المقدمة
الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَبَيَّنَ لَنَا الأَحكَامَ، وَفَقَّهَنَا فِي الحَلَالِ وَالحَرَامِ، أَنْزَلَ عَلَيْنَا أَحْسَنَ كُتُبِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا أَفْضَلَ رُسُلِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَقَامَ عَلَيْنَا الحُجَّةَ، وَأَوْضَحَ لَنَا المَحَجَّةَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْ صَحَابَتِهِ الكِرَامِ، أَعْمَقِ الأُمَّةِ عِلْمًا، وَأَقَلِّهِمْ تَكَلُّفًا، وَعَنِ الأَئِمَّةِ الأَعْلَامِ المُوَقِّعِينَ عَنِ اللهِ، المُبَلِّغِينَ عَنْ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ إِجَابَاتُ أَسْئِلَةٍ عِلْمِيَّةٍ، مُسْتَنَدُهَا الكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الأُمَّةِ، وَالرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِ الأَئِمَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَوْلُهُ: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَيْ: إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، أَنْ يُرَدَّ التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)، فَمَا حَكَمَ بِهِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَشَهِدَا لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ الحَقُّ، وَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ)؛ أَيْ: رُدُّوا الخُصُومَاتِ وَالجَهَالَاتِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمَا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَكُمْ، (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَاكَمْ فِي مَجَالِ النِّزَاعِ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ. وَقَوْلُهُ: (ذَٰلِكَ خَيْرٌ)؛ أَيْ: التَّحَاكُمُ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَالرُّجُوعُ فِي فَصْلِ النِّزَاعِ إِلَيْهِمَا خَيْرٌ، (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)؛ أَيْ: وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلًا، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. انتهى.
وَعَنْ مُحَمَّدِ التَّيْمِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ عُمَرَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَفِي الخِتَامِ: مَا كَانَ مِنْ صَوَابٍ فَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ، وَمَا كَانَ مِنْ خَطَأٍ فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللهُ بَرِيءٌ مِنْهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمْلَاهُ: فَضِيلَةُ الشَّيْخِ المُحَدِّثِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ
(1)
آلَاتُ الطَّرَبِ: مَا يَحْرُمُ مِنْهَا وَمَا يُبَاحُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي آلَاتِ الطَّرَبِ؟
فَأَجَابَ: آلَاتُ الطَّرَبِ بِأَنْوَاعِهَا حَرَامٌ، إِلَّا الدُّفَّ لِلنِّسَاءِ فِي العِيدِ وَالعُرْسِ، فَإِنَّهُ مُسْتَثْنَى، وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ المَعَازِفِ: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ. وَالمُؤَلَّفَاتُ فِي بَيَانِ تَحْرِيمِهَا مِنَ القُرْآنِ وَالحَدِيثِ كَثِيرَةٌ. وَلِلاخْتِصَارِ: أُحِيلَ الرَّاغِبَ فِي الوُقُوفِ عَلَيْهَا عَلَى كِتَابِ فَلْتَةِ هَذَا العَصْرِ الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: "تَحْرِيمُ آلَاتِ الطَّرَبِ".
وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي تَحْرِيمِهَا إِلَّا هَذَا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ المَوْصُولُ الشَّافِي الكَافِي لَأَغْنَى؛ فَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ، وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ - يَعْنِي الفَقِيرَ - لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الكُبْرَى.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي "مَجْمُوعِ الفَتَاوَى": «ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إِلَى أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ كُلَّهَا حَرَامٌ».
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي "أَدَبِ المُفْتِي وَالمُسْتَفْتِي" عَنْ آلَاتِ اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ وَالغِنَاءِ: «اسْتِمَاعُ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي الإِجْمَاعِ وَالخِلَافِ أَنَّهُ أَبَاحَ هَذَا السَّمَاعَ».
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ "فَتْحِ البَارِي": «وَأَمَّا اسْتِمَاعُ آلَاتِ المَلَاهِي المُطْرِبَةِ المُتَلَقَّاةِ مِنْ وَضْعِ الأَعَاجِمِ، فَمُحَرَّمٌ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَلَا يُعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ الرُّخْصَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ نَقَلَ الرُّخْصَةَ فِيهِ عَنْ إِمَامٍ يُعْتَدُّ بِهِ؛ فَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى».
فَالمَعَازِفُ حَرَامٌ حَرَامٌ حَرَامٌ بِذَاتِهَا، لَا لِأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إِلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ أَوِ انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ أَوْ تَضْيِيعِ فَرَائِضِهِ، وَإِنْ كَانَتْ المَعَازِفُ مَصْيَدَةَ الشَّيْطَانِ لِلصَّدِّ عَنْ دِينِ اللهِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ المَعَازِفُ وَآلَاتُ اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ وَسَائِلَ لِلتَّعْلِيمِ أَوِ التَّرْبِيَةِ أَوِ الدَّعْوَةِ أَوِ العِلَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالقُرْآنِ فَلَا أَغْنَاهُ اللهُ.
(2)
الصَّلَاةُ فِي المَسْجِدِ الَّذِي بِهِ قَبْرٌ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ بِنَاءِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ، وَمَا حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي المَسْجِدِ الَّذِي بِهِ قَبْرٌ؟
فأجاب: مِنَ الأُمُورِ المُحْدَثَاتِ، وَالبِدَعِ الضَّلَالَاتِ: بِنَاءُ المَسْجِدِ عَلَى القَبْرِ، أَوْ قَبْرُ المَيِّتِ فِي المَسْجِدِ، وَمَنْ أَجَازَ قَصْدَ المَسْجِدِ الذِي دَاخِلُهُ قَبْرٌ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً، فَضْلًا عَنِ اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ خَالَفَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الأُمَّةِ.
فَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ. زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: «وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ».
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الأُمِّ": وَرَأَيْتُ الأَئِمَّةَ بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى؛ يَعْنِي عَلَى القَبْرِ. وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ قَامَ يُصَلِّي إِلَى قَبْرٍ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَنَادَاهُ عُمَرُ: القَبْرَ القَبْرَ. رَوَاهُ الأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ، وَعَلَّقَهُ البُخَارِيُّ مَجْزُومًا بِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ الذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)). قَالَتْ: فَلَوْلَا ذَاكَ أَبْرَزَ قَبْرَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يُحَذِّرُ مِثْلَ الذِي صَنَعُوا))
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي كِتَابِهِ (شَرْحِ الصُّدُورِ): "اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ، سَابِقُهُمْ وَلَاحِقُهُمْ، وَأَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَنْهُمْ إِلَى هَذَا الوَقْتِ: أَنَّ رَفْعَ القُبُورِ وَالبِنَاءَ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ مِنَ البِدَعِ التِي ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا، وَاشْتَدَّ وَعِيدُ رَسُولِ اللهِ لِفَاعِلِهَا، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ".
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي (مَجْمُوعِ الفَتَاوَى): "لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ القُبُورِ مَسَاجِدَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ عَلَيْهَا أَوْ بِقَصْدِ الصَّلَاةِ عِنْدَهَا، بَلْ أَئِمَّةُ الدِّينِ مُتَّفِقُونَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ، لَا نَبِيٍّ، وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَصْدَ الصَّلَاةِ عِنْدَ قَبْرِ أَحَدٍ، أَوْ عِنْدَ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلَى قَبْرٍ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: أَمْرٌ مَشْرُوعٌ، بِحَيْثُ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي المَسْجِدِ الذِي لَا قَبْرَ فِيهِ: فَقَدْ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ، وَخَالَفَ إِجْمَاعَ المُسْلِمِينَ".
(3)
زِيَارَةُ القُبُورِ: مَا يُشْرَعُ فِيهَا وَمَا لَا يُشْرَعُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا السُّنَّةُ فِي زِيَارَةِ القُبُورِ، وَمَا آدَابُهَا؟
السُّنَّةُ زِيَارَةُ الرِّجَالِ لِلْقُبُورِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهَا، وَالدُّعَاءِ لِأَهْلِهَا بِالرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ، وَيَتَذَكَّرُ الآخِرَةَ، وَإِنْ زَارَ قَرِيبَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَلَا بَأْسَ، دُونَ أَنْ يَقْرَأَ الفَاتِحَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ السُّوَرِ وَالآيَاتِ.
وَلَا يُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ قَصْدُ القَبْرِ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَسُؤَالِ اللهِ عِنْدَهُ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ، وَلَا لِيَتْلُوَ القُرْآنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ البِدَعِ وَوَسَائِلِ الشِّرْكِ وَذَرَائِعِهِ، فَإِنْ سَأَلَ الأَمْوَاتَ شَيْئًا مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا أَوِ الآخِرَةِ؛ فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: (قَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي الدُّعَاءِ وَأَوْقَاتِهِ وَأَمْكِنَتِهِ، وَذَكَرُوا فِيهِ الآثَارَ، فَمَا ذَكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَضْلَ الدُّعَاءِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنَ القُبُورِ حَرْفًا وَاحِدًا، فِيمَا أَعْلَمُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ وَالحَالَةُ هَذِهِ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ عِنْدَهَا أَجْوَبَ وَأَفْضَلَ؟!، وَالسَّلَفُ تُنْكِرُهُ وَلَا تَعْرِفُهُ، وَتَنْهَى عَنْهُ وَلَا تَأْمُرُ بِهِ). انتهى.
وَمِنْ آدَابِ الزِّيَارَةِ: مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ).
وَقُبُورُ الصَّحَابَةِ، كَمَقْبَرَةِ البَقِيعِ، وَمَقْبَرَةِ الشُّهَدَاءِ كَغَيْرِهَا مِنَ المَقَابِرِ؛ يُقَالُ عِنْدَهَا الدُّعَاءُ المَشْرُوعُ الذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحَابَةَ، وَيُتَرَضَّى عَنْهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورِ المَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ).
وَلَا يُشْرَعُ لِلزَّائِرِ أَنْ يَسْأَلَهُمُ الشَّفَاعَةَ، إِذْ لَا أَصْلَ لِهَذِهِ المَسْأَلَةِ، بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ، وَلَا يَطْلُبَ مِنْهُمْ تَفْرِيجَ الكُرُبَاتِ؛ فَإِنَّهُ شِرْكٌ أَكْبَرُ.
وَكَذَلِكَ قَبْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْرَا خَلِيفَتَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، إِنَّمَا المَشْرُوعُ السَّلَامُ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَالتَّرَضِّي عَنْ صَاحِبَيْهِ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَتِ. ثُمَّ يَنْصَرِفُ. صَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَلَا يُشْرَعُ لَا لِلْفَرْدِ وَلَا لِلْجَمَاعَةِ الدُّعَاءُ وَسُؤَالُ اللهِ عِنْدَ الحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ وَرَجَاءَ الإِجَابَةِ، وَلَوْ رَفَعَ الدَّاعِي يَدَيْهِ مُتَوَجِّهًا لِلْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ عَمَلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَالاسْتِغَاثَةُ بِنَبِيِّنَا وَحَبِيبِنَا وَسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَغَيْرِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ - وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ - شِرْكٌ أَكْبَرُ.
وَالمَشْرُوعُ بَعْدَ قَبْرِ المَيِّتِ الاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَسُؤَالُ اللهِ لَهُ الثَّبَاتَ، كُلٌّ عَلَى حِدَةٍ، حَيْثُ ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ -، إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ المَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَالنَّوَوِيُّ.
وَلَا يَنْبَغِي الغُلُوُّ وَالعُكُوفُ عِنْدَ القَبْرِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ فَيُشْرَعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(4)
حُكْمُ العَمَلِيَّاتِ التَّجْمِيلِيَّةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ إِجْرَاءِ عَمَلِيَّةٍ تَجْمِيلِيَّةٍ لِإِزَالَةِ عَيْبٍ أَوْ ضَرَرٍ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ إِقْسَامِ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ عَلَى إِضْلَالِ النَّاسِ -: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ).
قَالَ القُرْطُبِيُّ: "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الإِشَارَةُ بِالتَّغْيِيرِ إِلَى الوَشْمِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنَ التَّصَنُّعِ لِلْحُسْنِ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالحَسَنُ".
إِنَّ تَغْيِيرَ الإِنْسَانِ لِخِلْقَتِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
القِسْمُ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ التَّغْيِيرُ لِإِزَالَةِ عَيْبٍ أَوْ ضَرَرٍ، كَإِزَالَةِ السِّمْنَةِ، وَتَعْدِيلِ الأَسْنَانِ، وَهَذَا جَائِزٌ.
القِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّغْيِيرُ لِلْحُسْنِ وَزِيَادَةِ الجَمَالِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
مَا كَانَ التَّغْيِيرُ فِيهِ عَنْ طَرِيقِ عَمَلِيَّاتِ التَّجْمِيلِ الجِرَاحِيَّةِ وَحُقَنِ الفِيلَر، كَالعَبَثِ بِمَعَالِمِ الوَجْهِ وَأَعْضَاءِ الجِسْمِ، فَالأَصْلُ فِيهَا التَّحْرِيمُ؛ لِعَدَمِ الحَاجَةِ المَاسَّةِ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الدَّافِعُ طَلَبُ الجَمَالِ الزَّائِدِ تَبَعًا لِلْهَوَى وَالشَّهْوَةِ.
مَا كَانَ التَّغْيِيرُ فِيهِ عَنْ طَرِيقِ الزِّينَةِ المَعْهُودَةِ، كَالكُحْلِ، وَالحِنَّاءِ، وَالمَكَايِيجِ العَادِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَالأَصْلُ فِيهَا الجَوَازُ؛ لِأَنَّهَا زِينَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، لَا زُورَ فِيهَا وَلَا جِرَاحَةَ.
مَا كَانَ التَّغْيِيرُ فِيهِ عَنْ طَرِيقِ الزِّينَةِ الحَدِيثَةِ الخَالِيَةِ مِنَ الجِرَاحَةِ، كَالعَدَسَاتِ التَّجْمِيلِيَّةِ وَالرُّمُوشِ وَالأَظْفَارِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَتَشْقِيرِ الوَجْهِ، وَتَشْقِيرِ الحَوَاجِبِ بِالأَصْبَاغِ، وَهَذِهِ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ مَا بَيْنَ مَانِعٍ وَمُجِيزٍ، وَتَرْكُهَا أَحْوَطُ لِلشُّبْهَةِ، وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ العُلَمَاءِ، وَلِعَدَمِ الحَاجَةِ المُعْتَبَرَةِ إِلَيْهَا شَرْعًا.
مُلَاحَظَة: مَا قِيلَ بِجَوَازِهِ فَذَلِكَ مَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ مِنْ حُصُولِ الضَّرَرِ وَالوُقُوعِ فِي المُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالتَّشَبُّهِ المُحَرَّمِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. متفق عليه.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: "وَهَذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا قَدْ شَهِدَتْ الأَحَادِيثُ بِلَعْنِ فَاعِلِهَا، وَأَنَّهَا مِنَ الكَبَائِرِ، وَاخْتُلِفَ فِي المَعْنَى الذِي نُهِيَ لِأَجْلِهَا، فَقِيلَ: لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ، وَقِيلَ: مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَصَحُّ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ المَعْنَى الأَوَّلَ، ثُمَّ قِيلَ: هَذَا المَنْهِيُّ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ بَاقِيًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ بَاقِيًا كَالكُحْلِ، وَالتَّزَيُّنِ بِهِ لِلنِّسَاءِ، فَقَدْ أَجَازَ العُلَمَاءُ ذَلِكَ" انتهى.
وَمِنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ: مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: (زَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَصِلَ الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا شَيْئًا).
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ، فَخَطَبَنَا، وَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ، فَقَالَ: "مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْيَهُودَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ، فَسَمَّاهُ الزُّورَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَالاحْتِيَاطُ لِلْمَرْأَةِ البُعْدُ عَنْ كُلِّ تَغْيِيرٍ فِيهِ شُبْهَةٌ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، وَفِيهِ تَزْوِيرٌ وَتَدْلِيسٌ، مَا دَامَ البَاعِثُ عَلَيْهِ طَلَبَ الكَمَالِ فِي الجَمَالِ، بِخِلَافِ الضَّرُورَةِ، كَزِرَاعَةِ الشَّعْرِ، وَلُبْسِ البَارُوكَةِ لِمَنْ ابْتُلِيَتْ بِالصَّلَعِ القَبِيحِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(5)
صِيَامُ يَوْمِ السَّبْتِ مُنْفَرِدًا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ، دُونَ صِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ؟
فأجاب: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ). رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ، وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ؛ مِنْهُمُ الإِمَامُ أَحْمَدُ؛ لِلاخْتِلَافِ فِي إِسْنَادِهِ، وَالمُخَالَفَةِ فِي مَتْنِهِ.
وَلِذَا ذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى جَوَازِ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَنَسَبَ هَذَا القَوْلَ لِأَكْثَرِ العُلَمَاءِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّ اليَهُودَ تُعَظِّمُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: كَانَ النَّبِيُّ - ﷺ - يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الأَحَدِ، وَيَقُولُ: "إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: (لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ). فَلَوْ وَافَقَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ الجُمُعَةَ أَوِ السَّبْتَ، فَلَا كَرَاهَةَ فِي إِفْرَادِهِمَا بِالصَّوْمِ لِعَدَمِ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ الأَوْلَى صَوْمَ يَوْمٍ قَبْلَهُ مَعَهُ، أَوْ بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عِيدًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(6)
حُكْمُ التَّثْوِيبِ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ - عَنِ "الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، هَلْ هِيَ بِدْعَةٌ؟، وَهَلْ تَكُونُ فِي الأَذَانِ الأَوَّلِ أَمِ الثَّانِي؟
فأجاب: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَالأَظْهَرُ مَشْرُوعِيَّتُهُ؛ لِوُجُودِ أَحَادِيثَ فِيهَا ضَعْفٌ، لَكِنْ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَذَانِ بِلَالٍ، وَأَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ: فَأَمَّا حَدِيثُ بِلَالٍ فَرَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، وَفِيهِ أَنَّ بِلَالًا دَعَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ إِلَى الفَجْرِ، فَقِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَائِمٌ، قَالَ: فَصَرَخَ بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، قَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: فَأُدْخِلَتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ فِي التَّأْذِينِ إِلَى صَلَاةِ الفَجْرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي الأَذَانَ فَذَكَرَ الحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ "حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ": "فَإِنْ كَانَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، وَفِي رِوَايَةٍ فِي هَذَا الحَدِيثِ: "الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فِي الأُولَى مِنَ الصُّبْحِ"، وَفِي أُخْرَى: "فَإِذَا أَذَّنْتَ بِالأَوَّلِ مِنَ الصُّبْحِ فَقُلْ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: "مِنَ السُّنَّةِ إِذَا قَالَ المُؤَذِّنُ فِي الفَجْرِ: حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، قَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ".
(7)
وَضْعُ الكُرْسِيِّ دَاخِلَ الصَّفِّ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ وَضْعِ الكُرْسِيِّ دَاخِلَ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ، وَمَا تَأْثِيرُهُ عَلَى تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ؟
فأجاب: يَجِبُ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَإِقَامَتُهَا، وَعَلَى المُصَلِّي أَنْ يُحَاذِيَ بِأَعْلَى بَدَنِهِ وَأَسْفَلِهِ، مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ؛ لِمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: "أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، وَكَـانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ".
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - يَوْمًا، فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: عِبَادَ اللهِ، لَتُسَوُّنَ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ). متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ). رواه مسلم.
وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ -، قَالَ: (حَاذُوا بَيْنَ المَنَاكِبِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَتِهِ إِلَى نَاحِيَتِهِ، يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا وَصُدُورَنَا). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَلَفْظُهُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - يَمْسَحُ عَوَاتِقَنَا وَصُدُورَنَا.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ خُزَيْمَةَ: (لَا تَخْتَلِفْ صُدُورُكُمْ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "حَاذُوا بِالأَعْنَاقِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، فِي صَحِيحَيْهِمَا.
وَثَبَتَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: "أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثَلَاثًا ... الحديث. قَالَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ، وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (المُرَادُ بِذَلِكَ: المُبَالَغَةُ فِي تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَتَقَارُبِهَا، لَا حَقِيقَةَ الالْتِصَاقِ).
وَدَلَّتِ الأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ العِبْرَةَ بِالكَعْبَيْنِ لَا أَطْرَافَ القَدَمَيْنِ، وَأَنَّ المُصَلِّي لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَلَا يَرْتَفِعُ عَلَى مَنْ بِجَانِبِهِ دُونَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالذِي نُوصِي بِهِ مَنْ يُصَلِّي قَاعِدًا عَلَى كُرْسِيٍّ مَا يَلِي:
- إِذَا كَانَ يَقِفُ حَالَ القِيَامِ، وَيَقْعُدُ فِي غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى طَرَفَيِ الصَّفِّ، أَوْ مَكَانًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّفِّ الذِي خَلْفَهُ مَسَافَةٌ يَسْتَطِيعُ بِهَا إِرْجَاعَ الكُرْسِيِّ؛ لِيَكُونَ كَعْبَاهُ مُحَاذِيَيْنِ لِكَعْبَي مَنْ بِجَانِبِهِ، دُونَ أَنْ يُضَايِقَ أَحَدًا.
- إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ يُصَلِّي جَمِيعَ الصَّلَاةِ جَالِسًا، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ رِجْلَيِ الكُرْسِيِّ الأَمَامِيَّتَيْنِ؛ لِيُحَاذِي فِي حَالِ جُلُوسِهِ بِمَنْكِبِهِ مَنْكِبَ مَنْ يَلِيهِ، وَفِي حَالِ قِيَامِهِ يُعْذَرُ بِتَقَدُّمِهِ؛ لِئَلَّا يُؤْذِيَ مَنْ خَلْفَهُ، عِلْمًا بِأَنَّ الجُمْهُورَ حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ.
وَأُنَبِّهُ إِلَى أَنَّ الكُرْسِيَّ:
- لَا يُؤَثِّرُ عَلَى اتِّصَالِ الصَّفِّ.
- وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، وَخَلْفَ الإِمَامِ.
- لَكِنَّ وَضْعَهُ فِي مُؤَخِّرَةِ المَسْجِدِ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُودُ مَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّفِّ الذِي أَمَامَهُ، مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ). قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(8)
الغُسْلُ مِنَ الجَنَابَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنِ الغُسْلِ مِنَ الجَنَابَةِ، كَيْفَ يَكُونُ؟
فأجاب: الغُسْلُ مِنَ الجَنَابَةِ لَهُ صِفَتَانِ:
- كَافِيَةٌ، وَذَلِكَ بِغَسْلِ جَمِيعِ الجَسَدِ، وَمِنْهُ الرَّأْسُ، وَالمَضْمَضَةُ، وَالاسْتِنْشَاقُ.
- وَكَامِلَةٌ، وَصُورَتُهُ بِالمَعْنَى الذِي فَهِمْنَاهُ مِنَ الأَحَادِيثِ:
أَنْ تَبْدَأَ بِغَسْلِ يَدَيْكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَصُبَّ بِيَدِكَ اليُمْنَى عَلَى فَرْجِكَ، وَتُدَلِّكَهُ بِاليُسْرَى حَتَّى تُنَقِّيَهُ مِمَّا أَصَابَهُ مِنَ الأَذَى، ثُمَّ تَغْسِلَ يَدَكَ اليُسْرَى حَتَّى تُنَقِّيَهَا، وَإِنِ اسْتَعْمَلْتَ التُّرَابَ، أَوْ كَانَ الصَّابُونُ، أَنْقَى لَهَا، فَحَسَنٌ، ثُمَّ تَغْسِلَ يَدَيْكَ ثَلَاثًا، وَتَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، كَيْفِيَّةً وَعَدَدًا، ثُمَّ تُدْخِلَ أَصَابِعَكَ فِي المَاءِ، فَتُخَلِّلَ بِهَا أُصُولَ شَعْرِكَ، حَتَّى تَرْوِيَ بَشَرَتَكَ، ثُمَّ تَصُبَّ عَلَى رَأْسِكَ ثَلَاثَ غَرْفَاتٍ بِيَدَيْكَ، تَغْسِلُهُ ثَلَاثًا، تُدَلِّكُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، تَبْدَأُ بِشِقِّ رَأْسِكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ الأَيْسَرِ، ثُمَّ الأَوْسَطِ، وَلَا يُشْتَرَطُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ، ثُمَّ تَفِيضَ المَاءَ عَلَى جِلْدِكَ كُلِّهِ.
وَإِنْ عُدْتَ فَغَسَلْتَ رِجْلَيْكَ بَعْدَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مُغْتَسَلِكَ لِتَلَوُّثِهِمَا، فَحَسَنٌ.
- وَالمَرْأَةُ فِي غُسْلِ الجَنَابَةِ كَالرَّجُلِ.
- وَدَلْكُ البَدَنِ أَفْضَلُ وَأَحْوَطُ.
- وَالأَرْجَحُ عَدَمُ اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الجَسَدِ ثَلَاثًا.
- وَيُسْتَحَبُّ البَدْءُ بِغَسْلِ الجَانِبِ الأَيْمَنِ ثُمَّ الأَيْسَرِ.
- وَالجُنُبُ إِذَا غَسَلَ بَعْضَ جَسَدِهِ، ثُمَّ أَحْدَثَ، أَتَمَّ اغْتِسَالَهُ، وَارْتَفَعَ حَدَثَاهُ.
- وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الغُسْلِ التَّرْتِيبُ، وَلَا المُوَالَاةُ، وَالإِتْيَانُ بِالمُوَالَاةِ أَحْوَطُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(9)
الإِمْسَاكُ عَنْ أَخْذِ الشَّعْرِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ حُكْمِ الإِمْسَاكِ عَنْ أَخْذِ الشَّعْرِ وَقَصِّ الأَظْفَارِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، وَمَتَى يَبْدَأُ وَقْتُ الإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ، وَهَلِ الإِمْسَاكُ خَاصٌّ بِصَاحِبِ الأُضْحِيَةِ، أَمْ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَهْلِ بَيْتِهِ؟
فأجاب: رَوَى الجَمَاعَةُ إِلَّا البُخَارِيَّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَاَدَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ). وَفِي رِوَايَةٍ: (فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا).
قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِيمَنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وَرَبِيعَةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ حَتَّى يُضَحِّيَ فِي وَقْتِ الأُضْحِيَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُكْرَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: لَا يُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ فِي التَّطَوُّعِ، دُونَ الوَاجِبِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ حَرَّمَ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ.
وَاحْتَجَّ الشّافِعِيُّ وَالآخَرُونَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -، ثُمَّ يُقَلِّدُهُ، وَيَبْعَثُ بِهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللهُ، حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. انتهى.
وَالقَوْلُ الأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَجَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ؛ بِحَمْلِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ حَلْقِ شَعْرِهِ وَقَصِّ أَظْفَارِهِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ حَتَّى يُضَحِّيَ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى الإِطْلَاقِ بِأَنْ يَحِلَّ لَهُ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ المُحْرِمُ مِنَ المَحْظُورَاتِ سِوَى قَصِّ الأَظْفَارِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَذَكَرَ أَنَّ المَنْعَ مِنْ قَصِّ الأَظْفَارِ وَمِنْ حَلْقِ الشَّعْرِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ -.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، أَوْ يَقُولُونَ ذَلِكَ. انتهى.
وَالنَّهْيُ خَاصٌّ بِالمُضَحِّي وَحْدَهُ، لَا بِأَهْلِهِ، وَلَا وَكِيلِهِ، وَيَجُوزُ غَسْلُ الشَّعْرِ، وَتَسْرِيحُهُ بِرِفْقٍ، وَإِزَالَةُ الظُّفْرِ المُنْكَسِرِ، وَمَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ فِي العَشْرِ، فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(10)
صِفَاتُ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا صِفَاتُ الفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَحَادِيثِهِ؟
فأجاب: الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ:
- أَهْلُ عِلْمٍ، وَأَصْحَابُ اتِّبَاعٍ لَا ابْتِدَاعٍ، فِي الشِّرْعَةِ وَالمِنْهَاجِ.
- يَأْخُذُونَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ، وَلَا يُقَدِّمُونَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا.
- يَرُدُّونَ مَسَائِلَ الخِلَافِ إِلَى ظَاهِرِ القُرْآنِ وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
- يَرْجِعُونَ إِلَى فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ.
- يُعْرَفُونَ بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ، وَمَحَبَّةِ نَبِيِّهِمْ - ﷺ -، وَمَحَبَّةِ آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَتْبَاعِهِ، وَيَتَرَضَّوْنَ عَنْهُمْ.
- يَدْعُونَ إِلَى الاجْتِمَاعِ وَالأُلْفَةِ، وَنَبْذِ الخِلَافِ وَالفُرْقَةِ.
- أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، يُوَالُونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ، وَيُعَادُونَ أَعْدَاءَهُ.
- يُدْعَوْنَ بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاهُمْ بِهَا، الْمُسْلِمُونَ الْمُؤْمِنُونَ عِبَادَ اللَّهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(11)
القِصَصُ التَّارِيخِيَّةُ الَّتِي لَا تَثْبُتُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: يُوجَدُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ شَيْءٌ مِنَ القِصَصِ التَّارِيخِيَّةِ التِي لَا تَثْبُتُ، فَمَا رَأْيُكُمْ حَوْلَ ذَلِكَ؟
فأجاب: كُتُبُ المُحَاضَرَاتِ وَالتَّارِيخِ وَالمَغَازِي وَالمَلَاحِمِ وَالتَّرَاجِمِ وَالسِّيَرِ وَالقِصَصِ وَالحِكَايَاتِ، كَثِيرًا مَا تَذْكُرُ الضَّعِيفَ، وَمَا لَا أَصْلَ لَهُ؛ بَلْ هَذَا غَالِبٌ فِيهَا، وَمَا جَاءَ فِيهَا لَا يُنَاقِضُ الدِّينَ وَيُضَادُّهُ، لَا تَتَوَجَّهُ لَهُ هِمَّةُ عُلَمَاءِ النَّقْدِ، وَأَيْضًا تَسَامَحُوا فِي أَسَانِيدِهَا؛ إِذْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا نُسِبَتْ لِلنَّبِيِّ - ﷺ -، وَلَا تَضَمَّنَ كَثِيرُهَا بَاطِلًا يَجِبُ تَبْيِينُهُ وَتَنْبِيهُ الأُمَّةِ عَلَيْهِ.
وَمَا فِيهَا مِنْ مُنْكَرٍ بَيَّنُوهُ عِنْدَ وُجُودِ مُنَاسَبَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ عَامَلُوا مَا فِيهَا مِنْ نَفْعٍ، لَا إِثْمَ فِيهِ، مُعَامَلَةَ حَدِيثِ أَهْلِ الكِتَابِ، لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ، مَا دَامَتِ الأَسَانِيدُ ضَعِيفَةً لَا مَوْضُوعَة، وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: فَالمَقْصُودُ أَنَّ المَنْقُولَاتِ التِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الدِّينِ، قَدْ نَصَبَ اللهُ الأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ المَنْقُولَ فِي التَّفْسِيرِ، أَكْثَرُهُ كَالمَنْقُولِ فِي المَغَازِي وَالمَلَاحِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إِسْنَادٌ؛ التَّفْسِيرُ وَالمَلَاحِمُ وَالمَغَازِي، وَيُرْوَى لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ؛ أَيْ إِسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الغَالِبَ عَلَيْهَا المَرَاسِيلُ. انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(12)
خَرَابُ الأَرْضِ بِمَوْتِ عُلَمَائِهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). (الرعد: 41)
فأجاب: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: خَرَابُهَا بِمَوْتِ عُلَمَائِهَا، وَفُقَهَائِهَا، وَأَهْلِ الخَيْرِ مِنْهَا، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُوَ مَوْتُ العُلَمَاءِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا". رواه البخاري
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: "خُذُوا العِلْمَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، أَوْ يُرْفَعَ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: كَيْفَ يُرْفَعُ؟، فَقَالَ: أَلَا إِنَّ ذَهَابَ العِلْمِ ذَهَابُ حَمَلَتِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ”اليَوْمَ مَاتَ حَبْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهُ خَلَفًا“.
فَمَا مِنْ عَالِمٍ يَمُوتُ إِلَّا وَتَفْقِدُ الأُمَّةُ بِمَوْتِهِ شَيْئًا ثَمِينًا، وَالعَيْنُ تَدْمَعُ، وَالقَلْبُ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنَا فِي مُصِيبَتِنَا، وَأَخْلِفَ لَنَا خَيْرًا مِنْهَا!.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(13)
مُلَخَّصُ أَحْكَامِ الكُسُوفِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ صَلَاةِ الكُسُوفِ، مَا حُكْمُهَا، وَكَيْفَ تُصَلَّى؟
فأجاب: صَلَاةُ الكُسُوفِ أَمَرَ بِهَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ إِلَيهَا فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَخَطَبَ بَعْدَهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً عَظِيمَةً، وَصَلَّاهَا جَمَاعَةً، وَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: «الصَّلَاةُ جَامِعَةً»، وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالاسْتِعَاذَةِ، وَالعِتْقِ، وَالفَزَعِ إِلَى الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالاسْتِغْفَارِ، وَالصَّلَاةِ.
وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الأَمْرِ، وَأَنَّهُ حَدَثٌ جَلَلٌ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ، فَكَانَ القَوْلُ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ أَقْوَى مِنَ القَوْلِ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، يَلِيهِ القَوْلُ بِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ.
فَتُشْرَعُ صَلَاةُ الكُسُوفِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لَا بِالتَّوَقُّعَاتِ، فَتُصَلَّى وَلَوْ وَقْتَ نَهْيٍ أَوْ حَالَ سَفَرٍ، فَيُصَلِّيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّغَارُ، وَالأَصْلُ أَنْ تُصَلَّى جَمَاعَةً فِي المَسْجِدِ، وَمَنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ صَلَّاهَا فِي أَيِّ مَكَانٍ جَمَاعَةً وَفُرَادَى.
- وَصِفَتُهَا الأَفْضَلُ: أَنْ تُصَلَّى عَلَى المَشْهُورِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وَسُجُودَانِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنَ الأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ الفَاتِحَةَ، ثُمَّ سُورَةً طَوِيلَةً يَجْهَرُ بِالقِرَاءَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ:
يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ، ثُمَّ يَقْرَأُ الفَاتِحَةَ وَبَعْدَهَا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ، وَيُطِيلُ القِرَاءَةَ نَحْوَ سُورَةِ البَقَرَةِ، هَكَذَا وَرَدَ، وَلَكِنْ لِضَعْفِ النَّاسِ يُقَلِّلُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَيُطِيلُ الرُّكُوعَ، وَيَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الفَاتِحَةَ، ثُمَّ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ، وَيُطِيلُ دُونَ الإِطَالَةِ الأُولَى، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَيُطِيلُ الرُّكُوعَ، وَهُوَ أَدْنَى مِنَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَيُطِيلُ هَذَا القِيَامَ شَيْئًا، ثُمَّ يَسْجُدُ طَوِيلًا، يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، ثُمَّ يَرْفَعُ، وَيُطِيلُ الجِلْسَةَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ شَيْئًا، وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي، ثُمَّ يَسْجُدُ، وَيُطِيلُ وَهُوَ دُونَ السُّجُودِ الأَوَّلِ، ثُمَّ يَقُومُ لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَفْعَلُ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الأُولَى إِلَّا أَنَّهَا دُونَهَا فِي الإِطَالَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، فَيَكُونُ اسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ.
وَالأَصْلُ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَرِيبٌ مِنَ السَّوَاءِ، وَأَنَّهُ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ.
وَإِنْ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثَةِ رُكُوعَاتٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ جَازَ لِوُرُودِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ: مِنَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الكُسُوفَ لَمْ يَقَعْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَالمَحْفُوظُ مِنْ صَلَاتِهِ أَنَّهُ صَلَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا خَرَّجَهَا فِي صَحِيحِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ - وَهُوَ الأَظْهَرُ - إِنْ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلَاثَةِ رُكُوعَاتٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ جَازَ لِصِحَّةِ الأَسَانِيدِ بِهَا، وَالمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ الأَفْضَلُ.
مَسَائِل:
• صَلَاةُ الكُسُوفِ تَوقِيفِيَّةٌ فَنُصَلِّيهَا كَمَا صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
• الأَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ صَلَاةَ الكُسُوفِ إِنَّمَا تُدْرَكُ الرَّكْعَةُ مِنْهَا بِالرُّكُوعِ الأَوَّلِ، فَمَنْ فَاتَهُ قَضَى الرَّكْعَةَ بِرُكُوعَيْهَا.
• يَعِظُ الإِمَامُ النَّاسَ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَوْعِظَةً قَصِيرَةً وَيُبَيِّنُ لَهُمْ فِيهَا الحِكْمَةَ مِنَ الكُسُوفِ.
• لَوِ انْتَهَتِ الصَّلَاةُ وَالكُسُوفُ بَاقٍ؟ اشْتَغَلُوا بِالذِّكْرِ وَالاسْتِغْفَارِ.
• إِنْ تَجَلَّى الكُسُوفُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ أَتَمَّهَا خَفِيفَةً.
• إِنْ غَابَتِ الشَّمْسُ كَاسِفَةً لَا يُصَلَّى؛ لِذَهَابِ سُلْطَانِهَا.
• إِنْ طَلَعَتْ وَالقَمَرُ خَاسِفٌ فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ سُلْطَانُهُ، وَالأَظْهَرُ أَنَّهَا تُصَلَّى إِنْ كَانَ القَمَرُ لَوْلَا الكُسُوفُ لَأَضَاءَ.
• إِذَا لَمْ يُعْلَمْ بِالكُسُوفِ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِهِ، فَلَا يُقْضَى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(14)
الأُضْحِيَةُ بَيْنَ الوُجُوبِ وَالاسْتِحْبَابِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنِ الأُضْحِيَةِ، هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ؟
فأجاب: الأُضْحِيَةُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ، وَقُرْبَةٌ مِنْ قُرَبِهِ العِظَامِ بِإِجْمَاعِ العُلَمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، وَقَدْ ضَحَّى النَّبِيُّ ﷺ، وَأَمَرَ بِالأُضْحِيَةِ، وَحَضَّ عَلَيْهَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ - رَضِيَ الله عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا وُقُوفًا مَعَ النَّبِيِّ - ﷺ - بِعَرَفَاتٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَةٌ). رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَقَوَّى إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
القَوْلُ الأَوَّلُ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ.
القَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الجُمْهُورِ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَصَحَّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَنِ الجُمْهُورِ. وَلَيْسَ فِي الآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا. انتهى.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ مُحَسَّنًا: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الأُضْحِيَةِ: أَهِيَ وَاجِبَةٌ؟ فَقَالَ: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ - ﷺ - وَالمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ).
فَيَنْبَغِي عَلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الأُضْحِيَةِ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الأَصْلِيَّةِ أَنْ يُضَحِّيَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، لَكِنْ رَجَّحَ الْأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَهُ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالأُضْحِيَةُ مِنَ النَّفَقَةِ بِالمَعْرُوفِ، فَيُضَحِّي عَنِ اليَتِيمِ مِنْ مَالِهِ، وَتَأْخُذُ المَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا مَا تُضَحِّي بِهِ عَنْ أَهْلِ البَيْتِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ، وَيُضَحِّي المَدِينُ إِذَا لَمْ يُطَالَبْ بِالوَفَاءِ، وَيَتَدَيَّنُ وَيُضَحِّي إِذَا كَانَ لَهُ وَفَاءٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(15)
أَوْقَاتُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا الأَوْقَاتُ الَّتِي يُجْزِئُ فِيهَا ذَبْحُ الأُضْحِيَةِ، وَمَا أَفْضَلُ هَذِهِ الأَوْقَاتِ لِذَبْحِهَا؟
فأجاب: وَقْتُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ يَبْدَأُ جَوَازًا مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ العِيدِ، وَالأَفْضَلُ بَعْدَ الخُطْبَةِ وَذَبْحِ إِمَامِ المُسْلِمِينَ أُضْحِيَتَهُ.
فَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ). متفق عليه.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعَزِ، قَالَ: اذْبَحْهَا، وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ". متفق عليه. وَفِي رِوَايَةٍ "عِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ".
فَالوَاحِدَةُ الثَّمِينَةُ؛ لِسِمَنِهَا، وَنَفَاسَتِهَا، وَطِيبِ لَحْمِهَا؛ أَوْلَى مِنَ اثْنَتَيْنِ دُونَهَا فِي الثَّمَنِ وَالمُوَاصَفَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ: «الأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ»: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ النَّحْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَبِهِ قَالَ عَدَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
فَهَذِهِ الأَيَّامُ الأَرْبَعَةُ أَيَّامُ ذَبْحِ الأَضَاحِي عَلَى الأَرْجَحِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَابْنُ القَيِّمِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَحُجَّةُ الجُمْهُورِ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَفَعَهُ: "فِي كُلِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، لَكِنْ فِي سَنَدَهِ انْقِطَاعٌ، وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تُشْرَعُ لَيْلًا كَمَا تُشْرَعُ نَهَارًا، إِلَّا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا.
وَالذَّبْحُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَفْضَلُ، فعَنِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - ﷺ - يَخْطُبُ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا، أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا). رواه البخاري.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(16)
العُيُوبُ المَانِعَةُ مِنْ إِجْزَاءِ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا العُيُوبُ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِي الأَضَاحِي؟
فأجاب: عَنِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - فَقَالَ: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّوَوِيُّ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ!.
فَهَذِهِ العُيُوبُ الأَرْبَعَةُ لَا تُجْزِئُ مَعَهَا الأُضْحِيَةُ بِالاتِّفَاقِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا مَا هُوَ مِثْلُهَا أَوْ أَشَدُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ قُلْتُ: ـ يَعْنِي لِلبَرَاءِ ـ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي القَرْنِ نَقْصٌ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ، فَقَالَ ـ يَعْنِي البَرَاء ـ: مَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ -: (نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأُذُنِ وَالقَرْنِ). رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَفِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْمَاءَ، وَلَا ثَرْمَاءَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ. وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
الْمُقَابَلَةُ، وَالمُدَابَرَةُ، وَالشَّرْقَاءُ، وَالخَرْقَاءُ أَوِ الخَرْمَاءُ: عُيُوبٌ فِي الأُذُنِ، وَهَذِهِ العُيُوبُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا تُكْرَهُ مَعَ الإِجْزَاءِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ قَالَ: أَتَيْتُ عُتْبَةَ السُّلَمِيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الوَلِيدِ، إِنِّي خَرَجْتُ أَلْتَمِسُ الضَّحَايَا فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا يُعْجِبُنِي غَيْرَ ثَرْمَاءَ فَمَا تَقُولُ؟. قَالَ: أَلَا جِئْتَنِي أُضَحِّي بِهَا؟ قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ، تَجُوزُ عَنْكَ وَلَا تَجُوزُ عَنِّي؟!. قَالَ نَعَمْ، إِنَّكَ تَشُكُّ وَلَا أَشُكُّ، إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللهِ - ﷺ - عَنِ: (المُصْفَرَّةِ، وَالمُسْتَأْصَلَةِ، وَالبَخْقَاءِ، وَالمُشَيَّعَةِ، وَالكَسْرَاءِ؛ فَالمُصْفَرَّةُ التِي تُسْتَأْصَلُ أُذُنُهَا حَتَّى يَبْدُوَ صِمَاخُهَا، وَالمُسْتَأْصَلَةُ التِي ذَهَبَ قَرْنُهَا مِنْ أَصْلِهِ، وَالبَخْقَاءُ التِي تُبْخَقُ عَيْنُهَا، وَالمُشَيَّعَةُ التِي لَا تَتْبَعُ الغَنَمَ عَجَفًا وَضَعْفًا، وَالكَسْرَاءُ التِي لَا تُنْقِي). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَقَالَ الحَاكِمُ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ.
وَيُقَاسُ عَلَى هَذِهِ العُيُوبِ المَكْرُوهَةِ العُيُوبُ المُسَاوِيَةُ لَهَا وَالأَقْبَحُ مِنْهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(17)
صِيَامُ تِسْعِ ذِي الحِجَّةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ مِنَ المَشْرُوعِ صِيَامُ تِسْعِ ذِي الحِجَّةِ، وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟
فأجاب: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ - يَعْنِي أَيَّامَ العَشْرِ- قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ). رواه البخاري.
وَثَبَتَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَغَيْرِهِمْ مَرْفُوعًا: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ... الحَدِيث).
فَهَذَا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ تِسْعِ ذِي الحِجَّةِ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ فِي طَلِيعَةِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى مَنِ اسْتَحَبَّ الصِّيَامَ فِي العَشْرِ بِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ). رواه مسلم. لِأَنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ مُسْتَحَبٌّ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي نَفْيِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَلَيْسَ فِي صَوْمِ هَذِهِ التِّسْعَةِ كَرَاهَةٌ، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ اسْتِحْبَابًا شَدِيدًا ... فَيُتَأَوَّلُ قَوْلُهَا: لَمْ يَصُمِ العَشْرَ، أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ لِعَارِضِ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهِ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: قَدْ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مُضَاعَفَةِ جَمِيعِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي العَشْرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا ... وَفِي المُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ حَفْصَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - كَانَ لَا يَدَعُ صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَالعَشْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - ﷺ -: أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - كَانَ لَا يَدَعُ صِيَامَ تِسْعِ ذِي الحِجَّةِ. اهـ. (وَقَدْ قَالَ بِصِحَّتِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ).
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَمِمَّنْ كَانَ يَصُومُ العَشْرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ: ذِكْرُ فَضْلِ صِيَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ جَوَابُ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَأَجَابَ مَرَّةً بِأَنَّهُ قَدْ رَوَى خِلَافَهُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ حَفْصَةَ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَأَسْنَدَهُ الأَعْمَشُ، وَرَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلًا.
وَكَذَلِكَ أَجَابَ غَيْرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ بِأَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ فِي النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ؛ أُخِذَ بِقَوْلِ المُثْبِتِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ عِلْمًا خَفِيَ عَلَى النَّافِي، وَأَجَابَ أَحْمَدُ مَرَّةً أُخْرَى بِأَنَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنَّهُ لَمْ يَصُمِ العَشْرَ كَامِلًا؛ يَعْنِي وَحَفْصَةُ أَرَادَتْ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ غَالِبَهُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(18)
زَكَاةُ الحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ زَكَاةٌ؟
فأجاب: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا، إِذَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الادِّخَارِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ لِلاسْتِعْمَالِ فِي الزِّينَةِ، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْمُو، فَمِثْلُهُ مِثْلُ السَّيَّارَةِ، وَأَثَاثِ البَيْتِ، وَلِقَوْلِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: لَا يَصِحُّ فِي زَكَاةِ الحُلِيِّ حَدِيثٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زَكَاتُهُ عَارِيَتُهُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى الوُجُوبِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ بَازٍ، وَابْنُ عُثَيْمِينَ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الوَارِدَةِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: (كُنتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَنْزٌ هُوَ؟، فَقَالَ: (مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ، فَلَيْسَ بِكَنْزٍ).
صَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالذَّهَبِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَوَّى إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَابْنُ المُلَقِّنِ، وَالمُنْذِرِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ القَطَّانِ، وَالنَّوَوِيُّ، وَعَنْ عَائِشَةَ، صَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَابْنُ دَقِيقِ العِيدِ، وَغَيْرُهُمَا.
وَهَذَا القَوْلُ أَحْوَطُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ العِلْمِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(19)
خِتَامُ عَامٍ وَدُخُولُ عَامٍ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ فِي خِتَامِ عَامٍ هِجْرِيٍّ، وَدُخُولِ عَامٍ هِجْرِيٍّ جَدِيدٍ، سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، أَوْ مُنَاسَبَةٌ شَرْعِيَّةٌ؟
فأجاب: الحَمْدُ للهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خُرُوجَ عَامٍ وَدُخُولَ عَامٍ جَدِيدٍ، لَا يُعَدُّ مُنَاسَبَةً شَرْعِيَّةً لَهَا سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، لَا سُرُورًا وَلَا أَحْزَانًا، وَلَا أَفْرَاحًا وَلَا أَتْرَاحًا.
وَلَا يُشْرَعُ لِذَلِكَ تَهْنِئَةٌ وَلَا تَعْزِيَةٌ، فَالشُّهُورُ الهِلَالِيَّةُ كَالفُصُولِ الشَّمْسِيَّةِ، قَدْ تَبْعَثُ المُسْلِمَ عَلَى التَّفَكُّرِ، كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَتَفَكَّرُونَ فِي الرَّبِيعِ وَيَتَذَكَّرُونَ الجَنَّةَ، فَالتَّفَكُّرُ فِي نِهَايَةِ العَامِ، وَتَذَكُّرُ سُرْعَةِ مُرُورِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ؛ يُمْدَحُ الإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي الجُمْلَةِ، وَقَدْ يُذَكِّرُ بِذَلِكَ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّ المُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ بِإِعْدَادِ خُطَبِ الجُمُعَةِ، وَإِنْشَاءِ الكَلِمَاتِ، وَعَبْرَ وَسَائِلِ الإِعْلَامِ بِشَكْلٍ دَوْرِيٍّ، فِي كُلِّ نِهَايَةِ عَامٍ وَدُخُولِ عَامٍ، قَدْ يَكُونُ وَسِيلَةً وَذَرِيعَةً إِلَى المُحْدَثَاتِ وَالبِدَعِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الغُلُوُّ فِي الدِّينِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: "قَوْلُهُ: «إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ فِي الدِّينِ»: عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الغُلُوِّ فِي الاعْتِقَادَاتِ وَالأَعْمَالِ". انتهى.
فَلْيَتَنَبَّهِ المُسْلِمُ فِي مِثْلِ هَذَا؛ فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا غُلُوَّ، وَلَا تَفْرِيطَ وَلَا تَقْصِيرَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(20)
المَحَارِمُ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِجْمَالُ القَوْلِ فِيهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا المَقْصُودُ بِالمَحَارِمِ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَمَا الفَرْقُ بَيْنَ مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، وَمَا يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ، وَمَا يَحْرُمُ بِالمُصَاهَرَةِ؟
فأجاب: المَحْرَمُ عَلَى التَّأْبِيدِ هُوَ: مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ المَرْأَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، فَيَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ مَعَ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَالخَلْوَةُ بِهَا، وَالدُّخُولُ عَلَيْهَا، مَا لَمْ يَكُنْ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا.
وَشُرُوطُ المَحْرَمِ: الإِسْلَامُ، وَالعَقْلُ، وَالبُلُوغُ، وَتَسَامَحَ بَعْضُهُمْ فِي المُرَاهِقِ الفَطِنِ.
وَالمَقْصُودُ بِالمَحْرَمِ هُوَ مَنْ يَحْفَظُهَا، لَا مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ.
وَمَنْ يَجِبُ لَهَا المَحْرَمُ هِيَ: مَنْ يُخْشَى عَلَيْهَا، كَبِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَمَا فَوْقَ، وَتَسَامَحَ بَعْضُ العُلَمَاءِ فِي المَرْأَةِ مِنَ القَوَاعِدِ لِكِبَرِهَا، إِذَا قَامَتْ بِنَفْسِهَا، وَلَمْ يُفَرِّقْ آخَرُونَ بَيْنَ شَابَّةٍ وَعَجُوزٍ.
وَالمَحَارِمُ ثَلَاثُ جِهَاتٍ: النَّسَبُ، وَالرَّضَاعُ، وَالمُصَاهَرَةُ.
- أَمَّا النَّسَبُ، فَالمَحْرَمُ هُوَ:
(الأَبُ) وَإِنْ عَلَا، قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهُمْ آبَاءُ الآبَاءِ، وَآبَاءُ الأُمَّهَاتِ.
وَ(الابْنُ) وَإِنْ نَزَلَ، قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، وَهُمْ بَنُو الأَوْلَادِ مِنْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ، وَأَوْلَادُهُمْ.
وَ(الأَخُ)
وَ(العَمُّ)، وَعَمُّ الأَبِ، وَعَمُّ الأُمِّ، وَإِنْ عَلَا.
وَ(ابْنُ الأَخِ) وَإِنْ نَزَلَ، كَابْنِ ابْنِهِ، وَابْنِ ابْنَتِهِ.
وَ(ابْنُ الأُخْتِ) وَإِنْ نَزَلَ، كَابْنِ ابْنِ الأُخْتِ، وَابْنِ بِنْتِ الأُخْتِ.
وَ(الخَالُ)، وَخَالُ الأَبِ، وَخَالُ الأُمِّ، وَإِنْ عَلَوْا؛ كَخَالِ الجَدَّاتِ، وَخَالِ الأَجْدَادِ.
فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةُ مَحَارِمَ بِالنَّسَبِ.
- وَالمَحْرَمُ مِنَ الرَّضَاعِ كَالمَحْرَمِ مِنَ النَّسَبِ سَوَاءً، فَيَكُونُ مَحْرَمُهَا مِنَ الرَّضَاعِ (أَبَاهَا)، وَ(ابْنَهَا)، وَ(أَخَاهَا)، وَ(عَمَّهَا)، وَ(خَالَهَا)، وَ(ابْنَ أَخِيهَا)، وَ(ابْنَ أُخْتِهَا)، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةُ مَحَارِمَ مِنَ الرَّضَاعِ.
• وَلَا يَتَأَثَّرُ بِالتَّحْرِيمِ إِلَّا المُرْتَضِعُ وَفُرُوعُهُ، أَمَّا أَبَوَاهُ، وَأُصُولُهُمَا، وَفُرُوعُهُمَا، وَهُمُ الحَوَاشِي؛ فَلَا يَتَأَثَّرُونَ بِالتَّحْرِيمِ.
- وَالمَحَارِمُ بِالمُصَاهَرَةِ أَرْبَعَةٌ:
(أَبُو زَوْجِ المَرْأَةِ) وَإِنْ عَلَا.
وَ(ابْنُ زَوْجِ المَرْأَةِ) وَإِنْ نَزَلَ، كَابْنِ بِنْتِ الزَّوْجِ.
وَ(زَوجُ أُمِّ المَرْأَةِ) وَإِنْ عَلَتْ مِنْ جِهَةِ الأُمِّ، أَوْ جِهَةِ الأَبِ.
وَ(زَوْجُ بِنْتِ المَرْأَةِ) وَإِنْ نَزَلَتْ، كَزَوْجِ بِنْتِ البِنْتِ، وَبِنْتِ ابْنِ البِنْتِ.
فَهُمْ أُصُولُ زَوْجِهَا؛ أَيْ: آبَاؤُهُ وَأَجْدَادُهُ، وَفُرُوعُهُ وَهُمْ أَبْنَاؤُهُ، وَأَبْنَاءُ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا، وَزَوْجُ أُمِّهَا، وَزَوْجُ بِنْتِهَا.
- لَكِنَّ ثَلَاثَةً يَكُونُونَ مَحَارِمَ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ، وَهُمْ أَبُو زَوْجِ المَرْأَةِ، وَابْنُ زَوْجِ المَرْأَةِ، وَزَوْجُ بِنْتِ المَرْأَةِ، أَمَّا زَوْجُ أُمِّهَا، فَلَا يَكُونُ مَحْرَمًا، إِلَّا إِذَا دَخَلَ بِأُمِّهَا.
• وَهَلْ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ المُصَاهَرَةِ؟
مَحَلُّ خِلَافٍ، وَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ المُصَاهَرَةِ.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ: وَتَحْرِيمُ المُصَاهَرَةِ لَا يَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ، وَنَصَرَهُ ابْنُ القَيِّمِ.
وَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ:
- زَوْجُ بِنْتِ الزَّوْجِ.
- وَابْنُ زَوْجِ البِنْتِ.
- وَأَخُو زَوْجِهَا.
- وَمَحْرَمُ أُخْتِهَا كَزَوْجِ أُخْتِهَا.
- وَمَحْرَمُ أُمِّهَا كَابْنِ زَوْجِهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(21)
القُرَبُ التِي تَعْدِلُ حَجَّ التَّطَوُّعِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنِ القُرَبِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَعْدِلُ حَجَّ التَّطَوُّعِ
فأجاب: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهَا؛ اسْتِبَاقًا لِلْخَيْرَاتِ، وَمُنَافَسَةً فِي الطَّاعَاتِ؛ مَا يَلِي:
1- المُحَافَظَةُ عَلَى الفَرَائِضِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
2- بَذْلُ نَفَقَةِ الحَجِّ لِمَنْ تَحْمِلُهُ عَلَى الحَجِّ؛ لِحَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
3- النِّيَّةُ الصَّادِقَةُ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
4- مَنْ فَاتَهُ الحَجُّ، فَلَا تَفُوتُهُ الصَّدَقَةُ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي تَفْضِيلِ الحَجِّ تَطَوُّعًا أَوِ الصَّدَقَةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الصَّدَقَةَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ ثَمَّ رَحِمٌ مُحْتَاجَةٌ، أَوْ زَمَنُ مَجَاعَةٍ؛ فَالصَّدَقَةُ، وَإِلَّا فَالحَجُّ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ، وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ مَعْنَاهُ.
5- التَّزَوُّدُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي هِيَ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ؛ كَالإِيمَانِ بِاللهِ، وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَغَيْرِهَا.
رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - سُئِلَ: أَيُّ العِبَادَةِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟، قَالَ: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا}. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمِنَ الغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ؟، قَالَ: "لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ الكُفَّارَ وَالمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا؛ لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً". وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ خَرَّجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَالجِهَادُ أَفْضَلُ مِنَ الحَجِّ.
6- الذِّكْرُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ - ﷺ -، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَا، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: ((أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؛ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ.
7- عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً - أَوْ حَجَّةً مَعِي –". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
8- الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ لِلذِّكْرِ.
فَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: «مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ»، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ». حَسَنٌ لِشَوَاهِدِهِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
9- الذَّهَابُ لِمَجَالِسِ العِلْمِ.
فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: "مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ، لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا، أَوْ يُعَلِّمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حَجَّتُهُ". أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ كُلُّهُمْ.
10- المَشْيُ إِلَى الصَّلَوَاتِ.
فَعَنِ القَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ - وَفِيهِ مَقَالٌ -، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: (مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الحَاجِّ المُحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يُنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ المُعْتَمِرِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
11- بِرُّ الوَالِدَيْنِ.
فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - ﷺ - فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الجِهَادَ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَقَالَ - ﷺ -: (هَلْ بَقِيَ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ؟). قَالَ: أُمِّي. قَالَ: (فَاسْأَلِ اللهَ فِي بِرِّهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ). أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَقَالَ العِرَاقِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
12- وَرَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي أَعْمَالٍ أَنَّهَا تَعْدِلُ الحَجَّ؛ كَشُهُودِ الجُمُعَةِ، وَصَلَاةِ العِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالعِيدِ، وَالمَشْيِ فِي حَاجَةِ المُسْلِمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
13- البُعْدُ عَنِ المُحَرَّمَاتِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: تَرْكُ دَانَقٍ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ حَجَّةٍ.
وَقَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا حَجٌّ، وَلَا رِبَاطٌ، وَلَا جِهَادٌ، أَشَدَّ مِنْ حَبْسِ اللِّسَانِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(22)
دُنُوُّ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ مَعْنَى دُنُوِّ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ
فأجاب: دُنُوُّ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ دُنُوٌّ حَقِيقِيٌّ، يَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ - جَلَّ وَعَلَا -، وَيُقَالُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: (يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ). رواه مسلم. وَاللهُ أَعْلَمُ.
عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ". رواه مسلم.
وَخَرَّجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ. فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ، جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ أَكْثَرُ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ".
وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَلَفْظُهُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتْوَنِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: يَا رَبُّ، فُلَانٌ مُرْهَقٌ، فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ". وَقَالَ: إِسْنَادٌ حَسَنٌ مُتَّصِلٌ. انتهى.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَمِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ ـ وَفِيهِ مَقَالٌ ـ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: "يَهْبِطُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، ثُمَّ يُبَاهِي بِكُمُ المَلَائِكَةَ ... الحَدِيث.
وَخَرَّجَهُ البَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، وَقَالَ: لَا نَعْلَمُ لَهُ طَرِيقًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ.
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ الأَشْيَاخِ أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: "إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَدْنُو إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَيُقبِلُ عَلَى مَلَائِكَتِهِ، فَيَقُولُ: أَلَا إِنَّ لِكُلِّ وَفْدٍ جَائِزَةً ... الحَدِيث.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (إِنَّ اللهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِهِمُ المَلَائِكَةَ ...).
وَقَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الوَلِيدِ الطَّرْطُوشِيُّ (ت520 هـ) - رَحِمَهُ اللهُ -: "فَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - أَنَّ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةَ عَلِمُوا فَضْلَ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلَكِنْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ بِمَوْطِنِ عَرَفَةَ، لَا فِي غَيْرِهَا، وَلَا مَنَعُوا مَنْ خَلَا بِنَفْسِهِ فَحَضَرَتْهُ نِيَّةٌ صَادِقَةٌ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَرِهُوا الحَوَادِثَ فِي الدِّينِ، وَأَنْ يَظُنَّ العَوَامُّ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِسَائِرِ الآفَاقِ الاجْتِمَاعَ وَالدُّعَاءَ. انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(23)
المُرَادُ بِلَهْوِ الحَدِيثِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا المُرَادُ بِلَهْوِ الحَدِيثِ المَذْكُورِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ؟ وَهَلْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُرْمَةِ الغِنَاءِ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ).
قَالَ القُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: "قُلْتُ: هَذِهِ إِحْدَى الآيَاتِ الثَّلَاثِ التِي اسْتَدَلَّ بِهَا العُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الغِنَاءِ؛ (أَيْ: تَحْرِيمِهِ)، وَالمَنْعِ مِنْهُ.
وَالآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الغِنَاءُ.
وَالآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ).
قَالَ مُجَاهِدٌ: الغِنَاءُ وَالمَزَامِيرُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُجَاهِدٌ، وَذَكَرَهُ أَبُو الفَرَجِ ابْنُ الجَوْزِيِّ، عَنِ الحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ، وَقَتَادَةَ، وَالنَّخْعِيِّ.
قُلْتُ: وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، بِاللهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَنَّهُ الغِنَاءُ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ الغِنَاءُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَمَكْحُولٌ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي القَلْبِ.
وَقَالَ الحَسَنُ: لَهْوُ الحَدِيثِ: المَعَازِفُ وَالغِنَاءُ.
وَقَالَ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الغِنَاءُ بَاطِلٌ، وَالبَاطِلُ فِي النَّارِ".
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(24)
الإِيمَانُ، وَمَعْنَى التَّفَاوُتِ فِيهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنِ الإِيمَانِ، مَا مَعْنَاهُ، وَهَلْ هُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ وَمَا مَعْنَى التَّفَاوُتِ أَوِ التَّفَاضُلِ فِيهِ؟
فأجاب: الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ بِإِجْمَاعِ العُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، فَمَنْ أَخْرَجَ الأَعْمَالَ مِنَ الإِيمَانِ، وَقَالَ: الإِيمَانُ المَعْرِفَةُ مَعَ القَوْلِ، أَوِ الإِيمَانُ المَعْرِفَةُ خَاصَّةً، أَوِ الإِيمَانُ القَوْلُ خَاصَّةً؛ فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
وَالإِيمَانُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}. [المدثر: 31] وَالآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَالقَوْلُ بِزِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ قَوْلُ عَامَّةِ العُلَمَاءِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا القَلِيلُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الكَلَامُ بِزِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، كَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنِ التَّابِعِينَ كَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: الإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ.
وَلَمَّا كَانَ الإِيمَانُ شَامِلًا لِتَصْدِيقِ القَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلِقَوْلِ اللِّسَانِ وَعَمَلِ الجَوَارِحِ، كَانَتْ زِيَادَتُهُ بِزِيَادَةِ عُبُودِيَّةِ القَلْبِ، مِنْ تَصْدِيقِ المُرْسَلِينَ، وَمَعْرِفَةِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّصْدِيقِ وَالمَعْرِفَةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَتَمَامًا وَنُقْصَانًا، كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي كَثْرَةِ عُبُودِيَّةِ اللِّسَانِ القَوْلِيَّةِ، وَعُبُودِيَّةِ الجَوَارِحِ العَمَلِيَّةِ، وَفِي الإِحْسَانِ فِي تِلْكَ العُبُودِيَّةِ.
وَنُقْصَانُ الإِيمَانِ يَكُونُ بِعَجْزِ المُسْلِمِ عَنْ إِدْرَاكِ كَمَالِهِ المُسْتَحَبِّ، بِتَقْصِيرِهِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ بِالنَّوَافِلِ القَلْبِيَّةِ وَالقَوْلِيَّةِ وَالعَمَلِيَّةِ، وَهَذَا نَقْصٌ نِسْبِيٌّ، أَوْ عَنْ إِدْرَاكِ كَمَالِهِ الوَاجِبِ، بِتَقْصِيرِ قَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ أَوْ جَوَارِحِهِ، فِيمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ، أَوْ نَهَاهُ عَنْهُ، مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، وَهَذَا نَقْصٌ حَقِيقِيٌّ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(25)
مَرَاتِبُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ مَرَاتِبِ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
فأجاب: نَصَّ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ القَيِّمِ، عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ صَوْمِ عَاشُورَاءَ ثَلَاثٌ:
أَفْضَلُهَا: أَنْ يَصُومَ يَوْمَ العَاشِرِ، وَيَوْمًا قَبْلَهُ، وَيَوْمًا بَعْدَهُ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَصُومَ التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَصُومَ العَاشِرَ فَقَطْ.
وَإِفْرَادُ عَاشُورَاءَ وَحْدَهُ بِالصَّوْمِ، جَائِزٌ، وَالأَفْضَلُ صَوْمُ تَاسُوعَاءَ مَعَهُ لِظَاهِرِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ الحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ إِفْرَادِهِ.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ- رَحِمَهُ اللهُ -: "وَمُقتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ الاقْتِصَارُ عَلَى العَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَأَفْتَى بِصَوْمِ اليَوْمَيْنِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَ هَذَا هُوَ السُّنَّةَ لِمَنْ أَرَادَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَاتَّبَعَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يَكْرَهُ إِفْرَادَ العَاشِرِ عَلَى مَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ".
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَلَا يُكْرَهُ إِفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ".
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(26)
فَضْلُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ فَضْلِ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ
فأجاب: مِمَّا ثَبَتَ فِي فَضْلِ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ- ﷺ - يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ؛ يَعْنِي: شَهْرَ رَمَضَانَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التِي قَبْلَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
- وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ خَاصٌّ بِالصَّغَائِرِ، وَأَمَّا الكَبَائِرُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْبَةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ- رَحِمَهُ اللهُ -: "وَتَقْدِيرُهُ: يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إِلَّا الكَبَائِرَ. فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنَ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ، وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ، وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ، رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنَ الكَبَائِرِ". اهـ.
- وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الكَبَائِرَ دَاخِلَةٌ فِي التَّكْفِيرِ؛ لِعُمُومِ الحَدِيثِ.
- وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ إِلَى أَنَّ تَكْفِيرَ الصَّغَائِرِ مَشْرُوطٌ بِاجْتِنَابِ الكَبَائِرِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(27)
ما لا يشرع من الأعمال في عاشوراء
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ حُكْمِ الاكْتِحَالِ أَوِ الاخْتِضَابِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَالتَّوْسِعَةِ فِيهِ عَلَى أَهْلِ البَيْتِ
فأجاب: هَذَا مِمَّا لَا يُشْرَعُ مِنَ الأَعْمَالِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: كُلُّ مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ الاكْتِحَالِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَالاخْتِضَابِ وَالاغْتِسَالِ فِيهِ؛ فَمَوْضُوعٌ لَا يَصِحُّ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فِيهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: مَنْ صَامَ عَاشُورَاءَ فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَةَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ فِيهِ كَانَ كَصَدَقَةِ السَّنَةِ. أَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى المَدِينِيُّ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَأَمَّا التَّوْسِعَةُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَلَى العِيَالِ، فَقَالَ حَرْبٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الحَدِيثِ الذِي جَاءَ: "مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ"، فَلَمْ يَرَهُ شَيْئًا.
وَقَالَ العُقَيْلِيُّ: هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ.
وَمِمَّا لَا يُشرَعُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ كَذَلِكَ، مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ مِنْ إِقَامَةِ المَآتِمِ لِأَجْلِ مَقْتَلِ الحُسَيْنِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فِي ذَلِكَ اليَوْمِ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَأَمَّا اتِّخَاذُ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا كَمَا تَفْعَلُهُ الرَّافِضَةُ لِأَجْلِ مَقْتَلِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَهُوَ مِنْ عَمَلِ مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا، وَلَمْ يَأْمُرِ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ بِاتِّخَاذِ أَيَّامِ مَصَائِبِ الأَنْبِيَاءِ وَمَوْتِهِمْ مَأْتَمًا، فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ؟!.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(28)
الاحْتِفَالُ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ حُكْمِ الاحْتِفَالِ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، هَلْ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ؟
فأجاب: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَحَبِيبِنَا مُحَمَّدٍ - ﷺ -، أَمَّا بَعْدُ: فَيَسْأَلُ البَعْضُ عَنْ حُكْمِ الاحْتِفَالِ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، وَالذِي يُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِـ (بِدْعَةِ عِيدِ المَوْلِدِ)، حَيْثُ أَحْدَثَ ذَلِكَ البَاطِنِيُّونَ العُبَيْدِيُّونَ بِالقَرْنِ الرَّابِعِ الهِجْرِيِّ، وَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فَقَدْ طَعَنَ فِي اللهِ، وَفِي النَّبِيِّ، وَفِي الصَّحَابَةِ؛ لِوَصْفِهِمْ بِالتَّقْصِيرِ، وَمَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً أَوْ عَمِلَ بِهَا، فَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، قَالَ ذَلِكَ نَبِيُّنَا وَحَبِيبُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَقَدْ زَيَّنَ الشَّيْطَانُ لِكَثِيرٍ مِنَ الجَهَلَةِ بِدْعَةَ المَوْلِدِ، وَجَعَلَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الاحْتِفَالَ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ مُعَبِّرٌ عَنْ حُبِّهِمْ لِلنَّبِيِّ - ﷺ -، وَفِي الحَقِيقَةِ هُوَ بِذَلِكَ مُعَادٍ لَهُ؛ إِذْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ مِنْهَا المُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ للهِ، لَمْ يَشْرَعْهَا اللهُ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا رَسُولُ اللهِ - ﷺ -، فَيُقَالُ لِمَنْ فُتِنَ بِبِدْعَةِ المَوْلِدِ مَا ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الحَدِيثِ أَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَعَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: «أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كَبِّرُوا اللهَ كَذَا وَكَذَا، سَبِّحُوا اللهَ كَذَا وَكَذَا، وَاحْمَدُوا اللهَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، أَوْ لَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - ﷺ - عِلْمًا". قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ. قَالَ: "وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ".
وَالعَجِيبُ أَنَّ بِدْعَةَ الاحْتِفَالِ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ - ﷺ - لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ، وَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا، أَوِ المُخْتَلَفِ فِيهَا.
فَهَذَا القُرْآنُ، لَيْسَ فِيهِ عِبَارَةٌ وَلَا إِشَارَةٌ وَلَا تَنْبِيهٌ وَلَا إِيمَاءٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاحْتِفَالِ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ، مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، وَقَالَ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)؛ أَيْ: مَا تَرَكْنَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ فِي القُرْآنِ؛ إِمَّا دِلَالَةً مُبَيَّنَةً، وَإِمَّا مُجْمَلَةً، إِمَّا تَفْصِيلًا وَإِمَّا تَأْصِيلًا. وَمَنِ اسْتَحْسَنَ بِدْعَةَ المَوْلِدِ لَمْ يَجِدْ وَلَا آيَةً مَنْسُوخَةً، أَوْ قِرَاءَةً شَاذَّةً يَتَعَلَّقُ بِهَا.
وَهَذِهِ السُّنَّةُ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، أَنَّهُ قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، فَلَيْسَ هُنَاكَ حَدِيثٌ يَتَشَبَّثُ بِهِ المُتَوَرِّطُونَ بِبِدْعَةِ المَوْلِدِ، لَا صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ وَلَا مُرْسَلٌ، وَلَا أَثَرٌ عَنْ صَحَابِيٍّ أَوْ عَنْ تَابِعِيٍّ.
وَلَمْ يَقُلْ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ، وَلَا عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ.
وَالعَجِيبُ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ، لَكِنْ يَقُولُونَ: هِيَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ، وَالبِدَعُ بِالإِجْمَاعِ كُلُّهَا سَيِّئَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا البِدْعَةَ اللُّغَوِيَّةَ العُرْفِيَّةَ، وَهِيَ السُّنَّةُ المَهْجُورَةُ إِذَا جُدِّدَتْ وَأُظْهِرَتْ.
مِثَالُهُ: مَا جَاءَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَمَعَ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانُوا أَوْزَاعًا عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: "نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلَا أَدَلَّ عَلَى أَنَّ بِدْعَةَ المَوْلِدِ بَتْرَاءُ لَا دَلِيلَ يُؤَيِّدُهَا، وَأَنَّ الذَّاهِبِينَ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا صِفْرُ اليَدَيْنِ؛ مِنْ أَنَّهُمْ أَجْلَبُوا بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ؛ لِيَجِدُوا دَلِيلًا، فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا - ﷺ - رَحْمَةٌ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي القُرْآنِ أَنْ نَفْرَحَ بِالرَّحْمَةِ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ، عَلَى بُطْلَانِ الاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَاهِيَةٌ، وَإِلَّا فَلِمَ لَا نَحْتَفِلُ بِبَعْثَتِهِ لَا بِمَوْلِدِهِ، فَهِيَ الرَّحْمَةُ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وَلَوْ سَلَّمْنَا بِأَنَّ مَوْلِدَهُ رَحْمَةٌ، فَتَخْصِيصُ يَوْمِ الاثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ بِدْعَةٌ؛ إِذِ التَّخْصِيصُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا، وَيُؤَيِّدُ مَا سَبَقَ مَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: (فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ). فَلِمَ لَا يُحْتَفَلُ بِمَوْلِدِهِ كُلَّ أُسْبُوعٍ؟، وَلِمْ لَا يَكُونُ صِيَامًا بَدَلًا مِنَ الأَكْلِ؟، وَقَدْ صَامَ النَّبِيُّ - ﷺ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ الذِي أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِ، عَلَى رَغْمِ أَنَّ العِبَادَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، فَلَا يُقَالُ: يُصَامُ يَوْمَ المَوْلِدِ، فَضْلًا عَنِ الاحْتِفَالِ بِهِ؛ لِصِيَامِ النَّبِيِّ - ﷺ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
عِلْمًا بِأَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ، فَلَيْسَ هُوَ مَحَلَّ اتِّفَاقٍ، بَلِ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّ يَوْمَ الاثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، هُوَ يَوْمُ وَفَاتِهِ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ يَوْمَ مَوْتِهِ - ﷺ - احْتِفَالًا وَفَرَحًا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!!
وَأَمَّا الاسْتِدْلَالُ بِمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ العَبَّاسَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي بَعْدَ حَوْلٍ فِي شَرِّ حَالٍ، فَقَالَ: مَا لَقِيتُ بَعْدَكُمْ رَاحَةً، إِلَّا أَنَّ العَذَابَ يُخَفَّفُ عَنِّي كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ، قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - وُلِدَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَكَانَتْ ثُوَيْبَةُ بَشَّرَتْ أَبَا لَهَبٍ بِمَوْلِدِهِ فَأَعْتَقَهَا.
فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا أَلْبَتَّةَ لِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا: انْقِطَاعُ سَنَدِهِ، وَاخْتِلَافُ لَفْظِهِ، وَلِأَنَّهُ مَنَامٌ، وَلَا تَثْبُتُ بِالمَنَامِ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ أَحْكَامٌ بِالاتِّفَاقِ، هَذَا لَوْ رَآهَا فِي حَالِ إِسْلَامِهِ، فَكَيْفَ لَوْ رَآهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ؟!.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَاعْلَمُوا يَا رَعَاكُمُ اللهُ، أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، فَتَمَسَّكُوا بِسُنَّتِهِ، وَلَا تَتَجَاوَزُوهَا، وَتَأَسَّوْا بِهِ، وَصَلُّوا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَتَعَرَّفُوا عَلَى سِيرَتِهِ وَشَمَائِلِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عُنْوَانُ مَحَبَّتِهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(29)
حُكْمُ اللَّعِبُ بِالشَّطْرَنْجِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ حُكْمِ اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ، هَلْ هُوَ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟
فأجاب: ذَكَرَ البَيْهَقِيُّ:
- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشَّطْرَنْجِ، وَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟، لَأَنْ يَمَسَّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا.
- وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الشَّطْرَنْجُ مَيْسِرُ العَجَمِ.
- وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ مَرَّ بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ تَيْمِ اللهِ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالشَّطْرَنْجِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لِغَيْرِ هَذَا خُلِقْتُمْ، أَمَا وَاللهِ، لَوْلَا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْتُ بِهَا وُجُوهَكُمْ.
- وَعَنْ مَالِكٍ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَلِيَ مَالَ يَتِيمٍ فَأَحْرَقَهَا.
- وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: لَا يَلْعَبُ بِالشَّطْرَنْجِ إِلَّا خَاطِئٌ.
- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الكيل وَإِنْ لَمْ يُقَامَرْ عَلَيْهَا. وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ كَانَ يَكْرَهُ اللَّعِبَ بِهَا.
- وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ البَاقِرِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الشَّطْرَنْجِ، فَقَالَ: دَعُونَا مِنْ هَذِهِ المَجُوسِيَّةِ.
- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قُلْتُ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: هَذَا النَّرْدُ مَيْسِرٌ، أَرَأَيْتَ الشَّطْرَنْجَ، مَيْسِرٌ هِيَ؟، قَالَ القَاسِمُ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مَيْسِرٌ.
- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لَأَنْ أَعْبُدَ صَنَمًا يُعْبَدُ فِي الجَاهِلِيَّةِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْعَبَ بِهَذَا المَيْسِرِ. قَالَ القَيْسِيُّ: وَهِيَ عِيدَانٌ كَانَ يُلْعَبُ بِهَا فِي الأَرْضِ.
- وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: مَا أُبَالِي أَلَعِبْتُ بِالكيل أَوْ تَوَضَّأْتُ بِدَمِ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ.
- وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ الشَّطْرَنْجَ شَرٌّ مِنَ النَّرْدِ.
- وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ - رَحِمَهُ اللهُ -: وَأَمَّا الشَّطْرَنْجُ فَهُوَ كَالنَّرْدِ فِي التَّحْرِيمِ.
- وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: مَفْسَدَةُ الشَّطْرَنْجِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّرْدِ، وَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ النَّرْدِ، فَدَلَالَتُهُ عَلَى تَحْرِيمِ الشَّطْرَنْجِ بِطَرِيقِ أَوْلَى . . . وَلَا يُعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَلَّهَا، وَلَا لَعِبَ بِهَا.
- وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنِ اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ: أَمَّا إِذَا كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ ... فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَضَمَّنَ كَذِبًا أَوْ ظُلْمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ؛ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِالإِجْمَاعِ، وَإِذَا خَلَا عَنْ ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ.
- وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: "وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الفُقَهَاءِ فِي الشَّطْرَنْجِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يُقَامِرْ بِهَا، وَلَعِبَ مَعَ أَهْلِهِ فِي بَيْتِهِ مُسْتَتِرًا بِهِ مَرَّةً فِي الشَّهْرِ أَوِ العَامِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْلَمُ بِهِ؛ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ.
- وَجَاءَ فِي جَوَابِ اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ لِلْبُحُوثِ العِلْمِيَّةِ وَالإِفْتَاءِ:
لَا يَجُوزُ لَعِبُ الشظَّطْرَنْجِ لِأَيِّ غَرَضٍ كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ المَفَاسِدِ الكَثِيرَةِ.
عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَاز - عَبْدُ الرَّزَّاق عَفِيفِي - عَبْدُ اللهِ بْنُ قَعُود - عَبْدُ اللهِ بْنُ غَدْيَان.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(30)
حُكْمُ اللَّعِبِ بالوَرِقِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ حُكْمِ لَعِبِ الوَرِقِ بِدُونِ عِوَضٍ، هَلْ هُوَ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟
فأجاب:
- قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ).
قَالَ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ مَيْسِرٌ.
- وَعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «كُلُّ القِمَارِ مِنَ المَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبُ الصِّبْيَانِ بِالجَوْزِ».
فَكُلُّ لُعْبَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى القِمَارِ، أَوْ شَغَلَتْ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ، أَوْ حَمَلَتْ عَلَى مَعْصِيَةٍ؛ كَاللَّعْنِ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ؛ فَمُحَرَّمَةٌ بِالإِجْمَاعِ.
- وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ).
فَالوَقْتُ حَقُّ اللهِ - جَلَّ وَعَلَا - فَمَنْ صَرَفَ كَثِيرَهُ فِي لُعْبَةِ الوَرِقِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الأَلْعَابِ؛ فَقَدْ بَخَسَ اللهَ حَقَّهُ.
- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
وَلَاعِبُو الوَرِقِ وَنَحْوُهُمْ غَالِبًا لَا يَذْكُرُونَ اللهَ فِي مَجْلِسِهِمْ، وَلَيْسَ زَعْمُ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنِ الغِيبَةِ بِحُجَّةٍ.
- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: " كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ غَيْرَ: رَمْيِ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبِهِ فَرَسَهُ، وَمُلاعَبَتِهِ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ". حَسَنٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
فَلَعِبُ الوَرِقِ بَاطِلٌ، وَالبَاطِلُ مَذْمُومٌ.
- قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ).
وَذَلِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنَ المَفَاسِدِ وَالمَضَارِّ، وَكَمْ سَبَّبَ لَعِبُ الوَرِقِ مِنْ تَشَاحُنٍ، وَتَهَاجُرٍ، وَعَدَاوَةٍ، وَكَلَاٍم بَذِيءٍ، وَغَفْلَةٍ وَتَفْرِيطٍ فِي الصَّلَاةِ، وَمُجَالَسَةِ أَصْحَابِ المَعَاصِي وَالفُسُوقِ!.
- لُعْبَةُ الوَرِقِ كَالبُلُوتِّ مَثَلًا، فِيهَا شَبَهٌ بِلُعْبَةِ النَّرْدِ المَنْهِيِّ عَنْهَا؛ لِوُجُودِ الحَظِّ فِيهَا، وَشَبَهٌ بِالشَّطْرَنْجِ المُحَذَّرِ مِنْهَا؛ لِوُجُودِ الصُّوَرِ.
- وَسُئِلَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ عَنْ: لَعِبِ الوَرِقِ إِذَا كَانَ لَا يُلْهِي عَنِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ دُونِ فُلُوسٍ، هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَمْ لَا؟
الجَوَابُ: (اللَّعِبُ بِالوَرِقِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ بِدُونِ عِوَضٍ).
عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ بَازٍ - عَبْدُ الرَّزَّاق عَفِيفِي - عَبْدُ اللهِ بْنُ قَعُود - عَبْدُ اللهِ بْنُ غَدْيَان.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(31)
التَّشْرِيكُ فِي سُبْعِ بَدَنَةٍ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنِ التَّشْرِيكِ فِي سُبْعِ البَدَنَةِ، هَلْ يُجْزِئُ أَوْ لَا يُجْزِئُ؟
فأجاب: لَا مَانِعَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي الثَّوَابِ فِي سُبْعِ البَدَنَةِ، وَأَنْ يُضَحِّيَ الرَّجُلُ بِسُبْعِ بَدَنَةٍ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا هُوَ الحَالُ فِي الأُضْحِيَةِ مِنَ الغَنَمِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ سُبْعَ البَدَنَةِ لَا يَكْفِي إِلَّا عَنِ الرَّجُلِ دُونَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْرَكُ فِي ثَوَابِ سُبْعِ البَدَنَةِ، وَأَنَّ التَّشْرِيكَ فِي الثَّوَابِ خَاصٌّ بِأُضْحِيَةِ الغَنَمِ، وَهِيَ التِي تَكْفِي عَنِ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ دُونَ سُبْعِ البَدَنَةِ؛ فَقَوْلُهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ سُبْعَ البَدَنَةِ لَا يَكْفِي إِلَّا عَنِ الرَّجُلِ دُونَ أَهْلِ بَيْتِهِ بِظَاهِرِ قَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ: (كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى قَوْلِهِ بِأَنَّ سُبْعَ البَدَنَةِ لَا يُشْرَكُ فِي ثَوَابِهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ - ﷺ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الإِبِلِ وَالبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ). متفق عليه؛ فَاسْتِدْلَالٌ مَرْدُودٌ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، بَلْ قَوْلُ أَبِي أَيُّوبَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ، وَبُرْهَانٌ لِمَنْ سَاوَى بَيْنَ سُبْعِ البَدَنَةِ وَالرَّأْسِ مِنَ الغَنَمِ لَا ضِدُّهُ.
وَالبَدَنَةُ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ إِجْمَاعًا، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ الجُمْهُورِ، لَزِمَهُ المُسَاوَاةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ هَذَا اللُّزُومِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: وَأَمَّا كَوْنُ الشَّاةِ يَجُوزُ إِهْدَاءُ ثَوَابِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَسُبْعِ البَدَنَةِ لَا يَجُوزُ؛ فَهَذَا قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَدِلَّةِ، وَلِكَلَامِ الفُقَهَاءِ، وَلِلْحِكْمَةِ وَالمُنَاسَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ. انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(32)
تَعَدُّدُ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ مِنَ الأَفْضَلِ أَنْ تُضَحِّيَ المَرْأَةُ عَنْ نَفْسِهَا مَعَ أَنَّ زَوْجَهَا يُضَحِّي عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَهِيَ مِنْهُمْ؟
فأجاب: سُئِلَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ (رَحِمَهُ اللهُ) عن هذا، فقال:
(إِنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَخِلَافُ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ يَكْفِي لِلْبَيْتِ أُضْحِيَةٌ وَاحِدَةٌ، تَشْمَلُ أَهْلَ البَيْتِ الوَاحِدِ كُلَّهُمْ، وَيَقُولُ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَنَجِدُ أَحْيَانًا الزَّوْجَ يُضَحِّي عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَتَأْتِي زَوْجَتُهُ وَتَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ أُضَحِّيَ أَنَا أَيْضًا، وَتَأْتِي أُخْتُهُ وَتَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ أُضَحِّيَ، ثُمَّ تَأْتِي البِنْتُ وَتَقُولُ: أُرِيدُ أَنْ أُضَحِّيَ، فَتَجْتَمِعُ فِي البَيْتِ الوَاحِدِ ضَحَايَا مُتَعَدِّدَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، فَإِنَّ أَكْرَمَ الخَلْقِ مُحَمَّدًا - ﷺ - لَمْ يُضَحِّ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَهُ تِسْعَ نِسَاءٍ؛ يَعْنِي تِسْعَةَ بُيُوتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا ضَحَّى إِلَّا بِوَاحِدَةٍ عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَضَحَّى بِأُخْرَى عَنْ أُمَّتِهِ - ﷺ -، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يُضَحِّي الرَّجُلُ مِنْهُمْ بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَنْهُ، وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.
فَمَا عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اليَوْمَ فَهُوَ إِسْرَافٌ، وَنَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الذِينَ يُضَحُّونَ بِهَذِهِ الضَّحَايَا، إِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ فَضْلُ مَالٍ، فَهُنَاكَ أُنَاسٌ مُحْتَاجُونَ لِهَذَا المَالِ مِنَ المُسْلِمِينَ.
قُلْتُ: وَفِي جَوَابِ شَيْخِنَا هَذَا فِقْهٌ بَدِيعٌ، مِنْ عَالِمٍ ضَلِيعٍ.
وَمَا أَحْبَبْتُ الإِشَارَةَ إِلَيْهِ مَا يَلِي:
لَا شَكَّ أَنَّ الوَاحِدَةَ تُجْزِئُ عَنِ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنْ كَثُرُوا، وَأَنَّ المُبَاهَاةَ وَالمُفَاخَرَةَ فِي العَدَدِ مَذْمُومَةٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَلَكِنَّ تَعَبُّدَ الرَّجُلِ أَوْ أَهْلِ البَيْتِ الوَاحِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ مَعَ الإِيسَارِ، لَا دَلِيلَ يَمْنَعُ مِنْهُ؛ بَلْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ - ﷺ - يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ). متفق عليه.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اخْتِيَارِ العَدَدِ فِي الأُضْحِيَةِ. انتهى.
وَفِي شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ لِابْنِ بَطَّالٍ: وَهَذِهِ الآثَارُ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمُفَسِّرَةٌ لَهُ، وَاخْتِلَافُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ، فَهُوَ أَزْيَدُ فِي أَجْرِهِ.
وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - وَبِكَبْشَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ البَيْتِ يُضَحُّونَ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ البُوصِيرِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: أَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ. وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: كَانَ أَهْلُ البَيْتِ يُضَحُّونَ بِالشَّاةِ، فَضَحَّوْا هُمْ - «يَعْنِي أَهْلَ العِرَاقِ» - عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَاة. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَأَهْدَى النَّبِيُّ - ﷺ - مِائَةَ بَدَنَةٍ، (فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا، فَنَحَرَ مَا غَبَرَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
لِذَا فَضَّلَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ البَدَنَةَ الكَامِلَةَ عَلَى الكَبْشِ. وَالفُقَهَاءُ يَقِيسُونَ الضَّحَايَا عَلَى الهَدَايَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الضَّحَايَا كَحُكْمِ الهَدَايَا، فَمَا جَازَ فِي الهَدَايَا، جَازَ فِي الضَّحَايَا. انتهى
وَلَوْ كَانَ تَعَدُّدُ الأُضْحِيَةِ مَحَلَّ ذَمٍّ وَخِلَافَ السُّنَّةِ؛ لَبَيَّنَ ذَلِكَ الرَّحِيمُ بِأُمَّتِهِ، خَاصَّةً وَالحَاجَةُ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى ظَاهِرِيَّتِهِ: وَجَائِزٌ أَنْ يُضَحِّيَ الوَاحِدُ بِعَدَدٍ مِنَ الأَضَاحِي، ضَحَّى رَسُولُ اللهِ - ﷺ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالأُضْحِيَةُ فِعْلُ خَيْرٍ، فَالاسْتِكْثَارُ مِنَ الخَيْرِ حَسَنٌ. انتهى.
وَقَالَ فِي كِتَابِ المَسَالِكِ: وَالاخْتِيَارُ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ، أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ شَاةً، فَإِنْ ضَحَّى بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَهُمْ.
وَقَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الوَاحِدَ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ تُجْزِئُ الإِنْسَانَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنْ يُضَحِّيَ عَنِ الإِنْسَانِ بِشَاةٍ لِمَنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ.
وَقَالَ شَيْخُنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَإِذَا ضَحَّى الإِنْسَانُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ بِثِنْتَيْنِ أَوْ بِأَكْثَرَ فَلَا بَأْسَ.
وَفِي فَتَاوَى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ: إِذَا كَانَتْ العَائِلَةُ كَثِيرَةً، وَهِيَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَيُجْزِئُ عَنْهُمْ أُضْحِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ ضَحَّوْا بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ. انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(33)
فَضْلُ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ فَضْلِ الأُضْحِيَةِ، وَمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثَ
فأجاب: قَالَ ابْنُ العَرَبِيّ: لَيْسَ فِي فَضْلِ الأُضْحِيَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. انتهى.
لَكِنْ حَسْبُنَا فِي فَضْلِهَا: مَا جَاءَ فِي القُرْآنِ، وَمَا صَحَّ مِنَ السُّنَّةِ، حَيْثُ ضَحَّى النَّبِيُّ - ﷺ - بِكَبْشَيْنِ، وَعَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ، وَوَاظَبَ عَلَيْهَا أَعْيَانُ المُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ مَرْفُوعًا: (أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(34)
أَرْكَانُ الحَجِّ وَوَاجِبَاتُهُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – ما أركان الحج، وما واجباته، وما الفرق بينهما؟
فأجاب:
أَرْكَانُ الحَجِّ:
1- الإِحْرَامُ، وَهُوَ النِّيَّةُ.
2- وَالوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.
3- وَطَوَافُ الإِفَاضَةِ.
4- وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ.
مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا؛ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ.
وَأَمَّا وَاجِبَاتُ الحَجِّ فـ:
1- الإِحْرَامُ مِنَ المِيقَاتِ.
2- وَالبَقَاءُ بِعَرَفَةَ إِلَى الغُرُوبِ.
3- وَالمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ.
4- وَالمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ.
5- وَرَمْيُ الجِمَارِ.
6- وَالحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ.
7- وَطَوَافُ الوَدَاعِ لِغَيْرِ الحَائِضِ.
مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا جَبَرَهُ بِدَمٍ، وَيَأْثَمُ إِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(35)
مَا جَاءَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بَعْدَ العِشَاءِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا قَوْلُكُمْ فِيمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بَعْدَ العِشَاءِ، وَأَنَّهُنَّ يَعْدِلْنَ بِمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ القَدْرِ؟
فأجاب: ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ العَمَلُ بِالأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بَعْدَ العِشَاءِ، ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي «مُصَنَّفِهِ»، وَكَذَلِكَ المَرْوَزِيُّ فِي «قِيَامِ اللَّيْلِ»، وَالبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الكُبْرَى»، وَغَيْرُهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: "بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحَارِثِ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: نَامَ الغُلَيِّمُ؟ أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ، حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ". رواه البخاري.
وعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: (مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ، إِلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ). رواه أبو داود.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَوْتَرَ بِسَجْدَةٍ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى يُصَلِّيَ بَعْدَ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ). رواه أحمد. وَهَذَانِ الحَدِيثَانِ ضَعِيفَانِ.
- وَأَمَّا الأَحَادِيثُ المَرْفُوعَةُ الوَارِدَةُ فِي أَنَّ أَرْبَعًا بَعْدَ الظُّهْرِ أَوْ بَعْدَ العِشَاءِ، تَعْدِلُ مِثْلَهُنَّ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ؛ فَلَا تَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَالبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ؛ رَوَاهَا الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ حَكَمَ بَعْضُ العُلَمَاءِ لِهَذِهِ الآثَارِ بِحُكْمِ الرَّفْعِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِثْلُهَا بِالرَّأْيِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَرْبَعًا بَعْدَ العِشَاءِ أَوْ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَإِنْ قُلْنَا بِاسْتِحْبَابِهَا، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَأْخُذُ حُكْمَ المَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الفَضْلَ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لَكَانَتِ الهِمَمُ تَدْعُو إِلَى نَقْلِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(36)
أَعْمَالُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنِ الأَعْمَالِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ
فأجاب: أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ العَامِ؛ وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يَجْتَهِدُونَ فِيهَا اجْتِهَادًا كَبِيرًا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، رَاوِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَضْلِ العَمَلِ فِيهَا، إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ، اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا، حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُطْفِئُوا سُرُجَكُمْ لَيَالِيَ العَشْرِ"؛ تُعْجِبُهُ العِبَادَةُ.
فَجَدِيرٌ بِالمُسْلِمِ أَنْ يُسَابِقَ إِلَى أَنْوَاعِ العِبَادَةِ فِيهَا؛ كَالصِّيَامِ، وَالقِيَامِ، وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَغَيْرِهَا، وَيُنَافِسَ فِي العِبَادَاتِ المُؤَقَّتَةِ فِيهَا، وَهِيَ الحَجُّ وَالأُضْحِيَةُ؛ فَإِنَّ فَضْلَهُمَا عَظِيمٌ.
• وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ العَمَلُ فِيهِنَّ، مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ صُحِّحَ.
وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ اْلأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَمَمْشَاهُ، تِلْكَ اْلأَيَّامَ جَمِيعًا.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: التَّكْبِيرُ فِي الأَضْحَى مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَالمُقَيَّدُ عُقَيْبَ الصَّلَوَاتِ. وَالمُطْلَقُ فِي كُلِّ حَالٍ. انتهى.
فَالتَّكْبِيرُ المُطْلَقُ، يَبْدَأُ مِنْ رُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الحِجَّةِ، إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَالتَّكْبِيرُ المُقَيَّدُ بِعُقَيْبِ الصَّلَوَاتِ، يَبْدَأُ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ، إِلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَرَوَى جَعْفَرٌ الفِرْيَابِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، قَالَ: رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيرٍ، وَمُجَاهِدًا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، أَوِ اثْنَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَمَا رَأَيْنَا مِنْ فُقَهَاءِ النَّاسِ يَقُولُونَ فِي أَيَّامِ العَشْرِ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الحَمْدُ.
وَإِنْ شَاءَ جَعَلَ التَّكْبِيرَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
• وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ). رواه مسلم.
قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ صَائِمِهِ فِي السَّنَتَيْنِ، قَالُوا: وَالمُرَادُ بِهَا الصَّغَائِرُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ صَغَائِرُ يُرْجَى التَّخْفِيفُ مِنَ الكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُفِعَ دَرَجَاتٍ.
وَقَالَ المُبَارَكْفُورِي: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التِي بَعْدَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّجُلِ ذَنْبٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَحْفَظَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ فِيهَا، وَقِيلَ: أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ قَدْرًا يَكُونُ كَكَفَّارَةِ السَّنَةِ المَاضِيَةِ وَالسَّنَةِ القَابِلَةِ إِذَا جَاءَتْ وَاتَّفَقَتْ لَهُ ذُنُوبٌ.
• قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَفِي المُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ حَفْصَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - كَانَ لَا يَدَعُ صِيَامَ العَشْرِ. وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - ﷺ -: أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - كَانَ لَا يَدَعُ صِيَامَ تِسْعِ ذِي الحِجَّةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ صُحِّحَ).
وَمِمَّنْ كَانَ يَصُومُ العَشْرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ صِيَامِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ العُلَمَاءِ، أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ.
• وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُرَدُّ فِيهِنَّ - يَعْنِي عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ – الدُّعَاءُ. خَرَّجَهُ جَعْفَرٌ الفِرْيَابِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(37)
فَضْلُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: عَنْ فَضْلِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، وَبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثَ
فأجاب:
أَمَّا عَنْ فَضْلِ العَمَلِ فِيهَا:
فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ"؛ يَعْنِي: أَيَّامَ العَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟، قَالَ: "وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
وَأَمَّا عَنْ فَضْلِهَا فِي نَفْسِهَا:
فَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ".
وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِزِيَادَةِ: «وَلَا لَيَالِيَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِيهِنَّ».
وَخَرَّجَ البَزَّارُ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: "أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ العَشْرِ"، وَرُوِيَ مُرْسَلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَصَحُّ.
وَجَمْعُهَا مَا فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ العَمَلُ فِيهِنَّ عِنْدَ اللهِ، مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ".
قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: دَلَّتِ الأَحَادِيثُ عَلَى:
- أَنَّ أَيَّامَ العَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
- وَأَنَّ مَجْمُوعَ لَيَالِي العَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ مَجْمُوعِ لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ الأَخِيرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي عَشْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةٌ لَا يَفْضُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا.
وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لِلَطَائِفِ المَعَارِفِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(38)
أَيَّامُ وَلَيَالِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ عَظِيمَةٌ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ وَالعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
فأجاب: سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنْ هَذَا، فَأَجَابَ: أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ العَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لِيَالِي عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ. انتهى.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ مَا مُلَخَّصُهُ:
قَالَ كَعْبٌ: (اخْتَارَ اللهُ الزَّمَانَ، وَأَحَبُّ الزَّمَانِ إِلَى اللهِ الأَشْهُرُ الحُرُمُ، وَأَحَبُّ الأَشْهُرِ الحُرُمِ إِلَى اللهِ ذُو الحِجَّةِ، وَأَحَبُّ ذِي الحِجَّةِ إِلَى اللهِ العَشْرُ الأُوَلُ).
وَهَذَا - أَيِ الوَارِدُ فِي فَضْلِ العَشْرِ - كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَيَّامِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ.
هَذَا فِي أَيَّامِهِ. فَأَمَّا لَيَالِيهِ، فَمِنَ المُتَأَخِّرِينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَيَالِيَ عَشْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِيهِ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى لَيْلَةِ القَدْرِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.
فَإِنَّ عَشْرَ رَمَضَانَ فُضِّلَ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهِ، وَعَشْرُ ذِي الحِجَّةِ جَمِيعُ لَيَالِيهِ مُتَسَاوِيَةٌ.
وَحَدِيثُ جَابِرٍ الذِي خَرَّجَهُ أَبُو مُوسَى صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ لَيَالِيهِ كَتَفْضِيلِ أَيَّامِهِ أَيْضًا، وَالأَيَّامُ إِذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَتْ فِيهَا اللَّيَالِي تَبَعًا، وَكَذَلِكَ اللَّيَالِي تَدْخُلُ أَيَّامُهَا تَبَعًا.
وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِلَيَالِيهِ فَقَالَ: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ لَيَالِيهِ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لَيَالِيَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهَا، يَعْدِلُ لَيْلَةَ القَدْرِ.
وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَعْيَانِ المُتَأَخِّرِينَ مِنَ العُلَمَاءِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَجْمُوعَ هَذَا العَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ مَجْمُوعِ عَشْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي عَشْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةٌ لَا يُفَضَّلُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. انتهى.
(39)
صِفَاتُ الطَّائِفَةِ المَنْصُورَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا صِفَاتُ الطَّائِفَةِ المَنْصُورَةِ، الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي بَعْضٍ مِنْ أَحَادِيثِهِ؟
فأجاب: مِنْ صِفَاتِهَا:
- أَنَّهَا عَلَى الحَقِّ الذِي هُوَ دِينُ اللهِ، مُتَّبِعَةٌ لَا مُبْتَدِعَةٌ.
- أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ؛ عَقِيدَةً، وَمَنْهَجًا، وَأَحْكَامًا، وَسُلُوكًا.
- أَنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، صَابِرَةٌ مُحْتَسِبَةٌ.
- أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ لِلنَّاسِ، عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهَا، غَالِبَةٌ فِي حُجَّتِهَا.
- أَنَّهَا مُؤَيَّدَةٌ مِنَ اللهِ، بَاقِيَةٌ ثَابِتَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
- أَنَّهَا عَلَى عِلْمٍ وَعَمَلٍ، لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
- أَنَّهَا عَلَى إِيمَانٍ وَتَوَكُّلٍ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ تَخَلَّى عَنْهُمْ أَوْ نَاوَأَهُمْ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(40)
المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَجُوزُ سَبُّ مَنْ مَاتَ مِنَ المُسْلِمِينَ؟
فأجاب: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَسِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَكَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا.
وَقَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ مَا يُنْهَى مِنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ، ثُمَّ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا}. وَالمَعْنَى: حِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَهُمْ مَا كَسَبُوا، وَلَنَا مَا كَسَبْنَا، وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
وَأَخْرَجَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ فِي "كِتَابِ أَخْبَارِ البَصْرَةِ"، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا فَعَلَ "يَزِيدُ الأَرْحَبِيُّ" لَعَنَهُ اللهُ؟ قَالُوا: مَاتَ. قَالَتْ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ. قَالُوا: مَا هَذَا؟ فَذَكَرَتِ الحَدِيثَ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: {لَا تَسُبُّوا أَمْوَاتَنَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا}. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَقَدْ حُسِّنَ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: ذِكْرُ البَعْضِ مِنَ العِلَّةِ التِي مِنْ أَجْلِهَا نَهَى عَنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ، ثُمَّ رَوَى الحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ المُغِيرَةِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَرُورَةِ مُرَاعَاةِ مَشَاعِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ قَرَابَةِ المَيِّتِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اذْكُرُوا مَحَاسِنَ أَمْوَاتِكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ}.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ، لَا تَقَعُوا فِيهِ}.
وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْهَا وَقَدْ صُحِّحَ، قَالَتْ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَالِكٌ بِسُوءٍ، فَقَالَ: «لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ».
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَينِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "مَرُّوا بِجِنَازَةٍ، فَأَثْنَوا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ".
فَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ سَبِّ الأَمْوَاتِ هُوَ فِي غَيْرِ المُنَافِقِ وَالكَافِرِ، وَفِي غَيْرِ المُتَظَاهِرِ بِفِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ، فَلَا يَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بِالشَّرِّ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ طَرِيقِهِمْ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(41)
الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنِ التَّثْوِيبِ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ أَحَادِيثَ
فأجاب: التَّثْوِيبُ، وَهُوَ قَوْلُ: "الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ" فِي الأَذَانِ المُعْلِمِ بِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الفَجْرِ، وَرَدَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ بَعْضُهَا يَشُدُّ بَعْضًا، مِمَّا يَجْعَلُ النَّفْسَ تَطْمَئِنُّ لِثُبُوتِ ذَلِكَ، وَقَدْ صَحَّحَ بَعْضَ أَفْرَادِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ العُلَمَاءِ؛ فَمِنْهَا:
مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي سُنَّةَ الأَذَانِ، فَقَالَ: تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، إِلَى أَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، فَإِنْ كَانَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي لَفْظٍ: (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فِي الأَوَّلِ مِنَ الصُّبْحِ).
المُرَادُ بِالأَوَّلِ: أَذَانُ الفَجْرِ؛ فَإِنَّهُ الذِي مِنَ الصُّبْحِ، وَيُقَالُ لَهُ الأَوَّلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِقَامَةِ، لَا أَنَّ المُرَادَ بِهِ الأَوَّلُ الذِي يُؤَذَّنُ بِلَيْلٍ قَبْلَ الصُّبْحِ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: "وَرَوَى التَّثْوِيبَ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «كَانَ الْأَذَانُ بَعْدَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ»، قَالَ الْيَعْمُرِيُّ: وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ".
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَى السَّرَّاجُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: (كَانَ الأَذَانُ الأَوَّلُ بَعْدَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ). وَسَنَدُهُ حَسَنٌ. انْتَهَى.
وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: (مِنْ السُّنَّةِ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْفَجْرِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ). رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ البَيْهَقِيُّ وَابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ.
وَرَوَى البَيْهَقِيُّ فِي "المَعْرِفَةِ"، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ المُؤَذِّنِ، قَالَ: (حَدَّثَنِي أَهْلِي، أَنَّ بِلَالًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْذِنُ لِصَلَاةِ الفَجْرِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ نَائِمٌ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأُقِرَّتْ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ). وَقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ، وَالطَّرِيقُ لَهُ صَحِيحٌ. قَالَ فِي "الإِمَامِ": وَأَهْلُ حَفْصٍ غَيْرُ مُسَمَّيْنَ، فَهُمْ مَجْهُولُونَ. انْتَهَى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ: وَمِثْلُ هَذَا يُحْتَمَلُ لِكَثْرَتِهِمْ وَفَضْلِ قَرْنِهِمْ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَعَنْ نُعَيْمٍ النَّحَّامِ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ بِشَرْعِيَّةِ التَّثْوِيبِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُهُ، وَأَنَسٌ، وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّهِ؛ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَطْ. وَالأَحَادِيثُ لَمْ تَرِدْ بِإِثْبَاتِهِ إِلَّا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ لَا فِي غَيْرِهَا، فَالوَاجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذَلِكَ، وَالجَزْمُ بِأَنَّ فِعْلَهُ فِي غَيْرِهَا بِدْعَةٌ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُ. انْتَهَى.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ صَحَّحَ التَّثْوِيبَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ، قَالَ: "وَهُوَ الذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ العِلْمِ وَرَأَوْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ مَسْجِدًا وَقَدْ أُذِّنَ فِيهِ، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِ، فَثَوَّبَ المُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ المَسْجِدِ، وَقَالَ: اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا المُبْتَدِعِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَرِهَ عَبْدُ اللهِ التَّثْوِيبَ الذِي أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدُ".
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(42)
إِحْضَارُ الصِّغَارِ إِلَى المَسْجِدِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ حُكْمِ إِحْضَارِ الصِّغَارِ إِلَى المَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ، هَلْ هُوَ جَائِزٌ أَمْ لَا؟
فأجاب:
• الصَّغِيرُ المُمَيِّزُ الذِي لَا يُشَوِّشُ عَلَى المُصَلِّينَ، لَا مَانِعَ مِنْ إِحْضَارِهِ لِلصَّلَاةِ لِيَتَعَلَّمَ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعَلَّمَ الوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَآدَابَ المَسْجِدِ، وَخَاصَّةً ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَمَا فَوْقَ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ). رواه أحمد وأبو داود.
• أَمَّا إِنْ كَانَ يَعْبَثُ وَيُؤذِي، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْتَى بِهِ لِلْمَسْجِدِ، إِلَّا فِي حَالِ الاضْطِرَارِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - ﷺ - فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ العِشَاءِ، وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَينًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - وَهُوَ سَاجِدٌ). رواه النسائي.
• وَإِذَا كَانَ الصَّغِيرُ غَيْرَ مُمَيِّزٍ وَلَوْ رَضِيعًا، وَدَعَتِ الحَاجَةُ إِلَى إِحْضَارِهِ فَلَا بَأْسَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ وَأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ). رواه البخاري.
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا). متفق عليه.
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عَلِمَ بِنَجَاسَةٍ عَلَى ثِيَابِ الطِّفْلِ، أَوْ فِي حَفَّاظَتِهِ، فَلَا يَحْمِلُهُ إِلَّا بَعْدَ إِزَالَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ إِلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ: (جَنِّبُوا مَسَاجِدَنَا صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ). فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَهُنَا مَسَائِلُ:
- مَنْ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ، أَوْ لِعَدَمِ وُضُوئِهِ، أَوْ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، فَلَا تَصِحُّ مُصَافَّتُهُ وَحْدَهُ فِي الصَّفِّ.
- وُجُودُ الصَّغِيرِ فِي الصَّفِّ لَا يَقْطَعُ الصَّفَّ، وَلَا يَحْتَجُّ مُحْتَجٌّ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا). قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: "وَيُكْرَهُ لِلْمَأْمُومِ الوُقُوفُ بَيْنَ السَّوَارِي، قَالَ أَحْمَدُ: لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الصَّفَّ".
فَالجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الجَمَادِ - وَخَاصَّةً الكَبِيرَ - وَالإِنْسَانِ.
- لَا يَحِقُّ لِأَحَدٍ عَلَى القَوْلِ الرَّاجِحِ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّغِيرَ المُنْضَبِطَ فِي صَلَاتِهِ عَنْ مَكَانِهِ، لِيَأْتِيَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أُولِي الأَحْلَامِ وَالنُّهَى؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمَكَانِهِ الذِي سَبَقَ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ - ﷺ -: (لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الأَحْلَامِ وَالنُّهَى). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهُوَ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى سَبْقِ مَنْ دُونَهُمْ إِلَى أَقْرَبِ مَكَانٍ يَلِي الإِمَامَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(43)
شَهْرُ رَجَبٍ وَمَا وَرَدَ فِيهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَصِحُّ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَجَبٍ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَهَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِشَيْءٍ مِنَ العِبَادَاتِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ؟
فأجاب: لَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ يَصْلُحُ لِلاسْتِدْلَالِ بِهِ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَجَبٍ وَحْدَهُ، وَلَا فِي صِيَامِهِ، أَوْ صِيَامِ يَوْمٍ مَخْصُوصٍ فِيهِ، وَلَا فِي صَلَاةٍ فِي نَهَارِهِ أَوْ فِي لَيْلِهِ، أَو الاعْتِمَارِ فِيهِ.
وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ إِمَّا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ. وَقَدْ جَزَمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الهَرَوِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ، وَيُرْجَعُ إِلَى كِتَابِهِ: «تَبْيِينُ العَجَبْ بِمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ رَجَبْ»
وَقَدِ اشْتُهِرَ عَلَى الأَلْسِنَةِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ بْنِ أَبِي الرُّقَادِ قَالَ: أَخْبَرَنَا زِيَادٌ النُّمَيْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ). قَالَ: لَا يُرْوَى هَذَا الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذَا الإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ زَائِدَةُ بْنُ أَبِي الرُّقَادِ. انتهى.
وَزَائِدَةُ قَالَ عَنْهُ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: مُنْكَرُ الحَدِيثِ. وَعَلَيْهِ فَالحَدِيثُ مُنْكَرٌ، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ.
وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ: مَا جَاءَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ؛ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ". متفق عليه.
فَالسَّيِّئَةُ فِيهَا أَعْظَمُ، وَكَذَلِكَ الحَسَنَةُ؛ لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ هَذَا بَعْضُ السَّلَفِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: "أَوَّلُهُنَّ رَجَبٌ". وَفِي إِسْنَادِهِ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، ضَعِيفٌ.
- وَأَفْضَلُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ: ذُو الحِجَّةِ، وَقِيلَ: رَجَبٌ، وَالأَوَّلُ أَرْجَحُ.
وَثَبَتَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: «ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لِشَهْرِ رَجَبٍ؛ لِكَوْنِهِ شَهْرًا حَرَامًا، وَلَرُبَّمَا لِأَجْلِ ذَلِكَ عَمِلُوا فِيهِ بَعْضَ العِبَادَاتِ المَشْرُوعَةِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ؛ اغْتِنَامًا لِلزَّمَانِ، كَمَا يَعْمَلُ فِي الحَرَمِ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَصَدَقَةٍ؛ اغْتِنَامًا لِلْمَكَانِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ".
وَالعَتِيرَةُ: ذَبِيحَةٌ كَانُوا يَذْبَحُونَهَا فِي رَجَبٍ، وَيُسَمُّونَهَا: الرَّجَبِيَّةَ أَيْضًا.
وَقَدِ اسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَسَخَ مَشْرُوعِيَّتَهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَلَا عَتِيرَةَ). قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَكَذَا جَاءَ بِلَفْظِ النَّفْيِ، وَالمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ، وَقَدْ وَرَدَ بِصِيغَةِ النَّهْيِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، وَلِلْإِسْمَاعِيلِيِّ بِلَفْظِ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: "لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ فِي الإِسْلَامِ". انتهى.
وَالأَظْهَرُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا لَا تَخْتَصُّ بِرَجَبٍ، فَعَنْ نُبَيْشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نَعْتِرُ عَتِيرَةً فِي الجَاهِلِيَّةِ فِي رَجَبٍ، قَالَ: "اذْبَحُوا للهِ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ، وَبَرُّوا اللهَ وَأَطْعِمُوا". قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ المُنْذِرِ وَالحَاكِمُ. وَعَلَيْهِ تَجْتَمِعُ الأَحَادِيثُ فِيهَا.
وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ رَجَبٍ وَلَا غَيْرِهِ عِيْدًا؛ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْسِمًا لِعِبَادَةٍ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ، أَوْ يُقَامَ فِيهِ احْتِفَالٌ لِمُنَاسَبَةٍ تَارِيخِيَّةٍ.
وعَنْ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ، عَنْ أَبِيهَا، أَوْ عَمِّهَا، أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: (صُمْ مِنَ الحُرُمِ وَاتْرُكْ). قَالَهَا ثَلَاثًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلَفْظُهُ: "صُمْ أَشْهُرَ الحُرُمِ". وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَضْعِيفِهِ وَتَحْسِينِهِ لِلاضْطِرَابِ وَالجَهَالَةِ. وَهُوَ عَامٌّ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ، لَا فِي رَجَبٍ وَحْدَهُ.
وَيُقَوِّي اسْتِحْبَابَ صِيَامِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ: مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ؛ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُا كُلَّهَا؛ مِنْهُمْ: ابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَفِي حَدِيثٍ خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ يَصُومُ الأَشْهُرَ الحُرُمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صُمْ شَوَّالًا"، فَتَرَكَ أَشْهُرَ الحُرُمِ، وَصَامَ شَوَّالًا حَتَّى مَاتَ، وَفِي إِسْنَادِهِ انْقِطَاعٌ.
وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ. وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ يَصُومُونَ رَجَبًا، فَقَالَ: "أَيْنَ هُمْ مِنْ شَعْبَانَ؟".
وَرَوَى أَزْهَرُ بْنُ سَعِيدٍ الجُمَحِيُّ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ، فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتِ صَائِمَةً فَعَلَيْكِ بِشَعْبَانَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا، وَوَقْفُهُ أَصَحُّ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ أَكُفَّ الرِّجَالِ فِي صَوْمِ رَجَبٍ؛ حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الطَّعَامِ، وَيَقُولُ: مَا رَجَبٌ؟ إِنَّ رَجَبًا كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الإِسْلَامُ تُرِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَرِهَ أَنْ يَكُونَ صِيَامُهُ سُنَّةً.
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ رَأَى أَهْلَهُ يَتَهَيَّأُونَ لِصِيَامِ رَجَبٍ فَقَالَ لَهُمْ: أَجَعَلْتُمْ رَجَبًا كَرَمَضَانَ؟، وَأَلْقَى السِّلَالَ وَكَسَرَ الكِيزَانَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَامَ رَجَبٌ كُلُّهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ أَيَّامًا.
وَكَرِهَهُ أَنَسٌ أَيْضًا، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكَرِهَ صِيَامَ رَجِبٍ كُلِّهِ: يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: يُفْطِرُ مِنْهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. انتهى.
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَرْحَمُ اللهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَائِشَةَ: لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِي ذِي القَعْدَةِ. وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا ابْنُ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: القَاعِدَةُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: أَنَّ المُثْبِتَ مُقدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَهُوَ ثِقَةٌ، يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ نَفَاهُ. وَلِهَذَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ العُمْرَةُ فِي رَجَبٍ. انتهى.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللهُ عَنْهُ -: لَكِنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَهَا وَسَكَتَ.
وَقَدِ اسْتَحَبَّ الاعْتِمَارَ فِي رَجَبٍ بَعْضُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَفْعَلُهُ، وَابْنُ عُمَرَ أَيْضًا، وَنَقَلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ.
وَمَا ذَلِكَ - وَاللهُ أَعْلَمُ - إِلَّا لِحُرْمَتِهِ، وَحُرْمَةِ الاعْتِدَاءِ فِيهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ زَمَانًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حُكِيَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ أُمُورٌ وَحَوَادِثُ، لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا، كَقَوْلِهِمْ بِأَنَّ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَيْلَةَ إِسْرَائِهِ فِي رَجَبٍ، وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَوْ تَنَازَلْنَا جَدَلًا لِهَذَا الادِّعَاءِ؛ فَإِنَّ الاحْتِفَالَ بِهَا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(44)
لَيْلَةُ الإِسْرَاءِ وَمَا وَرَدَ فِيهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَصِحُّ شَيْءٌ فِي تَعْيِينِ لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ، وَهَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِشَيْءٍ مِنَ العِبَادَاتِ، وَهَلْ لَهَا فَضْلٌ تَخْتَصُّ بِهِ دُونَ سَائِرِ اللَّيَالِي؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ... الآية).
لَمْ يُعَيِّنِ القُرْآنُ كَمَا لَمْ تُعَيِّنِ السُّنَّةُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِهَا مَصْلَحَةٌ لِلأُمَّةِ لَعَيَّنَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ عُرِجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ. وَهَذَا حَدَثٌ عَظِيمٌ، وَوَاقِعَةٌ تَبْعَثُ عَلَى الاهْتِمَامِ المَشْرُوعِ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: ثَبَتَ الإِسْرَاءُ فِي جَمِيعِ مُصَنَّفَاتِ الحَدِيثِ، وَرُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الإِسْلَامِ، فَهُوَ مِنَ المُتَوَاتِرِ بِهَذَا الوَجْهِ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ مِمَّنْ رَوَاهُ عِشْرِينَ صَحَابِيًّا. انتهى.
وَمَعَ أَنَّ الإِسْرَاءَ حَدَثٌ جَلَلٌ، إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ لَيْلَتَهُ بِشَيْءٍ مِنَ العِبَادَاتِ وَلَا الاحْتِفَالَاتِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُرَغِّبُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ، وَلَا فِي تَحْدِيدِهَا وَتَعْيِينِهَا، وَهُوَ القَائِلُ: (لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ). رَوَاهُ البَزَّارُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ حُسِّنَ لِشَوَاهِدِهِ.
فَمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الإِسْرَاءَ فِي لَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَاسْتَحَبَّ فِيهَا شَيْئًا مِنَ العِبَادَاتِ أَوِ الاحْتِفَالَاتِ؛ فَقَدْ أَحْدَثَ بِدْعَةً مَرْدُودَةً عَلَيْهِ، وَمَنْ قَلَّدَ أَحَدًا فِي ذَلِكَ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ وَلَا أَصْحَابِهِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا للهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ يُشْرَعُ صِيَامُهُ جَاءَتِ الأَحَادِيثُ المُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهَا بِتَعْيِينِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ؛ فَكَيْفَ يَدَّعِي مَنْ لَا بَيِّنَةَ مَعَهُ: أَنَّ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ يُجْتَهَدُ فِيهَا بِالطَّاعَاتِ وَالاحْتِفَالَاتِ، وَلَمْ يَأْتِ حَرْفٌ وَاحِدٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتَّكَأُ عَلَيْهِ، وَيُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي ذَلِكَ؟!.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ وَأَصْحَابُ التَّارِيخِ فِي زَمَنِ وُقُوعِ الإِسْرَاءِ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا، فِي عَامِهَا وَشَهْرِهَا وَلَيْلَتِهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ حَصَلَ فِي أَوَائِلِ البَعْثَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَعْدَ البَعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ: حَدَثَ فِي شَهْرِ ذِي القَعْدَةِ، وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنْ أَرْدَى الأَقْوَالِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: حَدَثَ فِي رَجَبٍ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا، عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَا: وُلِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفِيلِ، يَوْمَ الاثْنَيْنِ، الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَفِيهِ بُعِثَ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ هَاجَرَ، وَفِيهِ مَاتَ. فِيهِ انْقِطَاعٌ. وَقَدِ اخْتَارَهُ الحَافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ المَقْدِسِيُّ فِي سِيرَتِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، ذَكَرْنَاهُ فِي فَضَائِلِ شَهْرِ رَجَبٍ، أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَهِيَ لَيْلَةُ الرَّغَائِبِ التِي أُحْدِثَتْ فِيهَا الصَّلَاةُ المَشْهُورَةُ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ. انتهى.
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ بَعْضَ القُصَّاصِ ذَكَرَ أَنَّهَا فِي رَجَبٍ، قَالَ: وَذَلِكَ كَذِبٌ. انتهى.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا، وَلَا عَلَى عَشْرِهَا، وَلَا عَلَى عَيْنِهَا، بَلِ النُّقُولُ فِي ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْطَعُ بِهِ، وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ التِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَيْلَةُ الإِسْرَاءِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَقَالَ: "لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أَنَّهُ جَعَلَ لِلَيْلَةِ الإِسْرَاءِ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهَا، لَا سِيَّمَا عَلَى لَيْلَةِ القَدْرِ، وَلَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يَقْصِدُونَ تَخْصِيصَ لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ بِأَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ وَلَا يَذْكُرُونَهَا؛ وَلِهَذَا لَا يُعرَفُ أَيُّ لَيْلَةٍ كَانَتْ". انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(45)
دُعَاءُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَصِحُّ دُعَاءُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أُمَّ الكِتَابِ؟
فأجاب: قَالَ الضَّبِّيُّ فِي كِتَابِهِ «الدُّعَاءِ»: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ يَا ذَا الْمَنِّ، وَلَا يُمَنُّ عَلَيْكَ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا ذَا الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، ظَهْرَ اللَّاجِئِينَ، وَجَارَ الْمُسْتَجِيرِينَ، وَمَأْمَنَ الْخَائِفِينَ. إِنْ كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنِّي شَقِيٌّ، فَامْحُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ شَقَائِي، وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كَانَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ أَنِّي مَحْرُومٌ مُقَتَّرٌ عَلَيَّ مِنَ الرِّزْقِ، فَامْحُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ حِرْمَانِي وَإِقْتَارَ رِزْقِي، وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لَكَ فِي الْخَيْرِ، فَإِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّكَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]» قَالَ: «فَمَا قَالَهُنَّ عَبْدٌ قَطُّ، إِلَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي مَعِيشَتِهِ».
هَذَا المَوْقُوفُ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الحَدِيثِ، وَالقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَرْسَلَ عَنْ جَدِّهِ.
ثُمَّ فِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ؛ لِأَنَّ مَا فِي أُمِّ الكِتَابِ لَا يُمْحَى، وَإِنَّمَا المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وَصُحُفِ المَلَائِكَةِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(46)
قِرَاءَةُ الفَاتِحَةِ لِلْمَيِّتِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ لِقِرَاءَةِ الفَاتِحَةِ لِلْمَيِّتِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ إِهْدَاءُ ثَوَابِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ لِلْمَيِّتِ؟
فأجاب: لَيْسَ لِقِرَاءَةِ الفَاتِحَةِ - أَوْ غَيْرِهَا - عَلَى المَيِّتِ أَوْ عَلَى رُوحِهِ أَصْلٌ مِنَ الشَّرْعِ؛ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَلَيْسَ لِمَنِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ شُبْهَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي مُحْكَمِ القُرْآنِ وَلَا مُتَشَابِهِهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ: (اقْرَؤُوا "يس" عَلَى مَوْتَاكُمْ)؛ فَلَا يَثْبُتُ؛ لِوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ قَادِحَةٍ فِيهِ. وَقَدِ اشْتُهِرَ تَضْعِيفُ أَهْلِ الحَدِيثِ لِسَنَدِهِ. وَقَالَ إِمَامُ العِلَلِ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفُ الإِسْنَادِ، مَجْهُولُ المَتْنِ، وَلَا يَصِحُّ فِي البَابِ حَدِيثٌ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ القُرْآنِ وَإِهْدَاءُ ثَوَابِ القِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ فَلَيْسَ لِذَلِكَ أَصْلٌ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِنَّ الثَّوَابَ يَصِلُّ لِلْمَيِّتِ تَعَلُّقًا بِعُمُومِيَّاتٍ.
وَأَمَّا المُسْتَرْزِقَةُ بِهَذَا العَمَلِ، فَقِرَاءَتُهُمْ مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ مَأْزُورُونَ لَا مَأْجُورُونَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(47)
لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَصِحُّ فِي فَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ شَيْءٌ، وَهَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ؟
فأجاب: لَيْسَ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ خُصُوصِيَّةٌ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ لَهَا عِبَادَةً خَاصَّةً، أَوْ أَقَامَ فِيهَا احْتِفَالًا؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
فَمَنِ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِ الشَّيْخِ الأَلْبَانِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ -: حَدِيثُ: (يَطَّلِعُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ)؛ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا. انتهى.
فَالجَوَابُ: أَنَّ غَيْرَهَ قَدْ ضَعَّفَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مُسَوِّغًا لِلْمُحْدَثَاتِ وَالبِدَعِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا».
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الفَضْلُ مُسَوِّغًا لِلْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ.
وَأَمَّا صِيَامُهُمَا؛ فَلِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَامَهُمَا.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَأَكْثَرُ العُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صِيَامِ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ. انتهى.
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ": "وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لَا فِي فَضْلِهَا، وَلَا فِي نَسْخِ الآجَالِ فِيهَا، فَلَا تلْتَفتُوا إِلَيْهَا".
وَقَدْ قَالَ نَحْوَ هَذَا كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ.
وَقَالَ العُقَيْلِيُّ فِي "الضُّعَفَاءِ": (وَفِي النُّزُولِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَحَادِيثُ فِيهَا لِينٌ، وَالرِّوَايَةُ فِي النُّزُولِ كُلَّ لَيْلَةٍ أَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ دَاخِلَةٌ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللهُ).
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(48)
الاحْتِفَالَاتُ التَّذْكَارِيَّةُ المُتَكَرِّرَةُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ – عَنْ حُكْمِ الاحْتِفَالَاتِ التَّذْكَارِيَّةِ المُتَكَرِّرَةِ، وَاتِّخَاذِ يَوْمِهَا عِيْدًا، كَيَوْمِ الأُمِّ، وَيَوْمِ الحُبِّ، وَرَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؟
فأجاب: مِنَ المُحْدَثَاتِ فِي عَصْرِنَا: الاحْتِفَالَاتُ السَّنَوِيَّةُ لِلْمُنَاسَبَاتِ الدَّوْرِيَّةِ؛ كَيَوْمِ المَوْلِدِ، وَيَوْمِ الزَّوَاجِ، وَيَوْمِ الأُمِّ، وَأَكْبَرَ مِنْهَا؛ كَعِيدِ الحُبِّ، وَعِيدِ رَأْسِ السَّنَةِ، وَأَعْيَادِ شَعَائِرِ الدِّيَانَاتِ كَعِيدِ مِيلَادِ المَسِيحِ وَغَيْرِهَا، وَالتِي يَظْهَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ شَعَائِرِ العِيدِ؛ كَاللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالهَدَايَا وَالفَرَحِ، وَتَعُودُ تِلْكَ المُنَاسَبَاتُ فِي كُلِّ عَامٍ، مِمَّا يُعْطِيهَا صِبْغَةَ العِيدِ.
وَفِي الحَدِيثِ الثَّابِتِ: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. أَيْ: يُفْعَلُ عِنْدَهُ نَحْوُ مَا يُفْعَلُ فِي العِيدِ.
فَتِلْكَ المُحْدَثَاتُ بِدْعَةٌ، وَإِنْ كَانَ المَقْصِدُ فِيهَا حَسَنًا، وَالهَدَفُ مِنْهَا الذِّكْرَيَاتِ؛ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ: "كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا، وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ الْأَضْحَى». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
فَالبَدَلُ سُنَّةٌ وَالمُبْدَلُ بِدْعَةٌ، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ رَدَّ عَلَى اللهِ قَضَاءَهُ، فَفِي الحَدِيثِ: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا». متفق عليه.
فَمَنْ أَقَامَ احْتِفَالًا مُضَاهِيًا لِلْعِيدِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدْ رَغِبَ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القَائِلِ: (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي). متفق عليه.
ثُمَّ إِنَّ فِي تِلْكَ الاحْتِفَالَاتِ تَشَبُّهًا بِالكُفَّارِ وَاتِّبَاعًا لِسَنَنِهِمْ، وَقَدْ نُهِينَا فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَأُمِرْنَا بِمُخَالَفَتِهِمْ وَعَدَمِ مُوَافَقَتِهِمْ، وَحُذِّرْنَا مِنَ التَّبَعِيَّةِ لَهُمْ، وَأُخْبِرْنَا بِأَنَّ النَّاسَ لَنَا تَبَعٌ.
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟»، قَالُوا: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ). قَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "أَعْيَادُ المُشْرِكِينَ".
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(49)
الصَّوْمُ بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ، هَلْ يَجُوزُ الصِّيَامُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟
فأجاب: رَوَى أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الكُبْرَى، وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ العَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا). وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. تَفَرَّدَ بِهِ العَلَاءُ.
قَالَ أَحْمَدُ: الْعَلاءُ ثِقَةٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا هَذَا.
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: قُلْتُ: لَا يَنْزِلُ حَدِيثُهُ عَنْ دَرَجَةِ الحَسَنِ، لَكِنْ يُتَجَنَّبُ مَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَمِنْ أَغْرَبِ مَا أَتَى بِهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا". انتهى.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثُ بِهِ.
وَسَبَبُ اسْتِنْكَارِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَالإِمَامِ أَحْمَدَ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَالأَثْرَمِ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَالبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، لِحَدِيثِ العَلَاءِ هَذَا: مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ). متفق عليه. وَحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا). متفق عليه، واللفظ لمسلم. وَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَوْ لِآخَرَ: «أَصُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ؟، قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ». رواه مسلم. سُرَرُ الشَّهْرِ: آخِرُهُ.
وَيُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ، بِأَنَّ مَنْ بَدَأَ الصِّيَامَ اليَوْمَ الخَامِسَ عَشَرَ فَمَا قَبْلُ، أَوْ كَانَ لَهُ عَادَةُ صِيَامٍ، كَصِيَامِ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ، لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي صِيغَةِ النَّهْيِ فِي حَدِيثِ العَلَاءِ هَذَا، وَالكَثِيرُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الحَدِيثِ لِلتَّحْرِيمِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ لَا التَّحْرِيمِ، وَهُوَ أَظْهَرُ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَضَعَّفُوا حَدِيثَ العَلَاءِ.
وَقَدْ صَحَّحَ حَدِيثَ العَلَاءِ هَذَا جَمْعٌ مِنَ العُلَمَاءِ؛ مِنْهُمْ: التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَابْنُ القَيِّمِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
فتاوى جديدة
(50)
حَدِيثُ الجَارِيَةِ، مَا دَرَجَتُهُ، وَمَاذَا يُفِيدُ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا دَرَجَةُ حَدِيثِ الجَارِيَةِ التِي أَجَابَتْ بِأَنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ، وَمَاذَا يُفِيدُ؟
فأجاب: الحَدِيثُ ثَابِتٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، عَالٍ عَلَى خَلْقِهِ، بَائِنٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَعَهُمْ بِعِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ، يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ، وَيَرَى مَكَانَهُمْ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السُّؤَالِ بِأَيْنَ اللهُ؟ وَالإِخْبَارِ بِأَنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (أَأَمِنْتُمْ مَّنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَالفِطْرَةُ وَالعَقْلُ يَدُلَّانِ عَلَى عُلُوِّ اللهِ وَفَوْقِيَّتِهِ.
وَحَدِيثُ الجَارِيَةِ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، مُسْتَقِيمُ المَتْنِ، مُوَافِقٌ لِلْقُرْآنِ، وَالأَحَادِيثِ، وَاعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، لَا تُقْبَلُ دَعْوَى أَهْلِ الأَهْوَاءِ فِي تَضْعِيفِهِ، وَلَا تَأْوِيلِهِ، وَلَا تَفْوِيضِ مَعْنَاهُ. فَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ- أَنَّهُ قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَذَكَرَ الحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ.
وَقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَتَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، وَخَرَّجَهُ الكَثِيرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ حَرْفًا، وَلَا يَضُرُّهُ إِعْلَالُ حَرْفٍ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ، كَمَا صَنَعَ الدَّارَقُطْنِيَّ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا شُبْهَةُ بِأَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ لَا يُقْبَلُ فِي مَسَائِلِ الاعْتِقَادِ فَبَاطِلٌ، حَيْثُ إِنَّهَا دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَمُخَالِفَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، وَالإِجْمَاعِ، وَالعَقْلِ، وَمُخَالِفَةٌ لِسَبِيلِ المُسْلِمِينَ.
وَدَعْوَى الاضْطِرَابِ بَاطِلَةٌ، فَهُوَ حَدِيثٌ مَحْفُوظٌ، وَالاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ لَا يَجْعَلُهُ مُضْطَرِبًا؛ لِأَنَّهَا إِمَّا ضَعِيفَةُ السَّنَدِ، وَإِمَّا فَصَلَ فِيهَا التَّرْجِيحُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجَارِيَةَ: «أَيْنَ اللهُ؟»، وَقَوْلِهَا: فِي السَّمَاءِ.
فَهِيَ سَالِمَةٌ مِنَ النَّقْدِ وَالاخْتِلَافِ، وَالهِدَايَةُ وَالفَهْمُ وَالفَتْحُ مِنَ اللهِ.
(51)
حُكْمُ الحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ الحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فأجاب: الحَلِفُ بِأَيِّ مَخْلُوقٍ شِرْكٌ أَصْغَرُ، وَهَذَا هُوَ الأَصْلُ، إِلَّا أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ مَا يُعْتَقَدُ فِي اللهِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ، فَيَكُونُ شِرْكًا أَكْبَرَ، فَلَا يَجُوزُ الحَلِفُ بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَا عَالِمٍ، وَلَا وَلِيٍّ، وَلَا بِالحَيَاةِ، أَوِ الكَعْبَةِ، أَوِ الآبَاءِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَخْلُوقَاتِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الحَقِّ الإِشْبِيلِيُّ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ). رَوَاهُ الجَمَاعَةُ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ المُلَقِّنِ، وَغَيْرُهُمَا.
وَثَبَتَ عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ المُنْذِرِيُّ وَالنَّوَوِيُّ.
وَثَبَتَ عَنْ قُتَيْلَةَ: أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: وَالكَعْبَةِ. فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: ((وَرَبِّ الكَعْبَةِ))، وَيَقُولَ أَحَدُهُمْ: ((مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالعُزَّى؛ فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(52)
إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ وَوَلَدُهَا، فَهَلْ يَكُونُ المُؤَخَّرُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَقِّ أَهْلِ الزَّوْجَةِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: تُوُفِّيَتْ أُخْتُهَا وَهِيَ تَلِدُ، وَمَاتَ المَوْلُودُ - وَكَانَ ذَكَرًا - وَزَوْجُهَا لَمْ يَدْفَعِ المُؤَخَّرَ، وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَ الشَّبْكَةِ، فَهَلْ لِأَهْلِ الزَّوْجَةِ حَقٌّ عِنْدَهُ؟
فأجاب: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَيَجُوزُ فِي المَهْرِ - وَمِنْهُ الشَّبْكَةُ - أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا أَوْ مُؤَجَّلًا، أَوْ يَكُونَ بَعْضُهُ مُعَجَّلًا، وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا، حَسَبَ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ.
وَيَحِلُّ عِنْدَ حُلُولِ الأَجَلِ إِنْ كَانَ قَدْ عُيِّنَ لَهُ أَجَلٌ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُحَدَّدْ لَهُ أَجَلٌ، فَيَحِلُّ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالفَسْخِ ، أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا.
لَكِنْ إِنْ كَانَ المُؤَخَّرُ لَيْسَ صَدَاقًا، وَلَكِنَّهُ شَرْطٌ جَزَائِيٌّ عَلَى الطَّلَاقِ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، سَقَطَ لِعَدَمِ وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي كِتَابِهِ "إِعْلَامِ المُوَقِّعِينَ": فَصْل: تَأْجِيلُ جُزْءٍ مِنَ المَهْرِ، وَحُكْمُ المُؤَجَّلِ ... الَّذِي اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَأْخِيرِ المُطَالَبَةِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا أَجَلًا، بَلْ قَالَ الزَّوْجُ: مِائَةٌ مُقَدَّمَةٌ، وَمِائَةٌ مُؤَخَّرَةٌ؛ فَإِنَّ المُؤَخَّرَ لَا يَسْتَحِقُّ المُطَالَبَةَ بِهِ إِلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى العَاجِلِ وَالآجِلِ، لَا يَحِلُّ الآجِلُ إِلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ. وَاخْتَارَهُ قُدَمَاءُ شُيُوخِ المَذْهَبِ وَالقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ..".
(53)
مَتَى يُجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَتَى يُشْرَعُ الجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ؟
فأجاب: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَبَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: فَقَالَ: أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا مَطَرٍ». فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ»، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا أَرَادَ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: «أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا»، قُلْتُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ، أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ، وَعَجَّلَ الْعَصْرَ، وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ، وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ، قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّ ذَاكَ.
فَالحَرَجُ مَرْفُوعٌ عَنِ الأُمَّةِ، فَإِذَا شَقَّ عَلَى المُسْلِمِ أَدَاءُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةً مُعْتَبَرَةً شَرْعًا؛ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ جَمْعًا صُورِيًّا، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الأَخِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ جَمْعًا حَقِيقِيًّا بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ؛ فَلَا بَأْسَ بِهِ مَعَ المَشَقَّةِ البَالِغَةِ، وَلَا يَتَّخِذُ ذَلِكَ عَادَةً، وَإِنْ حَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَصَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَعَلَ، وَلَوْ مَعَ شَيْءٍ مِنَ المَشَقَّةِ، أَمَّا التَّسَاهُلُ فِي الجَمْعِ مَعَ أَدْنَى مَشَقَّةٍ فَلَا يَجُوزُ.
(54)
هَلْ يَجُوزُ الحَجُّ بِمَالٍ مُهْدًى مِنَ الغَيْرِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ لَوْ أَهْدَى أَحَدُهُمْ إِلَيَّ تَكْلِفَةَ الحَجِّ، أَكُونُ مُسْتَطِيعًا، وَيُكْتَبُ لِيَ القَبُولُ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).
يَجِبُ الحَجُّ مَعَ الاسْتِطَاعَةِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الحَجَّ لِقِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ؛ فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الهِبَةِ لِيَحُجَّ، كَمَا هُوَ رَأْيُ الجُمْهُورِ، وَإِنْ قَبِلَ فَلَا بَأْسَ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا سُؤَالُ الآخَرِينَ الصَّدَقَةَ لِيَحُجَّ؛ فَلَا يَنْبَغِي، وَلَا يَسْأَلُ حَتَّى وَالِدَهُ؛ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟)، وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟)، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟)، قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: (عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، وَتُطِيعُوا) وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً: (وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا)، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ".
(55)
العَمَلُ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَالتَّحْدِيثُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ يَجُوزُ العَمَلُ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ، أَوِ التَّحْدِيثُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ؟
فأجاب: اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي العَمَلِ بِالحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ، وَالتَّحْدِيثِ بِهِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ فَمَنَعَ مِنْهُ طَائِفَةٌ، وَأَجَازَتْهُ أُخْرَى، وَهُوَ الأَرْجَحُ بِشُرُوطٍ، وَهِيَ:
- أَلَا يَكُونَ الضَّعْفُ شَدِيدًا؛ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ الكَذَّابِينَ وَالمُتَّهَمِينَ وَالمَطْرُوحِينَ.
- أَنْ يَنْدَرِجَ تَحْتَ أَصْلٍ شَرْعِيٍّ مُنَاسِبٍ، لَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِحُكْمٍ أَوْ عِبَادَةٍ.
- أَلَّا يُعْتَقَدَ ثُبُوتُهُ.
- أَنْ يُبَيَّنَ ضَعْفُهُ إِذَا حُدِّثَ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي العَمَلُ بِالحَدِيثِ الَّذِي سَبَبُ ضَعْفِهِ يَسِيرٌ، إِذَا كَانَ مَتْنُهُ مُسْتَقِيمًا، وَعَمَلُ أَهْلِ العِلْمِ يَشْهَدُ لَهُ، وَخَاصَّةً إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي البَابِ غَيْرُهُ، كَأَنْ يَكُونَ سَبَبُ الضَّعْفِ مُبْهَمًا أَوْ مَجْهُولًا مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، أَوْ عَنْعَنَةً مُحْتَمَلَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَمَّا أَنْ نَطْرَحَ وَلَا نَلْتَفِتَ لِأَيِّ حَدِيثٍ تُكُلِّمَ فِي سَنَدِهِ وَلَوْ مِنْ مُتَشَدِّدٍ أَوْ مُفْرِطٍ فِي التَّضْعِيفِ، بِنَاءً عَلَى عِلْمِ المُصْطَلَحِ؛ فَفِيهِ نَظَرٌ، وَيُسْنِدُ مَا ظَهَرَ لِي عَمَلُ أَصْحَابِ المُصَنَّفَاتِ فِي الحَدِيثِ وَالفِقْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي "مَجْمُوعِ الفَتَاوَى": «لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَيْسَتْ صَحِيحَةً وَلَا حَسَنَةً، لَكِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنَ العُلَمَاءِ جَوَّزُوا أَنْ يُرْوَى فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ ثَابِتٌ، إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ العَمَلَ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَرُوِيَ حَدِيثٌ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ؛ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ حَقًّا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ، وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ .. فَيَجُوزُ أَنْ يُرْوَى فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَلَكِنْ فِيمَا عُلِمَ أَنَّ اللهَ رَغَّبَ فِيهِ أَوْ رَهَّبَ مِنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذَا المَجْهُولِ حَالُهُ».
(56)
حَدُّ الاسْتِطَاعَةِ المَالِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الحَجَّ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ - عَنْ حَدِّ الاسْتِطَاعَةِ المَالِيَّةِ لِلْمُسْلِمِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا الحَجُّ
فأجاب: ظَاهِرُ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَلَامِ أَهْلِ العِلْمِ هِيَ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِمِثْلِهِ، أَوْ مِلْكُ الثَّمَنِ، وَهُوَ تَكَالِيفُ أَدَاءِ فَرِيضَةِ الحَجِّ زَائِدًا عَنْ ضَرُورِيَّاتِهِ، كَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالعِلَاجِ، وَحَاجَاتِهِ الأَصْلِيَّةِ، كَالزَّوَاجِ المَقْدُورِ عَلَيْهِ لِإِعْفَافِ نَفْسِهِ، وَالمَسْكَنِ وَالمَرْكَبِ وَالأَثَاثِ الصَّالِحِ لِمِثْلِهِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى مَنْ يَعُولُ، مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ، لَا الكَمَالِيَّاتِ وَالثَّانَوِيَّاتِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(57)
سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ: المَشْرُوعُ فِيهَا وَغَيْرُ المَشْرُوعِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا المَشْرُوعُ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ؟
فأجاب: تُشْرَعُ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ بِدِلَالَةِ الكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالآثَارِ، وَالإِجْمَاعِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ، فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ، فَيَسْجُدُ، وَنَسْجُدُ مَعَهُ، حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: «فِي غَيْرِ صَلَاةٍ».
وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ يُكَبَّرُ مَعَ الهُوِيِّ لَهَا، وَيُكَبَّرُ لِلْقِيَامِ مِنْهَا، وَهَذَا وَاجِبٌ، لِمَا رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: "رَأَيْتُ رَجُلًا عِنْدَ الْمَقَامِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، وَإِذَا قَامَ وَإِذَا وَضَعَ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: أَوَلَيْسَ تِلْكَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَا أُمَّ لَكَ؟!".
أَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ يُشْرَعُ لَهَا تَكْبِيرَةُ الهُوِيِّ لِلسُّجُودِ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وَسَجَدْنَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللهِ العُمَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ عُبَيْدُ اللهِ العُمَرِيُّ الثِّقَةُ، وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
وَلَا يُشْرَعُ لَهَا عَلَى القَوْلِ الرَّاجِحِ: قِيَامٌ مِنْ قُعُودٍ، وَلَا تَكْبِيرَةُ افْتِتَاحٍ، وَلَا تَكْبِيرَةُ رَفْعٍ مِنَ السُّجُودِ، وَلَا رَفْعُ يَدَيْنِ، وَلَا تَشَهُّدٌ، وَلَا تَسْلِيمٌ.
وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا عَلَى الرَّاجِحِ: سَتْرُ عَوْرَةٍ، وَلَا خِمَارٌ، وَلَا رَفْعُ حَدَثٍ، وَلَا اسْتِقْبَالُ الكَعْبَةِ، وَلَا طَهَارَةُ ثِيَابٍ، وَلَا بُقْعَةٍ، وَالسُّتْرَةُ وَالطَّهَارَةُ وَالاسْتِقْبَالُ أَفْضَلُ.
وَلَا مَانِعَ مِنَ السُّجُودِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَلَاةً.
وَالرَّاكِبُ يَسْجُدُ إِيمَاءً وَلَا تُقْضَى؛ فَالرَّاجِحُ أَنَّهَا سُنَّةٌ لَا يُعَاقَبُ تَارِكُهَا عَمْدًا.
وَالذِّكْرُ المَشْرُوعُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ التَّسْبِيحُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).
قَالَ الإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللهُ -: "سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سُئِلَ عَمَّا يَقُولُ الرَّجُلُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: "أَمَّا أَنَا، فَأَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى". انتهى.
كَمَا يُشْرَعُ الذِّكْرُ الوَارِدُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – الثابتِ، قالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ: "سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ زِيَادَةُ: "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ". وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ، كَأَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، وَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ"، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ مِثْلَ مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ حُسِّنَ.
(58)
سَجْدَةُ الشُّكْرِ: المَشْرُوعُ فِيهَا وَغَيْرُ المَشْرُوعِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا المَشْرُوعُ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ؟
فأجاب: دَلَّتِ الأَحَادِيثُ وَالآثَارُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ، وَذَهَبَ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا عَامَّةُ العُلَمَاءِ، وَسَجَدَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بُشِّرَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَقِصَّتُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: "قَدْ جَاءَ حَدِيثُ سَجْدَةِ الشُّكْرِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ".
وَلَيْسَ لِسُجُودِ الشُّكْرِ قِيَامٌ مِنْ قُعُودٍ، وَلَا يُشْرَعُ لَهُ تَكْبِيرَةُ افْتِتَاحٍ، وَلَا رَفْعُ يَدَيْنِ، وَلَا تَكْبِيرَةُ قِيَامٍ، وَقَاسَهَا بَعْضُ العُلَمَاءِ عَلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ؛ بِأَنَّهُ يُكَبَّرُ لِلْهُوِيِّ لَهَا، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ، كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وَسَجَدْنَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللهِ العُمَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَوَقَعَ عِنْدَهُ عُبَيْدُ اللهِ العُمَرِيُّ الثِّقَةُ، وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
وَلَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ وَارِدٌ، وَلَكِنْ يُسَبِّحُ اللهَ، وَيَحْمَدُهُ، وَيَشْكُرُهُ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا تَشَهُّدٌ وَلَا تَسْلِيمٌ. وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا - عَلَى الصَّحِيحِ -: رَفْعُ حَدَثٍ، وَلَا سَتْرُ عَوْرَةٍ، وَلَا خِمَارٌ، وَلَا اسْتِقْبَالُ الكَعْبَةِ، وَلَا طَهَارَةُ ثِيَابٍ، وَلَا بُقْعَةٍ، وَالسُّتْرَةُ وَالطَّهَارَةُ وَالاسْتِقْبَالُ أَفْضَلُ.
وَلَا مَانِعَ مِنَ السُّجُودِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَلَاةً، وَيُومِئُ الرَّاكِبُ لَهَا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ المُبَشَّرَ يَسْجُدُ وَلَوْ طَالَ الفَصْلُ، إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ، أَوْ تَذَكَّرَ وَتَأَمَّلَ، وَهِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَا يَسْجُدُ فِي الصَّلَاةِ شُكْرًا لِلْبِشَارَةِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي "مَجْمُوعِ الفَتَاوَى": "وَأَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ: فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ فِيهِ تَسْلِيمًا ... وَكَذَلِكَ مَنْ رَأَى فِيهِ تَسْلِيمًا مِنَ الفُقَهَاءِ لَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ؛ بَلِ القِيَاسُ، أَوْ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ".
وَقَالَ – رَحِمَهُ اللهُ – عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ: "فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ صَلَاةً .. وَلَا سَنَّ فِيهَا سَلَامًا، لَمْ يُرْوَ ذَلِكَ عَنْهُ، لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ؛ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ، وَلَا جَعَلَ لَهَا تَكْبِيرَ افْتِتَاحٍ".
(59)
ثُبُوتُ العَقِيدَةِ بِخَبَرِ الآحَادِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هُلْ يُحْتَجُّ بِخَبَرِ الآحَادِ فِي العَقِيدَةِ؟
فأجاب: كُلُّ مَسْأَلَةٍ فِي الدِّينِ؛ اعْتِقَادِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَمَلِيَّةٍ، أَحْكَامًا أَوْ آدَابًا وَأَخْبَارًا، تَثْبُتُ بِالكِتَابِ وَبِالسُّنَّةِ المُتَوَاتِرَةِ أَوِ الآحَادِ، وَبِالإِجْمَاعِ، فَمَنْ أَنْكَرَ مَسْأَلَةً - وَلَوِ اعْتِقَادِيَّةً - ثَبَتَتْ بِمَصْدَرٍ مِنْ هَذِهِ المَصَادِرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَوْ بِطَرِيقِ الآحَادِ؛ فَهُوَ مَارِقٌ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، إِلَّا أَنْ تَدْرَأَ هَذَا الحُكْمَ عَنْهُ شُبْهَةٌ مُعْتَبَرَةٌ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِأَحَادِيثِ الآحَادِ فِي العَقَائِدِ، قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ.
وَعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا: (شَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). زَادَ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: (وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ). فَتَقْسِيمُ الأَحَادِيثِ إِلَى مُتَوَاتِرَةٍ وَآحَادٍ، تَقْسِيمٌ جَدِيدٌ بَعْدَ عَصْرِ النُّبُوَّةِ وَالصَّحَابَةِ.
وَالقَوْلُ بِأَنَّ خَبَرَ الآحَادِ لَا يُفِيدُ العِلْمَ، قَوْلٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ البِدَعِ؛ لِرَدِّ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُثْبِتُ مُخَالَفَتَهُمْ لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَقَدْ نَقَلَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - وَغَيْرُهُ الإِجْمَاعَ عَلَى الاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ.
