نِهَايَةُ العَالِمِ «بَلْعَمَ بْنِ أَبُرَ» ح 1 قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ...). الآيَة. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ لَهُ: "بَلْعَمُ بْنُ أَبُرَ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، يُقَالُ لَهُ: "بَلْعَمُ"، آتَاهُ اللهُ آيَاتِهِ فَتَرَكَهَا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: "كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، يُقَدِّمُونَهُ فِي الشَّدَائِدِ، بَعَثَهُ نَبِيُّ اللهِ مُوسَى إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ يَدْعُوهُ إِلَى اللهِ، فَأَقْطَعَهُ وَأَعْطَاهُ، فَتَبِعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِينَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: "آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا" وَلَمْ يَقُلْ: آيَةً، وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ أَلْفَ مَحْبَرَةٍ لِلْمُتَعَلِّمِينَ الذِينَ يَكْتُبُونَ عَنْهُ، ثُمَّ صَارَ بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فِي أَنْ "لَيْسَ لِلْعَالَمِ صَانِعٌ". انتهى. وَقَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ: "يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا؛ أَيْ: عَلَّمْنَاهُ كِتَابَ اللهِ، فَصَارَ العَالِمَ الكَبِيرَ، وَالحَبْرَ النِّحْرِيرَ". انتهى. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا)، قَالَ: هُوَ صَاحِبُكُمْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ يُشْبِهُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ اتَّصَلَ إِلَيْهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الشَّرَائِعِ المُتَقَدِّمَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ. قَالَ: وَأَمَّا المَشْهُورُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ". انتهى. وَالمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ قِصَّةِ هَذَا العَالِمِ فِي القُرْآنِ: أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ عَالِمٍ وَعَابِدٍ وَدَاعِيَةٍ مِنْهَا العِظَةَ وَالعِبْرَةَ؛ كَيْفَ آلَتْ بِهَذَا العَالِمِ الأَسْبَابُ الرَّدِيئَةُ، وَالعَوَامِلُ الخَسِيسَةُ، إِلَى أَنْ تَحَوَّلَ مِنْ عَالِمٍ مُسْلِمٍ رَاشِدٍ إِلَى مُلْحِدٍ كَافِرٍ غَاوٍ ضَالٍّ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، وَمِنَ الضَّلَالَةِ بَعْدَ الهِدَايَةِ، وَمِنَ الانْتِكَاسَةِ بَعْدَ الاسْتِقَامَةِ، فَكُلُّ رَمْزٍ مِنْ رُمُوزِ هَذِهِ المِلَّةِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى العِلْمِ وَالسُّنَّةِ، فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُ، أَوْ مَنْهَجُهُ وَفِكْرُهُ وَتَوَجُّهَاتُهُ، بَعْدَ صَلَاحِهَا؛ فَهُوَ شَبِيهٌ بِـ (بَلْعَمَ)، وَقَدْ جَاءَتِ الإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي أَثَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَإِلَيْكَ بَعْضَ الدُّرُوسِ الوَعْظِيَّةِ، وَالعِبَرِ المَرْعِيَّةِ، مِنَ المَعْنَى الإِجْمَالِيِّ لِلْآيَةِ. ح 2 قَالَ ابْنُ القَيِّمِ تَحْتَ الآيَةِ التِي نَزَلَتْ فِي (بَلْعَمَ)، العَالِمِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قال: (فَهَذَا مَثَلُ عَالِمِ السُّوءِ الَّذِي يَعْمَلُ بِخِلَافِ عِلْمِهِ، وَتَأَمَّلْ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ذَمِّهِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ ضَلَّ بَعْدَ الْعِلْمِ، وَاخْتَارَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ عَمْدًا لَا جَهْلًا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فَارَقَ الْإِيمَانَ مُفَارقَةَ مَنْ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا، فَإِنَّهُ انْسَلَخَ مِنَ الْآيَاتِ بِالْجُمْلَةِ، كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ قِشْرِهَا، وَلَوْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَنْسَلِخْ مِنْهَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَدْرَكَهُ وَلَحِقَهُ، بِحَيْثُ ظَفِرَ بِهِ وَافْتَرَسَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ، وَلَمْ يَقُلْ تَبِعَهُ، فَإِنَّ فِي مَعْنَى أَتْبَعَهُ أَدْرَكَهُ وَلَحِقَهُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَبِعَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ غَوِيَ بَعْدَ الرُّشْدِ، وَالغَيُّ الضَّلَالُ فِي الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ، وَهُوَ أَخَصُّ بِفَسَادِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ، كَمَا أَنَّ الضَّلَالَ أَخَصُّ فَسَادِ الْعِلْمِ وَالاعْتِقَادِ، فَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الآخَرُ، وَإِنِ اقْتَرَنَا فَالْفَرْقُ مَا ذُكِرَ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَرْفَعَهُ بِالْعِلمِ، فَكَانَ سَبَبَ هَلَاكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رُفِعَ بِهِ فَصَارَ وَبَالًا عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَأَخَفَّ لِعَذَابِهِ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ خِسَّةِ هِمَّتِهِ، وَأَنَّهُ اخْتَارَ الْأَسْفَلَ الْأَدْنَى عَلَى الْأَشْرَفِ الْأَعْلَى. وَسَابِعُهَا: أَنَّ اخْتِيَارَهُ لِلْأَدْنَى لَمْ يَكُنْ عَنْ خَاطِرِ وَحَدِيثِ نَفْسٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَنْ إِخْلَادٍ إِلَى الأَرْضِ، وَمَيْلٍ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى مَا هُنَاكَ، وَأَصْلُ الإِخْلَادِ اللُّزُومُ عَلَى الدَّوَامِ .. وَعَبَّرَ عَنْ مَيْلِهِ إِلَى الدُّنْيَا بِإِخْلَادِهِ إِلَى الأَرْضِ؛ لِأَن الدُّنْيَا هِيَ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا، وَمَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مِنَ الزِّينَةِ وَالْمَتَاعِ. وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ رَغِبَ عَنْ هُدَاهُ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَجَعَلَ هَوَاهُ إِمَامًا لَهُ يَقْتَدِي بِهِ وَيَتَّبِعُهُ. وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالكَلْبِ الَّذِي هُوَ أَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ هِمَّةً، وَأَسْقَطُهَا نَفْسًا، وَأَبْخَلُهَا وَأَشَدُّهَا كَلَبًا؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ كَلْبًا. وَعَاشِرُهَا: أَنَّهُ شَبَّهَ لَهَثَهُ عَلَى الدُّنْيَا وَعَدَمَ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَجَزَعَهُ لِفَقْدِهَا، وَحِرْصَهُ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِلَهْثِ الْكَلْبِ فِي حَالَتَيْ تَرْكِهِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ، وَهَكَذَا هَذَا إِنْ تُرِكَ فَهُوَ لَهْثَانُ عَلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ وُعِظَ وَزُجِرَ فَهُوَ كَذَلِكَ، فَاللَّهْثُ لَا يُفَارِقهُ فِي كُلِّ حَالٍ كَلَهْثِ الْكَلْبِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَة: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إِعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إِلَّا الْكَلْبَ، فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الكَلَالِ وَحَالِ الرَّاحَةِ، وَحَالِ الرِّيِّ وَحَالِ الْعَطَشِ، فَضَرَبَهُ اللهُ مَثَلًا لِهَذَا الْكَافِرِ فَقَالَ: إِنْ وَعَظْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ، كَالْكَلْبِ إِنْ طَرَدْتَهُ لَهَثَ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ عَلَى حَالِهِ لَهَثَ، وَهَذَا التَّمْثِيلُ لَمْ يَقَعْ بِكُلِّ كَلْبٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالكَلْبِ اللَّاهِثِ، وَذَلِكَ أَخَسُّ مَا يَكُونُ وَأَشْنَعُهُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: فَصْلٌ: فَهَذَا حَالُ الْعَالِمِ الْمُؤثِرِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَمَّا العَابِدُ الْجَاهِلُ، فَآفَتُهُ مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنِ الْعِلْمِ وَأَحْكَامِهِ، وَغَلَبَةِ خَيَالِهِ وَذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَمَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: احْذَرُوا فتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَفِتْنَةَ العَابِدِ الْجَاهِلِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، فَهَذَا بِجَهْلِهِ يَصُدُّ عَنِ الْعِلْمِ وَمُوجِبِهِ، وَذَاكَ بِغَيِّهِ يَدْعُو إِلَى الْفُجُورِ. انتهى. ح 3 اتِّبَاعُ الهَوَى أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنِ المَعْنِيِّ فِي الآيَةِ "بَلْعَمَ" أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ آتَاهُ اللهُ الآياتِ وَالكَرَامَاتِ؛ أَنَّهُ خَلَعَ لِبَاسَ السَّعَادَةِ وَاسْتَعَاضَ عَنْهُ بِلِبَاسِ الشَّقَاوَةِ، وَخَرَجَ مِنْ حَظِيرَةِ العِلْمِ إِلَى حَظِيرَةِ الجَهْلِ، وَسِرُّ هَذَا التَّرَدِّي وَالهَلَاكِ هو اتِّبَاعُهُ لِهَوَى نَفْسِهِ، وَالهَوَى شَرُّ إِلَهٍ يُعْبَدُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَهُوَ رَأْسُ المَعَاصِي وَالفَسَادِ، وَمِحْوَرُ الغَيِّ وَالكَسَادِ، وَأُمُّ الشُّرُورِ وَالخَبَائِثِ؛ قَالَ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). فَوَيْلٌ لِمَنِ اتَّخَذَ دِينَهُ بِهَوَاهُ، يَتَخَيَّرُ مِنْ مُتَشَابِهِ النُّصُوصِ وَمِنَ الحِكَايَاتِ وَالأَقْوَالِ مَا يُوَافِقُ شَهْوَتَهُ، قَدْ أَعْمَى الهَوَى بَصِيرَتَهُ، حَتَّى أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ، وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَصَارَ يَرَى أَنَّ الحَقَّ مَا سَلَكَهُ، وَالبَاطِلَ مَا تَرَكَهُ، وَالصَّحِيحَ مَا قَالَهُ، وَالصَّوَابَ مَا فَعَلَهُ، وَالنُّصْحَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَالحِكْمَةَ فِي تَصَرُّفِهِ. يَلْهَثُ بِشِدَّةٍ وَمُخَاطَرَةٍ وَرَاءَ المَالِ، وَيتَحَجَّجُ بِمَا ثَبَتَ مَرْفُوعًا: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ. يَذْهَبُ إِلَى مَوَاطِنِ المُغْرِيَاتِ وَالصَّوَارِفِ، فَيَرْتَمِي فِي أَحْضَانِهَا، وَيُبَرِّرُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ فِقْهُ الوَاقِعِ. يَجْثُو فِي حِمَى الفِتَنِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي بَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا، وَيُقَدِّمُ التَّنَازُلَاتِ وَالتَّسْهِيلَاتِ، وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ بِالحِكْمَةِ وَالرِّفْقِ الذِي أُمِرْنَا بِهِ، وَأَنَّ التَّيْسِيرَ فِيمَا رَأَى، وَالتَّعْسِيرَ فِيمَا رَأَى غَيْرُهُ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ. وَالتَّبْشِيرَ فِي مُدَاهَنَتِهِ، وَالتَّنْفِيرَ فِي المَوَاقِفِ السِّلْمِيَّةِ الشُّجَاعَةِ مِنْ غَيْرِهِ، مَنْ وَافَقَهُ فَهُوَ المُنْفَتِحُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ المُنْغَلِقُ. يَعْتَقِدُ فِي إِمْلَاءَاتِ هَوَاهُ البِنَاءَ وَالتَّقَدُّمَ وَالتَّطَوُّرَ، وَفِي اعْتِدَالِ غَيْرِهِ التَّخَلُّفَ وَالرَّجْعِيَّةَ وَالتَّدَهْوُرَ. أَرْدَاهُ فِكْرُهُ المَفْتُونُ إِلَى أَنَّ لِلسَّلَفِ دِينَهُمْ وَلَنَا دِينُنَا؛ لِأَنَّ الإِسْلَامَ المَاضِيَ فِيهِ الضِّيقُ، وَإِسْلَامَ العَصْرِ فِيهِ السَّعَةُ. سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ!!. