ فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر ، ومعجزات عيسى
" صفحة رقم 8 "
من إبراء الأكمه والأبرص تناسب للطب لأن كل ذلك على قومه ، ومعجزة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذٍ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر .
وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة ، وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأُمة والصحابة وقوة الدولة .
وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذٍ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر .
وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة .
وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأُمة والصحابة وقوة الدولة .
وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مستجمعاً للكل ؛ فمنصبه أعلى ، ومعجزته أقوى وأبقى ، وقومه أكثر ، ودولته أعظم وأوفر ، وقبل المراد بهذه الآية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه هو المفضَّل على الكل .
وإنما قال : ( ورفع بعضهم درجات ( على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل عظيماً فيقال له : من فعل هذا ؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به .
وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه ، ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يبق فيه فخامة .
وليس قوله ) ورفع بعضهم درجات ( تكراراً لقوله ) فضلنا بعضهم بعضهم على بعض ( لأن المفهوم من قوله ) فضلنا ( هو وجود نفس الفضل والمفهوم من قوله ) ورفع بعضهم درجات ( هوالتفاوت بالدرجات الكثيرة .
) وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ( قد سبق تفسيره ، وإنما عدل عن الغيبة إلأى الحكاية لأن الضمير في قوله ) وآتينا ( للتعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء ، وأما قوله ) كلم الله ( فأهيب من قوله ) كلمنا ( فلهذا اختير الغيبة .
وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون ، فنبَّه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما وتبيُّن معجزاتهما ، لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم مَنْ آمن ومنهم مَنْ كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا ، فلهذا قال تعالى : ( ولو شاء الله ( أي أن لا يقتتلوا ما اقتتل الذين من بعدهم لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضاً ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء ، ومنهم من كفر بإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا .
كرر الكلام تكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ، ولكن الله يفعل ما يريد .
وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال ، ومسألة إرادة الكائنات ، وأن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله عز وجل في العبد ، والمعتزلة يقيدون المطلق في الآيتين فيقولون المراد ولو شاء الله مشيئة الجاء وقسر كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم يشرب النصارى الخمر ويقولون المراد يفعل ما يريد من أفعال نفسه. ثم إنه
" صفحة رقم 9 "
تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله ) وقاتلوا في سبيل ) [ البقرة : 190 ] وأعقبه بقوله ) منْ ذا الذي يقرض الله ) [ الحديد : 11 ] ، والغرض منه الإنفاق في الجهاد ، ثم أكّد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، أعقبه تارة أخرة الأمر بالإنفاق في الجهاد بقوله ) يا أيها الذين امنوا أنفقوا مما رزقناكم ( وعن الحسن أنه مختص بالزكاة لأن قوله ) من قبل أن يأتي يوم ( كالوعيد وأنه لا يتوجه إلا على الواجب ، والأكثرون على أنه عام يتناول الواجب والمندوب .
وليس في الآية وعيد وإنما الغرض أن يعلم أن منافع الآخرة لا تكتسب إلا في الدنيا ، وأن الإنسان يجيء وجده وما معه إلا ما قدم من أعماله .
ومعنى قوله ) لا بيع ( أنه لا تجارة فيه فيكتسب ما يفتدى به من العذاب ، أو يكتسب مالاً حتى ينفق منه ، ) ولا خلة ( لا مودة ، لأن كلّ أحد يكون مشغولاً بنفسه لكل امرىءد منهم يومئذٍ شأن يغنيه ، أو لأن الخوف الشديد غالب على كل أحد يوم تذهب كل مرضعة عما أَرضعت .
ثم إنه لما نفى الخلة والشفاعة مطلقاً ذكر عقيبة قوله ) الكافرون هم الظالمون ( ليدلّ على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا فتصير الآية دالة على ثبوت الشفاعة في حق الفسَّاق .
نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ، ولم يقل والظالمون هم الكافرون .
وقيل أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، لأنهم تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، فقال ) والكافرون ( للتغليظ كقوله ) ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) [ آل عمران : 97 ] أي ومن لم يحج .
وقيل المراد .
إن الكافرين إذا دخلوا النار فالله لم يظلمهم بذلك ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر والفسق .
فهو كقوله ) ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ) [ الكهف : 49 ] وقيل ( الكافرون ) هم الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة من الأصنام ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
وقيل المعنى والكافرون هم التاركون الإنفاق في سبيل الله من قوله ) آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) [ الكهف : 33 ] وأما المسلم فإنه ينفق في سبيل الله قل أم كثر .
وفائدة الفصل أنهم الكاملون في الظلم البالغون فيه المبلغ العظيم .
التأويل : ( تلك آيات الله ( أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته ) نتلوها عليك بالحق ( نجلوها عليك بالحقيقة ما هي ) وإنك لمن المرسلين ( الذين عبروا هذه المقامات وشاهدوا تلك الأحوال والكرامات ، وصح لهم صفاء الأوقات ولذة المناجاة في الخلوات ، ثم فطموا عن ألبان تلك اللذات في حجر القربات ، وأرسلوا إلى أهل الغدر والغفلات وعبدة طواغيت الهوى وأصنام الشهوات ، ليدعوهم من دار الغرور إلى دار السرور ويخرجونهم من الظلمات
" صفحة رقم 10 "
إلى النور ، ولكنهم ما صاحبوك في الجلوات فإنهم بقوا في السموات وأنت عبرت المكونات ) فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [ النجم : 9 ، 10 ] فوصلت من العبدية إلى العندية ، ثم فطمت عن رضاع لي مع الله وقت ، وابتليت بسفارة جبريل ، ثم لقيت من القوم ما لقيت ، فحق لك أن تقول : ( ما أوذي نبي مثل أوذيت ) لأن غيرك ما سقي من شرب ما سقيت فما أوذي بفطام مثل ما أوذيت .
) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ( غشارة إلى أن التفاضل في الدين والدنيا بين العباد ليس بسعيهم ومناهم وإنما هو بتفضيل الله إياهم ، فلكلّ من أهل الفضل أنوار ، ولأنوارهم آثار على قدر استعلاء أضواء أنوارهم لا على قدر سعيهم واختيارهم .