وَعَمَلُ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الآحَادِ فِي العَقَائِدِ وَغَيْرِهَا، يُفِيدُ العِلْمَ وَيُوجِبُ العَمَلَ، فَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي هَذَا، دَخَلَ فِي وَعِيدِ اللهِ وَتَهْدِيدِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
(60)
حُكْمُ تَصَدُّقِ الشَّرِيكِ مِنْ أَرْبَاحِ التِّجَارَةِ، دُونَ عِلْمِ شَرِيكِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: زَوْجُهَا عِنْدَهُ صَيْدَلِيَّةٌ يُؤَجِّرُهَا، وَأَخُوهُ شَرِيكٌ مَعَهُ، وَزَوْجُهَا يُخْرِجُ شَهْرِيًّا أَدْوِيَةً صَدَقَةً، بِدُونِ عِلْمِ أَخِيهِ أَوْ مُوَافَقَتِهِ، وَيَعْتَبِرُ هَذِهِ الصَّدَقَةَ دَيْنًا عَلَيْهِ، حَيْثُ سَيَقُومُ بِرَدِّ المَالِ لِأَخِيهِ، مَعَ العِلْمِ أَنَّهُ يُعْطِي أَخَاهُ نِسْبَتَهُ مِنَ الرِّبْحِ شَهْرِيًّا، فَهَلْ يُوجَدُ مُشْكِلَةٌ أَوْ حُرْمَةٌ فِي إِخْرَاجِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ دُونَ عِلْمِ أَخِيهِ؟
فَأَجَابَ: إِذَا كَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ حِصَّتِهِ فَلَا مَانِعَ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ الشَّرِيكُ أَوْ يُوَافِقْ، وَكَذَلِكَ إِذَا دَفَعَ قِيمَتَهَا لِأَخِيهِ وَتَصَدَّقَ بِهَا فَلَا بَأْسَ، أَمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ حَقِّ شَرِيكِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَحَرَامٌ؛ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ: (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَغَيْرُهُمْ.
(61)
حُكْمُ بَيْعِ الكَلْبِ وَشِرَائِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الكَلْبِ وَشِرَاؤُهُ؟
فأجاب: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الكِلَابِ وَلَوْ مُعَلَّمَةً عَلَى الصَّيْدِ وَالحِرَاسَةِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَالبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الثَّمَنِ لِشِرَائِهِ إِذَا كَانَ مُعَلَّمًا، إِلَّا إِذَا اضْطُرَّ لِذَلِكَ، وَالإِثْمُ عَلَى بَائِعِهِ، فَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ). رواه البخاري. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ).
وَاقْتِرَانُ ثَمَنِهِ بِمَا ذُكِرَ يَدُلُّ عَلَى البَشَاعَةِ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَحِلُّ ثَمَنُ الْكَلْبِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلَأْ كَفَّهُ تُرَابًا)، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: "وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَوْنُهُ مِنْ شَرِّ الْكَسْبِ، وَكَوْنُهُ خَبِيثًا؛ فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلَا يَحِلُّ ثَمَنُهُ، وَلَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَلَّمًا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ اِقْتِنَاؤُهُ أَمْ لَا، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ؛ مِنْهُمْ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَدَاوُدُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ بَيْعُ الْكِلَابِ الَّتِي فِيهَا مَنْفَعَةٌ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مُتْلِفهَا.
وَحَكَى اِبْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ: جَوَازَ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ دُونَ غَيْرِهِ". انتهى.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ". فَالاسْتِثْنَاءُ ضَعِيفٌ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ: هَذَا مُنْكَرٌ. وَقَالَ السِّنْدِيُّ: ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ المُحَدِّثِينَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: "وَأَمَّا الأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، وَأَنَّ عُثْمَانَ غَرَّمَ إِنْسَانًا ثَمَنَ كَلْبٍ قَتَلَهُ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَعَنْ اِبْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ التَّغْرِيمُ فِي إِتْلَافِهِ؛ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ" انتهى.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: "وَلا يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلًا، لَا كَلْبَ صَيْدٍ، وَلَا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، وَلَا غَيْرَهُمَا، فَإِنْ اضْطُرَّ إلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيه إيَّاهُ؛ فَلَهُ ابْتِيَاعُهُ، وَهُوَ حَلَالٌ لِلْمُشْتَرِي، حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ، يَنْتَزِعُ مِنْهُ الثَّمَنَ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ".
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(62)
حُكْمُ بَيْعِ القِطَطِ وَشِرَائِهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ بَيْعِ القِطَطِ؟
فأجاب: ابْتُلِيَ بِبَيْعِ القِطَطِ وَشِرَائِهَا أُنَاسٌ، وَأَصْبَحَ لِبَيْعِهَا مَحَلَّاتٌ تِجَارِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ بَيْعَهَا - وَلَوْ كَانَتْ مُعَلَّمَةً وَمُرَبَّاةً - مُخَالَفٌ لِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ وَالمُرُوءَاتِ؛ بَلْ حَرَامٌ عِنْدَ جَمْعٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَالبَيْعُ بَاطِلٌ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "وَكَذَلِكَ أَفْتَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَهُوَ مَذْهَبُ طَاوُوسَ، وَمُجَاهِدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَمِيعِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِصِحَّةِ الحَدِيثِ بِذَلِكَ، وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِهِ". انتهى.
وَالحُجَّةُ فِي تَحْرِيمِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ، قَالَ: "زَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ"، وَلِلْخَمْسَةِ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ)؛ يَعْنِي الهِرّ. وَحَكَمَ النَّسَائِيُّ عَلَيْهِ بِالنَّكَارَةِ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِالاضْطِرَابِ، وَضَعَّفَهُ البَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ أَجَازَ الجُمْهُورُ بَيْعَهُ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الكَرَاهَةِ لَا التَّحْرِيمِ، وَبَعْضُهُمْ أَبَاحَ بَيْعَهُ، وَطَعَنُوا فِي صِحَّةِ الحَدِيثِ كَمَا سَبَقَ، وَالحَدِيثُ مَعْلُولٌ.
وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: «مَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَثْبُتُ أَوْ يَصِحُّ. وَقَالَ أَيْضًا: الأَحَادِيثُ فِيهِ مُضْطَرِبَةٌ».
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ: فِيهَا نَظَرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: (لَيْسَ فِي السِّنَّوْرِ شَيْءٌ يَصِحُّ).
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: "وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الخَطَّابِيُّ وَابْنُ المُنْذِرِ أَنَّ الحَدِيثَ ضَعِيفٌ فَغَلَطٌ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الحَدِيثَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ" انتهى.
وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: "قَدْ حَمَلَهُ – أَيِ: النَّهْيَ - بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى الهِرِّ إِذَا تَوَحَّشَ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الإِسْلَامِ حِينَ كَانَ مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ، ثُمَّ حِينَ صَارَ مَحْكُومًا بِطَهَارَةِ سُؤْرِهِ حَلَّ ثَمَنُهُ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ دِلَالَةٌ بَيِّنَةٌ". انتهى.
وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ: أَنَّ الهِرَّ طَاهِرٌ مَا عَدَا بَوْلَهُ وَعَذِرَتَهُ، وَلَكِنَّهُ سَبَبٌ فِي بَعْضِ الأَمْرَاضِ لِلْإِنْسَانِ، وَخَاصَّةً الحَامِلَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(63)
بول الغنم والبقر والجاموس
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: أَبِي يَعْمَلُ بِالزِّرَاعَةِ وَتَرْبِيَةِ الأَغْنَامِ وَالبَقَرِ وَالجَامُوسِ، وَلَا يَخْلُو الأَمْرُ مِنْ أَنْ يُصِيبَ ثَوْبَهُ وَجَسَدَهُ بَوْلُ هَذِهِ الحَيَوَانَاتِ، فَهَلْ تَنْجُسُ بِذَلِكَ ثِيَابُهُ؟
فأجاب: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ كَالحَمَامِ وَالدَّجَاجِ، وَالحَيَوَانَاتِ كَالأَرَانِبِ وَبَهِيمَةِ الأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا: طَاهِرَةٌ، وَمُخَلَّفَاتُهَا وَأَبْوَالُهَا وَرَوْثُهَا غَيْرُ نَجِسَةٍ؛ لِمَا جَاءَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا). رَوَاهُ الجَمَاعَةُ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ. قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ. قَالَ: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ؟ قَالَ: لَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا شَاهِدَةٌ لِقَوْلِ الجُمْهُورِ بِأَنَّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ بَوْلُهُ وَرَوْثُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ التَّنَزُّهُ مِنْهُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(64)
حُكْمُ التَّسَاهُلِ فِي التَّعَامُلِ بِالرِّبَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ مَنْ يَتَسَاهَلُ فِي المُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَلَا يُبَالِي بِالوَعِيدِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ؟
فأجاب: الرِّبَا حَرَامٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ، وَعَلَى مَنْ قَبْلَهَا، وَكَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَاسْتِحْلَالُهُ وَالاعْتِرَاضُ عَلَى اللهِ فِي تَحْرِيمِهِ مِنْ نَوَاقِضِ الإِسْلَامِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهِ مِنَ التَّهْدِيدِ وَالوَعِيدِ مَا يَجْعَلُ المُسْلِمَ يَحْذَرُهُ وَيَتَجَنَّبُهُ، وَيَبْتَعِدُ عَنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "يُبْعَثُ آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ القِيَامَةِ مَجْنونًا يُخْنَقُ"، وَقَالَ قَتَادَةُ: "وَتِلْكَ عَلَامَةُ أَهْلِ الرِّبَا يَوْمَ القِيَامَةِ، بُعِثُوا وَبِهِمْ خَبَلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ".
وَالأَكْلُ يُقْصَدُ بِهِ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَه"ُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). هَذَا الخُلُودُ الدَّائِمُ هُوَ فِي حَقِّ مَنِ اسْتَحَلَّ الرِّبَا، وَإِلَّا يُرَادُ بِهِ المُكْثُ الطَّوِيلُ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا)، فَمَهْمَا كَثُرَ الرِّبْحُ مِنَ المُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ، وَزَادَ الرَّصِيدُ، إِلَّا أَنَّهُ مَنْزُوعُ البَرَكَةِ، وَمَآلُهُ إِلَى النَّقْصِ وَالقِلَّةِ وَالزَّوَالِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)، مُصِرٍّ عَلَى ذَنْبِهِ، مُقِيمٍ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، مُتَمَادٍ فِي الإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ المُحَرَّمَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه)؛ لِأَنَّكُمْ أَعْدَاءٌ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ آكِلُ الرِّبَا أَنْ يُقَاوِمَ هَذِهِ الحَرْبَ، أَوْ يَجِدَ لَهُ عَلَى الأَرْضِ مَلْجَأً يَلُوذُ بِهِ، أَوْ حِصْنًا يَتَحَصَّنُ فِيهِ، أَوْ جَبَلًا يَعْتَصِمُ بِأَعْلَاهُ، أَوْ سِرْدَابًا يَنْدَسُّ فِي قَاعِهِ، أَوْ بَحْرًا يَخْتَبِئُ فِي قَعْرِهِ، أَوْ جَوًّا يُحَلِّقُ فِي سَمَائِهِ فَلَا يُوصَلُ إِلَيْهِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ؛ بِلْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ.
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَوْعَدَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا بِالقَتْلِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزِعُ عَنْهُ، فَحَقٌّ عَلَى إِمَامِ المُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبَهُ، فَإِنْ نَزَعَ، وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ". وَقَالَ: "يُقَالُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: "خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ"، وَعَنِ الحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا قَالَا: "وَاللهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّيَارِفَةَ لَأَكَلَةُ الرِّبَا، وَإِنَّهُمْ قَدْ أَذِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى النَّاسِ إِمَامٌ عَادِلٌ لَاسْتَتَابَهُمْ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا وَضَعَ فِيهِمُ السِّلَاحَ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "أَوْعَدَهُمُ اللهُ بِالقَتْلِ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَجَعَلَهُمْ بَهْرَجًا أَيْنَمَا أَتَوْا، فَإِيَّاكُمْ وَمَا خَالَطَ هَذِهِ البُيُوعَ مِنَ الرِّبَا؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَوْسَعَ الحَلَالَ وَأَطَابَهُ، فَلَا تُلْجِئَنَّكُمْ إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَاقَةٌ".
وَلَا يَنْبَغِي الاسْتِهَانَةُ بِقَلِيلِ الرِّبَا وَلَا بِالشُّبْهَةِ مِنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: (الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا: مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ). رَوَاهُ الحَاكِمُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِهَا وَضَعْفِهَا، وَالأَظْهَرُ أَنَّهَا مُنْكَرَةٌ لَا تَصِحُّ، وَرَوَى البَيْهَقِيُّ فِي "الشُّعَبِ"، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، أَنَّهُ قَالَ: "الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا، وَأَدْنَى فُجْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَقَعَ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ".
وَفِي "مُصَنَّفِ" عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَ"مُصَنَّفِ" ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْظَلَةَ، عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، قَالَ: "لأَنْ أَزْنِيَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ زَنْيَةً، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَكْلِ دِرْهَمٍ رِبًا، يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَكَلْتُهُ حِينَ أَكَلْتُهُ وَهُوَ رِبًا".
وَمِنْ عُقُوبَةِ آكِلِ الرِّبَا مَا جَاءَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ: "إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ، حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهْرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ، فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالَا لِي: إِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)، فَلَا تَقْبِضُوا مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَقَدْ رَغَّبَ اللهُ فِي التَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا، فَمَنْ تَلَطَّخَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَلْيُقْلِعْ عَنْهُ وَلَا يَعُدْ إِلَيْهِ، وَلْيَتَخَلَّصْ مِنَ الأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي فِي يَدِهِ، أَخَذَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ، فِي أَحَدِ قَوْلَيِ العُلَمَاءِ، أَوِ الَّتِي لَهُ عِنْدَ النَّاسِ، أَوْ فِي مُؤَسَّسَاتِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
(65)
دَرَجَةُ حَدِيثِ: (إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا)، وَمَعْنَاهُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا دَرَجَةُ حَدِيثِ: (إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ العَامَّةِ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ)، وَمَا مَعْنَاهُ؟
فأجاب: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ العَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: "عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ"؟، قَالَ أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –، فَقَالَ: بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ – يَعْنِي – بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ".
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ"، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالحَاكِمُ، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُمْ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي الحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، فَهُوَ صَدُوقٌ يُخْطِئُ كَثِيرًا، وَعَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ مَقْبُولٌ، وَكَذَلِكَ أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ، وَمَا دُونَ قَوْلِهِ: "لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ"، شَوَاهِدُ حُكِمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا حَسَنَةٌ أَوْ صَحِيحَةٌ لِغَيْرِهَا.
وَالمَعْنَى: عِنْدَ فَسَادِ الأُمُورِ، وَانْتِكَاسِ الأَحْوَالِ، وَشِدَّةِ الإِعْرَاضِ، وَاسْتِئْسَادِ الجَهْلِ وَالشَّهْوَةِ، وَظُهُورِ الغَفْلَةِ؛ لِقُوَّةِ الطَّمَعِ، وَالأَنَانِيَةِ، وَغَلَبَةِ الهَوَى، وَتَمَكُّنِ الدُّنيَا فِي القُلُوبِ، حَتَّى أَشْغَلَتْهُمْ عَنْ آخِرَتِهِمْ، وَفَضَّلُوا مَصَالِحَ دُنْيَاهُمْ عَلَى مَصَالِحِ أُخْرَاهُمْ، وَسَادَ التَّعَالُمُ، وَتَرَأَّسَ الجَهَلَةُ، وَاسْتُحْسِنَ الرَّأْيُ حَتَّى قُدِّمَ عَلَى الوَحْيِ، فَأَصْبَحَ التَّذْكِيرُ لَا يَكَادُ يَنْفَعُ، وَالنُّصْحُ لَا يُجْدِي كَثِيرًا؛ لِلْإِصْرَارِ وَالعِنَادِ، وَظُهُورِ الأَشْرَارِ، وَضَعْفِ الأَخْيَارِ، وَكَثْرَةِ الفِتَنِ وَالمُلْهِيَاتِ وَالصَّوَارِفِ إِلَى دَرَجَةِ أَنَّ المُسْلِمَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَخْشَى عَلَى دِينِهِ، عِنْدَ ذَلِكَ يُنْكِرُ حَسَبَ اسْتِطَاعَتِهِ، وَيَكْرَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَجْتَهِدُ فِي إِصْلَاحِ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، وَيَعْتَزِلُ الفِتَنَ، وَيَتَجَنَّبُ أَصْحَابَهَا، وَيُمْسِكُ عَلَى دِينِهِ، وَإِنْ قَلَّ النَّاصِرُ وَلَمْ يُوجَدِ المُعِينُ، وَإِنْ طَالَتْهُ الأَذِيَّةُ، وَآلَمَتْهُ الحُرْقَةُ، فَإِنَّ الأَجْرَ العَظِيمَ سَلْوَةُ العَبْدِ الصَّالِحِ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
(66)
حُكْمُ تَرْبِيَةِ الكِلَابِ لِلْحِرَاسَةِ وَالتَّسْلِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ مَنْ يُرَبِّي كَلْبًا فِي بَيْتِهِ لِلْحِرَاسَةِ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يُرَبِّي كَلْبًا فِي بَيْتِهِ لِلتَّسْلِيَةِ؟
فأجاب: تَرْبِيَةُ الكِلَابِ بِأَنْوَاعِهَا وَأَحْجَامِهَا وَأَعْمَارِهَا لِلزِّينَةِ وَنَحْوِهَا؛ حَرَامٌ وَكَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَظَاهِرَةٌ غَرْبِيَّةٌ قَبِيحَةٌ، وَرَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اقْتِنَاءِ الكَلْبِ لِلصَّيْدِ، وَحِرَاسَةِ الزَّرْعِ وَالمَاشِيَةِ، وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ كَذَلِكَ لِحِرَاسَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى حِرَاسَةٍ كَالاسْتِرَاحَاتِ وَغَيْرِهَا، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَأَذَّى مِنْهَا الجَارُ، وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ، إِلا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ). وعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلا مَاشِيَةٍ وَلا أَرْضٍ؛ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ؛ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أبي طَلْحَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: لَا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: وَعَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلُ أَنْ يأتِيَهُ، فَرَاثَ عَليْهِ حتَّى اشْتَدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَخَرَجَ فَلَقِيَهُ جِبْرِيلُ، فَشَكَا إلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في سَاعَةٍ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعةُ وَلَمْ يَأْتِهِ، قَالَتْ: وَكَانَ بِيَدِهِ عَصًا، فَطَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلا رُسُلُهُ!، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإذَا جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ، فَقَالَ: مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ بِهِ، فَأمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَهُ جبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَعَدْتَنِي فَجَلَسْتُ لَكَ وَلَمْ تَأتِنِي! فَقَالَ: مَنَعَنِي الْكلْبُ الَّذِي كَانَ فِي بَيْتِكَ، إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: فَلْيُرِقْهُ.
فَكَيْفَ يَقْتَنِي المُسْلِمُ كَلْبًا، وَلَوْ كَانَ مِنَ الكِلَابِ الجَمَالِيَّةِ المُعْتَنَى بِهَا وَالمُرَبَّاةِ، مَعَ حُرْمَةِ ذَلِكَ، وَمَا وَرَدَ فِي اقْتِنَائِهَا مِنَ الوَعِيدِ.
(67)
حَلُّ الإِشْكَالِ فِي عِبَارَةِ: (أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: لَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيَّ حَدِيثُ: (أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ)؛ لِأَنَّ الحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ حَرَامٌ.
فأجاب: نَعَمْ، الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ كَبِيرَةٌ، وَشِرْكٌ أَصْغَرُ أَوْ أَكْبَرُ، بِحَسَبِ مَا يَقُومُ فِي قَلْبِ الحَالِفِ مِنَ الاعْتِقَادِ، وَقَدْ دَلَّتِ الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ عَلَى حُرْمَتِهِ، وَأَمَّا مَا أَحْدَثَهُ لَفْظُ: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" مِنْ إِشْكَالٍ؛ فَكَشْفُ الإِشْكَالِ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ المُتَشَابِهِ إِلَى المُحْكَمِ، فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِالسِّلْسِلَةِ الذَّهَبِيَّةِ؛ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ). وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا مُحْكَمٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ: «أَفْلَحَ، وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ». فَمِنَ المُتَشَابِهِ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ إِسْمَاعِيلُ مَا وَرَدَ مِنَ الزَّجْرِ عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ، وَخَالَفَ رِوَايَةَ مَالِكٍ، فَقَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ، وَذَكَرَ الحَدِيثَ بِلَفْظِ: (أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ). وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْلِمٌ صَدْرًا، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِهَا عَلَى الشَّاذَّةِ عِنْدَهُ.
وَرِوَايَةُ مَالِكٍ هِيَ المُوَافِقَةُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي المُسْنَدِ، وَأَبِي أَيُّوبَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَنَسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: «وَالحَلِفُ بِالمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فِي حُكْمِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ، لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنِ احْتَجَّ مُحْتجٌّ بِحَدِيثِ "إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ"؛ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ"، قِيلَ لَهُ: هَذِهِ لَفْظَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِي هَذَا الحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ لَمْ يَقُولُوا َذَلِكَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ هَذَا الحَدِيثُ، وَفِيهِ: "أَفْلَحَ وَاللهِ إِنْ صَدَقَ"، أَوْ "دَخَلَ الجَنَّةَ وَاللهِ إِنْ صَدَقَ"، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى "وَأَبِيهِ"؛ لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ تَرُدُّهَا الآثَارُ الصِّحَاحُ».
وَقَالَ: "هَذِهِ لَفْظَةٌ إِنْ صَحَّتْ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ، وَبِغَيْرِ اللهِ".
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "فَإِنْ قِيلَ: مَا الجَامِعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الحَلِفِ بِالآبَاءِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ بِأَنَّهَا كَلِمَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى اللِّسَانِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الحَلِفُ، كَمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِمْ "عَقْرَى"، "حَلْقَى"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ فِيهِ إِضْمَارُ اسْمِ الرَّبِّ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَرَبِّ أَبِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ خَاصٌّ، وَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا كَانَ وَاللهِ، فَقُصِرَتِ اللَّامَانِ". انتهى.
وَكَانُوا فِي المَاضِي لَا يَنْقُطُونَ الكَلِمَاتِ. وَتَوْجِيهُ العُلَمَاءِ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ طَرِيقُ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ، حَيْثُ يُقَدِّمُونَ المُحْكَمَ عَلَى المُتَشَابِهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(68)
حُكْمُ تَأْخِيرِ العِشَاءِ حَتَّى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: فَضِيلَةَ الشَّيْخِ - حَفِظَكُمُ اللهُ -: هَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُ صَلَاةِ العِشَاءِ حَتَّى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، لِمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الجَمَاعَةِ؟
فأجاب: وَقْتُ العِشَاءِ يَبْدَأُ مِنْ مَغِيبِ الشَّفَقِ الأَحْمَرِ، وَهُوَ مَحَلُّ إِجْمَاعٍ، نَقَلَهُ ابْنُ المُنْذِرِ وَابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ. وَيَنْتَهِي إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ؛ يَعْنِي نِصْفَ اللَّيْلِ، عِنْدَ جَمْعٍ مِنَ العُلَمَاءِ؛ مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ أَحْوَطُ؛ لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ: (وَقْتُ صَلَاةِ الفَجْرِ مَا لَمْ يَطلُعْ قَرْنُ الشَّمْسِ الأَوَّلُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّمَاءِ، مَا لَمْ يَحْضُرِ العَصْرُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ العَصْرِ مَا لَمْ تَصفَرَّ الشَّمْسُ، وَيَسْقُطُ قَرْنُهَا الأَوَّلُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ المَغْرِبِ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، مَا لَمْ يَسقُطِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلَاةِ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيلِ).
وَيُعْرف مُنْتَصَفُ اللَّيْلِ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ المُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مَغِيبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الفَجْرِ، فَمَا بَيْنَهُمَا يُضَافُ نِصْفُهُ عَلَى وَقْتِ الغُرُوبِ، وَنِهَايَتُهُ هُوَ نِصْفُ اللَّيْلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ لِأَهْلِ الأَعْذَارِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِوَقْتِ الضَّرُورَةِ، وَمَا قَبْلَهُ وَقْتُ الاخْتِيَارِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الأُخْرَى). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (لَا يَفُوتُ وَقْتُ الظُّهْرِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ العَصْرِ، وَلَا يَفُوتُ وَقْتُ العَصْرِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ المَغْرِبِ، وَلَا يَفُوتُ وَقْتُ المَغْرِبِ إِلَى العِشَاءِ، وَلَا يَفُوتُ وَقْتُ العِشَاءِ إِلَى الفَجْرِ).
وَالأَفْضَلُ تَأْخِيرُ العِشَاءِ إِلَى قُرْبِ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ، إِذَا لَمْ يَشُقَّ عَلَى أَحَدٍ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: (أَخَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيلِ، ثُمَّ صَلَّى). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤخِّرَ العِشَاءَ، الَّتِي تَدْعُونَهَا العَتَمَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالحَدِيثَ بَعْدَهَا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤخِّرُ صَلَاةَ العِشَاءِ الآخِرَةِ).
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(69)
حُكْمُ إِيدَاعِ الأَمْوَالِ فِي البُنُوكِ الرِّبَوِيَّةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ إِيدَاعِ المَالِ فِي البُنُوكِ الرِّبَوِيَّةِ؟
فأجاب: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، وَقَدْ جَاءَ فِي الرِّبَا مِنَ الوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ مَا يَحْمِلُ المُسْلِمَ عَلَى تَجَنُّبِهِ وَتَجَنُّبِ مُؤَسَّسَاتِهِ وَالإِعَانَةِ عَلَيْهِ بِأَيِّ شَكْلٍ مِنَ الأَشْكَالِ، وَمِنْ ذَلِكَ الإِيدَاعُ مِنْ أَجْلِ الاسْتِثْمَارِ، أَوِ الحِفْظِ، أَوْ لِخِدْمَةِ التَّحْوِيلِ، وَغَيْرِهَا، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ)، إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ المُسْلِمُ إِلَى البَنْكِ الَّذِي يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا فِي حِفْظِ مَالٍ أَوْ خِدْمَةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ سَبِيلٌ حَلَالٌ، وَبَدِيلٌ مُبَاحٌ، فَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ، فَيَجُوزُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)، وَمَتَى اضْطُرَّ إِلَيْهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَرْبَاحًا، وَقِيلَ: إِنْ دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَطَةٍ وَلَا تَقَصُّدٍ - خَاصَّةً إِذَا كَانَ بَنْكًا فِي بَلَدٍ غَيْرِ إِسْلَامِيٍّ - فَإِنَّهُ يَقْبِضُهُ وَيَصْرِفُهُ فِي وُجُوهِ البِرِّ، وَجِهَاتِ الخَيْرِ، وَمَصَالِحِ المُسْلِمِينَ، بِنِيَّةِ التَّخَلُّصِ لَا القُرْبَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَيَسَّرَتْ وَللهِ الحَمْدُ فِي العَصْرِ الحَالِيِّ البُنُوكُ الإِسْلَامِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَامَلُ بِالرِّبَا اخْتِيَارًا، وَتَتَخَلَّصُ تَطْهِيرًا مِمَّا أُرْغِمَتْ عَلَيْهِ اضْطِرَارًا، وَمَتَى ابْتُلِيَ المُسْلِمُ، فَاضْطُرَّ إِلَى خِدْمَةِ البُنُوكِ الَّتِي خَالَطَهَا الرِّبَا؛ فَلْيَتَحَرَّ البَنْكَ الَّذِي تُدِيرُ مُعَامَلَاتِهِ لَجْنَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيُعَدُّ أَخَفَّ البُنُوكِ اخْتِلَاطًا، وَأَكْثَرَهَا أَوْجُهًا لِلْمَكَاسِبِ المُبَاحَةِ، وَأَنْفَعَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، إِنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ.
(70)
حُكْمُ البَدْءِ بِالبَسْمَلَةِ فِي كِتَابَةِ الكُتُبِ وَغَيْرِهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ البَدْءِ بِالبَسْمَلَةِ فِي كِتَابَةِ الكُتُبِ وَغَيْرِهَا؟
فأجاب: يُسْتَحَبُّ البَدْءُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالحَمْدِ للهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَالتَّشَهُّدِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثَ لَا تَخْلُو مِنْ مَقَالٍ، مَعَ وُجُودِ مَنْ حَسَّنَهَا أَوِ اسْتَحْسَنَهَا، وَمُوَافَقَةً لِلْقُرْآنِ، وَاسْتِنَانًا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاقْتِدَاءً بِالأَئِمَّةِ العُلَمَاءِ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ وَكِتَابَاتِهِمْ، وَتَلَقِّيهِمْ ذَلِكَ بِالقَبُولِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: رُوِّينَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ، وَمُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الإِسْفَرَايِينِيِّ المُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدأُ فِيهِ بِالحَمْدِ لِلَّهِ أَقْطَعُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "بَحَمْدِ اللَّهِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "بِالحَمْدِ فَهُوَ أقْطَعُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدأُ فِيهِ بِالحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أجْذَمُ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ أقْطَعُ"، رُوِّينَا هَذِهِ الأَلْفَاظَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ الأَرْبَعِينَ، لِلْحَافِظِ عَبْدِ القَادِرِ الرَّهَاوِيِّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْصُولًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ مُرْسَلًا، وَرِوَايَةُ المَوْصُولِ جَيِّدَةُ الإِسْنَادِ، وَإِذَا رُوِيَ الحَدِيثُ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا، فَالحُكْمُ لِلاتِّصَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ ثِقَةٍ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ الجَمَاهِيرِ.
وَمَعْنَى "ذِي بَالٍ": أَيْ لَهُ حَالٌ يُهْتَمُّ بِهِ، وَمَعْنَى "أَقْطَعَ": أَيْ نَاقِصٌ قَلِيلُ البَرَكَةِ، وَأَجْذَمُ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ بِالذَّالِ المُعْجَمَةِ وَبِالجِيمِ.
قَالَ العُلَمَاءُ: فَيُسْتَحَبُّ البُدَاءَةُ بِالحَمْدِ للَّهِ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ، وَدَارِسٍ، وَمُدَرِّسٍ، وَخَطِيبٍ، وَخَاطِبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْ سَائِرِ الأُمُورِ المُهِمَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أُحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ المَرْءُ بَيْنَ يَدَيْ خِطْبَتِهِ، وَكُلِّ أَمْرٍ طَلَبَهُ: حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(71)
حُكْمُ هَدَايَا البُنُوكِ لِعُمَلَائِهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ هَدِيَّةِ البَنْكِ الَّذِي أُودِعُ فِيهِ مَالِي؟
فأجاب: مَنْفَعَةُ البَنْكِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِأَصْحَابِ الحِسَابَاتِ الجَارِيَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
القِسْمُ الأَوَّلُ: مَنْفَعَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لِأَصْحَابِ الحِسَابَاتِ، الغَرَضُ مِنْهَا رَاحَةُ العَمِيلِ، وَتَسْهِيلُ إِجْرَاءَاتِهِ، أَوْ عَيْنِيَّةٌ لِخِدْمَتِهِ، كَدَفْتَرِ شِيكَاتٍ، وَبِطَاقَةِ سَحْبٍ مَصْرِفِيَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ جَائِزَةٌ.
وَالقِسْمُ الثَّانِي: مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ، عِبَارَةٌ عَنْ هَدِيَّةٍ رَمْزِيَّةٍ دِعَائِيَّةٍ، كَقَلَمٍ، وَحَقِيبَةٍ، وَسَاعَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، يُقْصَدُ مِنْهَا الدِّعَايَةُ؛ فَهَذِهِ جَائِزَةٌ.
القِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْفَعَةٌ مَالِيَّةٌ تَشْجِيعِيَّةٌ، لَهَا قِيمَةٌ تُصْرَفُ لِأَصْحَابِ الحِسَابَاتِ؛ لِجَلْبِهِمْ وَبَقَائِهِمْ، مِثْلَ: كُرُوتِ مُشْتَرَيَاتٍ، وَتَذَاكِرِ سَفَرٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ إِنْ كَانَتْ عَنْ مُشَارَطَةٍ؛ فَحَرَامٌ قَبُولُهَا، أَوْ جَرَى فِيهَا عُرْفٌ فَقَصَدَهَا فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا؛ لِلْقَاعِدَةِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا: "كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا"، وَقَدْ نُسِبَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَصِحُّ النِّسْبَةُ، وَلِقَاعِدَةِ: "المَعْرُوفُ عُرْفًا، كَالمَشْرُوطِ شَرْطًا".
أَمَّا إِنْ كَانَ لَمْ يَقْصِدْهَا فَقُدِّمَتْ إِلَيْهِ؛ فَلَهُ قَبْضُهَا عِنْدَ جَمْعٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهَا، وَهَذَا القَوْلُ أَحْوَطُ، فَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: الرَّجُلُ مِنَّا يُقْرِضُ أَخَاهُ الْمَالَ، فَيُهْدِي لَهُ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ؛ فَلا يَرْكَبْهَا وَلَا يَقْبَلْهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَسْلَفَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَشَرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فَأَهْدَى إلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ ثَمَرَةِ أَرْضِهِ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَأَتَاهُ أُبَيٌّ، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَةً، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا، فَبِمَ مَنَعْتَ هَدِيَّتَنَا؟ ثُمَّ أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَبِلَ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَكَانَ رَدُّ عُمَرَ لَمَّا تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَدِيَّتُهُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، فَلَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْقَرْضِ قَبِلَهَا، وَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَةِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ. اهـ.
وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ لِي: إِنَّكَ بِأَرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَأَهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ، أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ، أَوْ حِمْلَ قَتٍّ؛ فَلا تَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّهُ رِبًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُمْ نَهَوْا الْمُقْرِضَ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُقْتَرِضِ، وَجَعَلُوا قَبُولَهَا رِبًا". اهـ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْتُ رَجُلًا بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ، فَأَهْدَى إلَيَّ هَدِيَّةً جَزْلَةً، قَالَ: رُدَّ إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ، أَوْ احْسِبْهَا لَهُ.
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إنِّي أَقْرَضْتُ رَجُلًا يَبِيعُ السَّمَكَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَأَهْدَى إلَيَّ سَمَكَةً قَوَّمْتهَا بِثَلاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ: خُذْ مِنْهُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ.
فَهَدِيَّةُ المُقْتَرِضِ لِلْمُقْرِضِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَادَةً قَبْلَ القَرْضِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا، وَإِمَّا أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَنْ تَحْتَسِبَهَا مِنَ القَرْضِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(72)
حُكْمُ العَادَةِ السِّرِّيَّةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ العَادَةِ السِّرِّيَّةِ؟
فأجاب: قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).
حَصَرَتِ الآيَةُ قَضَاءَ الوَطَرِ الجَائِزِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الأَزْوَاجِ، وَجَازَ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ أَيْضًا مِلْكُ اليَمِينِ، وَهُنَّ الإِمَاءُ.
وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فَحَرَامٌ وَعُدْوَانٌ، فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ الاسْتِمْنَاءُ بِاليَدِ، وَلَا غَيْرِهَا.
فَعَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنِ الرَّجُلِ يَجْلِدُ عُمَيْرَةَ؛ (يَعْنِي العَادَةَ السِّرِّيَّةَ أَوِ السَّيِّئَةَ، وَيُقَالُ لَهَا: الخَضْخَضَةُ)، فَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَى قَوْلِهِ - العَادُونَ".
وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: "فَلَا يَحِلُّ العَمَلُ بِالذَّكَرِ إِلَّا فِي الزَّوْجَةِ، أَوْ فِي مِلْكِ اليَمِينِ، وَلَا يَحِلُّ الاسْتِمْنَاءُ".
وَحُكِيَ التَّحْرِيمُ عَنْ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "عَلَى فَاعِلِهِ التَّعْزِيرُ، وَلَيْسَ مِثْلَ الزِّنَا، وَذُكِرَ أَنَّهُ حَرَامٌ إِلَّا لِلْمُضْطَرّ". وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا حُكِيَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ؛ فَذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ العَنَتَ وَالوُقُوعَ فِي الزِّنَا:
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
فَيَرْتَكِبُ أَخَفَّ الضَّرَرَيْنِ لِدَفْعِ أَشَدِّهِمَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ تَحْرِيمَ نِكَاحِ اليَدِ: مَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ).
فَلَوْ كَانَ الاسْتِمْنَاءُ بِاليَدِ حَلَالًا؛ لَدَلَّ الشَّبَابَ عَلَيْه، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: "وَعَامَّةُ العُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إِنَّهُ كَالفَاعِلِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَحْدَثَهَا الشَّيْطَانُ ... وَلَوْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا؛ لَكَانَ ذُو المُرُوءَةِ يُعْرِضُ عَنْهَا لِدَنَاءَتِهَا". انتهى.
وَلَا يَفُوتُنَا أَنْ نُنَبِّهَ إِلَى أَنَّ فِي الإِكْثَارِ مِنْ هَذِهِ العَادَةِ القَبِيحَةِ ضَرَرًا مُسْتَقْبَلِيًّا عَلَى القُوَّةِ الفِرَاشِيَّةِ مَعَ الزَّوْجَةِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(73)
العَلَاقَةُ بَيْنَ الذُّنُوبِ وَتَأَخُّرِ المَطَرِ أَوْ قِلَّتِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ هُنَاكَ عَلَاقَةٌ بَيْنَ الذُّنُوبِ وَتَأَخُّرِ المَطَرِ وَقِلَّتِهِ؟
فأجاب: نَعَمْ، لِلذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي فَسَادِ المَعَائِشِ، وَحُلُولِ المَصَائِبِ، وَتَأَخُّرِ المَطَرِ عَنْ مَوْسِمِ نُزُولِهِ، وَصَرْفِهِ عَنْ أَهْلِ البَلَدِ لِظُهُورِ المَعَاصِي فِيهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، وَقَالَ تَعَالَى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: كنْتُ عَاشِرَ عَشَرَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ المُهَاجِرِينَ، خِصَالٌ خَمْسٌ، إِذَا نَزَلْنَ بِكُمْ - وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ -: لَمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُمْ، وَلَا انْتَقَصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا البَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذَ بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَيَتَخيَّروا فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ البُوصِيرِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: دَوَابُّ الأَرْضِ، وَهَوَامُّهَا، حَتَّى الخَنَافِسُ، وَالعَقَارِبُ، يَقُولُونَ: مُنِعْنَا القَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا أَجْدَبَتِ الأَرْضُ، قَالَتِ البَهَائِمُ: هَذَا مِنْ أَجْلِ عُصَاةِ بَنِي آدَمَ، لَعَنَ اللهُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ.
وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِخَلْقِهِ: أَنَّهُ لَا يُعَاجِلُ عِبَادَهُ بِالعُقُوبَةِ، وَأَنَّهُ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَغْفِرُ كَثِيرًا مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللهِ بِنُزُولِ المَطَرِ؛ لَهَلَكَ كُلُّ حَيٍّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ)، قَالَ: مَا سَقَاهُمُ المَطَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي الآيَةِ، يَقُولُ: إِذَا قَحَطَ المَطَرُ؛ لَمْ يَبْقَ فِي الأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا مَاتَتْ.
وَالذُّنُوبُ تَضُرُّ صَاحِبَهَا، فَإِذَا ظَهَرَتْ وَكَثُرَتْ، عَمَّ ضَرَرُهَا، وَتَعَدَّى شُؤْمُهَا.
أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلَى والله، إِنَّ الحُبَارَى لَتَمُوتُ هَزْلًا فِي وَكْرِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: ذُنُوبُ ابْنِ آدَمَ قَتَلَتِ الجُعَلَ فِي جُحْرِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ العُقُوبَاتِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَادَ الضَّبُّ أَنْ يَمُوتَ فِي جُحْرِهِ؛ هَوْلًا مِنْ ظُلْمِ ابْنِ آدَمَ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللهِ سَبَبٌ فِي حَبْسِ القَطْرِ، وَجَدْبِ الأَرْضِ، فَإِنَّ طَاعَتَهُ سَبَبٌ فِي هُطُولِ الأَمْطَارِ، وَكَثْرَةِ الخَيْرَاتِ، وَنُزُولِ البَرَكَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم)؛ أَيْ: لَأَنْـزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَهَا، وَأَخْرَجَ لَهُمْ بِهِ مِنَ الأَرْضِ نَبْتَهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(74)
شُبْهَةٌ وَجَوَابُهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: تُوجَدُ دُوَلٌ غَيْرُ مُسْلِمَةٍ؛ طَبِيعَتُهَا جَمِيلَةٌ خَضِرَةٌ، بِهَا تَنْزِلُ الأَمْطَارُ، وَفِيهَا تَجْرِي الأَنْهَارُ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ القَحْطَ سَبَبُهُ المَعَاصِي؟!
فأجاب: دَلَّ القُرْآنُ وَصَحِيحُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الذُّنُوبَ وَالمَعَاصِيَ سَبَبٌ فِي القَحْطِ، وَالجَدْبِ، وَمَحْقِ الخَيْرَاتِ، وَنَزْعِ البَرَكَاتِ، وَأَنَّ الطَّاعَةَ وَالاسْتِقَامَةَ سَبَبٌ فِي نُزُولِ المَطَرِ، وَكَثْرَةِ الخَيْرَاتِ، وَحُلُولِ البَرَكَاتِ، قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ).
وَقَالَ تَعَالَى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى بِالظُّلْمِ وَالفَسَادِ، فَيُحْبَسُ بِذَلِكَ القَطْرُ، فَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ، ثُمَّ قَرَأَ: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
فَاللهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ المُسْلِمِينَ وَعِبَادَهُ الكَافِرِينَ بِمَا شَاءَ مِنْ سَرَّاءَ وَضَرَّاءَ، وَشِدَّةٍ وَرَخَاءٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُذَكِّرُ أَوْلِيَاءَهُ بِحَبْسِ القَطْرِ، وَجَدْبِ الأَرْضِ؛ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أَمَّا أَعْدَاؤُهُ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ)، وَقَدْ أَمْلَى اللهُ لَهُمْ، وَاسْتَدْرَجَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ النِّعَمِ؛ فِتْنَةً وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي العَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ صُحِّحَ.
قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: "مَنْ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ، فَلَا رَأْيَ لَهُ، وَمَنْ قَتَرَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ، فَلَا رَأْيَ لَهُ".
وَقَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "عَلَيْكُمْ بِمُلَازَمَةِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ، فَقَلَّ نِعْمَةٌ زَالَتْ عَنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إِلَيْهِمْ، وَإِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ يُوَالِي عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَأَنْتَ تَعْصِيهِ؛ فَاحْذَرْهُ، وَالعَبْدُ إِذَا كَانَتْ لَهُ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةٌ فَحَفِظَهَا، وَبَقِيَ عَلَيْهَا، ثُمَّ شَكَرَ اللهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُ؛ آتَاهُ أَشْرَفَ مِنْهَا، وَإِذَا ضَيَّعَ الشُّكْرَ اسْتَدْرَجَهُ اللهُ".
ثُمَّ إِنَّ الكُفَّارَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمُ الحَسَنَةِ فِي دُنْيَاهُمْ، وَثَبَتَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنهَا شَرْبَةَ مَاءٍ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(75)
طَلَاقُ الغَضْبَانِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَقَعُ طَلَاقُ الغَضْبَانِ؟
فأجاب: طَلَاقُ الغَضْبَانِ فِيهِ تَفْصِيلٌ:
إِنْ كَانَ الغَضَبُ خَفِيفًا، يَمْلِكُ الإِنْسَانُ مَعَهُ نَفْسَهُ، وَيَعِي قَوْلَهُ، وَيُقَدِّرُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى طَلَاقِهِ، ثُمَّ قَصَدَ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ؛ فَهَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِالاتِّفَاقِ.
وَإِنْ كَانَ غَضَبُهُ شَدِيدًا، قَدْ أَفْقَدَهُ عَقْلَهُ وَوَعْيَهُ، وَأَصْبَحَ يَهْذِي بِمَا لَا يَدْرِي، وَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ مَنْ بِهِ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ؛ فَطَلَاقُ هَذَا لَا يَقَعُ بِالاتِّفَاقِ.
وَأَمَّا الحَالُ الثَّالِثَةُ: فَأَنْ يَكُونَ غَضَبُهُ قَوِيًّا، قَدْ أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ التَّفْكِيرِ، فَلَا يُثَمِّنُ كَلَامَهُ، وَلَا يَعِي قَرَارَهُ، فَإِذَا هَدَأَ غَضَبُهُ، نَدِمَ عَلَى مَا تَفَوَّهَ بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ، وَرَجَعَ إِلَى عَقْلِهِ وَصَوَابِهِ؛ فَهَذَا الرَّاجِحُ أَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ). لَا بَأْسَ بِهِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَغَيْرُهُ.
وَالإِغْلَاقُ: الإِكْرَاهُ، وَالغَضَبُ، وَزَوَالُ العَقْلِ بِدَوَاءٍ، أَوْ سُكْرٍ، أَوْ سِحْرٍ، وَحَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ قَهْرِيَّةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَدْ فَسَّرَ "الإِغْلَاقَ" بِالغَضَبِ: الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمَا، وَرَجَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَابْنُ القَيِّمِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الدَّعْوَى الكَاذِبَةَ أَمَامَ المُفْتِي أَوِ القَاضِي؛ بِأَنَّهُ طَلَّقَ فِي حَالِ الغَضَبِ الشَّدِيدِ، مَعَ أَنَّ غَضَبَهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَأَفْتَوْهُ بِأَنَّ طَلَاقَهُ لَا يُحْتَسَبُ؛ لَا تُجِيزُ لَهُ إِسْقَاطَ الطَّلَاقِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(76)
طَلَاقُ الحَامِلِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: سَمِعْتُ أَنَّ الحَامِلَ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، فَهَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟
فأجاب: هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ بَلْ طَلَاقُ الحَامِلِ يَقَعُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا".
وَهَذَا الطَّلَاقُ الَّذِي يُسَمَّى طَلَاقَ السُّنَّةِ، مُقَابَلَةً لِطَلَاقِ البِدْعَةِ، الَّذِي هُوَ فِي الحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَطَلَاقُ السُّنَّةِ هُوَ تَطْلِيقُ المَرْأَةِ وَهِيَ طَاهِرٌ مِنَ الحَيْضِ، وَكَذَلِكَ مِنَ النِّفَاسِ، وَلَمْ يُجَامِعْهَا أَوْ يُطَلِّقْهَا، وَقَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(77)
حُكْمُ طَلَاقِ الحَائِضِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ طَلَاقِ الزَّوْجَةِ فِي حَالِ الحَيْضِ؟
فأجاب: لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ فِي حَالِ حَيْضِهَا؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ، مَوْلَى عَزَّةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ ذَلِكَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟، فَقَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيُرَاجِعْهَا، فَرَدَّهَا، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَمِنْ هَا هُنَا أَخَذَ الفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الطَّلَاقِ، وَقَسَّمُوهُ إِلَى طَلَاقِ سُنَّةٍ، وَطَلَاقِ بِدْعَةٍ؛ فَطَلَاقُ السُّنَّةِ: أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ حَامِلًا قَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. وَالبِدْعِيُّ: هُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي حَالِ الحَيْضِ، أَوْ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، وَلَا يَدْرِي أَحَمَلَتْ أَمْ لَا؟ وَطَلَاقٌ ثَالِثٌ، لَا سُنَّةَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ، وَهُوَ طَلَاقُ الصَّغِيرَةِ وَالآيِسَةِ، وَغَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(78)
حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ وَقَعَ فِيهِ جِمَاعٌ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ تَطْلِيقِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ؟
فأجاب: لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ طَلَاقُ زَوْجَتِهِ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، وَيُسَمِّيهِ الفُقَهَاءُ طَلَاقَ البِدْعَةِ؛ لِمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: "أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ). أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ). وَعَنْ عَبْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، قَالَ: الطُّهْرُ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَقَتَادَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، قَالَ: لَا يُطَلِّقُهَا وَهِيَ حَائِضٌ، وَلَا فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، وَلَكِنْ يَتْرُكُهَا، حَتَّى إِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ، طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)؛ العِدَّةُ: الطُّهْرُ، وَالقُرْءُ الحَيْضَةُ، أَنْ يُطَلِّقَهَا حُبْلَى مُسْتَبِينًا حَمْلَهَا، وَلَا يُطَلِّقَهَا وَقَدْ طَافَ عَلَيْهَا، وَلَا يَدْرِي حَبْلَى هِيَ أَمْ لَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(79)
حُكْمُ خُرُوجِ المَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ تَوْصِيلِ المَرْأَةِ لِأَهْلِهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا؛ لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا عِنْدَهُمْ؟
فأجاب: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ المُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ مِنْ بَيْتِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا تَرْكُ بَيْتِ زَوْجِهَا، حَتَّى تَنْقَضِيَ العِدَّةُ، إِلَّا أَنْ يَسْتَاءَ الزَّوْجُ مِنْ مُطَلَّقَتِهِ، فَيَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي عِرْضِهِ، أَوْ يَلْحَقَهَا هِيَ ضَرَرٌ، وَقَدْ أَخَلَّ بِهَذَا الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَثِيرٌ مِنَ الأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ، فَمُنْذُ يَخْتَلِفُونَ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ، تَذْهَبُ لِأَهْلِهَا، وَكَثِيرًا مَا تَتَعَقَّدُ المُشْكِلَةُ، وَيُصَعَّدُ الخِلَافُ، فَيُوصِدُونَ بِتَفَرُّقِهِمْ بَابَ التَّفَاهُمِ، وَشَفَاعَةَ المَشَاعِرِ، وَلَغَةَ الأَجْسَادِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا)؛ أَيْ فَيَرْجِعُونَ إِلَى بَعْضٍ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «قَوْلُهُ: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ)؛ أَيْ: فِي مُدَّةِ العِدَّةِ، لَهَا حَقُّ السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ، مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً مِنْهُ، فَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُخْرِجَهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَيْضًا الخُرُوجُ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَقَلَةٌ لِحَقِّ الزَّوْجِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)؛ أَيْ: لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِلَّا أَنْ تَرْتَكِبَ المَرْأَةُ فَاحِشَةً مُبَيِّنَةً، فَتَخْرُجَ مِنَ المَنْزِلِ، وَالفَاحِشَةُ المُبَيِّنَةُ تَشْمَلُ الزِّنَا، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمُجَاهِدُ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو قِلَابَةَ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَعَطَاءٌ الخُرَاسَانِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَتَشْمَلُ مَا إِذَا نَشَزَتِ المَرْأَةِ، أَوْ بَذَتْ عَلَى أَهْلِ الرَّجُلِ، وَآذَتْهُمْ فِي الكَلَامِ وَالفِعَالِ، كَمَا قَالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَغَيْرُهُمْ». وَاللهُ أَعْلَمُ.
(80)
هَلِ الطَّلَاقُ فِي الحَيْضِ يَقَعُ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ طَلَاقُ الزَّوْجَةِ فِي الحَيْضِ يَقَعُ؟
فأجاب: نَعَمْ يَقَعُ، وَتُحْسَبُ طَلْقَةً عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ، وَتَسَاهَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ المُنْذِرِ، فَحَكَوْهُ إِجْمَاعًا، وَالطَّلَاقُ أَثْنَاءَ الحَيْضِ بِدْعَةٌ وَحَرَامٌ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ آثِمٌ، إِلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، وَلَا تُحْسَبُ طَلْقَةً، وَإِلَى هَذَا القَوْلِ ذَهَبَ عَدَدٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَابْنُ القَيِّمِ، وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا القَوْلُ لَهُ مُسْتَنَدُهُ، وَلِلْقَائِلِينَ بِهِ مُنَاقَشَاتٌ وَإِجَابَاتٌ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَدِلَّةِ أَصْحَابِ القَوْلِ الأَوَّلِ، وَفِيهِ سَعَةٌ وَرَحْمَةٌ، فَيُدْرَأُ بِهِ هَدْمُ بُيُوتٍ، وَتَفَرُّقُ أُسْرَةٍ، وَتَشَتُّتُ أَطْفَالٍ، عِنْدَمَا تَكُونُ الطَّلْقَةُ ثَالِثَةً، وَالخَطَأُ فِي العَفْوِ خَيْرٌ مِنَ الخَطَأِ فِي العُقُوبَةِ، إِلَّا إِنْ تَرَجَّحَ لِلْقَاضِي إِيقَاعُهُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، كَمَا أَجْرَى عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا لِلْمَصْلَحَةِ، وَلْيَتَّقِ اللهَ الأَزْوَاجُ، وَلَا يُطَلِّقُوا زَوْجَاتِهِمْ فِي حَالِ الحَيْضِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ، مَوْلَى عُرْوَةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ، قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ قَالَ: طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ: (إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ)، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ)، فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: الأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ. انتهى. وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ القَيِّمِ، وَابْنُ حَجَرٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَالأَظْهَرُ أَنَّ زِيَادَةَ "وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا" شَاذَّةٌ أَوْ لَهَا تَأْوِيلٌ.
وَخَرَّجَ ابْنُ حَزْمٍ وَالخُشَنِيُّ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ، أَوْ لَا يُعْتَدُّ لِذَلِكَ. وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ القَيِّمِ، وَابْنُ حَجَرٍ.
وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(81)
اسْتِهَانَةُ بَعْضِ الأَزْوَاجِ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ أَثْنَاءِ الحَيْضِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: يَسْتَهِينُ بَعْضُ الأَزْوَاجِ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ؛ بِنَاءً عَلَى فَتْوَى مَنْ لَا يُوقِعُهَا، وَلَا يَحْتَسِبُهَا طَلْقَةً، فَمَا تَوْجِيهُكُمْ؟
فأجاب: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الحَيْضِ طَلَاقُ بِدْعَةٍ، وَالمُطَلِّقُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِأَنَّ زَوْجَتَهُ حَائِضٌ فَهُوَ آثِمٌ.
وَتَسَاهُلُ بَعْضِ الأَزْوَاجِ فِي التَّلَفُّظِ بِالطَّلَاقِ وَالزَّوْجَةُ فِي حَالِ الحَيْضِ؛ لِوُجُودِ مَنْ يُفْتِي بِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَقَعُ وَلَا يُحْسَبُ: جَهْلٌ؛ لِتَعَدِّيهِ حُدُودَ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، ثُمَّ إِنَّ القَائِلِينَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَاحْتِسَابِهَا طَلْقَةً: الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ، وَعَامَّةُ أَهْلِ العِلْمِ، وَحُكِيَ إِجْمَاعًا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الوُقُوعُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ العُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ فِي جَمِيعِ الأَمْصَارِ، وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ كُلِّ مَنْ يُحْفَظُ قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَحَكَاهُ عَنْ أَهْلِ العِلْمِ كَافَّةً: ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَالخَطَّابِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ البُخَارِيُّ: بَابُ إِذَا طُلِّقَتِ الحَائِضُ تَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: لِيُرَاجِعْهَا. قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: فَمَهْ؟. وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا. قُلْتُ: تُحْتَسَبُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ؟. حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: "فَمَهْ"، مَعْنَاهُ: فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ إِذَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا؟ إِنْكَارًا لِقَوْلِ السَّائِلِ: "أَيُعْتَدُّ بِهَا؟".
(82)
أَدِلَّةُ القَائِلِينَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا هِيَ أَدِلَّةُ القَائِلِينَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ؟؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ النِّكَاحَ ثَبَتَ بِيَقِينٍ، فَلَا يَزُولُ إِلَّا بِيَقِينٍ.
فأجاب: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حُكْمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٌ، وَتَتَلَخَّصُ أَهَمُّ أَدِلَّةِ المُوقِعِينَ لَهُ، المُعْتَدِّينَ بِهِ، وَهُمُ الجُمْهُورُ، فِي الأُصُولِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلًا: عُمُومُ آيَاتِ الطَّلَاقِ وَأَحَادِيثِهِ، فَهِيَ تَشْمَلُ الطَّلَاقَ فِي الحَيْضِ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا، كَطَلَاقِ الهَازِلِ.
ثَانِيًا: التَّعْبِيرُ بِالرَّجْعَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلْقَةَ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً غَيْرَ مُلَغَاةٍ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: "سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا، قَالَ: فَرَاجَعْتُهَا، ثُمَّ طَلَّقْتُهَا لِطُهْرِهَا، قُلْتُ: فَاعْتَدَدْتَ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقْتَ وَهِيَ حَائِضٌ؟ قَالَ: مَا لِي لَا أَعْتَدُّ بِهَا، وَإِنْ كُنْتُ عَجَزْتُ وَاسْتَحْمَقْتُ؟". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالبُخَارِيُّ. وَالأَصْلُ أَنَّ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ وَافَقَ أَنَسَ بْنَ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، دَاخِلَ الصَّحِيحَيْنِ وَخَارِجَهُمَا؛ مِثْلَ سَالِمٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَيُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَلِلدَّارَقُطْنِيَّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِيهِ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَتَحْتَسِبُ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرِجَالُهُ إِلَى شُعْبَةَ ثِقَاتٌ.
وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي مُسْنَدِهِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ "هِيَ وَاحِدَةٌ".
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيَّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً .. قَالَ: وَتَحْتَسِبُ بِهَذِهِ التَّطْلِيقَةِ الَّتِي طَلَّقَ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
ثَالِثًا: إِفْتَاءُ ابْنِ عُمَرَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ حَتَّى بَتَّ بِهِ النِّكَاحَ، وَهُوَ صَاحِبُ القِصَّةِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ، قَالَ: "فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، يَقُولُ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ".
وَعِنْدَ الدَّارَقُطْنِيَّ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي البَتَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ: عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَفَارَقْتَ امْرَأَتَكَ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيَّ: "رَوَى هَذَا الحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ، لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كَلَامَ عُمَرَ، وَلَا أَعْلَمُهُ رَوَى هَذَا الكَلَامَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ". انْتَهَى. وَسَعِيدٌ لَا بَأْسَ بِهِ، لَهُ أَوْهَامٌ.
رَابِعًا: أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَدْ حَكَاهُ بَعْضُهُمْ إِجْمَاعًا، كَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَابْنِ المُنْذِرِ، وَابْنِ عَبْدِ البَرِّ، وَالخَطَّابِيِّ، وَالنَّوَوِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَهَذَا القَوْلُ فِي نَظَرِي أَرْجَحُ دَلِيلًا، إِلَّا أَنَّ القَوْلَ بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ أَوْسَعُ وَأَرْحَمُ، وَالحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(83)
مُنَاقَشَةُ أَدِلَّةِ القَائِلِينَ وَغَيْرِ القَائِلِينَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: آمُلُ أَنْ تُفِيدُونَا - بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ - بِمُسْتَنَدِ القَائِلِينَ بِوُقُوعِ طَلَاقِ الحَائِضِ، وَالقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ مَعَ المُنَاقَشَةِ.
فأجاب: تَدُورُ رَحَى مَسْأَلَةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ مِنْ عَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ طَلَاقُ بِدْعَةٍ مُحَرَّمٌ، وَيَجِبُ إِرْجَاعُ المُطَلَّقَةِ، لَكِنْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَقَعُ، كَابْنِ حَزْمٍ، وَابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَابْنِ القَيِّمِ، وَغَيْرِهِمْ، وَرَجَّحَهُ شَيْخِي صَاحِبُ السَّمَاحَةِ الإِمَامُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ بَازٍ، وَشَيْخِي العَلَّامَةُ مُحَمَّدٌ العُثَيْمِينُ - رَحِمَهُمَا اللهُ - فَقَدْ نَظَرَ أَصْحَابُ هَذَا القَوْلِ إِلَى رَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ابْنِ عُمَرَ زَوْجَتَهُ، وَتِلَاوَتِهِ: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، وَثَبَتَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا»، وَصَحَّحَ الحَدِيثَ ابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ القَيِّمِ، وَابْنُ حَجَرٍ، وَغَيْرُهُمْ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا وَنَحْوُهُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حَزْمٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ مُخَالِفٍ لِلصِّحَاحِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِيهِ مَرْفُوعًا: "لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". فَقَدْ فَسَّرَهُ الشَّعْبِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، قَالَ: "يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الحَيْضَةِ".
وَاعْتَذَرَ مَنْ لَا يُوقِعُ الطَّلَاقَ عَنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ". رَوَاهَا البُخَارِيُّ، بِأَنَّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ المَرْفُوعِ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، وَغَايَةُ مَا يُسَلَّمُ بِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَرَّحَ بِذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَالعِبْرَةُ بِمَا رَوَى لَا مَا رَأَى.
وَمَنْ قَالَ - وَهُوَ الرَّاجِحُ -: إِنَّ طَلَاقَ الحَائِضِ يَقَعُ، وَهُمْ عَامَّةُ العُلَمَاءِ، وَرَجَّحَهُ شَيْخِي العَلَّامَةُ عَبْدُ اللهِ الجِبْرِين - رَحِمَهُ اللهُ - تَمَسَّكُوا بِلَفْظِ الإِرْجَاعِ فِي الحَدِيثِ، فَهُوَ دَالٌّ عَلَى اعْتِبَارِ التَّطْلِيقَةِ، مَعَ أَنَّ الأَصْلَ دُخُولُهَا فِي آيَاتِ وَأَحَادِيثِ الطَّلَاقِ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عُمَرَ - وَهُوَ صَاحِبُ القِصَّةِ - لِعَدَدٍ مِنْ تَلَامِيذِهِ بِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ حُسِبَتْ عَلَيْهِ، وَاعْتُدَّ بِهَا، وَأَفْتَى مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ التَّطْلِيقَةَ الثَّالِثَةَ وَهِيَ حَائِضٌ، بِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي حَسَبَهَا عَلَيْهِ تَطْلِيقَةً، وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ أَبِي الزُّبَيْرِ: "وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا"، شَاذٌّ، كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ: "الأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ"، وَيُؤَيِّدُ شُذُوذَهَا أَنَّ بَعْضَ الطُّرُقِ إِلَى أَبِي الزُّبَيْرِ - كَطَرِيقِ المِصِّيصِيِّ وَأَبِي عَاصِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ -، لَمْ يَقُولُوا: "وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا"، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ؛ فَمَعْنَاهَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَعُدَّهَا شَيْئًا صَوَابًا.
وَقَدْ أَعْرَضَ عَنْهَا الشَّيْخَانِ، وَأَشَارَ مُسْلِمٌ لِتَرْكِهِ إِيَّاهَا.
وَحَكَمَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَالمُنْذِرِيُّ، وَابْنُ رَجَبٍ، وَالعِرَاقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ بِنَكَارَتِهَا.
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: قَالَ أَهْلُ الحَدِيثِ: لَمْ يَرْوِ أَبُو الزُّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: "نَافِعٌ أَثْبَتُ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَقَدْ وَافَقَ نَافِعًا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الثَّبْتِ".
لَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ نَحْوَهُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرَاجِعَهَا ... الحَدِيث، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ لِأَحَدِهِمْ: "أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي بِهَذَا، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللهَ فِيمَا أَمَرَكَ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: قُلْتُ لِنَافِعٍ: مَا صَنَعَتِ التَّطْلِيقَةُ؟ قَالَ: وَاحِدَةٌ اعْتُدَّ بِهَا.
وَوَافَقَ نَافِعًا عَلَى الاعْتِدَادِ بِهَا، وَأَنَّهَا حُسِبَتْ تَطْلِيقَةً، جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ عِنْدَ مُسْلِمٍ: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَيُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدْ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ: ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَابْنُ المُنْذِرِ، وَغَيْرُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُسَلَّمُ بِهَذَا النَّقْلِ؛ لِوُجُودِ خِلَافٍ قَدِيمٍ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(84)
حُكْمُ طَلَاقِ النُّفَسَاءِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ طَلَاقِ النُّفَسَاءِ؟
فأجاب: الطَّلَاقُ فِي النِّفَاسِ، كَالطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ عِنْدَ عَامَّةِ العُلَمَاءِ؛ بِدْعَةٌ وَحَرَامٌ، وَيَجِبُ عَلَى المُطَلِّقِ إِرْجَاعُ المُطَلَّقَةِ، وَالخِلَافُ فِي وُقُوعِهِ كَالخِلَافِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ، وَدَلِيلُ حُرْمَةِ طَلَاقِ البِدْعَةِ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ، مَوْلَى عَزَّةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ ذَلِكَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟، فَقَالَ: "طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيُرَاجِعْهَا، فَرَدَّهَا، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ، قَالَ ابْنُ عُمَرُ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ)، فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ". وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا). فَطَلَاقُ السُّنَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، أَوْ فِي حَالِ اسْتَبَانَ الحَمْلُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: "الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهَانِ حَلَالٌ، وَوَجْهَانِ حَرَامٌ؛ فَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَلَالٌ: فَأَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا. وَأَمَّا اللَّذَانِ هُمَا حَرَامٌ: فَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا، أَوْ يُطَلِّقَهَا عِنْدَ الْجِمَاعِ، لَا يَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: "طَلَاقُ النُّفَسَاءِ كَالطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، لَا يَلْزَمُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً، أَوْ آخِرَ ثَلَاثٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ مِنْهَا اثْنَتَانِ، بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا حَيْضٌ أَوْ طُهْرٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ، وَأَمَرَ بِالطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، أَوْ حَامِلًا، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ دَمَ النِّفَاسِ لَيْسَ طُهْرًا، وَلَا هُوَ حَمْلٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الحَيْضُ، فَهُوَ حَيْضٌ، وَلَمْ يَصِحَّ قَطُّ نَصٌّ أَنَّ النِّفَاسَ لَيْسَ حَيْضًا". انتهى.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَإِنَّ مِنْ تَعْلِيقِ شَيْخِنَا مُحَمَّدٍ العُثَيْمِينِ - رَحِمَهُ اللهُ - عَلَى كِتَابِ "القَوَاعِدِ وَالأُصُولِ الجَامِعَةِ" لِلشَّيْخِ السَّعْدِيِّ: "وَظَاهِرُ كَلَامِ المُؤَلِّفِ: أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الطَّلَاقُ فِي النِّفَاسِ، وَهُوَ صَحِيحٌ؛ الطَّلَاقُ فِي النِّفَاسِ حَلَالٌ، وَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ فِي النِّفَاسِ فَقَدْ طَلَّقَ لِلْعِدَّةِ، إِذْ إِنَّ النُّفَسَاءَ لَا يَمْنَعُ نِفَاسُهَا مِنَ العِدَّةِ، فَتَشْرَعُ فِي العِدَّةِ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ، وَبِمَاذَا تَعْتَدُّ؟ بِثَلَاثِ حَيْضَاتٍ، وَغَالِبًا المَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ تُرْضِعُ فَإِنَّهَا لَا تَحِيضُ حَتَّى تَفْطِمَ الوَلَدَ، فَتَطُولُ المُدَّةُ، أَمَّا قَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: (ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا)، فَهَذَا وَاضِحٌ أَنَّ المُرَادَ مِنْهُ الحَيْضُ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي حَيْضٍ، وَأَيْضًا قَالَ: أَوْ حَامِلًا، فَهِيَ لَيْسَتْ نُفَسَاءَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِي النِّفَاسِ غَيْرَ طَلَاقٍ بِدْعِيٍّ؛ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ وَجَائِزٌ. انتهى.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(85)
حُكْمُ طَلَاقِ الحَائِضِ بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ طَلَاقِ الحَائِضِ بِرِضَا الطَّرَفَيْنِ؟
فأجاب: جَاءَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ، مَوْلَى عَزَّةَ، يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ ذَلِكَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟، فَقَالَ: طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيُرَاجِعْهَا، فَرَدَّهَا، وَقَالَ: إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ، أَوْ لِيُمْسِكْ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ".
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَلَمْ يَقُلْ: "أَوْ رَاضِيَةً"، وَلَمْ يَسْتَفْصِلِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِ ابْنِ عُمَرَ: هَلِ الطَّلَاقُ عَنْ تَرَاضٍ أَمْ لَا، وَالقَاعِدَةُ الأُصُولِيَّةُ تَقُولُ: «تَرْكُ الاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاحْتِمَالِ، يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ»، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ الاحْتِيَاطُ لِدِينِهِ، فَيَتَّبِعُ وَلَا يَبْتَدِعُ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: "مَنْ أَرَادَ السُّنَّةَ، فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا عَنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَيُشْهِدُ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "الطَّلَاقُ المَنْهِيُّ عَنْهُ، كَالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الحَيْضِ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِحَقِّ الزَّوْجِ، حَيْثُ كَانَ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُعْقِبَهُ فِيهِ النَّدَمَ، وَمَنْ نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ رِفْقًا بِهِ، فَلَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ؛ بَلْ فَعَلَهُ وَتَجَشَّمَ مَشَقَّتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ مَا أَتَى بِهِ، كَمَنْ صَامَ فِي المَرَضِ أَوِ السَّفَرِ... وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ طَلَاقِ الحَائِضِ لِحَقِّ المَرْأَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِضْرَارِ بِهَا لِتَطْوِيلِ العِدَّةِ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ بِأَنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ بِعِوَضٍ فِي الحَيْضِ، فَهَلْ يَزُولُ بِذَلِكَ تَحْرِيمُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَالمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَزُولُ التَّحْرِيمُ بِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّحْرِيمَ فِيهِ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فَسَقَطَ، وَإِنْ عُلِّلَ بِأَنَّهُ لِحَقِّ المَرْأَةِ لَمْ يَمْنَعْ نُفُوذَهُ وَوُقُوعَهُ أَيْضًا، فَإِنَّ رِضَا المَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِوُقُوعِهِ عِنْدَ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ، لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ سِوَى شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الرَّوَافِضِ وَنَحْوِهِمْ .. وَلَكِنْ إِذَا تَضَرَّرَتِ المَرْأَةُ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ طَلَاقِهَا، أُمِرَ الزَّوْجُ بِارْتِجَاعِهَا".
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(86)
حُكْمُ طَلَاقِ الحَائِضِ غَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ طَلَاقِ غَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا أَثْنَاءَ الحَيْضِ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا).
أَخَذَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ مِنَ الآيَةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ طَلَاقُ مَنْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا أَثْنَاءَ الحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَهَذَا هُوَ المَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ، وَلِلْمَالِكِيَّةِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: المَنْعُ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ، وَلَوْ لِغَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا.
وَمَعَ أَنَّ قَوْلَ الجُمْهُورِ أَوْجَهُ، إِلَّا أَنَّ قَتَادَةَ قَالَ: (وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)، قَالَ: طَلَاقُهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ. وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: «جَمِيلًا»؛ سُنَّةً غَيْرَ بِدْعَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "فَأَمَّا غَيْرُ المَدْخُولِ بِهَا، وَالحَامِلُ الَّتِي تَبَيَّنَ حَمْلُهَا، وَالآيِسَةُ، وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ، فَلَا سُنَّةَ لِطَلَاقِهَا وَلَا بِدْعَةَ". انتهى.
وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا؛ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ وَيَعْقِدَ عَلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ المَدْخُولِ بِهَا تَبِينُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَلِّقُهَا رَجْعَتَهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي العِدَّةِ، وَلَا عِدَّةَ قَبْلَ الدُّخُولِ". انتهى
وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الخَلْوَةِ، فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الفُقَهَاءِ؛ فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ بَائِنٌ، فَلَا رَجْعَةَ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ عَقْدٍ جَدِيدٍ، وَذَهَبَ الحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَ فِيهِ زَوْجَتَهُ دُونَ رِضَاهَا، وَدُونَ عَقْدٍ جَدِيدٍ، مَا دَامَتْ فِي العِدَّةِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(87)
هَلْ تَلْزَمُ رَجْعَةُ الحَائِضِ بَعْدَ طَلَاقِهَا؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ حَائِضًا هَلْ يَلْزَمُهُ إِرْجَاعُهَا؟
فأجاب: لَا يَجُوزُ تَطْلِيقُ الزَّوْجَةِ وَهِيَ حَائِضٌ، فَإِنَّ تَطْلِيقَهَا فِي حَالِ الحَيْضِ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَيَنْبَغِي عَلَيْهِ إِنْ كَانَتِ الطَّلْقَةَ الأُولَى أَوِ الثَّانِيَةَ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الثَّالِثَةَ عِنْدَ شَيْخِ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَابْنِ القَيِّمِ، وَغَيْرِهِمَا، وَهَلِ الاسْتِرْجَاعُ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ رِوَايَتَانِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ؛ إِحْدَاهُمَا: تَجِبُ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الإِمَامُ مَالِكٌ وَبَعْضُ الحَنَفِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ، وَالصَّحِيحُ الوُجُوبُ.
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، وَلِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ، فَإِنَّ لَهُ مِنْهُ إلَى الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ لِأَحَدِهِمْ: أَمَّا إنْ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنِي بِهَذَا، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَ ثَلَاثًا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْك حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْت اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِك». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(88)
هَلْ تَلْزَمُ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ مِنْ طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي طُهْرٍ، لَكِنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا؟
فأجاب: طَلَاقُ الزَّوْجَةِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ بِدْعَةٌ وَحَرَامٌ، وَيَقَعُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ العِلْمِ، وَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا إِنْ لَمْ تَكُنِ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَجِبُ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْ جَمِيعِ العُلَمَاءِ. انتهى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ حَرَامٌ، وَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا؛ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، أَوْ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَوْ حَامِلًا». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى». وَفِي لَفْظٍ: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَقَدْ قَالُوا: الخَلْوَةُ كَالوَطْءِ، فَإِذَا خَلَا بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ طَلَاقُهَا فِي الطُّهْرِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(89)
الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، بَعْدَ إِرْجَاعِهَا مِنْ حَيْضٍ طَلَّقَهَا فِيهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الحَيْضِ، ثُمَّ أَرْجَعَهَا، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَلَّقَهَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ؟
فأجاب: الطَّلَاقُ فِي الحَيْضِ بِدْعَةٌ لَا يَجُوزُ، وَاخْتُلِفَ فِي وُقُوعِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاجَعَتُهَا، ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى تَطْهُرَ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ جِمَاعُهَا، ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ.
وَلَا يُطَلِّقُهَا فِي أَوَّلِ طُهْرٍ بَعْدَ الحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا؛ فَهَذِهِ سُنَّةُ الطَّلَاقِ.
وَنَصَّ المَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ "عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الطُّهْرِ المُتَعَقِّبِ لِلْحَيْضِ بِدْعَةٌ".
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الحَيْضَةَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَهُوَ طَلَاقُ سُنَّةٍ، وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: لَا يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ". انتهى.
وَالأَحْوَطُ الأَخْذُ بِمَا جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَدَلِيلُ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الأَوَّلِ، الَّذِي يَلِي الحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا: مَا جَاءَ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: "سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ، فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا). وفي رواية: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ إِذَا طَهُرَتْ، فَلْيُطَلِّقْهَا». وَالرِّوَايَةُ المَبْسُوطَةُ أَوْلَى.
قَالَ الشَّافِعيُّ : "غَيْرُ نَافِعٍ إِنَّمَا رَوَى: «حَتَّى تَطْهُرَ مِنَ الحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ». رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، وَسَالِمٌ".
زَادَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "لَكِنَّ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَافِظًا".
قَالَ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ أَكَّدَ هَذَا المَعْنَى؛ حَيْثُ أَمَرَ بِأَنْ يُمْسِكَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الحَيْضَ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ؛ لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ: "مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ أَمْسَكَهَا، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ أُخْرَى، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا"، فَإِذَا كَانَ قَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُمْسِكَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، فَكَيْفَ يُبِيحُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ؟!
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(90)
الحِكْمَةُ مِنْ إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَ الحَيْضِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا هِيَ الحِكْمَةُ فِي إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الحَيْضَةَ، الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا، ثُمَّ رَاجَعَهَا؟
فأجاب: اللهُ أَعْلَمُ بِالحِكْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ العُلَمَاءُ حِكَمًا لِذَلِكَ، وَمِنْهَا: مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا بِطُهْرٍ تَامٍّ، ثُمَّ حَيْضٍ تَامٍّ؛ لِيَكُونَ تَطْلِيقُهَا وَهِيَ تَعْلَمُ عِدَّتَهَا إِمَّا بِحَمْلٍ أَوْ بِحَيْضٍ، أَوْ لِيَكُونَ تَطْلِيقُهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالحَمْلِ، وَهُوَ غَيْرُ جَاهِلٍ بِمَا صَنَعَ، أَوْ يَرْغَبَ فَيُمْسِكَ لِلْحَمْلِ. أَوْ لِيَكُونَ إِنْ كَانَتْ سَأَلَتِ الطَّلَاقَ غَيْرَ حَامِلٍ أَنْ تَكُفَّ عَنْهُ حَامِلًا.
وَقِيلَ: الحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ لَا تَصِيرَ الرَّجْعَةُ لِغَرَضِ الطَّلَاقِ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا زَمَانًا يَحِلُّ لَهُ فِيهِ طَلَاقُهَا، ظَهَرَتْ فَائِدَةُ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطُولُ مُقَامُهُ مَعَهَا، فَقَدْ يُجَامِعُهَا فَيَذْهَبُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ سَبَبِ طَلَاقِهَا، فَيُمْسِكُهَا.
وَقِيلَ: إِنَّ الطُّهْرَ الَّذِي يَلِي الحَيْضَ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ كَقُرْءٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ طَلَّقَهَا فِيهِ لَكَانَ كَمَنْ طَلَّقَ فِي الحَيْضِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ، فَلَزِمَ أَنْ يَتَأَخَّرَ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(91)
هَلْ يَلْزَمُ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي بَعْدَ إِرْجَاعِ الزَّوْجَةِ مِنْ طَلَاقِ الحَيْضِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الحَيْضِ، ثُمَّ رَاجَعَهَا لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَهَلْ يَلْزَمُهُ طَلَاقُهَا بَعْدَ الطُّهْرِ الثَّانِي؟.
فأجاب: نَصَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ، وَالنُّصُوصُ الأُخْرَى تُرَغِّبُ فِي الإِمْسَاكِ؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: "أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: "سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ امْرَأَتِهِ الَّتِي طَلَّقَ، فَقَالَ: طَلَّقْتُهَا وَهِيَ حَائِضٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ، وَالبَسْطُ وَالتَّفْصِيلُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ إِنَّ الأَمْرَ بَعْدَ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى عَوْدَتِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ، وَهُوَ إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ الطَّلَاقِ وَلَا بِاسْتِحْبَابِهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(92)
الطَّلَاقُ فِي الاسْتِحَاضَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلِ الطَّلَاقُ أَثْنَاءَ الاسْتِحَاضَةِ كَالطَّلَاقِ أَثْنَاءَ الحَيْضِ بِدْعَةٌ؟
فأجاب: تَخْتَلِفُ الاسْتِحَاضَةُ عَنِ الحَيْضِ فِي الأَحْكَامِ، فَالمُسْتَحَاضَةُ لَهَا حُكْمُ الطَّاهِرَةِ، فَيَجُوزُ لِزَوْجِهَا جِمَاعُهَا، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَحْكَامِ، وَلَا تُحْسَبُ الاسْتِحَاضَةُ فِي العِدَّةِ؛ لِذَا فَالطَّلَاقُ فِي حَالِ الاسْتِحَاضَةِ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، وَلَا يُعَدُّ بِدْعَةً، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا هُوَ فِي طَلَاقِ الحَائِضِ لَا المُسْتَحَاضَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ جَامَعَهَا فِي حَالِ الاسْتِحَاضَةِ، فَإِنَّ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ يُعَدُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ بِدْعَةً، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: "أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(93)
هَلْ يَجِبُ الجِمَاعُ فِي طُهْرٍ بَعْدَ حَيْضٍ وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ طَلَاقَهُ حَرَامٌ لِلْحَيْضِ فَرَاجَعَهَا، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا إِذَا طَهُرَتْ؟
فأجاب: يُسْتَحَبُّ الجِمَاعُ وَلَا يَجِبُ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: الرَّجْعَةُ لَا تَكَادُ تُعْلَمُ صِحَّتُهَا إِلَّا بِالوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ المُبْتَغَى مِنَ النِّكَاحِ.
وَبِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ مَسَّهَا، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ أُخْرَى، فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا). رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَضَعَّفَهُ عَبْدُ الحَقِّ بِمُعَلَّى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(94)
الخُلْعُ وَالفَسْخُ فِي الحَيْضِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: مَا حُكْمُ الخُلْعِ وَفَسْخِ النِّكَاحِ وَالمَرْأَةُ حَائِضٌ؟
فأجاب: الطَّلَاقُ: حَلُّ الزَّوْجِ عَقْدَ الزَّوْجِيَّةِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَتِهِ.
وَالخُلْعُ: طَلَبُ الزَّوْجَةِ حَلَّ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ بِعِوَضٍ.
وَالفَسْخُ: حَلُّ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ أَوِ القَضَاءِ.
فَالطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ وَالزَّوْجَةُ حَائِضٌ، وَأَمَّا الخُلْعُ وَالفَسْخُ فَجَائِزَانِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "وَلَا بَأْسَ بِالخُلْعِ فِي الحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ المَنْعَ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الحَيْضِ مِنْ أَجْلِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِطُولِ العِدَّةِ، وَالخُلْعُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ العِشْرَةِ وَالمُقَامِ مَعَ مَنْ تَكْرَهُهُ وَتُبْغِضُهُ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ طُولِ العِدَّةِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْلَاهُمَا بِأَدْنَاهُمَا؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيُّ - ﷺ - المُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا، وَلِأَنَّ ضَرَرَ تَطْوِيلِ العِدَّةِ عَلَيْهَا، وَالخُلْعُ يَحْصُلُ بِسُؤَالِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ، وَدَلِيلًا عَلَى رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ".
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(95)
حُكْمُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ عَنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً؟
فأجاب: جَمْعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ؛ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ عَلَى القَوْلِ الصَّحِيحِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).
وَعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً وَهِيَ حَائِضٌ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتْبِعَهَا بِتَطْلِيقَتَيْنِ آخِرَتَيْنِ عِنْدَ الْقُرْأَيْنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، مَا هَكَذَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى، إنَّك قَدْ أَخْطَأْت السُّنَّةَ، وَالسُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ، فَتُطَلِّقَ لِكُلِّ قُرْءٍ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: "طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً، فَإِذَا كَانَ آخِرُ ذَلِكَ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(96)
هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ؟
فأجاب: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا مَشْهُورًا؛ فَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ بِمَا فِيهِمُ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَقُولُونَ: إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بِالثَّلَاثِ، أَوْ مِائَةَ طَلْقَةٍ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، قَاصِدًا الثَّلَاثَ لَا التَّوْكِيدَ، يَقَعُ ثَلَاثًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ جَمَعَهَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِالثَّلَاثِ، أَوْ مِائَةَ طَلْقَةٍ؛ وَقَعَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ فَرَّقَهَا بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، لَا يَقْصِدُ التَّوْكِيدَ؛ وَقَعَتْ ثَلَاثًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا العَلَّامَةِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ -.
وَالقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالُوا: تَقَعُ وَاحِدَةً، سَوَاءٌ جَمَعَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، أَوْ فَرَّقَهَا، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَابْنِ القَيِّمِ، وَشَيْخِنَا العَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثَيْمِينَ - رَحِمَهُمُ اللهُ -.
وَالقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ، قَالُوا: لَا تُحْتَسَبُ شَيْئًا.
وَالرَّاجِحُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّهَا تُحْتَسَبُ وَاحِدَةً، جَمَعَهَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، أَوْ فَرَّقَهَا فِي مَجْلِسٍ، أَوْ فِي مَجَالِسَ، فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ؛ لِمَا فِي هَذَا القَوْلِ المُسْتَنِدِ عَلَى أَدِلَّةٍ مِنَ التَّوْسِعَةِ وَالرَّحمَةِ.
فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ: "أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَلَمْ تَكُنِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -؟ قَالَ: بَلَى".
وَغَيْرُهَا مِنَ الأَدِلَّةِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(97)
تَوْجِيهُ مَنْ يَتَهَاوَنُ وَيُبَالِغُ فِي عَدَدِ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: يَتَهَاوَنُ البَعْضُ فِي التَّلَفُّظِ عَلَى زَوْجَتِهِ؛ بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ سَبْعِينَ، أَوْ مِائَةً، أَوْ أَكْثَرَ، فَمَا تَوْجِيهُكُمْ لَهُمْ؟
فأجاب: التَّلَفُّظُ بِالطَّلَاقِ المُكَرَّرِ، وَالطَّلَاقِ المُضَاعَفِ: جَهْلٌ وَحُمْقٌ وَتَلَاعُبٌ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيْدٍ، قَالَ: «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ؟». قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، وَإِنَّك لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا، عَصَيْتَ رَبَّكَ، فَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُك، وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: هَذَا الْأَثَرُ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ: "أَنَّهُ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ، فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، وَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثٌ". وَرَوَى وَكِيعٌ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعُثْمَانَ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةً، قَالَ: عَصَيْتَ رَبَّكَ، وَفَارَقْتَ امْرَأَتَكَ، لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلْ لَكَ مَخْرَجًا.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا، قَالَ: يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثٌ، وَتَدَعُ تِسْعَمِائَةٍ وَسَبْعًا وَتِسْعِينَ).
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَدَدَ النُّجُومِ، فَقَالَ: أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. رَوَاهُنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(98)
إِشْكَالٌ وَالإِجَابَةُ عَنْهُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: قَرَأْتُ أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالخَلَفِ، فَمَا جَوَابُهُمْ عَمَّا رَوَى طَاوُسٌ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ طَاوُسٍ: «أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ، أَلَمْ يَكُنْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً، قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؛ فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ، تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فأجاب: الجَوَابُ: وَجَّهُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ تَوْجِيهَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُمْ حَصَرُوهُ فِي طَلَاقِ غَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا؛ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ طَاوُسٍ: «أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ؟، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ».
وَقَدْ ضُعِّفَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّكْرَارِ التَّوْكِيدَ لَا البَيْنُونَةَ، فَلَمَّا حَصَلَ التَّسَاهُلُ وَالتَّهَاوُنُ فِي أَنَّ البَعْضَ يَقْصِدُ الإِيقَاعَ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَصَدَ التَّوْكِيدَ؛ أَمْضَاهُ عُمَرُ ثَلَاثًا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ أَصَحُّ الأَجْوِبَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّ أَصْحَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَوْا عَنْهُ خِلَافَ مَا قَالَ طَاوُوسٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(99)
إِشْكَالٌ وَالإِجَابَةُ عَنْهُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ –: قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا ”الثَّلَاثَ” طَلَاقًا مُحَرَّمًا؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ؛ ”أَحَدُهُمَا”: يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ، وَ”الثَّانِي”: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي العِدَّةِ، وَيَنْكِحَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بَعْدَ العِدَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهَذَا أَظْهَرُ القَوْلَيْنِ؛ لِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ؛ مِنْهَا: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَاحِدَةً.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ، وَرَدَّهَا عَلَيْهِ}. وَهَذَا الحَدِيثُ قَدْ ثَبَّتَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَ أَحْمَدُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَغَيْرُهُمْ مَا رُوِيَ: {أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَلْبَتَّةَ، وَقَدِ اسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً؟}؛ فَإِنَّ رُوَاةَ هَذَا مَجَاهِيلُ، لَا يُعْرَفُ حِفْظُهُمْ وَعَدْلُهُمْ، وَرُوَاةُ الأَوَّلِ مَعْرُوفُونَ بِذَلِكَ. انتهى.
السُّؤَالُ: كَيْفَ ذَهَبَ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ إِلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، مَعَ وُجُودِ حَدِيثَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؛ الأَوَّلُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَالثَّانِي جَوَّدَ إِسْنَادَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ؟
فأجاب: لَقَدْ ذَهَبَ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ إِلَى إِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالثَّلَاثِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا؛ لِدُخُولِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الطَّلَاقِ فِي عُمُومِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ المُعْتَبِرِ التَّلَفُّظَ بِالطَّلَاقِ طَلَاقًا وَاقِعًا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ تُوقِعُ الطَّلَاقَ، وَإِنْ كَانَتْ مُحْتَمِلَةَ التَّأْوِيلِ؛ كَحَدِيثِ عُوَيْمِرٍ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
وَجَاءَ عَنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ اعْتِبَارُهَا ثَلَاثًا، حَتَّى قَالَ المَجْدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الأَوَّلِ المُخْرَّجِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، بِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ المُطَلَّقَةِ غَيْرِ المَدْخُولِ بِهَا، كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، أَوْ أَنَّ التَّكْرَارَ قَصَدَ المُطَلِّقُ بِهِ التَّأْكِيدَ لَا التَّأْسِيسَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ فِي تَفَرُّدِ طَاوُوسَ عَنْ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِعَدِّ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً.
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ رُكَانَةَ بِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ البُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَلْبَتَّةَ قَاصِدًا التَّأْكِيدَ لَا تَكْرَارَ الطَّلَاقِ أَصَحُّ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُهُ، وَأَوْلَادُ أَبِي رُكَانَةَ أَعْلَمُ بِالوَاقِعَةِ، كَمَا رَجَّحَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَهُ فَتْوَى بِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ أَوْ أَكْثَرَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ تُحْسَبُ ثَلَاثًا، وَتَبِينُ بِهَا الزَّوْجَةُ، وَلَوْ صَحَّ مَا تَقَدَّمَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ وَيُخَالِفْهُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(100)
إِشْكَالٌ وَالإِجَابَةُ عَنْهُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: يُشْكِلُ عَلَى البَعْضِ وُجُودُ البَرْدِ فِي النَّارِ، فَمَا حَلُّ هَذَا الإِشْكَالِ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (هَٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ)؛ فَالحَمِيمُ هُوَ: الحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. وَالغَسَّاقُ هُوَ: البَارِدُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ، المُفَتِّتُ لِلْعِظَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)؛ أَلْوَانٌ مِنَ العَذَابِ مُتَجَانِسَاتٌ وَمُتَضَادَّاتٌ؛ كَالزَّمْهَرِيرِ وَالسَّمُومِ، وَشُرْبِ الحَمِيمِ وَأَكْلِ الزَّقُّومِ، وَالصُّعُودِ وَالهُوِيِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَشْيَاءِ المُتَّفِقَةِ وَالمُخْتَلِفَةِ وَالمُتَضَادَّةِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَدَلَّتِ الآيَةُ وَالحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّارَ فِيهَا الحَمِيمُ شَدِيدُ الحَرَارَةِ، وَالزَّمْهَرِيرُ شَدِيدُ البُرُودَةِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا؛ فَإِنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ، فَقَدْ يُوجَدُ البَرْدُ فِي طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِهَا، أَوْ جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ مَا قَرَّرَهُ الفَلَكِيُّونَ مِنْ أَنَّ الحَرَّ وَالبَرْدَ فِي الدُّنْيَا بِحَسَبِ مَيْلِ مِحْوَرِ الأَرْضِ، مِمَّا يُسَبِّبُ تَعَامُدَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَى مَدَارِ السَّرَطَانِ مُسَبِّبًا حُلُولَ فَصْلِ الصَّيْفِ، وَيَقِلُّ التَّعَامُدُ عَلَى مَدَارِ السَّرَطَانِ مُسَبِّبًا حُلُولَ فَصْلِ الشِّتَاءِ: لَا يَتَعَارَضُ مَعَ الحَدِيثِ؛ إِذْ لَا مَانَعَ مِنَ اجْتِمَاعِ أَسْبَابٍ كَوْنِيَّةٍ وَأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، وَالمُهِمُّ الإِقْرَارُ بِالأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَهَا يُؤَثِّرُ عَلَى دِينِ العَبْدِ سَلْبًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(101)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ مَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ يُعْتَبَرُ صَحِيحًا؟
فأجاب: لَمْ يَشْتَرِطِ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ الصِّحَّةَ وَلَا الاسْتِيعَابَ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا فِيهِ مُحْتَجًّا بِهِ إِلَّا القَلِيلَ، وَلَمْ يَفُتْهُ مِنَ الصَّحِيحِ إِلَّا اليَسِيرُ، قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: «قَصَدْتُ فِي المُسْنَدِ الحَدِيثَ المَشْهُورَ، وَتَرَكْتُ النَّاسُ تَحْتَ سَتْرِ اللهِ، وَلَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَقْصِدَ مَا صَحَّ عِنْدِي، لَمْ أَرْوِ هَذَا المُسْنَدَ إِلَّا الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّكَ – يَا بُنَيَّ – تَعْرِفُ طَرِيقَتِي فِي الحَدِيثِ: لَسْتُ أُخَالِفُ مَا فِيهِ ضَعْفٌ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي البَابِ شَيْءٌ يَدْفَعُهُ». قَالَ العِرَاقِيُّ: "وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا فِيهِ صَحِيحًا؛ بَلْ هُوَ أَمْثِلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَرَكَهُ، وَفِيهِ الضَّعِيفُ".
وَقَالَ ابْنُ الجَزَرِيِّ: «قَدْ عَاجَلَتْهُ المَنِيَّةُ قَبْلَ تَنْقِيحِ مُسْنَدِهِ». وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: «إِنَّ هَذَا الكِتَابَ قَدْ جَمَعْتُهُ وَانْتَقَيْتُهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، فَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ المُسْلِمُونَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ، وَإِلَّا لَيْسَ بِحُجَّةٍ».
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: "فَاتَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْنِ".
لَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي المُسْنَدِ بِأَنَّهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا الإِطْلَاقُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ فِيهِ الضَّعِيفُ، وَلَيْسَ بِالكَثِيرِ، إِنَّمَا هُوَ غَرْفَةٌ فِي نَهْرٍ، وَمَا حُكِمَ عَلَيْهِ بِالوَضْعِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً: قَطْرَةٌ فِي بَحْرٍ، وَأَجَابَ عَنْ أَكْثَرِهَا العُلَمَاءُ، وَأَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ: "القَوْلُ المُسَدَّدُ فِي الذَّبِّ عَنْ مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ"، أَوْضَحَ فِيهِ أَنَّ غَالِبَهَا جِيَادٌ إِلَّا مَا نَدَرَ، مَعَ الاحْتِمَالِ القَوِيِّ فِي دَفْعِ ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: "تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ": لَيْسَ فِي الْمُسْنَدِ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ، إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أَوْ أَرْبَعَةً.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: "كُلُّ مَا كَانَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَهُوَ مَقْبُولٌ، فَإِنَّ الضَّعِيفَ الَّذِي فِيهِ يَقْرُبُ مِنْ الْحَسَنِ". وَاللهُ أَعْلَمُ.
(102)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: يُطْلِقُ البَعْضُ عَلَى السُّنَنِ الأَرْبَعِ الصِّحَاحَ، فَمَا تَعْلِيقُكُمْ عَلَى هَذَا الإِطْلَاقِ؟
فأجاب: إِطْلَاقُ الصِّحَاحِ عَلَى السُّنَنِ الأَرْبَعِ أَوْ عَلَى أَحَدِهَا تَسَاهُلٌ؛ فَأَصْحَابُهَا لَمْ يَشْتَرِطُوا أَنْ لَا يُخَرِّجُوا إِلَّا الصَّحِيحَ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ أَحَادِيثِهَا مُحْتَجًّا بِهَا، إِمَّا لِصِحَّتِهَا أَوْ لِصَلَاحِهَا، وَفِيهَا الضَّعِيفُ، وَالأَلْفَاظُ المُنْكَرَةُ، وَالشَّاذَّةُ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ قَرِيبًا مِنَ السَّبْعِينَ حَدِيثًا، يَلِيهَا سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ نَحْوُ العِشْرِينَ، أَمَّا سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ فَفِيهَا الوَاحِدُ وَالاثْنَانِ، وَلَيْسَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ مَوْضُوعٌ.
وَكَانَ هَدَفُهُمْ جَمْعَ أُصُولِ الأَحَادِيثِ، خَاصَّةً الأَحْكَامَ، وَبَيَانَ صَحِيحِهَا وَضَعِيفِهَا، وَصَوَابِهَا وَخَطَئِهَا، فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ؛ لِذَا قَالَ طَاهِرٌ السِّلَفِيٌّ عَنْهَا: "اتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهَا عُلَمَاءُ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ". وَأَطْلَقَ الحَاكِمُ وَالخَطِيبُ عَلَى سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ الصَّحِيحَ.
وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو دَاوُدَ مَنْهَجَهُ فِي كِتَابِهِ السُّنَنِ، فَقَالَ: "ذَكَرْتُ فِيهِ الصَّحِيحَ وَمَا يُشَابِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ، وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ شَيْئـًا فَهُوَ صَالِحٌ"؛ أَيْ: لِلاسْتِشْهَادِ لَا لِلاعْتِمَادِ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْ أَحَادِيثَ لِظُهُورِ عِلَّتِهَا، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ أَصَحَّ مَا عُرِفَ فِي البَابِ.
وَالحُكْمُ عَلَى الأَحَادِيثِ تَخْتَلِفُ الأَنْظَارُ فِيهِ، وَتَخْتَلِفُ آرَاؤُهُمْ فِي بَعْضِ عُلُومِهِ، وَأَصَحُّ السُّنَنِ الأَرْبَعِ: سُنَنُ النَّسَائِيِّ؛ فَهِيَ أَكْثَرُهَا صَحِيحًا، وَأَقَلُّهَا ضَعِيفًا، وَأَشَدُّهَا شَرْطًا، وَأَطْلَقَ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَالخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ عَلَيْهَا الصَّحِيحَ تَجُوُّزًا؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ فِيهَا قَلِيلٌ.
وَأَضْعَفُ السُّنَنِ الأَرْبَعِ: سُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَغَالِبُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ ضَعِيفٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(103)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا دَرَجَةُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الوُضُوءِ بِمَاءِ البَحْرِ، وَمَا جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛ مِنْ أَنَّ مَاءَ البَحْرِ لَا يُجْزِئُ التَّطَهُّرُ بِهِ؟
فأجاب: صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ البُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ المُنْذِرِ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَالبَغَوِيُّ، وَابْنُ الأَثِيرِ، وَابْنُ المُلَقِّنِ، وَغَيْرُهُمْ؛ فَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ، وَأَفْتَوْا بِمُقْتَضَاهُ.
وَالحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ المَاءَ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، أَوْ لَوْنُهُ، أَوْ رَائِحَتُهُ بِنَجَاسَةٍ، فَهُوَ طَهُورٌ، يَرْفَعُ الحَدَثَ، وَيُزِيلُ الخَبَثَ، وَإِنْ كَانَ مَالِحًا، أَوْ أَحْمَرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ حَيَوَانَاتِ البَحْرِ يُؤْكَلُ، حَتَّى كَلْبُهُ وَحَيَّتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَنَّ مَا وُجِدَ مَيْتًا مِنْ حَيَوَانَاتِ البَحْرِ لَمْ يَتَعَفَّنْ يَجُوزُ أَكْلُهُ.
وَأَنَّ مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو لَا يَصِحُّ عَنْهُمَا، فَمَاءُ البَحْرِ يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَيُغْتَسَلُ بِهِ مِنَ الجَنَابَةِ إِجْمَاعًا، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ خَالَفَ الحَدِيثَ وَالإِجْمَاعَ.
(104)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ أَكْلِ السَّمَكِ المَيِّتِ عَلَى سَطْحِ البَحْرِ؟
فأجاب: الرَّاجِحُ أَنَّ السَّمَكَ الطَّافِيَ عَلَى البَحْرِ، الَّذِي مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ قُتِلَ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ؛ يَجُوزُ أَكْلُهُ، وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - وَغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ)؛ فَطَعَامُهُ هُوَ مَا قَذَفَهُ البَحْرُ، وَطَفَا عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَيَدُلُّ عَلَى الجَوَازِ أَيْضًا: مَا صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَاءِ الْبَحْرِ: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ). رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَقَدِ اتُّفِقَ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ، وانْطَلَقْنَا عَلَى ساحِلِ البَحْرِ، فَرُفِعَ لنَا عَلَى ساحِلِ البَحْرِ كَهَيْئَةِ الكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتيْنَاهُ، فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى: العَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا، وَنَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ، حَتَّى سَمِنَّا، وَلَقَدْ رَأَيتُنَا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْطَعُ منْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ، أَوْ كَقَدْرِ الثَّوْرِ، وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بَعِيرٍ مَعَنَا، فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهَا، وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لحْمِهِ وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ فَأَرْسلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْهُ، فَأَكَلَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (كُلُوا مَا حَسَرَ عَنْهُ البَحْرُ، وَمَا أَلْقَاهُ، وَمَا وَجَدْتُمُوهُ مَيْتًا أَوْ طَافِيًا فَوْقَ المَاءِ فَلَا تَأْكُلُوهُ)؛ فَضَعِيفٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ.
(105)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ - عَنْ كَيْفِيَّةِ ذَبْحِ السَّمَكِ،
فأجاب: عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَأَسْهَلُ طَرِيقَةٍ وَأَهْوَنُهَا لِقَتْلِ السَّمَكِ وَالجَرَادِ، وَأَسْرَعُهَا فِي المَوْتِ: تُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهَا، وَلَوْ أُلْقِيَ حَيًّا فِي الزَّيْتِ المَغْلِيِّ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ شَيَّهُ حَيًّا، أَوْ تُرِكَ خَارِجَ المَاءِ حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ أُغْرِقَ الجَرَادُ فِي المَاءِ، أَوْ ذَبَحَ السَّمَكَ وَقَتَلَ الجَرَادَ كَافِرٌ: جَازَ أَكْلُهُ؛ لِأَنَّ ذَكَاتَهُ لَا تَجِبُ بِالإِجْمَاعِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ: فَالجَرَادُ وَالحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالطِّحَالُ وَالكَبِدُ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَمَعْنَاهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(106)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: فَضِيلَةَ الشَّيْخِ، حَفِظَكُمُ اللهُ، مَا حُكْمُ قِرَاءَةِ سُورَةِ يَاسِينْ عَلَى المُحْتَضِرِ الَّذِي حَضَرَهُ المَوْتُ؟
فأجاب: قِرَاءَةُ سُورَةِ "يس" عِنْدَ المُحْتَضِرِ مُسْتَحَبَّةٌ؛ فَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس". قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: «قَوْلُهُ: "اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس"؛ أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَتْهُ الْمَنِيَّةُ، لَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ».
وَالحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالنَّسَائِيُّ فِي "عَمَلِ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، وَغَيْرُهُمْ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ القَطَّانِ، وَالمُنْذِرِيُّ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ، وَضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ، وَالمَنَاوِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَقَالَ: "لَا يَصِحُّ فِي البَابِ حَدِيثٌ".
وَفِي المُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو المُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ: حَدَّثَنِي المَشْيَخَةُ، أَنَّهُمْ حَضَرُوا غُضَيْفَ بْنَ الحَارِثِ الثُّمَالِيَّ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ، حِينَ اشْتَدَّ سَوْقُهُ، فَقَالَ: هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَقْرَأُ يس؟ قَالَ: فَقَرَأَهَا صَالِحُ بْنُ شُرَيْحٍ السَّكُونِيُّ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ مِنْهَا قُبِضَ، قَالَ: فَكَانَ المَشْيَخَةُ يَقُولُونَ: إِذَا قُرِئَتْ عِنْدَ المَيِّتِ خُفِّفَ عَنْهُ بِهَا. قَالَ صَفْوَانُ: وَقَرَأَهَا عِيسَى بْنُ المُعْتَمِرِ عِنْدَ ابْنِ مَعْبَدٍ. وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقَدْ صَحَّحَ حَدِيثَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ: ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(107)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا هِيَ الحَيَوَانَاتُ وَالطُّيُورُ الَّتِي يَحِلُّ أَكْلُهَا، وَالَّتِي يَحْرُمُ أَكْلُهَا؟
فأجاب: الأَصْلُ فِي المَأْكُولَاتِ الحِلُّ، فَمَا سُكِتَ عَنْهُ؛ كَالفِيلِ، وَالبَبْغَاءِ، وَغَيْرِهِمَا: يَجُوزُ أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وَقَدْ يَدُلُّ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى الإِبَاحَةِ؛ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي حِلِّ أَكْلِ الضَّبِّ، وَالحَدِيثِ المَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي حِلِّ أَكْلِ الجَرَادِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ الثَّابِتِ فِي حِلِّ أَكْلِ الضَّبُعِ؛ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، أَوْ يَدُلُّ دَلِيلٌ عَامٌّ عَلَى الإِبَاحَةِ؛ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ فِي البَحْرِ: (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ). رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الحَيَوَانَاتُ البَحْرِيَّةُ وَالبَرْمَائِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ كَالسُّلَحْفَاةِ، إِلَّا أَنَّهَا تُذَكَّى، وَاخْتُلِفَ فِي التِّمْسَاحِ لِلنَّابِ، وَالأَظْهَرُ حِلُّهُ، وَتَرْكُهُ أَحْوَطُ، فَقَدْ كَرِهَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَحَرَّمَهُ الجُمْهُورُ. وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُ طَائِرٍ وَلَا حَيَوَانٍ بَرِّيٍّ أَوْ بَحْرِيٍّ، كَبِيرٍ كَالفِيلِ، أَوْ صَغِيرٍ كَالنَّمْلَةِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ صَرِيحٍ خَاصٍّ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)، أَوْ عَامٍّ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (نَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَكُلُّ سَبْعٍ عَادٍ يَفْتَرِسُ بِنَابِهِ، أَوْ يَصِيدُ بِمِخْلَبِهِ فَحَرَامٌ، وَكَالحَشَرَاتِ المُسْتَقْذَرَةِ؛ فَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَضَابِطُ المُسْتَقْذَرِ مَا اسْتُقْذِرَ فِي القَرْنِ الأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الضَّارَّاتُ مُحَرَّمَةٌ؛ كَذَوَاتِ السُّمُومِ، مِثْلَ: الدَّابِّ وَنَحْوِهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ). فَكُلُّ مُحَرَّمٍ خَبِيثٌ.
وَقَدْ يَحْرُمُ المَأْكُولُ لِعِلَّةٍ، فَيَدُورُ الحُكْمُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو الثَّابِتِ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الجَلَّالَةِ؛ يَعْنِي الَّتِي تَتَغَذَّى عَلَى النَّجَاسَاتِ وَالجِيَفِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَوَثَّقَ رِجَالَهُ الهَيْثَمِيُّ.
وَيَحْرُمُ مَا أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: (لَا أَعْلَمُ بَيْنَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ خِلَافًا أَنَّ القِرْدَ لَا يُؤْكَلُ).
وَمِنَ المُحَرَّمَاتِ مَا أُمِرْنَا بِقَتْلِهِ؛ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالغُرَابُ الأَبْقَعُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ، وَالحُدَيَّا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. أَوْ نُهِينَا عَنْ قَتْلِهِ؛ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – الثَّابِتِ، قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ مَا تَوَلَّدَ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، كَالبَغْلِ المُتَوَلَّدِ بَيْنَ الحِمَارِ الإِنْسِيِّ وَالخَيْلِ، وَالسَّمْعِ المُتَوَلَّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ.
وَقَدْ يَحْرُمُ المَطْعُومُ لِسَبَبٍ، كَذَبِيحَةِ الكَافِرِ، أَوْ يَحِلُّ لِعَارِضٍ كَالضَّرُورَةِ إِلَى أَكْلِهِ.
وَمَا كَانَ مِنَ الشُّبُهَاتِ كَالقُنْفُذِ؛ لِلاخْتِلَافِ فِي حِلِّهِ وَحُرْمَتِهِ: فَيُتَّقَى؛ لِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: (فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(108)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ يُعْتَبَرُ الخُلْعُ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَمْ كُبْرَى؟ وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ إِرْجَاعَ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الخُلْعِ، هَلْ يَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ حَلَّ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِالخُلْعِ كَمَا يَكُونُ بِالطَّلَاقِ، إِلَّا أَنَّهُ وَقَعَ خِلَافٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ، هَلِ الخُلْعُ فَسْخٌ أَمْ طَلَاقٌ، أَمْ يُعْتَبَرُ فَسْخًا، إِلَّا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ فَيُعْتَبَرُ طَلَاقًا؟
وَالأَظْهَرُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَقَالَ: "إِنَّهُ المَنْصُوصُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ". انتهى.
وَعَنْ طَاوُسَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَأَلَهُ، فَقَالَ: رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، أَيَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ لِيَنْكِحْهَا، لَيْسَ الخُلْعُ بِطَلَاقٍ، ذَكَرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ وَآخِرِهَا، وَالخُلْعَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ الخُلْعُ بِشَيْءٍ.
قَالُوا: "وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَكَانَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلْقَتَيْنِ ثَالِثًا، وَكَانَ قَوْلُهُ: "فَإِنْ طَلَّقَهَا" بَعْدَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى الطَّلَاقِ الرَّابِعِ، فَكَانَ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُتَعَلِّقًا بِأَرْبَعِ تَطْلِيقَاتٍ".
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَنَّ الخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَسْخٌ؛ هُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسَ، وَعِكْرِمَةَ، وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي القَدِيمِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ".
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَلِلْعُلَمَاءِ فِيمَا إِذَا وَقَعَ الخُلْعُ مُجَرَّدًا عَنِ الطَّلَاقِ لَفْظًا وَنِيَّةً ثَلَاثَةُ آرَاءٍ، وَهِيَ أَقْوَالٌ لِلشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهَا: مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ الجَدِيدَةِ؛ أَنَّ الخُلْعَ طَلَاقٌ، وَهُوَ قَوْلُ الجُمْهُورِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي القَدِيمِ؛ أَنَّهُ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَا يُقَوِّيهِ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَوَى بِالخُلْعِ الطَّلَاقَ، هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ وَرَجَّحَ الإِمَامُ عَدَمَ الوُقُوعِ، وَصَرَّحَ أَبُو حَامِدٍ وَالأَكْثَرُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَنَقَلَهُ الخَوَارِزْمِيُّ عَنْ نَصِّ القَدِيمِ، قَالَ: "هُوَ فَسْخٌ لَا يَنْقُصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَا بِهِ الطَّلَاقَ".
وَيَخْدِشُ فِيمَا اخْتَارَهُ الإِمَامُ أَنَّ الطَّحَاوِيَّ نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَوَى بِالخُلْعِ الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَأَنَّ مَحَلَّ الخِلَافِ فِيمَا إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالطَّلَاقِ وَلَمْ يَنْوِهِ.
وَالثَّالِثُ: إِذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ أَصْلًا، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي "الأُمِّ"، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ، أَنَّهُ آخِرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ". انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: "اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الخُلْعِ، هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ، فَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ: هُوَ طَلَاقٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. فَمَنْ نَوَى بِالخُلْعِ تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَزِمَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا كَانَ ثَلَاثًا، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إِنْ نَوَى بِالخُلْعِ طَلَاقًا وَسَمَّاهُ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا وَلَا سَمَّى لَمْ تَقَعْ فُرْقَةٌ، قَالَهُ فِي القَدِيمِ ... وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُسُ، وَعِكْرِمَةُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ".
(109)
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).
فأجاب: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَهُ عَلَامَةٌ تُمَيِّزُهُ، حَيْثُ يَقُومُ وَبِهِ خَبَلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَالمَجْنُونِ الَّذِي يُخْنَقُ وَيُصْرَعُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا، لَكِنَّ آكِلَ الرِّبَا يَرْبُو الرِّبَا فِي بَطْنِهِ، فَيُرِيدُ الإِسْرَاعَ فَيَسْقُطُ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ المُتَخَبِّطِ مِنَ الجُنُونِ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَمِنْ عُقُوبَةِ المُرَابِي عَلَى أَكْلِ الرِّبَا، وَهِيَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ: مَا جَاءَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ غَدَاةٍ: "إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالَا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ، حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ، فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ، فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالَا لِي: إِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ فِي الرِّبَا وَالمُرَابِينَ، وَمَا تَوَعَّدَهُمُ اللهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، تَبْعَثُ عَلَى تَجَنُّبِهِ، وَالبُعْدِ عَنْهُ، وَاتِّقَاءِ شُبْهَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ - يَا لَلْأَسَفِ - تَهَاوَنَ فِيهِ سَوَادٌ عَظِيمٌ، مِصْدَاقًا لِمَا رَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي خَيْرَةَ، وَهُوَ مَقْبُولٌ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي سَمَاعِهِ مِنْهُ خِلَافٌ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ".
قَالَ الحَاكِمُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي سَمَاعِ الحَسَنِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنْ صَحَّ سَمَاعُهُ مِنْهُ فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. اهـ
قَالَ الذَّهَبِيُّ: سَمَاعُ الحَسَنِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا صَحِيحٌ.
(110)
مَنْ قَالَ: عَلَيَّ الحَرَامُ، هَلْ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكُمْ، هَلْ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ الحَرَامُ، لَا أَفْعَلُ، ثُمَّ فَعَلَ، عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؟
فَأَجَابَ: قَوْلُ: عَلَيَّ الحَرَامُ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا يَمِينٌ، إِنْ لَمْ يُوفِ بِهَا حَنِثَ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ الطَّلَاقَ أَوِ الظِّهَارَ، فَلَهُ مَا نَوَى، وَلَا يَنْبَغِي الحَلِفُ إِلَّا بِاللهِ، وَلَا يَنْبَغِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: فِي الْحَرَامِ يُكَفَّرُ، وَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ). وَحُكِيَ عَنْ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ الحَرَامَ يَمِينٌ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "أَفْتَى جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ – كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ - أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ: إِمَّا "كَفَّارَةً كُبْرَى" كَالظِّهَارِ، وَإِمَّا "كَفَّارَةً صُغْرَى" كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَقَالَ: "وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ، وَالظِّهَارِ، وَالْحَرَامِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِتَاقِ، وَالْكُفْرِ؛ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ عَلَيَّ الْحَرَامُ، أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي، لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، أَوْ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا فَإِنِّي يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ؛ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْعُلَمَاءِ فِيهَا "ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ"، فَقِيلَ: إِذَا حَنِثَ يَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ، وَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ".
(111)
الحُكْمُ فِي قَوْلِ: لَا شَغَلَنَا اللهُ إِلَّا فِي طَاعَتِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ قَوْلِ: لَا شَغَلَنَا اللهُ إِلَّا فِي طَاعَتِهِ، إِذِ العِبَادَةُ لَيْسَتْ شُغْلًا؟
فأجاب: لَا مَانِعَ مِنْ قَوْلِ: "لَا شَغَلَنَا اللهُ إِلَّا فِي طَاعَتِهِ"، وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَالمَقْصُودُ بِالشُّغْلِ هُنَا الاهْتِمَامُ، وَصَرْفُ الوَقْتِ فِي العِبَادَةِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: (إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا).