وهذا التفاوت صارد من تلك الأقسام حين جرت به الأقلام ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل وغوى ) .
ثم إن الفضل فضلان : عام يمتاز به عن المردودين ) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] ؛ وخاص يمتاز به عن المقبولين كما ثبت لسيد المرسلين والتفاوت في الأووار على قدر التفاوت في الظلمات المخلوقة المستعدة لقبول النور في بدر الخلقة لا في حقيقة النور ، فإنه موصوف بالوحدة ، ولهذا ورد بلفظ الوحدان في قوله ) وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ المائدة : 16 ] والرفعة في الدرجات في قدر قوة الاستعلاء ، كما قال : ( والذين أوتوا العلم درجات ) [ المجادلة : 11 ] فالعلم هو الضوء مننور الوحدانية ؛ فكلما ازداد العلم ازدادت الدرجة ، وعلى قدر غلبان أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الأنبياء بعضها فوق بعض .
فقد يبقى بعضهم في مكان من أماكن السموات ، كما روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه رأى آدم ليلة المعراج في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة ، وهارون في السماء الخامسة ، وموسى في السماء السادسة ، وإبراهيم عليه السلام في السماء السابعة ، وأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما بقي في مكان بل رفع به إلى سدرة المنتهى ثم إلى قاب قوسين أو أدنى ، لأنه كان فانياً بالكلية عن ظلمة وجوده باقياً بنور شهود ربه ، ولهذا سماه الله نوراً ) قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) [ المائدة : 15 ] : ثم لما أخبر عن فضيلة الخواص بأنها كانت بسبب تفضيله إياهم ، أخبر عن اختلاف العوام وافتراقهم أنه كان بمشيئة لا بمشيئتهم فقال : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ( ثم أخبر عن إحراز الفضل أنه في الإنفاق والبذل فخاطب أهل الإيمان أي : إن كان إيمانكم بالبعث والنشور والثواب والعقاب والجنة والنار حقّاً فتصدقوا منكل ما رزقناكم
" صفحة رقم 11 "
من المال والجاه والقوة والقدرة والعلم والمعرفة وغيرها في مصارفها العامة والخاصة ، أنفقواملكنا ومالنا في صلا أنفسكم واغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان مع الإخوان ، ) من قبل أن يأتي يوم ( لا يشترى فيه ما يباع من الأموال والأنفس في سوق ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) [ التوبة : 111 ] ولا ينفع خليل دنيوي ، لأن ) الأخلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) [ الزخرف : 67 ] ( ولا شفاعة ( لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، ) والكافرون هم الظالمون ( لأنفسهم لأنا أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب وأمرناهم بالإنفاق ووعدناهم الثواب وحذرناهم العقاب وقد أعذر من أنذر والله المستعان .
( البقرة : ( 255 - 257 ) الله لا إله . . . .
" الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ( القرآآت : تعرف ممَّا مرَّ .
الوقوف : ( إلا هو ( ج ، لأن قوله : ( الحي القيوم ( يصلح بدلاً عن الضمير وخبر ضميراً آخر محذوف ) القيوم ( ج لاختلاف الجملتين ، ) ولا نوم ( ط ، ) وما في الأرض ( ط لابتداء الاستفهام .
) بإذانه ( ط لأنتهاء الاستفهام ) وما خلفهم ( ج للفرق بين الأخبار عن علمه الكامل مطلقاً وإثبات علم الخلق المقدر لمشيئته مبتدأ بالنفي .
) بما شاء ( ج لاختلاف الجملتين .
) حفظهما ( ج ) العظيم ( ه .
) الغي ( ج ، لأن من للشرط مع فاء التعقيب ) الوثقى ( ط قد قيل للاستئناف بالنفي والوجه الوصل على جعل الجملة حالاً للعروة أي : استمسك بها غير منفصمة ) لها ( ط .
) عليم ( ه .
) آمنوا ( لا ، لأن ) يخرجهم ( حال والعامل معنى الفعل في ) ولي ( تقديره : الله يليهم مخرجاً لهم أو مخرجين ) إلى النور ( ط للفصل بين الفريقين : ( الطاغوت ( لا ، لأن ) يخرجونهم ( حال .
إلى الظلمات ط ) النار ( ج. ) خالدون ( ه .
" صفحة رقم 12 "
التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام ، وعلم القصص بعضها ببعض ، والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضاً رحمة شاملة ولطف كامل ؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه .
وإذ قد تقدَّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد .
فقال : ( الله لا إله إلا هو الحى القيوم ( عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ) .
وعن عليّ رضي اللهعنه : ( سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول النة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره جاره والأبيات حوله ) وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم من آية الكرسي ؟ .
ثم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي سيد البشر آدم عليه السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي ) .
وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلتُ ثم جئتُ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول : ( يا حي يا قيوم ) لا يزيد على ذلك .
ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ذلك .
فلا أزال أذهب وارجع وأنظرإليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له .
واعلم أن الذكر والعلم يتعبان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعالٍ عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأوصل والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات .
ولنشتغل بالتفسير .
أما لفظ ( الله ) فقد مرَّ تفسيره في أول الكتاب .
وأما قوله ) لا إله إلاَّ هو ( فقد سبق تفسيره في قوله ) وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ( وما ) الحي القيوم ( فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، لا أنا نزيد ههنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله
" صفحة رقم 13 "
( الحي القيوم ) .
ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذٍ في السجود .
وأما الدليل العقلي فإن ( الحي ) قبل هو الذي يصلح أن يعلم ويدقر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك .
ونحن نقول إن ( الحي ) في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملاً في جنسه فإنه يسمَّى حيَّا .
ومن ههنا يصحُّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض ، فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون موروقة نضيرة ، ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة .
فالمفهوم من ( الحي ) هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته .
وأما ( القيوم ) فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره .
والثاني أنَّ غيره يفتقر في قوامه إليه ، وبهذا الثاني يزيد على مفهوم ( الحي ) .
ومن هذين الأصلين يتشعَّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوماً ؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيُّن فيكون كلّ منهما مركّباً من جزأين فلا يكون قيوماً ولا حيّا ، فإن كلّ مركّب مفتقِرٌ وكل مفتقِرٍ ممكنٌ ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزاً لأن كلَّ متّحيزٍ منقسمٌ ، قد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يُشار إليها ، وإلا كان متحيزاً ؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذل ؛ ومنها أنه الم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيَّا قيماً كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجبُ العلم بالمعلول فيكون عالماً بما سواه .
ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر .
( والحي ) أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله ( يو ) بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً ، جعلنا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو ( والقيوم ) مبالغة قائم ، وأصله ( قووم ) على ( فيعول ) ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة ولو كان ( قوّوما ) على ( فعول ) لقيل ( قووم ) ، وعن عمر أنه قرأ ( الحي القيام ) وقرىء ( القيم ) ثم كان بين أنه ( حي قيوم ) أكد ذلك بقوله ) لا تأخذه سنة ولا نوم ( ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمَّى النعاس ، أي : لا
" صفحة رقم 14 "
يأخده نعاس ، فضلاً أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولاً ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولاً ضمناً ثم ثانياً صريحاً .
ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم ، والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل امر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لو سنان نائم .
ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم .
وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجباً بجميع صفاته ، فلا يكون حيَّا ولا قيوماً وهذا خلف .
روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قاروتين مملؤتين ماء في كل يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ .
فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا .
وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرضين .
وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على ( الحي القيوم ) والتجويز شك ، والشك في مثله كفر ، ثم لما بيَّن كونه ( قيوماً ) وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكماً وهو قوله ) له ما في السموات وما في الأرض ( لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكاً له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جارياً في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام : ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) [ يونس : 18 ] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجهٍ من الوجوه إلا بأمره كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه .
فأشار إلى الأول بقوله ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ( ، وإلى الثاني بقوله ) ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ( والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير في السموات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول ) مَن ذا ( من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء .
عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة ؛ وعن الضحاك والكلبي : ( ما بين أيديهم ) : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، ( وما خلفهم ) الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم .
وعن ابن عباس : ( يعلم ما بين أيديهم ) من السماء إلى الأرض ، ( وما خلفهم ) يريد ما في السموات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد
" صفحة رقم 15 "
ذلك ، الغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الهل ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله : ( لا علم لنا إلا ما علمتنا ) [ البقرة : 32 ] ويحتمل أن يرا : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ) [ الحن : 26 ] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئاً إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى .
ثم إنه لما بين كماله ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال ) وسع كرسيه السموات والأرض ( يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لو كان موسى حيَّا ما وسعه إلا اتباعي ) أي : لم يحتمل غير ذلك .
وأما ( الكرسي ) ، فأصله من التركيب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته ، وللمفسرين في معناه ههنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه .
وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا .
وعن السدي أنه تحت الأرض .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى لاتشيبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى .
وههنا أسرارا لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبداً من عبيدة فهو أعلم بمحارم أسراره. وقيل : المراد من الكرسي أن السيطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمِّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه ؛ فإن الملك مكانه الكرسي .
وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه .
ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض .
وقيل : المقصود من الكلام تصير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد .
واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم ؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له
" صفحة رقم 16 "
يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما كما يزور الناس بيوت ملوكمهم .
وذكر في الجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك .
وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين .
وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : ( الرحمن على العرش استوى ) [ طه : 5 ] ووصف عرشه فقال : ( وكان عرشه على الماء ) [ هود : 71 ] ثم قال ) وترى الملائكة حافين من حول العرش ) [ الزمر : 75 ] ثم قال ) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً .
ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهبة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الموهمة العرش والكرسي ) ولا يؤده ( لا يثقله ولا يشق عليه ؛ ) حفظهما ( حفظ السموات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة .
ثم بيَّن أنه مع كونه مقوِّماً للممكنات مقيماً للأرضين والسموات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : ( وهو العلي العظيم ( والمراد مهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة. وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان .
وقوله سبحانه : ( لا إكراه في الدين ( الآية : لما بيَّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للأعذار ذكر بعد ذلك. أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ؛ وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار ، وينافيه الإكراه والإجبار .
ومما يؤكد ذلك قوله : ( قد تبين الرشد من الغي ( يقال بَانَ الشيء واستبان وتبيَّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين .
والرشد إصابة الخير ، والغي نقيضه .
أي : تمزي الحق من الباطل ، والإيمان الكفر ، والهدى من الضلال ، بكثرة الحجج والبينت ووفور الدلائل والآيات .
) فمن يكفر بالطاغوت ( قال النحويون : وزنه ( فعلوت ) نحو جبرون وأصله من ( طغى ) ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها .
وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت ، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال : هم رضا وعدل .
ولهذا قال تعالى : ( أولياؤهم الطاغوت ) [ البقرة : 257 ] والأصل فيه التذكير .
قال تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) [ النساء : 60 ] فأما معنى ( الطاغوت ) فعن عمر ومجاهد وقتادة : هو الشيطان .
وعن سعيد بن حبير : الكاهن .
وقال أبو العالية : الساحر .
وعن بعضهم : الأصنام ، وقيل : مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، وإنما جعلت
" صفحة رقم 17 "
هذه الأشياء أسباباً للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله ) رب إنهن أضللن كثيراً من الناس ) [ إبراهيم : 36 ] ويعلم من قوله ) فمن يكفر بالطاغوت ( ثم من قوله : ( ومن يؤمن بالله ( ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلاً ، ثم يؤمن بعد ذلك ، ) فقد استمسك بالعروة الوثقى ( استمسك وتمسك بمعنى ، والعروة واحدة عرى : الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به .
والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصَمْتُه فانفصم .
والمقصود من قوله ) لا انفصام لها ( هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول ههنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله ) وما منا إلا له مقام معلوم ) [ الصافات : 164 ] أي مَن له .
وقيل : معنى قوله ) لا إكراه في الدين ( لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى يه خيراً يحمله عليه .