(112)
لَغْوُ الأَيْمَانِ، وَكَفَّارَتُهُ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا هُوَ لَغْوُ اليَمِينِ، وَهَلْ فِيهِ كَفَّارَةٌ؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ)؛ فَاليَمِينُ اللَّغْوُ هِيَ الَّتِي لَمْ يَعْقِدْ قَلْبُكَ عَلَيْهَا، فَلَسْتَ تَقْصِدُ اليَمِينَ، وَإِنَّمَا درجت على لسانك قال تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ)، فَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَتْ فِيهَا كَفَّارَةٌ، قَالَ المَرْوَزِيُّ: "لَغْوُ اليَمِينِ الَّتِي اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَغْوٌ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، فِي حَدِيثِهِ وَكَلَامِهِ، غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِلْيَمِينِ وَلَا مُرِيدِهَا".
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: اللَّغْوُ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ المُنْذِرِ، وَالبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَغْوُ اليَمِينِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي (المُوَطَّأِ)، وَوَكِيعٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي (الأُمِّ)، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالبُخَارِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ المُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي "سُنَنِهِ" مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ" فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، وَكَلَّا وَاللهِ، زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَصِلُ بِهَا كَلَامَهُ).
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(113)
هَلْ لِصَاحِبِ الحَدَثِ المُسْتَمِرِّ أَنْ يُصَلِّيَ الضُّحَى بِوُضُوءِ الفَجْرِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: إِذَا تَوَضَّأَ مَنْ بِهِ حَدَثٌ مُسْتَمِرٌّ لِصَلَاةِ الفَجْرِ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الوُضُوءِ سُنَّةَ الضُّحَى؟
فأجاب: مَنْ بِهِ حَدَثٌ مُسْتَمِرٌّ كَسَلَسِ البَوْلِ، وَخُرُوجِ الرِّيحِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الأَحْدَاثِ: يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَهُوَ أَحْوَطُ؛ لِحَدِيثِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهَا وَوَقْفِهَا عَلَى عُرْوَةَ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّ العُلَمَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الوَقْتِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ؛ هَلْ لِمَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ بِوُضُوءِ الفَجْرِ سُنَّةَ الضُّحَى وَصَلَاةَ العِيدِ وَغَيْرَهَا، أَوْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِوُضُوءِ سُنَّةِ الضُّحَى؟ أَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الوُضُوءَ؟ وَهُوَ الأَحْوَطُ، وَعَلَيْهِ: فَإِنَّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ مُتَوَاصِلٌ يَتَوَضَّأُ مِنْ جَدِيدٍ لِسُنَّةِ الضُّحَى وَصَلَاةِ العِيدِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَكْتَفِي بِوُضُوئِهِ لِصَلَاةِ الفَجْرِ، إِلَّا أَنْ يَجِدَ مَشَقَّةً وَحَرَجًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وَلِإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ المُسْتَحَاضَةِ؛ تَوَضَّأَتْ لِصَلَاةِ الفَجْرِ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَهِيَ تُرِيدُ أَنْ تَقْضِيَ صَلَاةَ الفَائِتَةِ، أَتُصَلِّي بِوُضُوئِهَا ذَلِكَ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ تَتَوَضَّأُ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ وَقْتِ الفَجْرِ.
قَالَ إِسْحَاقُ: أَصَابَ؛ لِأَنَّ المُسْتَحَاضَةَ عَلَيْهَا الفَرْضُ أَنْ تَتَوَضَّأَ بِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ ذَهَبَ وَقْتُ الغَدَاةِ، وَصَارَ وُضُوؤُهَا مُنْتَقِضًا".
(114)
صَاحِبُ سَلَسِ البَوْلِ وَطَهَارَةُ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ، هَلْ يَلْزَمُهُ طَهَارَةُ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ؟
فأجاب: مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ طَهَارَةُ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ كَغَيْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، وَلِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ).
لَكِنَّ صَاحِبَ السَّلَسِ وَالمُسْتَحَاضَةَ وَمَنْ بِهِ جُرُوحٌ وَنَحْوَهُمْ مِمَّنِ النَّجَاسَةُ مَعَهُ مُسْتَمِرَّةٌ: يُعْفَى عَنْهُمْ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَوَضَّؤُوا لَهَا، حَتَّى يَخْرُجَ ذَلِكَ الوَقْتُ، ثُمَّ يَتَطَهَّرُوا بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ البَدَنِ وَالثِّيَابِ؛ لِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي). قَالَ: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَالمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، قَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا - إِلَى قَوْلِهِ - رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "قَالَ: نَعَمْ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ". رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدْعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ لَهَا: لَا، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَقَدْ أُعِلَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ حَبِيبًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ، فَإِنْ كَانَ عُرْوَةُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، فَالْإِسْنَادُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ مُدَلِّسٌ، وَإِنْ كَانَ عُرْوَةُ هُوَ الْمُزَنِيُّ فَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(115)
صَاحِبُ الحَدَثِ الدَّائِمِ، هَلْ يَلْزَمُهُ الوُضُوءُ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ إِذَا حَافَظَ عَلَى وُضُوئِهِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ، إِذَا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، ثُمَّ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ لَمْ يُحْدِثْ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الوُضُوءُ؟
فأجاب: لَا يَلْزَمُ مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ، إِذَا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الأُخْرَى وَهُوَ لَمْ يُحْدِثْ: الوُضُوءُ، أَمَّا حَدِيثُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي). قَالَ: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. فَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ أَحْدَثَ بَعْدَ وُضُوئِهِ.
(116)
لُبْسُ الخُفَّيْنِ لِمَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ يَصِحُّ لِمَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ أَنْ يَلْبَسَ الخُفَّيْنِ وَيَمْسَحَ عَلَيْهِمَا؟
فأجاب: يَصِحُّ لِمَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ إِذَا تَوَضَّأَ أَنْ يَلْبَسَ الخُفَّيْنِ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُ قَطَرَاتُ البَوْلِ قَبْلَ اللُّبْسِ لِلْعُذْرِ، فَيَمْسَحُ عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا كَانَ مُقِيمًا، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا إِذَا كَانَ مُسَافِرًا؛ لِعُمُومِ حَدِيثِ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَسَلْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ: (دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا). متفق عليه. وَلِأَبِي دَاوُدَ: (دَعِ الخُفَّيْنِ؛ فَإِنِّي أَدْخَلْتُ القَدَمَيْنِ الخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ).
وَطَهَارَةُ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الأَعْذَارِ.
(117)
إِذَا تَوَضَّأَ مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ ثُمَّ أَحْدَثَ، أَيُعِيدُ الوُضُوءَ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: إِذَا تَوَضَّأَ مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ ثُمَّ أَحْدَثَ، أَيُعِيدُ الوُضُوءَ؟
فأجاب: مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ الدَّائِمُ يَتَوَضَّأُ، وَيَضَعُ مَنَادِيلَ وَنَحْوَهَا عَلَى ذَكَرِهِ؛ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةُ أَوْ جَاءَ سَبَبُهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ سَبَبٍ كَصَلَاةِ الكُسُوفِ، وَلَا يَضُرُّهُ نُزُولُ قَطَرَاتِ البَوْلِ بَعْدَ الوُضُوءِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وَيُصَلِّي فِيهِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي). قَالَ: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ حَدَثًا آخَرَ، كَأَنْ يُخْرِجَ رِيحًا، أَوْ يَأْكُلَ لَحْمَ جَزُورٍ، أَوْ يَنَامَ؛ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الوُضُوءَ.
(118)
الوَاجِبُ عَلَى صَاحِبِ سَلَسِ البَوْلِ فِي طَهَارَةِ ثِيَابِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ المُسْتَمِرُّ فِي طَهَارَةِ مَلَابِسِهِ؟
فأجاب: طَهَارَةُ البَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالبُقْعَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَلَى صَاحِبِ الحَدَثِ المُسْتَمِرِّ، لَكِنَّ الَّذِي بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ؛ يَخْرُجُ مِنْهُ بَوْلٌ أَوْ دَمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَيُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِالاسْتِنْجَاءِ وَغَسْلِ مَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ، أَوْ يَلْبَسُ ثِيَابًا طَاهِرَةً، وَيَضَعُ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ حَائِلٍ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ، وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ العِلْمِ بِوُجُوبِ التَّحَفُّظِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الحَائِلُ، أَوْ طَهَارَةُ البَدَنِ، وَالثِّيَابِ، وَالبُقْعَةِ؛ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدْعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ لَهَا: لَا، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَقَدْ أُعِلَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ حَبِيبًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ، فَإِنْ كَانَ عُرْوَةُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، فَالْإِسْنَادُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ مُدَلِّسٌ، وَإِنْ كَانَ عُرْوَةُ هُوَ الْمُزَنِيُّ فَهُوَ مَجْهُولٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(119)
صَاحِبُ الحَدَثِ الدَّائِمِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ المُبْتَلَى بِحَدَثٍ دَائِمٍ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ؟
فأجاب: قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي). قَالَ: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ.
فَهِشَامٌ هُوَ القَائِلُ: "قَالَ أَبِي"، وَأَبُوهُ هُوَ "عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ".
وَقَدْ أَعْرَضَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ: وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ زِيَادَةُ حَرْفٍ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ. وَأَيَّدَهُ البَيْهَقِيُّ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، وَتَعَقَّبَهُمَا صَاحِبُ "الإِمَامِ" بِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. قَالَ ابْنُ المُلَقِّنِ: "وَلَمْ يَنْفَرِدْ حَمَّادُ بِذَلِكَ".
وَقَدْ تَوَجَّهَ نَقْدُ المُحَدِّثِينَ عَلَى قَوْلِ هِشَامٍ مِنْ جِهَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا قَالُوا: إِنَّهُ مُعَلَّقٌ.
وَالأُخْرَى قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" مُدْرَجٌ مَوْقُوفٌ عَلَى عُرْوَةَ.
وَرَجَّحَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ مُسْنَدٌ وَأَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ المُلَقِّنِ وَغَيْرُهُ.
وَيُقَوِّي مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ التِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مُتَّصِلًا، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدْعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، كَمَا أَعَلَّهُ أَصْحَابُ الصَّنْعَةِ الحَدِيثِيَّةِ، كَالبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْا.
وَعَنْ عَائِشَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدْعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ لَهَا: لَا، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ قَوْلِهِ: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ»، وَقَالَ: وَفِي آخِرِهِ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هُوَ قَوْلُهُ: "وَتَوَضَّئِي" وَتَرَكَهَا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ، وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَنْ تَقَدَّمَ، وَكَذَا رَوَاهَا الدَّارِمِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ، وَأَخْرَجَهَا أَيْضًا الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ أُعِلَّ الْحَدِيثُ بِأَنَّ حَبِيبًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيِّ، فَإِنْ كَانَ عُرْوَةُ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، فَالْإِسْنَادُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ مُدَلِّسٌ، وَإِنْ كَانَ عُرْوَةُ هُوَ الْمُزَنِيُّ فَهُوَ مَجْهُولٌ. وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمَعَةَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. انتهى.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَدْ رُوِيَتْ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ، وَلَعَلَّهُ أَفْتَى بِهَا مَرَّةً، وَحَدَّثَ بِهَا أُخْرَى، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ عَنْ فَاطِمَةَ نَفْسِهَا، لَا عَنْ عَائِشَةَ، فَقَدْ رَوَى عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ، أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ، فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي، فَإِنَّمَا هُوَ دَمُ عِرْقٍ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ".
وَقَدْ قَالَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالأَئِمَّةُ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: "وَمِمَّنْ قَالَ بِإِيجَابِ الوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الَّتِي يَتَمَادَى بِهَا الدَّمُ مِنْ فَرْجِهَا مُتَّصِلًا بِدَمِ المَحِيضِ: عَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَفُقَهَاءُ المَدِينَةِ: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وَالقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالحَسَنُ البَصْرِيُّ". وَسَاقَ الأَسَانِيدَ فِي ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ. انتهى.
وَفِي "مَسَائِلِ عَبْدِ اللهِ": "قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ المُسْتَحَاضَةِ، إِذَا كَانَ لَا يَرْقَأُ دَمُهَا، كَيْفَ تُصَلِّي؟ قَالَ: تَحْتَشِي وَتُصَلِّي، وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الحَصِيرِ، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.
قُلْتُ لِأَبِي: إِنْ صَلَّتْ صَلَاتَيْنِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: لَا".
(120)
هَلِ الحَدَثُ الدَّائِمُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلِ الحَدَثُ بِالرِّيحِ المُسْتَدِيمَةِ نَاقِضَةٌ لِلْوُضُوءِ؟
فأجاب: الحَدَثُ الدَّائِمُ كَسَلَسِ البَوْلِ وَالرِّيحِ وَالاسْتِحَاضَةِ وَنَحْوِهَا: يَجِبُ عَلَى المُبْتَلَى بِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُصَلِّيَ فِي الوَقْتِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَضُرُّهُ حَدَثُهُ الدَّائِمُ، وَكَذَلِكَ يُصَلِّي بِوُضُوءِ العِشَاءِ التَّرَاوِيحَ، وَيُصَلِّي التَّهَجُّدَ وَقِيَامَ اللَّيْلِ، وَلَوْ بَعْدَ مُنْتَصِفِ اللَّيْلِ، وَإِنْ جَدَّدَ الوُضُوءَ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ فَأَحْوَطُ لَهُ.
قَالَ البُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي). قَالَ: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ حِفْظُ الطَّهَارَةِ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي، وَلَا يَضُرُّهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الأَئِمَّةِ، وَأَكْثَرُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَقَدْ تَنَازَعَ العُلَمَاءُ فِي المُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ وَأَمْثَالِهِمَا، مِثْلِ مَنْ بِهِ رِيحٌ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ الوَجْهِ المُعْتَادِ، وَكُلِّ مَنْ بِهِ حَدَثٌ نَادِرٌ. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ ذَلِكَ يَنْقُضُ الوُضُوءَ بِالحَدَثِ المُعْتَادِ. وَلَكِنَّ الجُمْهُورَ - كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الحُفَّاظِ؛ فَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرَ قَوْلَيِ العُلَمَاءِ: أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ. وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا فَهَذَا لَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ كَانَتْ تُصَلِّي وَالدَّمُ يَقْطُرُ مِنْهَا، فَيُوضَعُ لَهَا طَسْتٌ يَقْطُرُ فِيهِ الدَّمُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، صَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا. وَمَا زَالَ المُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ".
(121)
مَتَى يَتَوَضَّأُ صَاحِبُ الحَدَثِ الدَّائِمِ لِصَلَاةِ الجُمُعَةِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَتَى يَتَوَضَّأُ صَاحِبُ السَّلَسِ لِصَلَاةِ الجُمُعَةِ؟
فأجاب: مَنْ بِهِ حَدَثٌ مُسْتَمِرٌّ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ لِصَلاَةِ الجُمُعَةِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الذَّهَابِ لِلْمَسْجِدِ، وَيَتَحَفَّظُ لِئَلَّا تَنْتَشِرَ النَّجَاسَةُ إِنْ كَانَ بَوْلًا وَنَحْوَهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَكَّرَ فِي الذَّهَابِ لِلْمَسْجِدِ، فَالأَحْوَطُ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ الوُضُوءَ قَبْلَ دُخُولِ الخَطِيبِ بِقَلِيلٍ، إِنْ كَانَ حَدَثُهُ الدَّائِمُ لَا يَزَالُ مَعَهُ، خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ العُلَمَاءِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ فَلْيُصَلِّ بِوُضُوءِ الضُّحَى، وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وَقَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
(122)
صَاحِبُ الحَدَثِ المُسْتَمِرِّ الَّذِي يَنْقَطِعُ آخِرَ الوَقْتِ، هَلْ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي أَمْ يَنْتَظِرُ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَنْ مَعَهُ حَدَثٌ مُسْتَمِرٌّ إِلَّا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ آخِرَ الوَقْتِ، فَهَلْ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي أَمْ يَنْتَظِرُ؟
فأجاب: مَنْ مَعَهُ حَدَثٌ مُسْتَمِرٌّ لَا يَنْقَطِعُ إِلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الوَقْتِ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَفْوِيتُ الوَقْتِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ تُجْمَعُ مَعَ الَّتِي تَلِيهَا، كَالظُّهْرِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا مَعَ العَصْرِ، إِمَّا جَمْعًا صُورِيًّا إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ جَمْعًا حَقِيقِيًّا لِيُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ العَصْرِ، فَإِنْ كَانَ تَوَقُّفُ الحَدَثِ يَتَأَخَّرُ حَتَّى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ لِلْعُذْرِ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الجُمُعَةِ، لَا يُفَوِّتُهَا لِلْحَدَثِ، وَإِنْ كَانَ يَنْقَطِعُ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ الجُمُعَةَ تَفُوتُ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الجَمَاعَةِ، إِنْ كَانَ حَدَثُهُ لَا يَنْقَطِعُ إِلَّا بَعْدَ انْصِرَافِ الإِمَامِ، انْتَظَرَ انْقِطَاعَهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَصَلَّى بِطَهَارَةٍ تَامَّةٍ، وَلَوْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الإِمَامِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(123)
إِمَامَةُ صَاحِبِ الحَدَثِ الدَّائِمِ بِغَيْرِ مِثْلِهِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ تَصِحُّ إِمَامَةُ صَاحِبِ سَلَسِ البَوْلِ بِالصَّحِيحِ؟
فأجاب: إِمَامَةُ صَاحِبِ الحَدَثِ الدَّائِمِ بِمِثْلِهِ صَحِيحَةٌ بِلَا إِشْكَالٍ.
وَأَمَّا إِمَامَتُهُ بِالصَّحِيحِ فَمَحَلُّ خِلَافٍ؛ فَيَرَى الحَنَفِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالًا مِنَ المَعْذُورِ، وَيَرَى المَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ إِمَامَتَهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَهُوَ الرَّاجِحُ، قَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، إِلَّا أَنَّ الأَوْلَى تَقْدِيمُ الصَّحِيحِ إِمَامًا؛ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ العُلَمَاءِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(124)
مَتَى يَتَوَضَّأُ مَنْ يَخْرُجُ بَوْلُهُ دُونَ إِرَادَتِهِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَتَى يَتَوَضَّأُ مَنْ بَوْلُهُ يَخْرُجُ لَا إِرَادِيًّا؟
فأجاب: يَنْقَسِمُ مَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ - وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ صَاحِبِ حَدَثٍ دَائِمٍ - إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الأَوَّلُ: مَنْ حَدَثُهُ لَا يَنْقَطِعُ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ، مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ غَيْرَ حَدَثِهِ الدَّائِمِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ - إِنْ كَانَ قَادِرًا - مِنَ البَوْلِ وَالنَّجَاسَاتِ، تَقْلِيلًا لَهَا، وَمَنْعًا مِنَ انْتِشَارِهَا.
الثَّانِي: مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِانْقِطَاعِ الحَدَثِ زَمَنًا يَكْفِي لِفِعْلِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي الوَقْتِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ تَوَقُّفَهَا؛ لِيُصَلِّيَ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ.
الثَّالِثُ: مَنْ كَانَ حَدَثُهُ مُضْطَرِبًا غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، فَتَارَةً يَنْقَطِعُ وَتَارَةً لَا يَنْقَطِعُ، وَحِينًا يَتَقَدَّمُ وَحِينًا يَتَأَخَّرُ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ مِنَ الحَدَثِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، وَلَوْ تَقَدَّمَ حَدَثُهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا، لَكِنَّهُ لَوْ تَوَضَّأَ ثُمَّ أَحْدَثَ، وَانْقَطَعَ حَدَثُهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا فِي أَثْنَائِهَا أَوْ بَعْدَهَا: تَوَضَّأَ لَهَا.
وَيَرَى بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذا الانْقِطَاعِ مُطْلَقًا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الحَرَجِ وَالمَشَقَّةِ. وَالاعْتِبَارُ بِهِ أَرْجَحُ، مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذا الانْقِطَاعِ؛ بَلْ مَتَى كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ بِهَا عُذْرٌ مِنْ هَذِهِ الأَعْذَارِ، فَتَحَرَّزَتْ وَتَطَهَّرَتْ، فَطَهَارَتُهَا صَحِيحَةٌ، وَصَلَاتُهَا بِهَا مَاضِيَةٌ، مَا لَمْ يَزُلْ عُذْرُهَا وَتَبْرَأْ مِنْ مَرَضِهَا، أَوْ يَخْرُجْ وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَوْ تُحْدِثْ حَدَثًا سِوَى حَدَثِهَا.
(125)
رُطُوبَةُ فَرْجِ المَرْأَةِ: تُنَجِّسُ الثِّيَابَ، وَتَنْقُضُ الوُضُوءَ أَمْ لَا؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ خُرُوجُ السَّائِلِ مِنْ قُبُلِ المَرْأَةِ، وَالَّذِي يُسَمَّى رُطُوبَةَ فَرْجِهَا، يَنْقُضُ الوُضُوءَ، وَيُنَجِّسُ الثِّيَابَ؟
فأجاب: رُطُوبَةُ فَرْجِ المَرْأَةِ أَوِ الإِفْرَازَاتُ - وَهُوَ السَّائِلُ الأَبْيَضُ الَّذِي اعْتَادَ النِّسَاءُ خُرُوجَهُ كَثِيرًا مِنْ فُرُوجِهِنَّ، وَتَعُمُّ بِهِ البَلْوَى - لَا يَنْقُضُ الوُضُوءَ عِنْدَ الإِمَامِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ النَّاقِضَ عِنْدَهُ هُوَ الحَدَثُ المُعْتَادُ، وَذَهَبَ المَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الرُّطُوبَةَ نَجِسَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، كَمَا ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى أَنَّ رُطُوبَةَ فَرْجِ المَرْأَةِ لَا تَنْقُضُ الوُضُوءَ، وَلَا تُنَجِّسُ البَدَنَ وَالثِّيَابَ، وَهَذَا القَوْلُ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ وَالتَّعْلِيلُ، حَيْثُ تَعُمُّ بِهِ البَلْوَى، وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، تَفْرُكُ المَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحُكُّهُ وَهُوَ مِنْ جِمَاعٍ، فَلَوْ كَانَتِ الرُّطُوبَةُ نَجِسَةً لَوَجَبَ غَسْلُ المَنِيِّ، ثُمَّ إِنَّ مَنِيَّهَا طَاهِرٌ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِهَا، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ التَّعْلِيلَاتِ، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ عَدَمَ وُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ نَاقِضٌ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وَإِنْ كَانَ الأَحْوَطُ الوُضُوءَ مِنْ خُرُوجِهِ؛ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ أَهْلِ العِلْمِ، فَالأَكْثَرُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، كَذَلِكَ الأَحْوَطُ غَسْلُ الثِّيَابِ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَجِسٌ؛ لِخُرُوجِهِ مِنَ الفَرْجِ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالمَذْيِ وَالوَدْيِ فِي كَوْنِهِ نَاقِضًا وَنَجِسًا، وَيَسْنِدُ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: {يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ؟ قَالَ: يَغْسِلُ مَا مَسَّ المَرْأَةَ مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي}. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْسُوخٌ. إِلَّا أَنْ يَشُقَّ غَسْلُهُ، فَإِنَّ المَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، قَالَ تَعَالَى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(126)
هَلْ أَصْوَاتُ الغَازَاتِ فِي البَطْنِ نَاقِضَةٌ لِلْوُضُوءِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَنْ يَسْمَعُ فِي بَطْنِهِ غَازَاتٍ كَثِيرَةً بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ، هَلْ يُعِيدُ الوُضُوءَ؟
فأجاب: أَصْوَاتُ الغَازَاتِ فِي البَطْنِ لَا تَنْقُضُ الوُضُوءَ، مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ صَاحِبُهَا بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهَا، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ المَازِنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ، قَالَ: (لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ: أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَنْفُخُ فِي مَقْعَدَتِهِ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ، وَلَمْ يُحْدِثْ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا). أَخْرَجَهُ اَلْبَزَّارُ، وَقَوَّى إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
(127)
هَلْ يُعَدُّ خُرُوجُ البَوْلِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِمُدَّةٍ مِنْ سَلَسِ البَوْلِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَنِ اعْتَادَ خُرُوجَ قَطَرَاتِ البَوْلِ بَعْدَ رُبْعِ سَاعَةٍ تَقْرِيبًا مِنْ تَبَوُّلِهِ، هَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ سَلَسِ البَوْلِ؟
فأجاب: لَا يُعَدُّ مَنْ تُعَاوِدُهُ قَطَرَاتُ البُولِ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنْ قَضَاءِ البَوْلِ ثُمَّ تَنْقَطِعُ دَائِمَ الحَدَثِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَ مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ المُسْتَمِرُّ؛ بَلْ مِثْلُ هَذَا يَنْتَظِرُ حَتَّى تَخْرُجَ القَطَرَاتُ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ تَبَوُّلِهِ مُبَاشَرَةً ثُمَّ نَزَلَتِ القَطَرَاتُ؛ أَعَادَ الوُضُوءَ، وَغَسَلَ النَّجَاسَةَ مِنْ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ.
فَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «فِيهِ الْوُضُوءُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. وَلِمُسْلِمٍ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ». وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ، وَيَتَوَضَّأُ».
وَثَبَتَ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: «كُنْتُ أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً، وَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْهُ الِاغْتِسَالَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إنَّمَا يَجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْهُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَلَفْظُهُ، قَالَ: «كُنْتُ أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ عَنَاءً، فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَجْزِيكَ أَنْ تَأْخُذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَتَرُشَّ عَلَيْهِ».
(128)
مَاذَا يَفْعَلُ صَاحِبُ سَلَسِ البَوْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَاذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ؟
فأجاب: يَجِبُ عَلَى مَنْ بِهِ سَلَسُ البَوْلِ الدَّائِمُ أَنْ يَتَوَضَّأَ عِنْدَ الصَّلَاةِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُهَا، أَوْ يَأْتِي سَبَبُهَا، إِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الأَسْبَابِ، وَيَسْتَنْجِي وَيَغْسِلُ النَّجَاسَةَ، وَيُطَهِّرُ ثِيَابَهُ، وَيَتَحَفَّظُ ثُمَّ يُصَلِّي، وَلَا يَضُرُّهُ مَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَصَلَ إِلَى ثِيَابِهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: «لَا. إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، ثُمَّ صَلِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ». وَأَشَارَ مُسْلِمٌ إِلَى أَنَّهُ حَذَفَهَا عَمْدًا.
وَصَحَّ عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَتْ: "كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ فَقَدْ مَنَعَتْنِي الصِّيَامَ وَالصَّلَاةَ، قَالَ: أَنْعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ (أَيِ القُطْنَ)؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ. قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَتَلَجَّمِي. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا – البُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ" انتهى.
وَعَنْ جَابِرٍ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى الدَّمَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنَ الدَّمِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدْعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ لَهَا: لَا، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ.
(129)
وُضُوءُ وَصَلَاةُ صَاحِبِ الحَدَثِ الدَّائِمِ تَامَّانِ، وَأَجْرُهُ كَامِلٌ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ صَلَاةُ مَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ تَامَّةٌ، وَأَجْرُهُ كَامِلٌ؟
فأجاب: وُضُوءُ وَصَلَاةُ صَاحِبِ الحَدَثِ الدَّائِمِ تَامَّانِ، وَأَجْرُهُ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ لَيْسَ بِيَدِهِ، وَإِنَّمَا كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى مِرَارًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
(130)
المَرْأَةُ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا الدَّمُ مُسْتَحَاضَةٌ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلِ المَرْأَةُ الَّتِي يَسْتَمِرُّ مَعَهَا الدَّمُ يَلْزَمُهَا الاغْتِسَالُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ؟
فأجاب: المَرْأَةُ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا الدَّمُ مُسْتَحَاضَةٌ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المُسْتَحَاضَةَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الغُسْلُ لِلْحَيْضِ، ثُمَّ الوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الجُمْهُورِ، أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الحَنَفِيَّةِ، وَتَتَحَفَّظُ وَتَغْسِلُ الدَّمَ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الاغْتِسَالُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْ تَجْمَعُ الصَّلَاتَيْنِ المَجْمُوعَتَيْنِ، وَتَغْتَسِلُ لَهُمَا غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي». قَالَ - هِشَامٌ -: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا: اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُمَا، قَالَ: "فَلْتَنْتَظِرْ قَدْرَ قُرُوئِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ، فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لِتَنْظُرْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي». قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَغَيْرُهُمْ: إنَّمَا أَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَشُكُّ أَنَّ غُسْلَهَا كَانَ تَطَوُّعًا غَيْرَ مَا أُمِرَتْ بِهِ. وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: "إِنِ اغْتَسَلَتْ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَهُوَ أَحْوَطُ".
وَثَبَتَ عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَتْ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَسْتَفْتِيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَأْمُرنِي فِيهَا؟ قَالَ: أَنعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَتَلَجَّمِي، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَاتَّخِذِي ثَوْبًا، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ، أَيَّهُمَا صَنَعْتِ أَجْزَأَ عَنْكِ، فَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللهِ، ثمَّ اغْتَسِلِي، فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ، فَتَغْتَسِلِينَ وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمريْنِ إِلَيَّ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ العَرَبِيِّ، وَحَسَّنَهُ البُخَارِيُّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيَّ: "تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ". وَلِلْبَيْهَقِيِّ نَحْوُهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ: لَكِنَّ ابْنَ عَقِيلٍ حَسَنُ الحَدِيثِ. وَتَضْعِيفُ ابْنِ مَنْدَهْ وَابْنِ حَزْمٍ لِلْحَدِيثِ مَرْجُوحٌ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ تَرَكَ الْعُلَمَاءُ الْقَوْلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي مَا قَالَ نَظَرٌ؛ بَلْ قَالُوا بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(131)
هَلْ تَغْتَسِلُ المُسْتَحَاضَةُ وُجُوبًا لِكُلِّ صَلَاةٍ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلِ الاغْتِسَالُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَاجِبٌ عَلَى المُسْتَحَاضَةِ؟
فأجاب: يَجِبُ عَلَى المُسْتَحَاضَةِ فَقَطْ الغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِلطُّهْرِ مِنَ الحَيْضِ، وَيَجِبُ الوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ لِلطُّهْرِ مِنَ الحَدَثِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا الغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَهَا الجَمْعُ الصُّورِيُّ أَوِ الحَقِيقِيُّ بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ، وَالغُسْلُ مَرَّةً لَهُمَا، وَبَيْنَ العِشَائَيْنِ، وَالغُسْلُ مَرَّةً لَهُمَا، وَالغُسْلُ لِصَلَاةِ الفَجْرِ.
رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي». قَالَ - هِشَامٌ -: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ.
وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي امْرَأَةٍ تُهْرَاقُ الدَّمَ، فَقَالَ: لِتَنْظُرْ قَدْرَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ وَقَدْرَهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ، فَتَدْعُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لْتَغْتَسِلْ وَلْتَسْتَثْفِرْ، ثُمَّ تُصَلِّي». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: إسْنَادُهُ عَلَى شَرْطَيْهِمَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَنَحْوَهُ المُنْذِرِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، إلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهَا.
وَعَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا: اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُمَا، قَالَ: "فَلْتَنْتَظِرْ قَدْرَ قُرُوئِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ، فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لِتَنْظُرْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي».
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ اسْتُحِيضَتْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ تُصَلِّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُبْحَانَ اللهِ! هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، لِتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ، فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ المَاءِ فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلًا وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلًا، وَتَتَوَضَّأُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَقَدْ أَعَلَّهُ بَعْضُهُمْ. وَعَنِ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، فَقَالَ: تَجْلِسُ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتُؤَخِّرُ الظُّهْرَ، وَتُعَجِّلُ الْعَصْرَ، وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَتُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ، وَتُعَجِّلُ الْعِشَاءَ، وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَتَغْتَسِلُ لِلْفَجْرِ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: "أَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ثَابِتٌ، وَحُكِيَ عَنْ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ تَضْعِيفُهَا، وَقَالُوا: أَقْوَاهَا حَدِيثُ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ". وَثَبَتَ عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَتْ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَسْتَفْتِيهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَأْمُرنِي فِيهَا؟ قَالَ: أَنعَتُ لَكِ الكُرْسُفَ؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَتَلَجَّمِي، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَاتَّخِذِي ثَوْبًا، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا، فَقَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ، أَيَّهُمَا صَنَعْتِ أَجْزَأَ عَنْكِ، فَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللهِ، ثمَّ اغْتَسِلِي، فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ، فَتَغْتَسِلِينَ وَتُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمريْنِ إِلَيَّ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ العَرَبِيِّ، وَحَسَّنَهُ البُخَارِيُّ.
(132)
المُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِلْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَتُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَتْ مِنْ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ تَتَوَضَّأُ المُسْتَحَاضَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَمْ يَكْفِيهَا الوُضُوءُ لِلْوَقْتِ لِحَدِيثِ: (وَتَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ)؟
فأجاب: الحَدِيثُ الثَّابِتُ - عَلَى خِلَافٍ فِي رَفْعِ آخِرِهِ وَوَقْفِهِ عَلَى عُرْوَةَ، وَإِسْنَادِهِ أَوْ تَعْلِيقِهِ - مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا، إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي). قَالَ: وَقَالَ أَبِي: "ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ" حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: "المُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ"، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: غَرِيبٌ جِدًّا.
وَحَدِيثُ: "تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ"، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: الرِّوَايَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، لَا لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي وُضُوءِ المُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَعْذَارِ دَائِمِي الحَدَثِ:
فَالقَوْلُ الأَوَّلُ: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا وُضُوءٌ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الحَدَثَ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَلَا فَائِدَةَ مِنَ الوُضُوءِ مَعَ اسْتِمْرَارِ الحَدَثِ؛ وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لِفَاطِمَةَ: "فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، ثُمَّ صَلِّي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالوُضُوءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ المَالِكِيَّةِ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَيُّوبَ، وَطَائِفَةٍ. وَهُوَ اخْتِيَارِ شَيْخِنَا ابْنِ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللهُ.
القَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهَا الوُضُوءُ لِلْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا ابْنِ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ -، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَاذَا تُصَلِّي بِهِ؟
فَالقَوْلُ الأَوَّلُ: تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ.
القَوْلُ الثَّانِي: تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرْضٍ، وَتُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ فِي الوَقْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.
القَوْلُ الثَّالِثُ: تَتَوَضَّأُ لِلْوَقْتِ، وَتُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَتْ مِنْ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ، مَا لَمْ يَخْرُجِ الوَقْتُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا القَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ، فَتُصَلِّي الفَوَائِتَ، وَتَجْمَعُ فِي السَّفَرِ، وَتُرَاعِي المَشَقَّةَ، فَلَوِ احْتَاجَتْ إِلَى أَنْ تَتَوَضَّأَ قَبْلَ الوَقْتِ، وَشَقَّ عَلَيْهَا الوُضُوءُ بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ، وُضُوؤُهَا صَحِيحٌ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(133)
التَّسْبِيحُ بِالمَسْبَحَةِ .. هَلْ هُوَ جَائِزٌ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ التَّسْبِيحِ بِالمَسْبَحَةِ؟
فأجاب: التَّسْبِيحُ بِالأَنَامِلِ أَفْضَلُ؛ لِمَا جَاءَ عَنْ يُسَيْرَةَ بِنْتِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ؛ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ حُسِّنَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: (خَصْلَتَانِ أَوْ خَلَّتَانِ، لَا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، هُمَا يَسِيرٌ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ؛ يُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُكَبِّرُ عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُ مِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ، وَيُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ، وَيَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَأَلْفٌ فِي الْمِيزَانِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: (يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَمِينِهِ). حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ.
وَأَمَّا التَّسْبِيحُ المُطْلَقُ الَّذِي لَا يَعْقُبُ الصَّلَاةَ بِالمَسْبَحَةِ عَلَى صِفَةٍ مُعْتَدِلَةٍ لَا تُشْبِهُ فِعْلَ الصُّوفِيَّةِ، وَالتَّسْبِيحُ بِالخَاتَمِ الإِلِكْتُرُونِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى - أَوْ قَالَ: حَصًى - تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَل؟ سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللهُ أَكْبَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَالحَمْدُ للهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ مِثْلُ ذَلِكَ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَقَوَّاهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالمُنْذِرِيُّ.
(134)
هَلِ النَّظَرُ لِخَطِيبِ الجُمُعَةِ حَالَ الخُطْبَةِ مِنَ السُّنَّةِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ شَيْخَنَا، هَلْ مِنَ السُّنَّةِ النَّظَرُ لِلْخَطِيبِ حَالَ الخُطْبَةِ؟
فأجاب: يُسْتَحَبُّ اسْتِقْبَالُ الخَطِيبِ بِالوَجْهِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: بَابٌ يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ القَوْمَ، وَاسْتِقْبَالُ النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا خَطَبَ، وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ، الإِمَامَ.
وَصَحَّحَ ابْنُ حَجَرٍ إِسْنَادَ أَثَرِ أَنَسٍ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي اسْتِقْبَالِ الإِمَامِ إِذَا خَطَبَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الكُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا اسْتَوَى عَلَى المِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا». قَالَ أَبُو عِيسَى: وَفِي البَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، «وَحَدِيثُ مَنْصُورٍ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ»، وَمُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ ضَعِيفٌ ذَاهِبُ الحَدِيثِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِمْ: يَسْتَحِبُّونَ اسْتِقْبَالَ الإِمَامِ إِذَا خَطَبَ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، قَالَ أَبُو عِيسَى: وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا البَابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ".
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا قَامَ عَلَى المِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَوَثَّقَ رِجَالَهُ البُوصِيرِيُّ، وَقَالَ: إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ العُلَمَاءِ. انتهى.
وَقَالَ ابْنُ المَلَكِ: فَالسُّنَّةُ أَنْ يَتَوَجَّهُ القَوْمُ الخَطِيبَ، وَالخَطِيبُ القَوْمَ. انتهى.
وَبِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ إِلَى الخَطِيبِ فَهُوَ الأَصْلُ فِي الاسْتِقْبَالِ؛ لِأَنَّهُ أَدْعَى لِاجْتِمَاعِ الحَوَاسِّ، القَلْبِ، وَالعَيْنِ، وَالأُذُنِ، فَإِنْ رَأَى أَنَّ النَّظَرَ لِلْأَرْضِ أَدْعَى لِلْفَهْمِ وَالتَّأَثُّرِ؛ فَلَا مَانِعَ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.