ثم قال بعضهم : إنه منسوخ بقوله ) جاهد الكفار والمنافقين ) [ التحريم : 9 ] وقال بعضهم : هو في أهل الكتاب خاصة ، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحُكْم المجوس حُكْمهم .
وأما الكفار الذي تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرُّون على ذلك ويكرهون على الإسلام .
وقيل يقرُّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون .
روي أنه كان لأنصاريٍّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصَّرا قبل أن يبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما .
فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما .
وقيل معنى قوله ) لا إكراه ( أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعدالحرب وصحَّ إسْلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله ) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً ) [ النساء : 94 ] ( والله سميع عليم ( يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر ، يعلم ما في قلب المؤمن من الإعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث .
وعن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سراً وعلانية فقيل له : والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك .
قوله سبحانه : ( الله ولي الذين أمنوا ( أي متولي أمورهم وكافل مصالحهم ( فعيل )
" صفحة رقم 18 "
بمعنى ( فاعل ) والتركيب يدل على القرب ، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ، ومنه الولاي لأنه يلي القوم بالتدبير ، وفيه دليل على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمنين وفيما يتعلق بالدين أكثر ما ألطافه في حق الكافر ، وذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الشك إلى اليقين .
والإخراج يشمل الكافر إذا آمن والمؤمن الأصلي ، ولا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات ، وإن لم يكونوا في الظلمة ألبتة ؛ فإن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات والضلالات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع تشابه ، ومثله قوله : ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) [ أل عمران : 103 ] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار .
ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سمع إنساناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله فقالك ( على الفطرة ) فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله قال : ( خرج من النار ) ومن المعلوم أنه ما كان فيها .
قال الواحدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه تعالى أراد بهما الكفر والإيمان إلا قوله في أول الأنعام ) وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] فإنه عنى به الليل والنهار .
قال : وإنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول ألإدراك .
قلت : قد مر أن الإيمان والعلم وجميع الكمالات النفسانية والمعارف اليقينية أنوار تزداد النفس بها نورية وإشراقاً فلا حاجة إلى هذا التكلف .
) والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ( مصدر ، ولهذا وحد في موضع الجمع ) يخرجونهم من النور إلى الظلمات ( وإنما وحد النور وجمع الظلمة لأن الحق وما يرجع إليه طريقه واحد وهو أيضا في نفسه واحد ، وأما الباطل فلا حصر له ولا لطرقه .
كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد ، والمنحنية غير محدود .
وإسناد الإضلال إلى الطاغوت ، وهو كل من ينسب إلى الطغيان ، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة وتنتهي إلى قضائه وقدره كما سبق تحقيقه مراراً .
) أولئك ( الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط والوسائل ) أصحاب النار ( فيكون زجراً للكل ووعيداً لهم أعاذنا الله من ذلك .
التأويل : ( الحي القيوم ( : أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه ( الحي ) مشتمل على جميع أسمائه وصفاته .
فإن من لوازم الحي أن يكون قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً مريداً باقياً إلى غير ذلك من نعوت الكمال ، واسمه ( القيوم ) دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه ؛ فإذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين ، انكشف للعبد عند تجلي صفته ( الحي ) معاني جميع أسمائه وصفاته ؛ وعند تجلي صفته ( القيوم ) فناء جميع المخلوقات ، إذ كان قيامها
" صفحة رقم 19 "
بقيومية الحق لا بأنفسهم ، فلما جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا ( الحي القيوم ) إذ سلب ( الحي ) جميع أسماء الله وسلب ( القيوم ) قيام الممكنات ، ففني التعدد وبقيت الوحدة ، فيذكره عند شهود عظمة الواحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية ، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب .
وإذا سئل به أعطى ؛ لأنه حينئذٍ ينطق بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه .
فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الواحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته ، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم .
كما ئيل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال : الاسم الأعظم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت .
) لا تأخذه سنة ولا نوم ( ، لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة ، وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة .
) من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( هذا الاستثناء راجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قيل : من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها ) وعسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) [ الإسراء : 79 ] ( ويعلم ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما بين أيديهم ( من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق ، كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أول ما خلق نوري ، أو ل ما خلق الله العقل أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام ) ) وما خلفهم ( من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي ورجوعهم إليه بالاضطرار ، ) ولا يحيطون بشيء من علمه ( وإنما هو شاهد على أحوالهم وسيرهم ومعاملاتهم وقصصهم ) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ) [ هود : 120 ] ويعلم أمور أخرتهم وأحوال أهل الجنة والنار ، وهم لا يعلمون شيئاً من ذلك ) إلا بما شاء ( أن يخبرهم عنه ) وسع كرسيه السموات والأرض ( : مثال العرش في عالم الإنسان قلبه ؛ ومثال الكرسي : سره .
وسوف يجيء تمام التحقيق إن شاء الله تعالى في قوله ) الرحمن علىالعرش استوى ) [ طه : 9 ] وإن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن .
) ولا يؤده حفظهما ) [ البقرة : 31 ] ولما أظهر لمخلوقاته من العرش والكرسي ولقلب المؤمن وسره علواً في المرتبة وعظمة في الخلقة ظهاراً لكمال القدرة والحكمة ، تردَّى برداء الكبرياء واتّزر بإزار العظمة والبهاء وهو أولى بالمدح والثناء فقال : ( وهو العلي العظيم ( فنم علا في الآخرة والأولى فبإعلائه ، ومن عظم فبتعظيمه .
ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله ) لا إكراه في الدين ( كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ليس الدين بالتمني ) مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو
" صفحة رقم 20 "
الإجبار ، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً أو التسليم لأحكام الحقِّ باطناً من غير حرج وضيق عطن .
ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله ) فمن يكفر بالطاغوت ( يتبرأ منه ؛ فطاغوت العوام الأصنام ، وطاغوت الخواص هو النفس ، وطاغوت خواص الخواص ما سوى الله .
وإيمان العوام إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، وإيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا وسلوك طريق العقبى .
وشهود القلب مع المولى .
وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله ، وإنابة القلب إلى الفناء في الله ، وإخلاء السر للبقاء بالله ، وهذا هو السكر الموجب للشكر ، ولهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي ) تبت إليك ) [ الأحقاف : 15 ] أي عن هذه الإفاقة ، فكان مخصوصاً عن عالمي زمانه بالإيمان العياني وشريكاً مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل :
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي
ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله ) كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] ولا تكون أيضا من بطشك وإلا كانت منفصمة ، بل تكون من بطشه ) إن بطش ربك لشديد ) [ البروج : 12 ] ولكل مؤمن عروة مناسبة لمقامة في الإيمان ؛ فهي للعوام توفيق الطاعة ، وللخواص مزيد العناية بالمحبة ) يحبهم ويحبونه ) [ القصص : 88 ] ولا تكون أيضاً من بطشك ظلمات الغيرية وتبقيه بنور الربوبية ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين ) وأعمالهما فانية من عالم الحدوث ، وجذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام ، فالمحذوب لا يخلص منها أبد الآبدين .
ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ( يخرج العوام من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية ، والخواص من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية والربانية ، وخواص الخواص من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء .
) والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ( : ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان ، والأولياء بلفظ الجمع ، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله ) أنداداً يحبونهم كحب الله ) [ البقرة : 165 ] ؛ فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية وإن فسر بالشيطان أو النفس ؛ فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية وصفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية والسبعية
" صفحة رقم 21 "
والشيطانية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، دركات بعضها تحت بعض ) أولئك ( أي أرواح الكفار مع النفس والشيطان والصنام أصحاب النار ، لأن الأرواح ، وإن لم تكن من جنسهم ولكن من تشبه بقوم قهو منهم .
والله المستعان .
( البقرة : ( 258 - 260 ) ألم تر إلى . . . .
" ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم " ( القرآآت : ( ربِّي الذي ( مرسلة الياء : حمزة .
الباقون بالفتح ) أنا أحيى ( بالمد : أبو جعفر ونافع ، وكذلك ما أشبهها من المفتوحة والمضمومة ، وزاد أو نشيط بالمد في المكسورة في قوله تعالى ) إن أنا إلا نذير ) [ الأعراف : 188 ] وأشباه ذلك ) مائة ( وبابه مثل ( فئة ) وقد مر .
) لبث ( وبابه بالأظهار : ابن كثير ونافع وخلف وسهل ويعقوب ) لم يتسنه ( في الوصل والوقف بالهاء : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، لأن الهاء للسكت وهاء السكت تزاد للوقف .
الباقون : بالهاء الساكنة في الحالين ، والهاء إما أصلية مجزومة بلم ، أو هاء سكت .
وأجروا الوصل مجرى الوقف ) إلى حمارك ( كمثل الحمار بالإمالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون ، وحمدوية والنجاري عن ورش ، وابن ذكوان وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي بن شنبوذ عن أهل مكة .
) ننشرها ( بالراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثيبر وأبو جعفر ونافع .
الباقون بالزاي .
) قال أعلم ( موصولاً والابتداء بكسر الهمزة على الأمر : حمزة وعلي .
الباقون : مقطوعاً والميم مضموممة على الإخبار ) فصرهن ( بكسر الصاد : يزيد وحمزة وخلف ورويس والمفضَّل ، ) جزءاً ( بتشديد الزاي : يزيد ووجهه أنه خفف بطرح همزته ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف .
" صفحة رقم 22 "
وقرأ أبو بكر وحماد ( جزءاً ) مثقال مهموزاً .
الباقون : ساكنة الزاي مهموزة .
الوقوف : ( الملك ( لأن إذ ليس بظرف لإيتاء الملك .
) ويميت ( ( لا ) ) قال ( عامل ، إذ ) أميت ( ط ، ) كفر ( ط ، ) الظالمين ( لا ، للعطف بأو التعجب .
) عروشها ( ج لأن ما بعده من تتمه كلام قبله من غير عطف .
) موتها ( ج لتمام المقول مع العطف بفاء الجواب والجزاء ) بعثه ( ط .
) كم لبثت ( ط .
) يوم ( ط .
) لم يتسنه ( ج وإن اتفقت الجملتان لوقوع الحال المعترض بينهما ، ومن وصل حسن له الوقف على ) حمارك ( بإضمار ما يعطف عليه قوله ) ولنجعلك ( أي لتستيقن ولنجعلك ، ومن جعل الواو مقحمة لم يقف ) لحماً ( ط لتمام البيان ) له ( ( لا ) لأن ) قال ( جواب لما .
) قدير ( ه ) الموتى ( ط ) تؤمن ( ط .
) قلبي ( ط ) سعياً ( ط ، لاعتراض جواب الأمر ) حكيم ( التفسير : إنه سبحانه ذكر ههنا قصصاً ثلاثاً ؛ أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور .
فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه ، عن مجاهد أ ، ه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والحاجة المغالبة بالحجة .
والضمير في ( ربه ) لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون ل ( نمرود ) ، والهاء في ( أن آتاه ) قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر ، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط ، ولأنه يناسب قوله ) فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ) [ النساء : 54 ] .
وقال جمهور المفسرين : الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم ، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطةً وسعةً في الدنيا .
ومعىن أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكراً له كقولك ( عاداني فلاني لأني أحسنت إليه ) تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ويجوز أن يكون المعنى : حاج وقت أن آتاه .
وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال : من ربك الذي تدعو إليه ؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت .
وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلا بد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله ، بصير بأعضائه وأحواله ، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] ( وهو الذي خلقكم من تراب ) [ غافر : 67 ] ( ألم نخلقكم من ماء مهين ) [ المرسلات : 20 ] ويروى أن الكافر دعا حينئذٍ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال : أنا أيضاً أحيي وأميت .
ثم للناس في هذا المقام طريقان : الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من
" صفحة رقم 23 "
نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال ) إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ( قالوا : وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة .
وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس .
ولما طعن الملك الكافر ف الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفاً ؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح .
لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس ، فإن جنس الحياة والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى الأجسام فللخلق درة عليه. وأيضاً دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد .
وأيضاً إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب .
وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها ، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب ، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك ، والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال ، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب ؟ ولما كانت هذه الأعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا : إن إبراهيم عليه السلام لما أحتج بالإحياء والإماتة قال المنكر : أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية ؟ أما الأول فلا سبيل إليه ، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر ، فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب ، وتناول السم يفضي إلى الموت ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بناء على معتقدهم ، وكانوا أصحاب تنجيم - بأن لها من فاعل ومدبر ، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن الحركات والاتصالات لا بد لها من فاعل ومدبر ، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات ، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسموات .
قلت : وفيه أيضاً طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى ، ) فبهت الذي كفر ( يقال : بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير ، وبهت بالضم مثله .
وقد قرىء بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال
" صفحة رقم 24 "
باهت ولا بهيت قاله الكسائي ) والله لا يهدي القوم الظالمين ( فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتاً محجوجاً ، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته .
القصة الثانية قوله سبحانه ) أو كالذي مر على قرية ( ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر ، ونظيره من القرآن ) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون الله ) [ المؤمنون : 186 - 187 ] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل : لمن السموات ؟ فقيل : لله .
ومثله قول الشاعر :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وعن الأخفش : أن الكاف زائدة والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، أو إلى الذي مر .
وعن المبرد : أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر .
واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلاً كافراً .
شاكاً في البعث لأن قوله ) أنى يحيى ( استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن ، ولأنه تعالى قال في حقه ) فلما تبين له ( وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلاً قبل ذلك .
وكذا قوله ) أعلم أن الله على كل شيء قدير ( وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا .
ثم من هؤلاء من قال : إن أرميا هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحاق .
وقال وهب بن منبه : إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة .
وقيل : هو عزير على ما يجيء حجة هؤلاء أن قوله ) أنى يحيي هذه الله بعد موتها ( يدل على أنه كان عالماً بالله ، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة .
وأيضاً قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله ) قال كما لبثت ( وفي قوله ) وانظر ( ) ولنجعلك ( وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضاً .
روي عن ابن عباس أن يختصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير - ومنهم عزير وكان من علمائهم - فجاء بهم إلى بابل .
فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك وقال ) أنى يحيي هذه الله بعد موتها ( أي من أين يتوقع عمارتها ؟ لا على
" صفحة رقم 25 "
سبيل الشك في القدرة ، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً .
وكانت الأشجار مثمرة فتتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع ، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير ) كم لبث ؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم .
قال : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك ( من التين والعنب ) وشرابك ( من العصير لم يتغير .
فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد .
ثم قال ) وانظر إلى حمارك ( فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله .
فسمع صوتاً : أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلأى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به ، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب ، ثم العروق ، ثم انبسط اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور منالجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخر عزير ساجداً فقال ) اعلم أن اله على كل شيء قدير ( ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل ، وقد كان يختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة وكان فيهم عزير .
والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً .
وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله .
وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس .
وقال ابن زيد : هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت .
ومعنى قوله ) خاوية على عروشها ( ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط .
والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب ، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة ، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل .
ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله ، وخوى بطن الحامل .
( وعلى ) بمعنى ( عن ) أي خاوية عن عروشها ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها ، قال في الكشاف : ويجوز أن يكون ) على عروشها ( خبراً بعد خبر كأنه قيل : هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة ، وكان التعجب من ذلك اكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فياه من عروش الفواكه ) فأماته الله مائة عام ( لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية ) ثم بعثه ( أي أحياه كما كان أوّلاً عاقلاً فهماً مستعداً للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال أحياه لم
" صفحة رقم 26 "
تحصل هذه الفوائد .
) قال كم لبثت ( أي كم مدة ؟ فخذف المييز .
والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة ) قال ( بناء على الظن لا بطريق الكذب ) لبثت يوماً أو بعض يوم ( روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس .
فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً .
ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم .
والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان سبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره ) لم يتسنه ( لم يتغير .
وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه .
وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير ، وقولهم ( سانيت الرجل مساناة ) إذا عامله سنة .
وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير ، وقولهم ( أجرت الدار مسانهة ) .
وقيل : أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى ) من حما مسنون ) [ الحجر : 26 ] أي متغير منتن .
وإما من السنة أيضاً بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننه بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلاً .
وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تفضض .
ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء اسكت في الوقف .
وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله ( لم يتسن ) أي الشراب بقي بحاله للم ينصب فعلى هذا يكون قوله ) لم يتسنه ( عائداً إلى الشراب وحده ، ويوافقه قراءةٍ ابن مسعود ) فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن ( وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحاً لأن يعود إلى الطعام وإلى الشارب جميعاً .
فإن قيل : إنه تعالى لما قال ) بل لبثت مائة عام ( كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك ، ولكن قوله ) فانظر ( يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم .
فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل : ( وانظر إلى حمارك ( فرآه عظاماً نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقياً ، وما يمكن أن يبقى زماناً طويلاً وهو الحمار غير باقٍ فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميماً .
وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال ، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله ) بل لبثت مائة عام ( ) ولنجعلك آية ( قال الضحاك : معناه أنه جعله دليلاً على صحة البعص .
وقال غيره : كان آية ) للناس ( لأن الله تعالى بعثه شاباً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق وقيل : إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية .
وقيل : إن حماره لم يمت .
والمراد وانظر إلى حمارك سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الأيات أن يعيشه مائة
" صفحة رقم 27 "
عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ، وأما فائدة الواو في قوله ) ولنجعلك آية للناس ( فقد قال الفراء : فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام .
بل المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ومثله في القرآن كثير ) وكذلك نصرف الآيات وليقولوا من الموقنين ) [ الأنعام : 105 ] ( وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماء والأرض وليكون من الموقنين ) [ الأنعام : 75 ] ( وانظر إلى العظام كيف ننشرها ( بالراء المهملة أي كيف نحييها .
وقرىء ) كيف ننشرها ( من نشر الله الموتى بمعنى نشرهم .
ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط .
وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله ) من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) [ يس : 79 ] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب .
والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج ( وكيف ) في موضع الحال من العظام والعامل فيه ( ننشرها ) لا ( انظر ) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، وأ ، اللام فيه بدل من الكناية .
وعن قتادة والربيع وابن زيد : أن العظام عظام هذا الرجل نفسه .
قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعص إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه ، وزيف بأن قوله ) لبثت يوماً أو بعض يوم ( إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة .
وأيضاً قوله ) ثم بعثه ( يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها ، وقيل : هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وفاعل تبين مضمر تقديره ) فلما تبين له ( أن الله على كل شيء قدير ) قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ( فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله ( ضربني وضربت زيداً ) أو التقدير : فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم .
وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالاً .
ومن قرأ ) اعلم ( على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم ) واعلم أن الله عزيز حكيم ( قال القاضي : القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله ) فلما تبين له ( فلا يحسن الأمر بتحصيل الحاصل ، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة ، فإن من قدر
" صفحة رقم 28 "
على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادراً على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة ، ولهذا أوردت القضية كلية .
نعم لو قيل : اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمراً بتحصيل الحاصل ، على أن ذلك أيضاً ممنوع فإن الأمر حينئذٍ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد ، وذلك كقولك للمتحرك ( تحرك ) أي واظب على الحركة ولا تفتر ، وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراآت السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى ؟ القصة الثالثة قوله عم طوله ) وإذا قال إبراهيم ( التقدير : واذكر وقت قول إبراهيم .
وقيل : معطوف على قوله ) إلى الذي ( أي ألم تر إلى وقت قول إبراهيم .
وههنا دقيقة وهي أنه لم يسم عزيراً في قصته بل قال ) أو كالذي مرّ على قرية ( وههنا سمى إبراهيم لأن عزيراً لم يحفظ الأدب بل قال ابتداء ) أنى يحيي هذه الله بعد موتها ( وإبراهيم أثنى على الله أولاً بقوله ) رب أرني ( وأيضاً إن عزيراً استبعد الإحياء فأرى ذلك في نفسه ، وإبراهيم التمس ودعا بقول ) أرني ( فأرى ذلك في غيره .
ومعنى أرني بصرني .
وذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً .
الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج : إنه رأة جيفة مطروحة على شط النهر ، فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، فإذا أكل السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء هذا الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر .
فقيل : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى .
ولكن المطلوب بالسؤال أن يصير العلم الاستدلالي ضرورياً .
الثاني : قال محمد بن إسحاق والقاضي : إنه في مناظرته مع نمرود لما قال ربي الذي يحيي ويميت قال الكافر أنا أحيي وأميت فأطلق محبوساً وقتل آخر فقال إبراهيم : ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال ) رب أرني كيف تحيي الموتى ( لتنكشف هذه المسألة عند نمرود وأتباعه ، ويزول الإنكار عن قلوبهم .
وري أن نمرود قال له : قل لربك يحيي وإلا قتلتك ، فسأل الله ذلك ، وقوله ( ليطمئن قلبي ( أي بنجاتي من القتل ، أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني ، وأن عدولي إلى غيرها كان سبب جهل المستمع .
الثالث : عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أوحى إليه أني أتخذ بشراً خليلاً ، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السلام وقال : إلهي ، ما علامة ذلك ؟ فقال : علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله أني لعلي أكون ذلك الخليل فسأل الله إحياء الموتى فقال الله : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي على أني خليل
" صفحة رقم 29 "
لك. الرابع : لا يبعد أن يقال : إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم .
الخامس : لعله طالع في المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم ، الخامس : لعله طالع في الصحف المنزلة عليه أن الله تعالى يحيي الموتى بدعاء عيسى ، فطلب ذلك ليطمئن قلبه أنه ليس أقل منزلة عند الله من عيسى وأنه من ولاده السادس : أمر بذبح الولد فسارع إلى ذلك فقال : إهلي ، أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح فامتثلت فشلرفني بأن تجعل بدعائي فاقد الروح ذا روح .
السابع : أراد أن يخصصه الله بهذا التشريف في الدنيا بأن جميع الخلائق يشاهدون الحشر في الآخرة .
الثامن : لعل إبراهيم لم يقصد إحياء الموتى بل قصد سماع الكلام بلا واسطة .
وأما أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في المعاد فلا ينبغي أن يعتقد فيه ، ومن كفر النبي المعصوم فهو بالكفر أولى وكيف يظن ذلك بإبراهيم عليه السلام وقوله ( بلى ( اعتراف بالإيمان ، وقوله ( ليطمئن قلبي ( كلام عارف طالب لمزيد اليقين .
والشك في قدرة الله يوجب الشك في نبوّة نفسه ، والذي جاء في الحديث من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن أحق بالشك منه ) ، فذلك أنه لما نزلت هذه الآية قال بعض من سميعها : شك إبراهيم ولم يشك نبينا .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه ( نحن أحق بالشك منه ) والمعنى أننا لم نشك ونحن دونه ، فكيف يشك هو ؟ والاستفهام في قوله ) أولم تؤمن ( للتقرير كقوله : ألستم خير من ركب المطايا ؟ وأيضاً المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مؤمناً بذلك عارفاً به ولكن سألت ليزيد قلبي سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال .
وقد تعرض الخواطر للمستدل بخلاف المعاين ، هذا إذا قلنا : المطلوب حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أما إذا قلنا : إن الغرض شيء آخر فلا إشكال ) فخذ أربعة من الطير ( عن ابن عباس : هنّ طاوس ونسر وغراب وديك ، وفي قول مجاهد وابن زيد : حمامة بدل النسر ) فصرهن إليك ( بضم الصاد وكسرها من صاره يصوره ويصيره أي أملهن وضمهن إليك وقال الأخفش : يعني وجههنّ إليك ، وفائدة أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها أن يتأملها ويعرف أشكالها وهيئتها وحلاها كيلا تلتبس بعد الإحياء ، ولا يتووهم أنها يغر تلك .
وفي الآية حذف كأنه قبل أملهن وقطعهن ) ثم اجعل على كل جبل منهم جزءاً ( وقيل : معنى صرهن قطعهن فلا اضمار .
روي أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط
" صفحة رقم 30 "
ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله ، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها ، وأنكر أبو مسلم هذه القصة وقال : إن إبراهيم عليه اسللام لما طلب إحياء الموتى من الله أراه الهل تعالى مثالاً قرب به الأمر عليه .
والمراد ب ) صرهن إليك ( الإمالة والتمرين على الإجابة أي قعود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ، والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، ويؤكده قوله ) ثم ادعهن ( أي الطيور لا الأجزاء ) يأتينك سعياً ( وزيف قول أبي مسلم بأنه خلاف إجماع المفسرين ، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم فلا يلزم له مزية ، وأيضاً إن ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ما سأل ، وعلى قوله لا تكون الإجابة حاصلة .
ولأن قوله ) على كل جبل منهنُّ جزءاً ( دليل ظاهر على تجزئة الطيور وحمل الجزء على أحد الطيور الأربعة بعيد ، ثم ظاهر قوله ) على كل جبل ( جميع جبال الدنيا .
فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل : فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة لعيه .
وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع : أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة والجهات الأربع .
وقال السدي وابن جريج : المراد كل جبل كان يشاهده إبراهيم وكانت سبعةز أما قوله ) ثم ادعهنّ يأتيك سعياً ( فقيل : عدواً ومشياً على أرجلهنّ لأن ذلك أبلغ في الحجة ، وقيل : طيراناً .
ورد بأنه لا يقال للطير إذا طار سعى .
وأجيب بأن السعي هو الاشتداد في الحركة مشياً كانت أو طيراناً ، واحتج الأصحاب بالآية على أن البنية ليست شرطاً على صحة الحياة لأنه تعاغلى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً قادراً على السعي والعدو .
قال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البينة من حيث إنه أوجب التقطيع بطلان حياتها ، والجواب أن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فيدل على المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأحزاء حال تفرقها كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة .
) واعلم أن الله عزيز ( غالب على جميع الممكنات ) حكيم ( عالم بعواقب الأمور وغايات الأشياء .
التأويل : إن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكاً ما أعطى أحداً قبله ادّعى الربوبية وما ادّعاها أحد قبله .
وسبب ذلك أن الإنسان لحسن استعداده للطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال لا يتوقف لحظة إلا لمانع ، ولكنه جبل ظلوماً جهولاً ، فمتى وكل إلى نفسه مال إلى عالم الحس ، موافقاً لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب وطبعه الميل
" صفحة رقم 31 "
إلى السفل فيرى الكمال في جمع المال ثم طلب الجاه فيصرف المال فيه ثم في الحكم والتسلط .
فإذا ملك السلفيات بأسرها وقهر ملوك الأرض أراد أن ينازع ملك الملوك وجبار الجبابرة فيقول : أنا أحيي وأميت ، وليس للعالم رب إلا أنا جهلاً بالكمال وذلك عند فساد جوهره وبطلان استعداده ، كما أنه إذا صلح جوهره بحسن تربية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو من ينوب منابه - وهو الشيخ - قال : ليس في الوجود سوى الله .
وهذا هو حقيقة ) فاعلم أن لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) [ محمد : 19 ] يعني كن فانياً عن وجودك بالكلية ، واستغفر لذنب حسبان وجود غير وجوده فافهم جداً وإن لم تكن مجداً ، فإن المجد من يدق بمطرقة ( لا إله إلا الله ) دماغ نمرود النفس إلى أن يمؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده كل ما سوى الله .
) قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ( اعتراض على قول الكافر أنا أحيي وأميت ، والمراد أن إرسال النفس الناطق لتدبر البدن اطلاع شمس الحياة من أفق البدن ، فإن كنت صادقاً في دعواك أن هذا يتأتى منك فأمسكها عندك وهو الإتيان بالشمس من مغربها ، وأنه آية القيامة من مات فقد قامت قيامته ) فبهت الذي كفر ( لأنه إن أمكنه أن يدعي الإحياء بمعنى الإبقاء وهو اطلاع الشمس من المشرق ، فلن يمكنه أن يدعي الإماتة بمعنى قبض الروح من غير آلة القتل وهو الإتيان بالشمس من المغرب ، فهذه طريقة لا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة في التفير .
ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعى في حجته عقيب الدعوى بقوله تعالى ) أو كالذي مر على قرية ( وذلك أن قوماً أنكروا حشر الأجساد بعد اعترافهم بحشر الأرواح ، وزعموا أن الأرواح إذا خرجت من سجن الأشباح وتقوت بالعلوم الكلية التي استفادتها من عالم الحس فما حاجتها أن ترجع إلى السجن والقيد ، كما أن الصبي إذا استفاد العلوم في المكتب وكبر قدره وعظم وقعه لم يحتج إلى أن يرجع إلى المكتب وحال صباه ، فهو سبحانه لكمال فضله ورأفته دفع هذه التسويلات النفسية ورفع هذه الشبهات الفلسفية بأن أمات عزيراتً مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعاً ليعلم أن الله تعالى مهما أحيا عزير الروح أحيا معه حمار الجسد ، وكما أن عزير الروح يكون عند الملك الجبار يكون حمار الجسد في جنات تجري من تحتها الأنهار ، فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفات الجلال والجمال ) وسقاهم ربهم شراباً طهوراً ) [ الدهر : 21 ] ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولحمار الجسد مرتع من
" صفحة رقم 32 "
الرياض ومشرب من الحياض ) فيها ما تشتهي وتلذ الأعين ) [ الزخرف : 71 ] ( وقد علم كل أناس مشربهم ) [ البقرة : 60 ]
شربنا وأهرقنا على الأرض قسطها
وللأرض من كأس الكرام نصيب
ثم أكد حديث الحشر بقصة عن خليله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك قوله ) رب أرني كيف تحيي الموتى ( فيفوح منه رائحة قول موسى ) رب أرني أنظر إليك ) [ الأعراف : 143 ] إلا أن موسى لم يحفظ الأدب في الطلب فما رأى غير النص