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنبِّه: "مِنَ اتِّبَاعِ الهَوَى الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ الرَّغْبَةِ فِيهَا حُبُّ المَالِ وَالشَّرَفِ، وَمِنْ حُبِّ المَالِ وَالشَّرفِ اسْتِحْلَالُ المَحَارِمِ". قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ ... وَإِنَّمَا تَحصُلُ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا مِنَ اتِّبَاعِ الهَوَى ... قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. انتهى. ح 4 أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنِ المَعْنِيِّ فِي الآيَةِ "بَلْعَمَ"، أَوْ غَيْرِهِ؛ أَنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ؛ أَيْ: مَالَ إِلَى الدُّنْيَا، وَرَغِبَ فِيهَا، وَقَدَّمَهَا عَلَى الآخِرَةِ، فَكَانَتْ سَبَبَ انْسِلَاخِهِ وَحِرْمَانِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيثَارَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ لَهُ أَثَرٌ فَتَّاكٌ عَلَى العَالِمِ وَالدَّاعِيَةِ فِي تَوَجُّهَاتِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِخَافٍ عَلَيْهِمْ؛ بَلْ هُمْ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِمْ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا، وَأَغْلَبُهُمْ صَادِقُونَ وَنَاصِحُونَ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ وَمَسَارُهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ، وَتَخْفَى عَلَيْهِ بِدَايَاتُ الوَرَطَاتِ، حَتَّى إِذَا وَقَعَ فِي الفِتْنَةِ، وَانْغَمَسَ فِيهَا إِلَى تَرْقُوَتِهِ؛ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ، وَصَعُبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ، وَالتَّخَلِّي عَنْ شَهَوَاتِهِ وَمَلَذَّاتِهِ؛ بَلْ بَعْضُهُمْ لَوْ فَكَّرَ فِي العَوْدَةِ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ لِتَوَرُّطِهِ، وَفُقْدَانِهِ الشَّجَاعَةَ، وَالصَّبْرَ عَلَى الأَذَى. إِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مَجْبَنَةٌ مُهْلِكَةٌ، وَمَنْ وَصَلَ حُبُّ الدُّنْيَا إِلَى شَغَافِ قَلْبِهِ؛ فَلْيُعِدَّ لِلْآثَامِ جِلْبَابًا، وَإِنْ زُحْزِحَ عَنِ الكُفْرِ وَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَقَدْ نَجَا. قَالَ تَعَالَى: (وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ). وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: "رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُمْ ثِقَاتٌ". وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الْفُضَيْلُ: «الْعُلَمَاءُ كَثِيرٌ، وَالْحُكَمَاءُ قَلِيلٌ». قَالَ الآجُرِّيُّ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ - يَعْنِي: قَلِيلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ صَانَ عِلْمَهُ عَنِ الدُّنْيَا، وَطَلَبَ بِهِ الْآخِرَةَ، وَالْكَثِيرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِ افْتُتِنَ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ، وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، سَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا؛ لِيَنَالُوا مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَى أَهْلِهَا. وَعَنْ عِيسَى بْنِ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ لِعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: "كَانَ الْعُلَمَاءُ قَبْلَنَا اسْتَغْنَوْا بِعِلْمِهِمْ عَنْ دُنْيَا غَيْرِهِمْ، فَكَانُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى دُنْيَاهُمْ، فَكَانَ أَهْلُ الدُّنْيَا يَبْذُلُونَ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ؛ رَغْبَةً فِي عِلْمِهِمْ". قَالَ الآجُرِّيِّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ هِجْرِيَّة): فَإِذَا كَانَ يُخَافُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَنْ تَفْتِنَهُمُ الدُّنْيَا، فَمَا ظَنُّكَ فِي زَمَنِنَا هَذَا؟! اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، مَا أَعْظَمَ مَا قَدْ حَلَّ بِالْعُلَمَاءِ مِنَ الْفِتَنِ، وَهُمْ عَنْهُ فِي غَفْلَةٍ!!. انتهى. وَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَ أَهْلِ الأَزْمَانِ الفَاضِلَةِ، فَمَا نَقُولُ نَحْنُ فِي عَصْرِنَا هَذَا؟!. ح 5 قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ). وَالمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا تَرَكَ العَمَلَ بِالعِلْمِ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَرَدَةُ الجِنِّ وَالإِنْسِ، فَأَغْرَوْهُ وَأَغْوَوْهُ حَتَّى أَمْعَنَ فِي الضَّلَالِ. وَالعِلْمُ إِنَّمَا يُرَادُ لِلْعَمَلِ، عِبَادَةً وَمُعَامَلَةً وَنَصِيحَةً؛ فَوَاجِبُ العُلَمَاءِ التَّعْلِيمُ وَالتَّبْيِينُ وَالمُنَاصَحَةُ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وَتَأْيِيدُ أَهْلِ الحَقِّ، وَدَحْرُ أَهْلِ البَاطِلِ، وَإِظْهَارُ الأَدِلَّةِ وَالبَرَاهِينِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلَهُمْ وَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ، فَالعَالِمُ مَسْؤُولٌ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَإِنْ عُذِرَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ... الحديث). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ إِذَا وَقَفْتُ عَلَى الْحِسَابِ أَنْ يُقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ، فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟". انتهى. وَالعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمُ دُنْيَا، وَعَالِمُ آخِرَةٍ، وَعَالِمٌ بِمَنْزِلَةِ زَوْجِ الضَّرِيرَتَيْنِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا - لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ). يَعْنِي: رِيحَهَا؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ وَالنَّوَوِيُّ. وَهَذَا مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَكِنَّ العَتَبَ عَلَى مَنْ طَلَبَ العِلْمَ للهِ، ثُمَّ اتَّخَذَهُ سُلَّمًا لِلْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَيَفْتَحُ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ مَا يَجْعَلُهُ يَرَى ذَلِكَ نَجَاحًا وَدَهَاءً، وَحَذَاقَةً وَتَوْفِيقًا، وَمَنْ قَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَحْسُدُهُ، قَدْ بَلِيَ عَلَى لِسَانِهِ قَوْلُ أَبِي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ: حَسَـدُوا الفَتَى إِذْ لَم يَنَالُوا سَـعْـيَهُ ... فَالقَوْمُ أَعْداءٌ لَهُ وَخُـصُومُ وَكَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَمَامَهَا: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ وَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى ... بِالعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «لَا تَكُونُ عَالِمًا حَتَّى تَكُونَ بِالْعِلْمِ عَامِلًا». وقَالَ: «وَيْلٌ لِلَّذِي لَا يَعْلَمُ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلَّذِي يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ». وقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: «يَا عَالِمُ، أَنْتَ عَالِمٌ تَأْكُلُ بِعِلْمِكَ، لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ طَلَبْتَهُ لِلَّهِ؛ لَرُئِيَ ذَلِكَ فِيكَ، وَفِي عَمَلِكَ». وَقَالَ الحَسَنُ: لَا يَكُونُ حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ العِلْمِ أَنْ يُقَالَ: عَالِمٌ. ح 6 قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنِ العَالِمِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ مِنَ الهَالِكِينَ الحَائِرِينَ البَائِرِينَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ يَعْنِي ابْنَ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا قَرَأَ القُرْآنَ، حَتَّى إِذَا رُؤِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْءُ الإِسْلَامِ اعْتَرَاهُ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، انْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ: المَرْمِيُّ أَوِ الرَّامِي؟ قَالَ: "بَلِ الرَّامِي". هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. انتهى. وَالقَصْدُ أَنَّ العَالِمَ يَسْأَلُ اللهَ الهِدَايَةَ وَالتَّثْبِيتَ، وَيَعَضُّ بِنَوَاجِذِهِ عَلَى عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيَأْخُذُ بِأُصُولِ العِلْمِ، وَيَتَضَلَّعُ بِنُصُوصِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَتَشَبَّعُ بِمُلَحِ العِلْمِ وَفُرُوعِهِ عَلَى حِسَابِ أُصُولِهِ، فَإِنَّ مَنْ بَنَى عِلْمَهُ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ مَتِينٍ؛ كَثُرَتْ تَحَوُّلَاتُهُ وَتَقَلُّبَاتُهُ وَزَلَّاتُهُ، وَعَاشَ حَيْرَةً وَاضْطِرَابًا، كَالشَّاةِ العَائِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ تَذْهَبُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الرَّازِيُّ ذُو العَقْلِ الرَّاجِحِ: نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ ... وَغَايَةُ سَعْيِ العَالَمِينَ ضَلَالُ. وَبَعْدَ عُمْرٍ طَوِيلٍ، وَإِضَاعَةِ أَوْقَاتٍ، وَشُهْرَةٍ وَرِئَاسَةٍ، يَنْتَهِي إِلَى هَذَا القَوْلِ: لَقَدْ تَأَمَّلْتُ الطُّرُقَ الكَلَامِيَّةَ وَالمَنَاهِجَ الفَلْسَفِيَّةَ، فَمَا رَأَيْتُهَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ القُرْآنِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. وَقَالَ الشَّهْرَسْتَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ "نِهَايَةُ الإِقْدَامِ": لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ المَعَاهِدَ كُلَّهَا * وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ المَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَـــائِرٍ * عَلَى ذَقْنٍ أَوْ قَارِعًا سِـــــنَّ نَادِمِ وَنَمَاذِجُ الحَيَارَى فِي التَّارِيخِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هَوَى إِلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ كُفْرٍ وَإِلْحَادٍ، فَشَقِيَ بِعِلْمِهِ، كَمُؤَلِّفِ كِتَابِ: "يَا كُلَّ العَالَمِ لِمَاذَا أَتَيْت؟". وَإِنْ أَلْقَاكَ فَهْمُكَ فِي مَهَاوٍ... فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا فَهِمْتَا وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ وَنَدِمَ نَدَمًا شَدِيدًا، فَالحَمْدُ للهِ. نُقِلَ عَنْ أَبِي المَعَالِي الجُوَيْنِيِّ وَعَنِ الفَخْرِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُمْ: "لَيْتَنِي أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي، أَوْ: لَيْتَنِي أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُور". أَيُّهَا المُتَحَيِّرُونَ، لَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: "عَلَيْكُمْ بِمَا عَلَيْهِ الحَمَّالُونَ، وَالنِّسَاءُ فِي البُيُوتِ، وَالصِّبْيَانُ فِي الكَتَاتِيبِ، مِنَ الإِقْرَارِ وَالعَمَلِ". ح 7 قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ صَاحِبِ المَثَلِ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ). وَذَلِكَ لِطَمَعِهِ فِيهِ، وَفُرْصَةِ فَرْضِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ حِصْنِهِ الحَصِينِ، وَهُوَ العِلْمُ الذِي انْسَلَخَ مِنْهُ. لَقَدِ اسْتَقْعَدَ الشَّيْطَانُ لِهَذَا العَالِمِ "بَلْعَمَ"، وَمَنْ شَابَهَهُ عَلَى الطُّرُقِ وَالأَبْوَابِ، كَمَا قَالَ: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ). وَمِنْ أَنْجَحِ مَدَاخِلِهِ: إِغْوَاءُ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ لِلسَّعْيِ وَرَاءَ الشُّهْرَةِ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَمِنْ هَذَا البَابِ أَيْضًا: كَرَاهَةُ أَنْ يُشْهِرَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ بِالعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالدِّينِ - إِلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَكْرَهُونَ الشُّهْرَةَ غَايَةَ الكَرَاهَةِ، مِنْهُمْ: أَيُّوبُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَكَذَلِكَ الفُضَيلُ وَدَاوُدُ الطَّائيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الزُّهَّادِ وَالعَارِفِينَ، وَكَانَ أُوَيْسٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الزُّهَّادِ إِذَا عُرِفُوا فِي مَكَانٍ ارْتَحَلُوا عَنْهُ". انتهى. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ وُجُوهَ الناسِ إِلَيهِ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ". خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَدْ حُسِّنَ. وَبَعْدُ: فَإِنَّا نَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ نَتَّهِمَ عَالِمًا أَوْ دَاعِيَةً، وَمَا شَقَقْنَا عَنْ قَلْبِ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِ الإِعْلَامِ؛ لِنَعْرِفَ أَيُرِيدُ الشُّهْرَةَ أَمْ لَا، وَلَا كُلِّفْنَا بِذَلِكَ. وَلَكِنْ إِذَا رَأَى بَعْضُنَا مِنْ نَفْسِهِ التَّعَالُمَ وَمَحَبَّةَ نَشْرِ الطُّبُولِيَّاتِ وَالغَرَائِبِ، وَتَكَلُّفَ الظُّهُورِ وَالبُرُوزِ، وَإِثَارَةَ مَا لَا يَنْبَغِي إِثَارَتُهُ عَلَى المَلَإِ، وَإِحْدَاثَ البَلْبَلَةِ بَيْنَ العَوَامِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَلْيُرَاجِعْ نَفْسَهُ، وَلْيُعَالِجْ مَرَضَهُ، وَلْيُصَحِّحْ نِيَّتَهُ؛ بِأَنْ يُخْلِصَ القَصْدَ للهِ، وَيَتَعَبَّدَ اللهَ بِنَشْرِ العِلْمِ النَّافِعِ، فَإِنْ ذَاعَ صِيْتُهُ مَعَ تَقْوَى اللهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ العِلْمِ وَالفَضْلِ، وَذَكَرَهُ النَّاسُ بِالذِّكْرِ الحَسَنِ لِعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَلِإِفْتَائِهِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا عَلَيْهِ صَدْرُ الأُمَّةِ؛ فَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَإِنَّ العِبْرَةَ لَيْسَتْ فِي الشُّهْرَةِ وَالجَمْهَرَةِ، وَإِنَّمَا العِبْرَةُ مَنْ يَفُوزُ بِالآخِرَةِ، قِيلَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَجْلِسُونَ فِي المَسْجِدِ، وَيُجْلَسُ إِلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: "مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَمُوتُونَ وَيَبْقَى ذِكْرُهُمْ، وَأَهْلُ البِدَعِ يَمُوتُونَ وَيَمُوتُ ذِكْرُهُمْ". ح 8 وَمِنَ الإِخْلَادِ إِلَى الأَرْضِ الذِي هُوَ سَبَبُ انْحِطَاطِ "بَلْعَمَ"، وَمَنْ تَبِعَ سُنَنَهُ مِنَ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ، فَضْلًا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ العَامَّةِ: الحِرْصُ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ». خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا مَثَلٌ تَضَمَّنَ غَايَةَ التَّحْذِيرِ وَأَشَدَّ التَّنْفِيرِ مِنْ أَعْدَى عَدُوَّيْنِ وَأَخْطَرِ دَائَيْنِ؛ فَإِنَّ الحِرْصَ يَبْعَثُ عَلَى شِدَّةِ السَّعْيِ دُونَ كَلَلٍ أَوْ مَلَلٍ وَرَاءَ المَالِ وَالرِّئَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَحْمِلُ عَلَى التَّضْحِيَةِ بِالدِّينِ، وَتَقْدِيمِهِ قُرْبَانًا رَخِيصًا لِوَثَنِ الشَّهْوَةِ وَصَنَمِ الهَوَى؛ شَعَرَ بِذَلِكَ الحَرِيصُ أَمْ لَمْ يَشْعُرْ، وَهُوَ الغَالِبُ. إِنَّ شُحَّ النَّفْسِ وَشَرَهَهَا، وَالْتِهَابَ نَهَمِهَا، وَاسْتِئْسَادَ الشَّهْوَةِ، وَاسْتِسْعَارَ الهَوَى، إِذَا صَاحَبَهَا حُبٌّ مُفْرِطٌ، وَحِرْصٌ زَائِدٌ عَلَى المَادَّةِ وَالجَاهِ وَالمَنْصِبِ؛ يَجْعَلُ الدَّافِعِيَّةَ جَرِيئَةً، تَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، فَتَتَعَاطَفُ مَعَهَا البَصِيرَةُ، وَتَتَدَاعَى تَدَاعِيًا لَا يَجْعَلُهَا تُمَيِّزُ تَمَامًا الصَّوَابَ مِنَ الخَطَأِ، وَالحَقَّ مِنَ البَاطِلِ، وَالحَلَالَ مِنَ الحَرَامِ. وَإِذَا قَصَّرَتْ عَنْ تَمْيِيزِ مِثْلِ هَذَا لِتَرَاجُعِ حَاسَّةِ الإِدْرَاكِ، مِمَّا أَفْقَدَ النَّفْسَ جَوْدَةَ السُّكُونِ لِلْحَلَالِ وَالاضْطِرَابِ لِلْحَرَامِ، وَأَفْقَدَ القَلْبَ دِقَّةَ التَّشْخِيصِ، فَضَعُفَ نَوْعًا مَا عَنِ الاطْمِئْنَانِ لِلْبِرِّ، وَالاضْطِرَابِ لِلإِثْمِ، وَأَفْقَدَ الصَّدْرَ قُوَّةَ مُؤَشِّرِ التَّرَدُّدِ لِلاقْتِرَابِ مِنَ المَعْصِيَةِ، وَبِالتَّأْكِيدِ لَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُبَالَاةٌ بِاطِّلَاعِ النَّاسِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَبِكُلِّ أَسَفٍ أَنْ لَا تَنْتَبِهَ البَصِيرَةُ لِلْخَسَارَةِ الفَادِحَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ تَضْيِيعِ الأَوْقَاتِ، وَهَدْرِ اللَّحَظَاتِ، وَإِشْغَالِ القَلْبِ، وَتَشْوِيشِ الفِكْرِ المُؤَثِّرِ عَلَى العُبُودِيَّةِ للهِ، مِنْ جَرَّاءِ اللَّهْثِ وَرَاءَ المَالِ وَالرِّئَاسَةِ. وَللهِ دَرُّ أَبِي العَتَاهِيَةِ القَائِلِ "لِسَلْمٍ"، وَكَانَ مَزَّاحًا لَطِيفًا، مَدَّاحًا لِلْمُلُوكِ وَالأَشْرَافِ: تَعَالَى اللهُ يَا سَلْمَ بْنَ عَمْرٍو ... أَذَلَّ الحِرْصُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ هَبِ الدُّنْيَا تُسَاقُ إِلَيْكَ عَفْوًا ... أَلَيْسَ مَصِيرُ ذَاكَ إِلَى الزَّوَالِ؟! إِنَّ العَالِمَ وَالدَّاعِيَةَ قَدْ يَفْطِنَانِ إِلَى ضَرَرِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ، وَيَسْتَطِيعَانِ الإِحْجَامَ وَتَرْكَ الإِقْدَامِ عَنْ جَمْعِ المَالِ، خَاصَّةً إِذَا كَانَتِ الوَسَائِلُ مَشْبُوهَةً أَوْ مُحَرَّمَةً، وَلَكِنَّهُمَا قَدْ لَا يَفْطِنَانِ إِلَى ضَرَرِ الحِرْصِ عَلَى الشَّرَفِ لِخَفَائِهِ وَوُجُودِ الضَّبَابَةِ عَلَيْهِ، عِلَاوَةً عَلَى قُوَّةِ الدَّاعِي وَعِظَمِ الرَّجَاءِ فِي قَلْبِ الحَرِيصِ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَأَمَّا حِرْصُ المَرْءِ عَلَى الشَّرفِ، فَهَذَا أشدُّ هَلَاكًا مِنَ الحِرْصِ عَلَى المَالِ؛ فَإِنَّ طَلَبَ شَرَفِ الدُّنْيَا وَالرِّفْعَةِ فِيهَا، وَالرِّيَاسَةِ عَلَى النَّاسِ وَالعُلُوِّ فِي الأَرْضِ أَضَرُّ عَلَى العَبْدِ مِنْ طَلَبِ المَالِ، وَضَرَرُهُ أَعْظَمُ، وَالزُّهْدُ فِيهِ أَصْعَبُ". ح 9 وَمِنَ الإِخْلَادِ إِلَى الأَرْضِ الذِي هُوَ سَبَبٌ لِخُسْرَانِ الآخِرَةِ: التَّعَالِي فِي الأَرْضِ، وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ هُوَ مَحْسُوبٌ عَلَى العُلَمَاءِ وَالمُصْلِحِينَ. قَالَ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). فَالآخِرَةُ جَعَلَهَا اللهُ لِلَّذِينَ لَا يَتَكَبَّرُونَ عَنِ الحَقِّ، وَيَتَجَبَّرُونَ عَنْهُ، أَوْ يُسَهِّلُونَ عَلَى المَفْتُونِينَ بِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الطَّاغُوتِيَةِ، وَلَا لِلَّذِينَ يَعْشَقُونَ سَفَاسِفَ الأُمُورِ، وَيَبْغُونَ الانْفِتَاحَ المُضَادَّ لِلشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، أَوْ يُعِينُهُمْ عَلَيْهِ بِالآرَاءِ وَقَضَايَا الأَعْيَانِ الخَاصَّةِ وَالمَحْدُودَةِ، وَعَاقِبَةُ مَنِ اتَّقَى ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَبْعَدَ عَنْ حِمَاهُ، وَهَجَرَ أَسْبَابَهُ وَوَسَائِلَهُ: الجَنَّةُ. وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ؛ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ؛ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الحَوْضَ". خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ". وَلَهُ شَوَاهِدُ خَرَّجَهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَخَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. وَكَتَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِلَى عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: "إِيَّاكَ وَالأُمَرَاءَ؛ أَنْ تَدْنُوَ مِنْهُمْ، أَوْ تُخَالِطَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ وَيُقَالَ لَكَ: لِتَشْفَعَ وَتَدْرَأَ عَنْ مَظْلُومٍ أَوْ تَرُدَّ مَظْلَمَةً؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَدِيعَةُ إِبْلِيسَ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَهَا فُجَّارُ القُرَّاءِ سُلَّمًا، وَمَا كُفِيتَ مِنَ المَسْأَلَةِ وَالفُتْيَا فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ وَلَا تُنَافِسْهُمْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ كَمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْمَلَ بِقَوْلِهِ أَوْ يُنْشَرَ قَوْلُهُ أَوْ يُسْمَعَ قَوْلُهُ، فَإِذَا تُرِكَ ذَلِكَ مِنْهُ عُرِفَ فِيهِ، وَإِيَّاكَ وَحُبَّ الرِّئَاسَةِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ حُبُّ الرِّئَاسَةِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَهُوَ بَابٌ غَامِضٌ لَا يُبْصِرُهُ إِلَّا البَصِيرُ مِنَ العُلَمَاءِ السَّمَاسِرَةِ، فَتَفَقَّدْ بِقَلْبٍ، وَاعْمَلْ بِنِيَّةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَنَا مِنَ النَّاسِ أَمْرٌ يَشْتَهِي الرَّجُلُ أَنْ يَمُوتَ، وَالسَّلَامُ". انتهى. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَإِنَّ مِنْ حَقِّ وُلَاةِ الأُمُورِ عَلَى رَعَايَاهُمْ: الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالهِدَايَةِ، وَنُصْرَةِ الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُرِيَهُمُ اللهُ الحَقَّ حَقًّا وَيَرْزُقَهُمُ اتِّبَاعَهُ، وَأَنْ يُرِيَهُمُ البَاطِلَ بَاطِلًا وَيَرْزُقَهُمُ اجْتِنَابَهُ، وَأَنْ يُقَيِّضَ لَهُمُ البِطَانَةَ الصَّالِحَةَ، التِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الخَيْرِ، وَتَحُثُّهُمْ عَلَيْهِ، وَتُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرِّ، وَتُرَهِّبُهُمْ مِنْهُ. ح 10 مِنْ إِخْلَادِ العَالِمِ "بَلْعَمَ" إِلَى الأَرْضِ: مَا جَاءَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ فِي شَأْنِهِ: "كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعَثَهُ نَبِيُّ اللهِ مُوسَى إِلَى مَلِكِ مَدْيَنَ يَدْعُوهُ إِلَى اللهِ، فَأَقْطَعَهُ وَأَعْطَاهُ، فَتَبِعَ دِينَهُ وَتَرَكَ دِينَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ". لَقَدْ حَذَّرَنَا الصَّادِقُ المَصْدُوقُ مِنْ هَذِهِ الآبِدَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلَاطِينِ افْتُتِنَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَخَرَّجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ نَحْوَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثِهِ: "وَمَا ازْدَادَ أَحَدٌ منَ السَّلْطَانِ دُنُوًّا، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا". قَوَّاهُ الهَيْثَمِيُّ. فَكَيْفَ بَعْدَ هَذَا القَوْلِ البَلِيغِ، يُعَرِّضُ المُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْخَطَرِ؟! فَقَدْ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ بِسَبَبِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ ... فَاتَّقوا الدُّنْيَا)، فَمَنِ امْتَهَنَ العِلْمَ وَعَرَضَهُ سِلْعَةً رَخِيصَةً فِي سُوقِ أَصْحَابِ الدُّنْيَا، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَتَّهِمُ إِلَّا عَقْلَهُ، لَقَدْ غُبِنَ فِي صَفْقَتِهِ، وَلَوْ أُعْطِيَ الثَّمَنَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ). قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَنْهَوْنَ عَنِ الدُّخُولِ عَلَى المُلُوكِ لِمَنْ أَرَادَ أَمْرَهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيَهُمْ عَنِ المُنْكَرِ. وَمِمَّنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَابْنُ المُبَارَكِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الأَئِمَّةِ". وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: "لَيْسَ الآمِرُ النَّاهِي عِنْدَنَا مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، إِنَّمَا الآمِرُ النَّاهِي مَنِ اعْتَزَلَهُمْ". وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِذَا رَأَيْتَ العَالِمَ يَذْهَبُ إِلَى الأَمِيرِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِصٌّ. وَقَالَ: إِذَا دَعَاكَ الأَمِيرُ لِتَقْرَأَ عَلَيْهِ "سُورَةَ الإِخْلَاصِ" فَلَا تَذْهَبْ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّكَ لَنْ تَأْخُذَ مِنْ دُنْيَاهُمْ شَيْئًا إِلَّا أَخَذُوا مِنْ دِينِكَ مَا هُوَ أَفْضَلُ. وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ: الفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الفُقَهَاءَ قَدْ رَكَنُوا إِلَى السَّلَاطِينِ فَاتَّهِمُوهُمْ. وَتَحْذِيرَاتُ السَّلَفِ فِي هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ اتِّهَامَ العُلَمَاءِ وَنَبْزَهُمْ، وَالدُّخُولَ فِي نِيَّاتِهِمْ، إِذْ قَدْ تَدْعُو الظُّرُوفُ إِلَى المُجَالَسَةِ وَالاجْتِمَاعِ. ثُمَّ اعْلَمْ رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ طَاعَةَ وَلِيِّ الأَمْرِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَالنُّصْحَ لَهُ. أَلَا فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ مُسْلِمٍ فِي دِمَاءِ المُسْلِمِينَ، وَفِي جَرِّ الإِيذَاءِ لَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّنَا فِي زَمَنٍ يَحْتَاجُ إِلَى فِقْهٍ وَصَبْرٍ. ح 11 أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ "بَلْعَمَ" العَالِمِ بِأَنَّهُ انْسَلَخَ مِنَ العِلْمِ الذِي آتَاهُ إِيَّاهُ، فَكَانَ الشَّقاَءُ حَظَّهُ، وَالذُّلُّ وَالهَوَانُ نَصِيبَهُ، وَهَذِهِ عَاقِبَةُ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالعِلْمِ الذِي عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ العَالِمَ إِذَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ مِنْ تَقْوَى اللهِ كَانَ عَلَيْهِ وَبَالًا؛ لِاسْتِكْثَارِهِ مِنْ حُجَجِ اللهِ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ (المُتَوَفَّى سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ هِجْرِيَّة) فِي كِتَابِهِ الحَافِلِ: «أَخْلَاقُ العُلَمَاءِ» تَحْتَ بَابِ أَوْصَافِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نَفَعَهُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: "لِهَذَا الْعَالِمِ صِفَاتٌ وَأَحْوَالٌ شَتَّى، وَمَقَامَاتٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا، فَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ فِي كُلِّ حَالٍ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ. فَلَهُ صِفَةٌ فِي طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ: كَيْفَ يَطْلُبُهُ؟ وَلَهُ صِفَةٌ فِي كَثْرَةِ الْعِلْمِ إِذَا كَثُرَ عِنْدَهُ: مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ فَيُلْزِمَهُ نَفْسَهُ؟. وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا جَالَسَ الْعُلَمَاءَ: كَيْفَ يُجَالِسُهُمْ؟. وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا تَعَلَّمَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: كَيْفَ يَتَعَلَّمُ؟ وَلَهُ صِفَةٌ: كَيْفَ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ؟. وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا نَاظَرَ فِي الْعِلْمِ: كَيْفَ يُنَاظِرُ؟. وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا أَفْتَى النَّاسَ: كَيْفَ يُفْتِي؟ وَلَهُ صِفَةٌ: كَيْفَ يُجَالِسُ الْأُمَرَاءَ، إِذَا ابْتُلِيَ بِمُجَالَسَتِهِمْ؟ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَالِسَهُ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ؟. وَلَهُ صِفَةٌ عِنْدَ مُعَاشَرَتِهِ لِسَائِرِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ مَعَهُ. وَلَهُ صِفَةٌ: كَيْفَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟ قَدْ أَعَدَّ لِكُلِّ حَقٍّ يَلْزَمُهُ مَا يُقَوِّيهِ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَقَدْ أَعَدَّ لِكُلِّ نَازِلَةٍ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنْ شَرِّهَا فِي دِينِهِ، عَالِمٌ بِمَا يَجْتَلِبُ بِهِ الطَّاعَاتِ، عَالِمٌ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ الْبَلِيَّاتِ، قَدِ اعْتَقَدَ الْأَخْلَاقَ السَّنِيَّةَ، وَاعْتَزَلَ الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ". وَمِمَّا قَالَ تَحْتَ وَصْفِ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ: وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ أَوْصَافُهُ وَأَخْلَاقُهُ الْأَخْلَاقَ الْمَذْمُومَةَ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْعِلْمُ فِي قَلْبِهِ أَثَرًا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ، فَبَيْنَا هُوَ مُقَارِنٌ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ، إِذْ رَغِبَتْ نَفْسُهُ فِي حُبِّ الشُّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَأَحَبَّ مُجَالَسَةَ الْمُلُوكِ، وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَأَحَبَّ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ رَاخِي عَيْشِهِمْ؛ مِنْ مَنْزِلٍ بَهِيٍّ، وَمَرْكَبٍ هَنِيٍّ، وَخَادِمٍ سَرِيٍّ، وَلِبَاسٍ لَيِّنٍ، وَفِرَاشٍ نَاعِمٍ، وَطَعَامٍ شَهِيٍّ، وَأَحَبَّ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ، وَيُسْمَعَ قَوْلُهُ، وَيُطَاعَ أَمْرُهُ ... وَلَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا بِبَذْلِ دِينِهِ - وَقَالَ كَلَامًا جَمِيلًا يَذْكُرُ فِيهِ مَا كَلَّفَهُ مِنْ خَسَارَةِ أُخْرَاهُ حِفَاظًا عَلَى دُنْيَاهُ فَرَاجِعْهُ - إِلَى أَنْ قَالَ: هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ««إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ». انتهى. ح 12 إِنَّ قِصَّةَ العَالِمِ "بَلْعَمَ" مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ سُوءِ النِّهَايَةِ، يَجْعَلُ المُتَأَمِّلَ فِيهَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ سُوءَ الخَاتِمَةِ، وَالْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخُلُهَا، ... الحديث» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ، فَإِنَّ الْعَامِلَ يَعْمَلُ زَمَانًا مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ صَالِحٍ، لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ، فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا .. الحديث). خَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. لَقَدْ أَمِنَ الكَثِيرُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ سُوءِ الخَاتِمَةِ؛ لِحَمْلِهِمْ تِلْكَ الأَحَادِيثَ عَلَى مَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ .. الحديث». وَهَذَا الأَمْنُ غُرُورٌ مَا فَوْقَهُ غُرُورٌ، فَهَلْ تَضْمَنُ يَا عَبْدَ اللهِ صَلَاحَ نِيَّتِكَ وَسَلَامَةَ سَرِيرَتِكَ؟، فَالإِنْسَانُ - وَهَذِهِ طَامَّةٌ كُبْرَى - قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا فِي بَاطِنِهِ مِنَ الإِرَادَاتِ السَّيِّئَةِ وَالمَقَاصِدِ الدَّنِيَّةِ، حَتَّى يَتَصَوَّرَ أَنَّ عَمَلَهُ خَالِصٌ للهِ، وَأَنَّ تَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ وَمَوَاعِظَهُ وَتَوْجِيهَاتِهِ وَإِرْشَادَاتِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ. وَمِصْدَاقُ هَذَا مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ - وَذَكَرَ فِيهِ - وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ). رواه مسلم. وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحَيِ ابْنِ حِبَّانَ وَابْنِ خُزَيْمَةَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ، تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ». وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَإِنَّمَا بِرَحْمَةِ اللهِ، حَتَّى سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، فَلَنْ يُؤَهِّلَ أَحَدًا عَمَلُهُ لِحُسْنِ الخَاتِمَةِ، وَإِنَّمَا بِرَحْمَةِ اللهِ. وَثَبَتَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يُكثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَينِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ يُحَسَّنُ بِهَا، أَشَارَ إِلَيْهَا التِّرْمِذِيُّ. ح 13 إِنَّ العِقَابَ الشَّدِيدَ الذِي حَلَّ بِالعَالِمِ "بَلْعَمَ" مِنَ افْتِرَاسِ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَنَزْعِ الإِيمَانِ مِنْهُ، فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العُقُوبَاتِ التِي حَلَّتْ بِهِ (جَزَاءً وِفَاقًا)؛ وَافَقَ انْسِلَاخَهُ مِنَ العِلْمِ، فَإِنَّ العِلْمَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ بَعْدَ الإِسْلَامِ، فَمَنْ كَفَرَهَا فَلَمْ يَقُمْ بِوَاجِبِهَا فِي دُنْيَاهُ، خَسِرَ أُخْرَاهُ، فَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ. وَالتَّفْرِيطُ فِي إِنْفَاقِ زَكَاةِ العِلْمِ، وَعَدَمُ القِيَامِ بِحَقِّهِ مَعْصِيَةٌ تُشَكِّلُ خَطَرًا عَلَى خَاتِمَةِ العَالِمِ. وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ». أَيُّهَا العُلَمَاءُ الفُضَلَاءُ، وَالأَئِمَّةُ الفُقَهَاءُ، وَالمُوَقِّعُونَ عَنِ اللهِ الأُمَنَاء، يَا وَرَثَةَ الأَنْبِيَاءِ، يَا مَنْ أَنْتُمْ فِي الأَرْضِ كَالنُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: "أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الحَسَابِ الفُقَهَاءُ". إِنَّ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ عَظِيمَةٌ، وَآلاءَهُ جَزِيلَةٌ، وَأَجْرَكُمْ مُضَاعَفٌ، وَإِثْمَكُمْ يُضَاعَفُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِأُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا). وَالعُلَمَاءُ إِنِ اتَّقُوا اللهَ لَا يُشْبِهُهُمْ أَحَدٌ فِي الفَضْلِ وَالأَجْرِ، وَإِنْ خَنَعُوا وَتَمَيَّعُوا فِي فَتَاوِيهِمْ، أَوْ سَكَتُوا عَنِ المُنْكَرَاتِ - حَاشَاهُمْ ذَلِكَ - طَمِعَ أَهْلُ الدَّغَلِ وَالفَسَادِ فِي بَثِّ سُمُومِهِمْ وَنَشْرِ فَسَادِهِمْ. وَأَعْظَمُ دَسِيسَةٍ دَسِيسَةُ العُلَمَاءِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "إنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ عَمَلٍ سَيِّئٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الْخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ ... وَمِنْ هُنَا كَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُ السَّلَفِ مِنْ سُوءِ الْخَوَاتِيمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْلَقُ مِنْ ذِكْرِ السَّوَابِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُلُوبَ الْأَبْرَارِ مُعَلَّقَةٌ بِالْخَوَاتِيمِ، يَقُولُونَ: بِمَاذَا يُخْتَمُ لَنَا؟ وَقُلُوبَ الْمُقَرَّبِينَ مُعَلَّقَةٌ بِالسَّوَابِقِ، يَقُولُونَ: مَاذَا سَبَقَ لَنَا؟ .. وَكَانَ سُفْيَانُ يَشْتَدُّ قَلَقُهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْخَوَاتِيمِ، فَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أَكُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: الْمُرِيدُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْمَعَاصِي، وَالْعَارِفُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكُفْرِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ النِّفَاقَ، وَيَشْتَدُّ قَلَقُهُمْ وَجَزَعُهُمْ مِنْهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ الْأَصْغَرَ، وَيَخَافُ أَنْ يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، فَيُخْرِجُهُ إِلَى النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ دَسَائِسَ السُّوءِ الْخَفِيَّةِ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ". انتهى. ح 14 إِنَّ العِلْمَ الذِي إِذَا انْسَلَخَ مِنْهُ العَبْدُ عَالِمًا كَانَ أَوْ مُتَعَلِّمًا هَلَكَ وَأَهْلَكَ؛ هُوَ عِلْمُ الخَشْيَةِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)؛ أَيِ العُلَمَاءُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا، العَارِفُونَ بِحَقِّهِ عَلَى خَلْقِهِ، المُدْرِكُونَ خُطَورَةَ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، المُقَدِّرُونَ لِعَطَائِهِ وَحِرْمَانِهِ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَيْسَ العِلْمُ عَنْ كَثْرَةِ الحَدِيثِ، وَلَكِنَّ العِلْمَ عَنْ كَثْرَةِ الخَشْيَةِ". وَعَنْ مَالِكٍ قَالَ: "إِنَّ العِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا العِلْمُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللهُ فِي القَلْبِ". قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ المِصْرِيُّ: "مَعْنَاهُ: أَنَّ الخَشْيَةَ لَا تُدْرَكُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَأَمَّا العِلْمُ الذِي فَرَضَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنَّمَا هُوَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: "نُور" فَهْمَ العِلْمِ، وَمَعْرِفَةَ مَعَانِيهِ". وَقَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: كَانَ يُقَالُ: العُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: 1- «عَالِمٌ بِاللهِ، عَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ». 2- «وَعَالِمٌ بِاللهِ، لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللهِ». 3- «وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللهِ». أ- «فَالعَالِمُ بِاللهِ وَبِأَمْرِ اللهِ: الذِي يَخْشَى اللهَ، وَيَعْلَمُ الحُدُودَ وَالفَرَائِضَ». ب - «وَالعَالِمُ بِاللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللهِ: الذِي يَخْشَى اللهَ، وَلَا يَعْلَمُ الحُدُودَ وَلَا الفَرَائِضَ». ج- «وَالعَاِلمُ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللهِ: الذِي يَعْلَمُ الحُدُودَ وَالفَرَائِضَ، وَلَا يَخْشَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ». وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ لَمْ يَخْشَ اللهَ تَعَالَى فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "إِنَّمَا فُضِّلَ العِلْمُ؛ لِأَنَّهُ يُتَّقَى بِهِ اللَّهُ، وَإِلَّا كَانَ كَسَائِرِ الأَشْيَاءِ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا العَالِمْ مَنْ خَشِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ: إِنَّمَا الفَقِيهُ مَنْ يَخَافُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى عِلْمًا، وَبِالاغْتِرَارِ جَهْلًا. وَقِيلَ لِسَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ المَدِينَةِ؟ فَقَالَ: "أَتَّقَاهُمْ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ" . وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ الفَقِيهَ حَقَّ الفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَلَمْ يَدَعِ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا عِلْمَ لَا فِقْهَ فِيهِ، وَلَا قِرَاءَةَ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا". وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: "أَخْشَى أَلَّا تَبْقَى آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى آمِرَةٌ أَوْ زَاجِرَةٌ، إِلَّا جَاءَتْنِي تَسْأَلُنِي فَرِيضَتَهَا، فَتَسْأَلُنِي الآمِرَةُ: هَلِ ائْتَمَرْتَ؟ وَالزَّاجِرَةُ: هَلِ ازْدَجَرْتَ؟". ح 15 إِنَّ مِنْ بَيْنِ صُوَرِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ، أَنْ يَقُولَ العَالِمُ وَالدَّاعِيَةُ وَالمُبَلِّغُ لِلنَّاسِ: الوَاجِبُ كَذَا، وَالحَرَامُ كَذَا، ثُمَّ لَا يَفْعَلَ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنَ الوَاجِبَاتِ، وَيَنْهَى عَنْهُ مِنَ المُحَرَّمَاتِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)، وَالمَعْنَى: كَيْفَ لَا تَفْعَلُونَ مَا تُلْزِمُونَ بِهِ النَّاسَ شَرْعًا؟، لِمَ تُخَالِفُونَ مَا تَقُولُونَ لِلنَّاسِ؟ لَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللهِ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَتَعَدَّوْنَهَا، لَا تُضَيِّعُوا فَرَائِضَ اللهِ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُضَيِّعُونَهَا، لَا تَنْتَهِكُوا مَحَارِمَ اللهِ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَنْتَهِكُونَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). أَيْنَ ذَهَبَتْ عُقُولُكُمْ، فَمَثَلُكُمُ المُطَابِقُ كَمَثَلِ المِصْبَاحِ يُضِيءُ لِغَيْرِهِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ. وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ فِي الرَّحَا، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ، مَا لَكَ؟! أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَؤُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلا يَعْمَلُونَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالضِّيَاءُ فِي المُخْتَارَةِ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَوَّاهُ الهَيْثَمِيُّ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُعْتَزِّ: "عِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ كَشَجَرَةٍ بِلَا ثَمَرَةٍ، عِلْمُ المُنَافِقِ فِي قَوْلِهِ، وَعِلْمُ المُؤْمِنِ فِي عَمَلِهِ". وَأَقْوَالُ السَّلَفِ فِي هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَحَسْبُكَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الآيَاتِ القُرْآنِيَّةِ، وَالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ. وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ لِلشَّعْبِيِّ: هَلَّا نَهَيْتَ عَنْ كَذَا! فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ. قَالَ الحَسَنُ: غَفَرَ اللهُ لَكَ! وَأَيُّنَا يَقُولُ مَا يَفْعَلُ! وَدَّ الشَّيْطَانُ لَوْ ظَفِرَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ، فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ!. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ، مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ، مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ". انتهى. إذَا لَمْ يَعِظْ النَّاسَ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ * فَمَنْ يَعِظُ الْعَاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ح 16 النَّصِيحَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا النَّصِيحَةُ؟ الانْخِلَاعُ مِنْهَا انْسِلَاخٌ مِنَ العِلْمِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْتَقِلَّ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْتَكْثِرْ. عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلَاثًا، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. هَذِهِ الكُلِّيَّةُ العَامَّةُ هِيَ النَّصِيحَةُ التِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ نَصِيحَةٌ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ، فَمَنْ قَامَ بِهَا عَلَى هَذِهِ الرُّؤْيَةِ الجَامِعَةِ الشَّامِلَةِ؛ فَهُوَ النَّاصِحُ حَقًّا. وَمَا أَكْثَرَ الذِينَ يَجْهَلُونَ التَّرَابُطَ الوَثِيقَ فِي الحَدِيثِ بَيْنَ تِلْكَ الجِهَاتِ!، فَضْلًا عَنْ جَهْلِ بَعْضِهِمْ بِمَعْنَى النَّصِيحَةِ، وَفَهْمِ حَقِيقَتِهَا؛ فَمِنَ الأَمْثِلَةِ: مُدَاهَنَةُ البَعْضِ وَسُكُوتُهُ عَنْ تَحْذِيرِ العَامَّةِ مِنَ المُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ، المُرَتَّبِ لَهَا، وَالمُعْلَنِ عَنْهَا، ثُمَّ مَعَ عَجْزِهِ أَوْ تَمَصْلُحِهِ يَتَّهِمُ وَيَصِفُ النَّاصِحِينَ بِالطُّرُقِ السِّلْمِيَّةِ وَالمَنْهَجِيَّةِ السَّلَفِيَّةِ، الأُمَنَاءَ فِي نَصِيحَتِهِمْ لِلْوُلَاةِ وَلِلنَّاسِ وَلِلْوَطَنِ؛ بِالأَلْقَابِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّصْنِيفِ العُدْوَانِيِّ الغَاشِمِ الكَاذِبِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الجَهْلِ: مَنْ يُؤَجِّجُ النَّاسَ وَيُشَعْلِلُهُمْ، وَيُهْلِكُ الأَغْرَارَ وَالأَوْغَادَ، كُلُّ ذَلِكَ قُرْبَانًا لِيَلْمَعَ نَجْمُهُ، وَيَذِيعَ صِيتُهُ، وَيَكْسِبَ شُهْرَةً وَجَمْهَرَةً، وَهَذَا النَّوْعُ مَنْبَعُهُ الفِكْرُ، وَيَعْتَمِدُ عَلَى سِحْرِ البَيَانِ، وَمِثْلُ هَذَا سَرِيعُ التَّحَوُّلَاتِ، كَثِيرُ التَّوَجُّهَاتِ وَالوَرَطَاتِ، يَتَقَلَّبُ تَقَلُّبَ الحِرْبَاءِ، يَتَلَوَّنُ وَفْقَ مَا يَشْتَهِي أَصْحَابُ الحَمَاسِ العَاطِفِيِّ، أَيْنَمَا تَوَجَّهَ بَالَغَ فِي مَدْحِ وِجْهَتِهِ، وَتَصْوِيبِ نَفْسِهِ، عَائِدًا عَلَى وِجْهَتِهِ الأُولَى بِالذَّمِّ وَالتَّخْطِئَةِ، مُفْتَخِرًا بِذَلِكَ، لَا مُسْتَحِيًا مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ، وَضَعْفِ فَهْمِهِ، وَعِنْدَمَا يُبْتَلَى يُلْقِي اللَّائِمَةَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُمُ الذِينَ زَجُّوهُ وَدَفَعُوهُ حَيْثُ شَجَّعُوهُ، ثُمَّ تَخَلَّوْا عَنْهُ، وَهَذِهِ نَكْسَةٌ، فَالرَّبَّانِيُّ هُوَ الذِي يُوَجِّهُ النَّاسَ لَا الذِي يُوَجِّهُهُ النَّاسُ، حَالُهُ «مَعَ الخَيْلِ يَا شَقْرَاء»، هَمُّهُ تَتَبُّعُ مَظَانِّ الشُّهْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ). قَالَ أَبُو رَزِينٍ: الرَّبَّانِيُّ هُوَ العَالِمُ الحَكِيمُ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "كُونُوا رَبَّانِيِّينَ"؛ قَالَ: حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: حُكَمَاءَ أَتْقِيَاءَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الأَحْبَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ الأَحْبَارَ هُمُ العُلَمَاءُ. وَالرَّبَّانِيُّ الذِي يَجْمَعُ إِلَى العِلْمِ البَصَرَ بِالسِّيَاسَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ عَالِمًا يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ العَالِمُ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ، وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ، العَارِفُ بِأَنْبَاءِ الأُمَّةِ، وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. ح 17 مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: التَّقْصِيرُ مِنْ أَجْلِ المَالِ وَالرِّيَاسَةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، التِي يَقْتَضِيهَا العِلْمُ، فَوَاجِبُ العُلَمَاءِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالحِكْمَةِ، وَهِيَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَهِيَ الكَلِمَةُ البَلِيغَةُ المُؤَثِّرَةُ، وَجِدَالُ المُجَادِلِينَ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ، مُحَاوَرَةً هَادِئَةً، وَمُنَاظَرَةً هَادِفَةً، وَكَشْفَ شُبْهَةٍ، وَإِقَامَةَ حُجَّةٍ، بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، كَمَا قَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ). قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: قُولَا لَهُ: "إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا". إِنَّ الأَطْمَاعَ وَالمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ تُكَمِّمُ الأَفْوَاهَ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا حَرَصَ أَحَدٌ عَلَى وِلَايَةٍ فَعَدَلَ فِيهَا. وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ وَهْبٍ مِنْ قُضَاةِ العَدْلِ وَالصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَحَبَّ المَالَ وَالشَّرفَ، وَخَافَ الدَّوَائِرَ لَمْ يَعْدِلْ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "كُلُّ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاسْتَحَبَّهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ". انتهى. إِنَّ افْتِتَانَ رَجُلِ العِلْمِ بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ظَاهِرَةٌ صَعْبٌ عِلَاجُهَا، فَإِنَّ غَيْرَ العَالِمِ إِذَا أَذْنَبَ فَإِنَّ نَفْسَهُ مُسْتَيْقِنَةٌ بِاسْتِحْقَاقِهَا العُقُوبَةَ، فَهِيَ تَتَرَقَّبُهَا فِي العَاجِلِ أَوِ الآجِلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُبَالٍ بِهَا فِي حَاضِرِهِ، لَكِنَّ اسْتِيقَانَهُ وَتَرَقُّبَهُ قَدْ يَنْهَيَانِهِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ. أَمَّا العَالِمُ فَإِنَّهُ قَدْ يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ، وَقَدْ يَغُرُّهُ عِلْمُهُ وَفَهْمُهُ، وَتَغُرُّهُ فِرْيَتُهُ وَكِذْبَتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وَقَالَ عَنْ عُلَمَاءِ السُّوءِ: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)؛ أَيْ: خَلَّفَ الأَوَّلُونَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، فَالكِتَابُ مَعَهُمْ يَعْرِفُونَ مَا فِيهِ، وَمَعَ هَذَا يَعْتَاضُونَ عَنْ بَذْلِ الحَقِّ وَنَشْرِهِ بِعَرَضِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الدَّنِيءِ؛ مِنْ مَالٍ أَوْ رِئَاسَةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَيُسِيؤُونَ الظَّنَّ بِاللهِ، حَيْثُ اتَّكَلُوا عَلَى رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيَعِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوْبَةِ، وَيُمَاطِلُونَهَا بِالتَّسْوِيفِ، وَكُلَّمَا حَصَلَتْ لَهُمْ فُرْصَةُ طَمَعٍ اهْتَبَلُوهَا، وَعَادُوا إِلَى المُمَاطَلَةِ وَالتَّسْوِيفِ، فَهُمْ عَلَى هَذِهِ الحَالِ، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ لَا يَشْبَعُونَ وَلَا يَكْتَفُونَ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ وَإِنِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ آثِمٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَرَى أَنَّ عِلْمَهُ وَعَمَلَهُ كَفِيلٌ بِتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِ، وَمَحْوِ آثَامِهِ، وَأَنَّ سَيِّئَاتِهِ مَغْمُورَةٌ فِي بَحْرِ حَسَنَاتِهِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الغُرُورِ!. ح 18 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: الانْخِلَاعُ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى البِدْعَةِ، سَوَاءٌ كَانَتِ البِدْعَةُ مُكَفِّرَةً أَوْ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ، وَسَوَاءٌ وُلِدَتْ مِنْ رَحِمَ طَمَعٍ فِي مَالٍ أَوْ شَرَفٍ، أَوْ مِنْ رَحِمِ جَهْلٍ بِالسُّنَّةِ، وَاغْتِرَارٍ بِالشُّبْهَةِ. قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "اتِّبَاعُ الْهَوَى يُعْمِي عَيْنَ الْقَلْبِ، فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالبِدْعَةِ، أَوْ يُنَكِّسُهُ، فَيَرَى الْبِدْعَةَ سُنَّةً، وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً، فَهَذِهِ آفَةُ الْعُلَمَاءِ إِذَا آثَرُوا الدُّنْيَا، وَاتَّبَعُوا الرِّيَاسَاتِ وَالشَّهَوَاتِ". انتهى. وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَسْأَلَ اللهَ الهِدَايَةَ حَذَرًا مِنَ الضَّلَالَةِ، فَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَقُولُ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ). «المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ»: هُمُ الذِينَ انْسَلَخُوا مِنَ العِلْمِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. «وَالضَّالُّونَ»: هُمُ الذِينَ فَقَدُوا العِلْمَ، فَهُمْ هَائِمُونَ فِي البِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَتَيْنِ، لِتُجْتَنَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ الإِيمَانِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى العِلْمِ بِالحَقِّ وَالعَمَلِ بِهِ، وَاليَهُودُ فَقَدُوا العَمَلَ، وَالنَّصَارَى فَقَدُوا العِلْمَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الغَضَبُ لِلْيَهُودِ، وَالضَّلَالُ لِلنَّصَارَى، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ وَتَرَكَ اسْتَحَقَّ الغَضَبَ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ .. وَكُلٌّ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ضَالٌّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ". انتهى. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ: "مَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا؛ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا؛ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ اليَهُودِ". وَكَانَ يَقُولُ: وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا المُلُوكُ* وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: "إِذَا تَكَلَّمَ العَالِمُ تَقِيَّةً، وَالجَاهِلُ يَجْهَلُ، مَتَى يَتَبَيَّنُ الحَقُّ؟!"، وَلَمَّا قَالَ لَهُ تِلْمِيذُهُ أَبُو سَعِيدٍ فِي مِحْنَةِ القَوْلِ بِخَلْقِ القُرْآنِ: يَا إِمَامُ، قُلْهَا؛ فَإِنَّ لَكَ عِيَالًا، قَالَ لَهُ: انْظُرْ، فَنَظَرَ فَإِذَا خَلْقٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ مَعَهُ وَرَقَةٌ وَقَلَمٌ، يَنْتَظِرُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يَقُولُهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَنْجُوَ بِنَفْسِي وَأُضِلَّ هَؤُلَاءِ". انتهى. فَالوَيْلُ كُلُّ الوَيْلِ لِمَنْ أَضَلَّ عِبَادَ اللهِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَالجَهَلَةُ مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَمَشَايِخِ الضَّلَالِ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ. انتهى. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَلَا يَجُوزُ أَنْ نُنَصِّبَ أَنْفُسَنَا، وَنُطْلِقَ أَلْسِنَتَنَا عَلَى العُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ أَعْرَاضَهُمْ مَسْمُومَةٌ، وَحَذَارِ حَذَارِ مِنْ تَنْزِيلِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ قَوْلٍ جَاءَ فِي ذَمِّ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ العُلَمَاءِ؛ لِاشْتِبَاهٍ فِيهِ، أَوْ لِمَوْقِفٍ أُخِذَ عَلَيْهِ، أَوْ لِزَلَّةٍ بَدَرَتْ مِنْهُ، وَلَا نُحَمِّلُهُمْ مَا لَا يَحْتَمِلُونَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). ح 19 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: تَدْنِيسُ العِلْمِ بِأَخْذِ أَوْسَاخِ المُغْرِضِينَ وَأَقْذَارِ المُفْسِدِينَ، أَوْ تَشْوِيهُهُ بِالحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ، أَوْ تَشْوِيهُ مَقَامِ العُلَمَاءِ بِالخُرُوجِ عَنْ جَادَّتِهِمْ المُسْتَقِيمَةِ، وَمَحَجَّتِهِمْ البَيْضَاءِ، التِي لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ. قَالَ الجُرْجَانِيُّ: وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ العِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرتُهُ لِي سُلَّمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً؟! ... إِذَنْ فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا قَالَ أَبُو حَازِمٍ: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ؛ كَانَتِ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى العُلَمَاءِ، وَكَانَتِ العُلَمَاءُ تَفِرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَذِلَّةِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ العِلْمَ، وَأَتَوْا بِهِ إِلَى الأُمَرَاءِ، فَاسْتَغْنَتْ بِهِ عَنِ العُلَمَاءِ، وَاجْتَمَعَ القَوْمُ عَلَى المَعْصِيَةِ فَسَقَطُوا وَانْتَكَسُوا، وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَصُونُونَ عِلْمَهُمْ لَمْ تَزَلْ الأُمَرَاءُ تَهَابُهُمْ". وَلَمَّا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ لِأَبِي حَازِمٍ: اصْحَبْنَا يَا أَبَا حَازِمٍ، نُصِبْ مِنْكَ وَتُصِبْ مِنَّا؛ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ!. قَالَ: وَلِمَ؟. قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلًا؛ فَيُذِيقُنِي اللهُ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ. قَالَ: فَأَشِرْ عَلَيَّ. قَالَ: اتَّقِ اللهَ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَأَنْ يَفْتَقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ فِي مِحْنَتِهِ زَمَنَ أَبِي جَعْفَرٍ المَنْصُورِ: "يَا أُمَّهُ، لَوْ أَرَدْتُ الدُّنْيَا لَوَصَلْتُ إِلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَعْلَمَ اللهُ أَنِّي صُنْتُ العِلْمَ، وَلَمْ أُعَرِّضْ نَفْسِي فِيهِ لِلْهَلَكَةِ". وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَإِنَّ التَّارِيخَ المَاضِيَ مِرْآةُ المُسْتَقْبَلِ، فَمَنْ تَأَمَّلَ حَوَادِثَهُ، وَتَأَمَّلَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَمَا دَوَّنَهُ العُلَمَاءُ فِي كُتُبِ العَقَائِدِ حَوْلَ مَا يَجِبُ لِوُلَاةِ الأَمْرِ؛ أَدْرَكَ أَهَمِّيَّةَ الصَّبْـرِ عَلَى الصَّبِرِ. رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: (اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ؛ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الغَالِبِ وَفِي الجُمْلَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). وَثَبَتَ عَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ، قَالَ: (كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: "وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ"، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "الزُّهْدِ" وَالطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ، لَوَسِعَتْهُمْ. وَقَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً مَا صَيَّرْتُهَا إِلَّا فِي الإِمَامِ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟، قَالَ: مَتَى مَا صَيَّرْتُهَا فِي نَفْسِي لَمْ تَجُزْنِي، وَمَتَى صَيَّرْتُهَا فِي الإِمَامِ؛ فَإِصْلَاحُ الإِمَامِ إِصْلَاحُ العِبَادِ وَالبِلَادِ". أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَيُنْسَبُ نَحْوُهُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ. ح 20 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: الانْسِلَاخُ مِنَ الوَسَطِيَّةِ، وَهِيَ العَدْلُ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ؛ فَالغُلُوُّ طَرَفٌ، وَالجَفَاءُ طَرَفٌ، فَالفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ، وَهِيَ الطَّائِفَةُ المَنْصُورَةُ، احْتَلَّتْ المَرْكَزِيَّةَ وَالمِحْوَرَ الوَسَطَ، الذِي مَنِ الْتَزَمَهُ نَجَا، وَمَنْ تَرَكَهُ إِلَى طَرَفٍ مِنَ الأَطْرَافِ الاثْنَيْنِ وَالسَّبْعِينَ هَلَكَ وَأَهْلَكَ. فَعَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ). صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَالشَّاطِبِيُّ، وَالعِرَاقِيُّ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: (قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي). وَحَسَّنَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ، وَالعِرَاقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ الوَسَطِيَّةُ فِي العِبَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَفِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، فَهُمْ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، يَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طَرِيقَةِ المُرْجِئَةِ، وَطَرِيقَةِ الخَوَارِجِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ المُرْجِئَةِ يُوصِلُ إِلَى تَمْييعِ الدِّينِ وَانْتِشَارِ الشَّهَوَاتِ، وَإِضَاعَةِ الإِسْلَامِ، وَإِدْخَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فِيهِ. وَطَرِيقُ الخَوَارِجِ يُوصِلُ إِلَى تَكْفِيرِ المُسْلِمِينَ، وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَزَعْزَعَةِ الأَمْنِ وَالاسْتِقْرَارِ، وَإِرْبَاكِ كَثِيرٍ مِنْ مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ، وَتَوْرِيطِ عِبَادِ اللهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "الحِلْيَةِ"، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مَالِكُ الْمُلْكِ، وَمَالِكُ الْمُلُوكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ بِيَدِي، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا أَطَاعُونِي حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالسَّخَطِ وَالنِّقْمَةِ، فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، إِذًا فَلَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَلَكِنِ اشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالذِّكْرِ وَالتَّفَرُّغِ إِلَيَّ؛ أَكْفِكُمْ مُلُوكَكَمْ). وَإِسْنَادُهُ سَاقِطٌ؛ قَالَ الهَيْثَمِيُّ: "رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَفِيهِ وَهْبُ بْنُ رَاشِدٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ". وَثَبَتَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، قَالَ: "كَانَ فِي زَبُورِ دَاوُدَ مَكْتُوبًا – وَذَكَرَهُ". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَرَوَاهُ قِوَامُ السُّنَّةِ فِي "التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ"، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: "قَرَأْتُ فِي الْحِكْمَةِ: وَذَكَرَهُ". قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: "لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَرَأَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ هَذَا الْكَلَامَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ". ح 21 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: الانْسِلَاخُ مِنَ العِلْمِ البَاطِنِ، عِلْمِ القَلْبِ؛ كَالعِلْمِ بِاللهِ، وَحُبِّهِ، وَرَجَائِهِ، وَالخَوْفِ مِنْهُ، وَتَعْظِيمِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ فِي السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ، وَالوَرَعِ وَالتَّقْوَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَثَبَتَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ العِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ»، فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا العِلْمُ، وَقَدْ قَرَأْنَا القُرْآنَ؟! فَوَاللهِ لَنَقْرَأَنَّهُ، وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ اليهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عنْهُمْ؟!». قَالَ جُبَيْرٌ بْنُ نُفَيْرٍ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فقُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ، قَالَ: «صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، لَوْ شِئْتُ لَأُخْبَرْتُكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفعُ مِنَ النَّاسِ: الخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الجَامِعِ، فَلَا تَرَى فِيهِ خَاشِعًا». خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ. وَخَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، مَرْفُوعًا، وَفِيهِ: فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ، فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِ عَوْفٍ، فَقَالَ: صَدَقَ». وَصَحَّحَ الحَاكِمُ الإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، وَأَنَّ جُبَيْرًا سَمِعَهُ مِنَ الصَّحَابِيَّيْنِ. وَخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا فَقَالَ: "ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ". فَذَكَرَ الحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: "أَوَ لَيْسَ الْيهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا؟". وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ. وَذَكَرَ الحَسَنُ أَنَّ العِلْمَ عِلْمَانِ: "عِلْمُ اللِّسانِ؛ فَذَاكَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ، وَعِلْمٌ فِي الْقلْبِ؛ فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ". وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ". وَكَتَبَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ إِلَى مَكْحُولٍ: "إِنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ بِظَاهِرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاسِ منْزِلةً وشَرَفًا، فَاطْلُبْ بِبَاطِنِ عِلْمِكَ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلةً وزُلْفَى، وَاعْلَمْ أَنَّ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ تَمْنَعُ الْأُخْرَى". وَالعِلْمُ الظَّاهِرُ هُوَ عِلْمُ الفَتَاوَى وَالأَحْكَامِ وَالمَوَاعِظِ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ عَنْ أَصْحَابِ العِلْمِ الظَّاهِرِ لَا البَاطِنِ: هَؤُلَاءِ مَذْمُومُونَ عِنْدَ السَّلَفِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذَا هُوَ العَالِمُ الفَاجِرُ. ح 22 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ إِمَّا انْسِلَاخًا كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا: مُوَالَاةُ وَمُظَاهَرَةُ أَعْدَاءِ الإِسْلَامِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ وَمَنَاهِجِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). وَنُصْرَةُ أَعْدَاءِ الإِسْلَامِ، وَإِعَانَتُهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَأْيِيدُهُمْ عَلَى شَرِّهِمْ؛ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَجَرِيمَةٌ فِي حَقِّ العِبَادِ وَالبِلَادِ، لَا تُضَاهِيهَا جَرِيمَةٌ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا مُتَعَدٍّ، وَشَرَّهَا عَامٌّ، وَلَا يَصْدُرُ مِثْلُ هَذَا مِنْ عَالِمٍ عَامِلٍ، وَإِنَّمَا مِنْ مُتَعَالِمٍ جَاهِلٍ، تَسَلَّقَ إِلَى مَنْصِبِ الإِفْتَاءِ، وَمِنْبَرِ الوَعْظِ وَالإِرْشَادِ، وَهُمَا مِنْهُ بَرَاءٌ، وَقَدْ يَصْدُرُ مِمَّنْ تَعَلَّمَ لِلدُّنْيَا لَا لِلدِّينِ، أَوْ فَسَدَتْ نِيَّتُهُ، وَمَرِجَتْ سَرِيرَتُهُ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: (مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ). رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الغَزَالِيُّ فِي "إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ": «إِنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ شَرُّهُمْ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ شَرِّ الشَّيَاطِينِ، إِذِ الشَّيْطَانُ بِوَاسِطَتِهِمْ يَتَدَرَّجُ إِلَى انْتِزَاعِ الدِّينِ مِنْ قُلُوبِ الخَلْقِ». وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "عُلَمَاءُ السُّوءِ جَلَسُوا عَلَى بَابِ الجَنَّةِ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَيْهَا بِأَقْوَالِهِمْ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى النَّارِ بِأَفْعَالِهِمْ، فَكُلَّمَا قَالَتْ أَقْوَالُهُمْ لِلنَّاسِ: هَلُمُّوا؛ قَالَتْ أَفْعَالُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا مِنْهُمْ، فَلَوْ كَانَ مَا دَعَوْا إِلَيْهِ حَقًّا كَانُوا أَوَّلَ المُسْتَجِيبِينَ لَهُ، فَهُمْ فِي الصُّورَةِ أَدِلَّاءُ، وَفِي الحَقِيقَةِ قُطَّاعُ طُرُقٍ". وَبَكَى رَبِيعَةُ شَيْخُ الإِمَامِ مَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يُبْكِيـكَ؟ فَقَالَ: "اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قَالَ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ". قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: "قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَى رَبِيعَةُ زَمَانَنَا، وَإِقْدَامَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ عَلَى الفُتْيَا". انتهى. وَإِلَى اللهِ المُشْتَكَى!، فَنَحْنُ فِي زَمَانٍ يُفْتِي فِيهِ مَنْ هَبَّ وَدَبَّ، وَالسَّاقِطُ وَاللَّاقِطُ، وَيَعْتَرِضُونَ عَلَى فَتَاوَى الثِّقَاتِ الأُمَنَاءِ، مِمَّنْ شَابَتْ شَبِيبَتُهُمْ فِي العِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالفُتْيَا. ح 23 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: كِتْمَانُهُ وَعَدَمُ إِظْهَارِهِ وَبَيَانِهِ، وَالسَّاكِتُ عَنِ الحَقِّ مَعَ القُدْرَةِ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، وَالنَّاطِقُ بِالبَاطِلِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَالخَوْفُ لَيْسَ إِكْرَاهًا. قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). قَالَ القُرْطُبِيُّ: "قِيلَ: المُرَادُ كُلُّ مَنْ كَتَمَ الحَقَّ، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِنْ دِينِ اللهِ، يُحْتَاجُ إِلَى بَثِّهِ". انتهى. وَقَالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْلَا آيَتَانِ أَنْـزَلَهُمَا اللهُ فِي كِتَابِهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ» إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَالآيَةُ الأُخْرَى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ» إِلَى آخِرِ الآيَةِ. وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ؛ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "مَنْ كَتَمَ العِلْمَ الذِي أَمَرَ اللهُ بِإِظْهَارِهِ لَعَنَهُ اللهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَأَهْلُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَيْثُ سَعَى فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللهِ فِي الأَرْضِ، الذِي بِسَبَبِ إِخْفَائِهِ تَظْهَرُ المَعَاصِي وَالظُّلْمُ وَالعَدَاوَةُ وَالبَغْيُ". انتهى. وَكَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَتَجَنَّبُونَ الأَمَاكِنَ التِي هِيَ مَظِنَّةُ الكِتْمَانِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِهِ النَّافِعِ: "أَخْبَارُ الشُّيُوخِ وَأَخْلَاقُهُمْ": رَاجِعْهُ لِزَامًا. قَالَ: وَسَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ ابْنَ أُخْتِ ابْنِ الْمُبَارَكِ يُنَاظِرُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَيُكَلِّمُهُ فِي الدُّخُولِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَدْ قَالَ خَالُكَ، يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ: لَا تَأْتِهِمْ، فَإِنْ أَتَيْتَهُمْ فَاصْدُقْهُمْ، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ لَا أَصْدُقَهُمْ. وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالخُطْبَةِ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ. فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ، يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ح 24 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: مُعَادَاةُ العُلَمَاءِ المُخْلِصِينَ النَّاصِحِينَ، وَمُنَاوَءَتُهُمْ، وَتَلْفِيقُ التُّهَمِ عَلَيْهِمْ، وَالوِشَايَةُ بِهِمْ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا الأَرَاذِلُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). قَالَ قَتَادَةُ: "هَؤُلَاءِ أَهْلُ الكِتَابِ، كَانَ أَتْبَاعُ الأَنْبِيَاءِ يَنْهَوْنَهُمْ، وَيُذَكِّرُونَهُمْ، فَيَقْتُلُونَهُمْ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَهَؤُلَاءِ الذِينَ وَقَفُوا مَعَ ظَاهِرِ العِلْمِ، وَلَمْ يَصِلِ العِلْمُ النَّافِعُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَا شَمُّوا لَهُ رَائِحَةً؛ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الغَفْلَةُ وَالقَسْوَةُ، وَالإِعْرَاضُ عَنِ الآخِرَةِ، وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا، وَمَحَبَّةُ العُلُوِّ فِيهَا، وَالتَّقَدُّمُ بَيْنَ أَهْلِهَا. وَقَدْ مَنَعُوا إِحْسَانَ الظَّنِّ بِمَنْ وَصَلَ العِلْمُ النَّافِعُ إِلَى قَلْبِهِ، فَلَا يُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُجَالِسُونَهُمْ، وَرُبَّمَا ذَمُّوهُمْ، وَقَالُوا: لَيْسُوا بِعُلَمَاءَ، وَهَذَا مِنْ خِدَاعِ الشَّيْطَانِ وَغُرُورِهِ؛ لِيَحْرِمَهُمْ الوُصُولَ إِلَى العِلْمِ النَّافِعِ الذِي مَدَحَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَسَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا. وَلِهَذَا كَانَ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا يُبْغِضُونَ عُلَمَاءَ الآخِرَةِ، وَيَسْعَوْنَ فِي أَذَاهُمْ جَهْدَهُمْ، كَمَا سَعَوْا فِي أَذَى سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ وَالحَسَنِ وَسُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الآخِرَةِ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ، وَعُلَمَاءَ السُّوءِ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنَ اليَهُودِ، وَهُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ، وَقَتَلَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً وَحَسَدًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ لِلدُّنْيَا لَا يُعَظِّمُونَ عِلْمًا وَلَا دِينًا، وَإِنَّمَا يُعَظِّمُونَ المَالَ وَالجَاهَ وَالتَّقَدُّمَ عِنْدَ المُلُوكِ". انتهى. أَمَّا مَا يَحْصُلُ بَيْنَ الأَقْرَانِ مِنَ الغَيْرَةِ؛ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا، إِلَّا أَنَّهُ مُحْتَمَلٌ مَا دَامَ لَمْ يَتَجَاوَزْ إِلَى البَغْيِ وَالعُدْوَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: اسْتَمِعُوا عِلْمَ العُلَمَاءِ، وَلَا تُصَدِّقوا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمْ أَشَدُّ تَغَايُرًا مِنَ التُّيُوسِ فِي زَرْبِهَا. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يُؤْخَذُ بِقَوْلِ العُلَمَاءِ وَالقُرَّاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا قَوْلَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ؛ فَلَهُمْ أَشَدُّ تَحَاسُدًا مِنَ التُّيُوسِ. وَقَالَ الغَزَالِيُّ: وَالحَسَدُ يَكْثُرُ بَيْنَ أَصْحَابِ الحِرَفِ وَالمِهَنِ المُتَمَاثِلَةِ، وَأَرْبَابِ المَقَاصِدِ المُشْتَرَكَةِ؛ وَلِذَلِكَ تَرَى العَالِمَ يَحْسُدُ العَالِمَ دُونَ العَابِدِ، وَالعَابِدَ يَحْسُدُ العَابِدَ دُونَ العَالِمِ. ح 25 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: تَكْفِيرُ العُلَمَاءِ، وَتَضْلِيلُهُمْ، وَتَبْدِيعُهُمْ، وَتَفْسِيقُهُمْ، وَوَصْفُهُمْ بِالأَوْصَافِ الشَّنِيعَةِ، وَالأَلْقَابِ القَبِيحَةِ، وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ، وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ؛ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ). وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا العَصْرِ أَحْدَاثُ أَسْنَانٍ، سُفَهَاءُ أَحْلَامٍ، مُتَفَيْهِقُونَ، لَا يَرْقُبُونَ فِي عَالِمٍ لَمْ يُوَافِقْ هَوَاهُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، دَخَلُوا عَلَى جَهْلٍ فِي لُجَّةِ التَّسَلْسُلِ وَاللَّوَازِمِ التَّكْفِيرِيَّةِ البَاطِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَمَشْيَخَ عَلَى أَيْدِي أَصَاغِرَ مُسْتَأْجَرِينَ، أَوْ عَلَى أَيْدِي مُتَعَالِمِينَ حَانِقِينَ، يُفْتِي وَهُوَ أَجْهَلُ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ فِي المُعْضِلَةِ النَّازِلَةِ، التِي لَوْ كَانَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ لَجَمَعَ لَهَا المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَكْفِيرِ مُخَالِفِيهِ وَيُضَلِّلُهُمْ. وَفِي سَاقَتِهِمْ مَنْ دَرَسَ فِي حَظَائِرِ التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ وَالغُلُوِّ، أَوْ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهَا، فَأَطْلَقُوا لِأَلْسِنَتِهِمْ العِنَانَ فِي أَعْرَاضِ العُلَمَاءِ، يُفَجِّرُونَ وَيُخَوِّنُونَ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. وَفِي سَاقَتِهِمْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ عَلَى دَخَنٍ، قَدِ اسْتَغَلَّهُ مَنِ اسْتَغَلَّهُ، فَهَاجَ كَالرِّيحِ العَقِيمِ، يُحَطِّمُ أَنْدَادَهُ مِنَ العُلَمَاءِ، يُبَدِّعُ هَذَا فِي عَقِيدَتِهِ، وَيُضَلِّلُ هَذَا فِي مَنْهَجِهِ، بِمَنْزِلَةِ ابْنِ خَرَاشٍ؛ جَمَعَ فَأَوْعَى، وَجَرَّحَ وَهُوَ المَجْرُوحُ، وَلَهُ أَتْبَاعٌ يَنْفُخُونَ نَارَهُ، وَيَتَصَدَّرُونَ المَجَالِسَ، مَا هُمْ إِلَّا نَشَرَاتُ أَخْبَارٍ، قِيلَ وَقَالَ، وَجَرَّحَ فِي عُلَمَاءَ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتٍ. وَفِي سَاقَتِهِمْ مَنْ مَدْرَسَتُهُ كُتُبُ الرِّجَالِ وَالتَّرَاجِمِ وَالسِّيَرِ، شُغْلُهُ نَقْدُ العُلَمَاءِ، لَا يَعْرِفُ مِنْ كِتَابِ التَّقْرِيبِ إِلَّا مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: عَابَهُ زَائِدَةُ لِدُخُولِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الأُمَرَاءِ. ثُمَّ هُوَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مِثْلِ تَقْوِيَةِ ابْنِ عَدِيٍّ: قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الأَئِمَّةُ. وَلَا يَعْرِفُ فِي السِّيَرِ إِلَّا مِثْلَ هَجْرِ ابْنِ المُبَارَكِ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ لِوِلَايَتِهِ وَأَبْيَاتِهِ فِيهِ: لَا تَبِعِ الدِّينَ بِالدُّنْيَا ... كَمَا يَفْعَلُ ضُلَّالُ الرَّهَابِينِ وَيَتَغَافَلُ عَنْ قَوْلِ الذَّهَبِيِّ: اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الأُمَّةِ عَلَى الاحْتِجَاجِ بِإِسْمَاعِيلَ. يُرِيدُ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ أَنْ يَصْبِرَ صَبْرَ حَبِيبِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الخَوْلَانِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِمْ. وَأَنْ يَكُونُوا كَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حِينَ دَخلَ محمدُ بنُ سُليمانَ أَميرُ البصرةِ عَلَيْهِ، وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، مَا لِي كُلَّمَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ ارْتَعَدْتُ فَرَقًا مِنْكَ. وَكَالعُمَرِيِّ خَرَجَ إِلَى الكُوفَةِ إِلَى الرَّشِيدِ لِيَعِظَهُ وَيَنْهَاهُ؛ فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي عَسْكَرِ الرَّشِيدِ لَمَّا سَمِعُوا بِنُزُولِهِ، حَتَّى لَوْ نَزَلَ بِهِمْ عَدُوٌّ مِائَةُ أَلْفِ نَفْسٍ لَمَا زَادُوا عَلَى ذَلِكَ. وَمِثْلَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَطَاوُوسَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي القَاسِمِ قِوَامِ السُّنَّةِ، وَالعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَأَشْكَالِهِمْ. يَغْتَرِفُ مِنْ كِتَابِ (مَا رَوَاهُ الأَسَاطِينُ فِي عَدَمِ المَجِيءِ إِلَى السَّلَاطِينِ لِلسُّيُوطِيِّ)، وَهُوَ كِتَابٌ مُفِيدٌ لِمَنْ عِنْدَهُ فَهْمٌ، لَكِنَّهُ يَأْخُذُ مَا فِيهِ مِنَ المُبَالَغَاتِ وَالتَّشَدُّدَاتِ، وَيُطَالِبُ بِهَا العُلَمَاءَ النَّزِيهِينَ فِي مَقَاصِدِهِمْ، المُنْضَبِطِينَ فِي مَدَاخِلِهِمْ وَمَخَارِجِهِمْ، أَصْحَابَ عِلْمٍ وَحِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، قَدْ شَنَقُوا لِمَنَاصِبِهِمُ الزِّمَامَ، أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَة؛ إِذَا أَتَوْا فَجْوَةَ تَصْحِيحٍ أَسْرَعُوا، وَإِذَا أَتَوْا مُرْتَفَعًا أَرْخَوُا الزِّمَامَ لِلصُّعُودِ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ. قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا"، وَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً). وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «قِيلَ لأُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ: ما يَمْنَعُكَ أَلَّا تَدْخُلَ علَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إلَّا أُسْمِعُكُمْ؟ وَاللَّهِ لقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيما بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَن فَتَحَهُ». وَقَالَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ: يَا هِشَامُ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُو بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الذِي عَلَيْهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَغَيْرُهُ. ح 26 وَمِنْ جُمْلَةِ الانْسِلَاخِ مِنَ العِلْمِ: تَحْقِيرُ العِلْمِ الظَّاهِرِ، وَوَصْفُهُ أَوْ وَصْفُ أَهْلِهِ بِالأَوْصَافِ التِي لَا تَلِيقُ بِهِ أَوْ بِأَهْلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: تَرْكُ العَمَلِ بِالعِلْمِ الظَّاهِرِ؛ اكْتِفَاءً بِالعِلْمِ البَاطِنِ، أَوْ لِانْخِلَاعٍ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالتَّرَفُّعُ عَنْهَا لِعُلُوِّ المَقَامِ، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ عُلُوٌّ عِنْدَ الشَّيْطَانِ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي البَاطِنَ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، يَذُمُّ العِلْمَ الظَّاهِرَ، الذِي هُوَ الشَّرَائِعُ وَالأَحْكَامُ، وَالحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَيَطْعَنُ فِي أَهْلِهِ، وَيَقُولُونَ: هُمْ مَحْجُوبُونَ وَأَصْحَابُ قُشُورٍ، وَهَذَا يُوجِبُ القَدْحَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، التِي جَاءَتِ الرُّسُلُ بِالحَثِّ عَلَيْهَا، وَالاعْتِنَاءِ بِهَا. وَرُبَّمَا انْحَلَّ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّكَالِيفِ، وَادَّعَى أَنَّهَا لِلْعَامَّةِ، وَأَمَّا مَنْ وَصَلَ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهَا، وَأَنَّهَا حِجَابٌ لَهُ، وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الجُنَيْدُ وَغَيْرُهُ مِنَ العَارِفِينَ: وَصَلُوا، وَلَكِنْ إِلَى سَقَرَ. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ خِدَاعِ الشَّيْطَانِ وَغُرُورِهِ لِهَؤُلَاءِ، لَمْ يَزَلْ يَتَلَاعَبُ بِهِمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ عَنِ الإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا العِلْمَ البَاطِنَ لَا يُتَلَقَّى مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، وَلَا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يُتَلَقَّى مِنَ الخَوَاطِرِ وَالإِلْهَامَاتِ وَالكُشُوفَاتِ، فَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِالشَّرِيعَةِ الكَامِلَةِ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهَا لَمْ تَأْتِ بِهَذَا العِلْمِ النَّافِعِ، الذِي يُوجِبُ صَلَاحَ القُلُوبِ، وَقُرْبَهَا مِنْ عَلَّامِ الغُيُوبِ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الإِعْرَاضَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا البَابِ بِالكُلِّيَّةِ، وَالتَّكَلُّمَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الآرَاءِ وَالخَوَاطِرِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ أَكْمَلَ العُلَمَاءِ وَأَفْضَلَهُمْ: العُلَمَاءُ بِاللهِ وَبِأَمْرِهِ، الذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ العِلْمَيْنِ، وَتَلَقَّوْهُمَا مَعًا مِنَ الوَحْيَيْنِ - أَعْنِي: الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ - وَعَرَضُوا كَلَامَ النَّاسِ فِي العِلْمَيْنِ مَعًا عَلَى مَا جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا وَافَقَ قَبِلُوهُ، وَمَا خَالَفَ رَدُّوهُ. وَهَؤُلَاءِ خُلَاصَةُ الخَلْقِ، وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَهُمْ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ حَقًّا، وَهَؤُلَاءِ كَثِيرٌ فِي الصَّحَابَةِ، كَالخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ، وَمُعَاذٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ كَالحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ. وَفِيمَنْ بَعْدَهُمْ كَالثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ. وَقَدْ سَمَّاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: العُلَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ المَمْدُوحُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. فَقَال:َ "النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رِعَاعٌ ... ". ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا وَصَفَ فِيهِ عُلَمَاءَ السُّوءِ وَالعُلَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ». انتهى. ح 27 فَضْلُ العَالِمِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؟) الجَوَابُ: لَا يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ عِلْمًا نَافِعًا، وَالذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، أَوْ يَعْلَمُونَ عِلْمًا لَا يَنْفَعُ. فَالذِينَ يَعْلَمُونَ وَيعْمَلُونَ هُمُ الأَفْضَلُ رُتْبَةً، وَالأَكْمَلُ شَرَفًا، وَالأَرْفَعُ مَقَامًا، وَالأَكْبَرُ قَدْرًا. وَقَالَ تَعَالَى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)؛ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَدَحَ اللهُ العُلَمَاءَ فِي هَذِهِ الآيَةِ. وَالمَعْنَى أَنَّهُ يَرْفَعُ اللهُ الذِينَ أُوتُوا العِلْمَ عَلَى الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُؤْتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ. وَقَالَ تَعَالَى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ)، فَهَذِهِ أَعْظَمُ شَهَادَةٍ، وَدَلَّتْ الآيَةُ عَلَى شَرَفِ العُلَمَاءِ، وَعُلُوِّ مَكَانَتِهِمْ، وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَكَبِيرِ فَضْلِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ، وَلَوْ وُجِدَ أَشْرَفُ مِنَ العُلَمَاءِ أَوْ مِثْلُهُمْ؛ لَقَرَنَهُمُ اللهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ. وَثَبَتَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي "المُسْنَدِ": عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ، كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتْ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ". قَالَ الهَيْثَمِيُّ: "فِيهِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الاحْتِجَاجِ بِهِ، وَأَبُو حَفْصٍ صَاحِبُ أَنَسٍ مَجْهُولٌ". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ فِي البَحْرِ؛ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ». وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ، كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ». وَقَالَ: صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ. ح 28 مَكَانَةُ العَالِمِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. أَيْ يُفَهِّمْهُ الإِسْلَامَ وَالإِيمَانَ وَالإِحْسَانَ، وَيُوَفِّقْهُ لِلْعَمَلِ بِذَلِكَ. وَعَلَى قَدْرِ كَمَالِ هَذِهِ المَقَامَاتِ الثَّلَاثِ عِنْدَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، يَكُونُ قَدْرُ الفَضْلِ. قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: "كُلُّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَا بُدَّ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ، فَمَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، لَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا". وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. أَفَادَ الحَدِيثُ أَنَّ المَغْبُوطَ مَنْ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا نَافِعًا، تَظْهَرُ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَتَبْرُزُ لِلْآخَرِينَ ثَمَرَاتُهُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِصَلَاحِ نِيَّتِهِ وَصِدْقِ طَوِيَّتِهِ، حَيْثُ قَصَدَ مِنْ طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ أَنْ يَرْفَعَ الجَهْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ، فَصَدَّقَ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ، ثَابِتٌ فِي سَيْرِهِ عَلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، لَا يَقِفُ وَلَا يَنْحَرِفُ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: «أَوَّلُ الْعِلْمِ النِّيَّةُ، ثُمَّ الِاسْتِمَاعُ، ثُمَّ الْفَهْمُ، ثُمَّ الْحِفْظُ، ثُمَّ الْعَمَلُ، ثُمَّ النَّشْرُ». وَقَالَ الخَلَّالُ فِي كِتَابِ "العِلَلِ": «قَرَأْتُ عَلَى زُهَيْرِ بْنِ صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا مُهَنَّا، قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ مُعَانِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ العُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَحْمِلُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغَالِينَ، وَانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ"، فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ: كَأَنَّهُ كَلَامٌ مَوْضُوعٌ؟. قَالَ: لَا، هُوَ صَحِيحٌ». فَمَنْ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِكَائِنٍ مَنْ كَانَ، أَنْ يَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ تَعْدِيلَهُ، إِلَّا أَنْ يَرَى مَا يُوجِبُ زَوَالَ عَدَالَتِهِ؛ لِبِدْعَةٍ ظَلْمَاءَ يَدْعُو إِلَيْهَا غَيْرَ مَعْذُورٍ فِيهَا، أَوْ فِسْقٍ بَوَاحٍ لَا يُدْرَأُ عَنْهُ بِشُبْهَةٍ، وَلَنَا عَلَى كُلِّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ كَالشَّمْسِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ العَالِمِ وَعَظِيمِ مَكَانَتِهِ وَأَهَمِّيَّةِ حَيَاتِهِ: مَا جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَا يقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجالِ، وَلَكِنْ يُذْهِبُ العِلْمَ بِذَهَابِ العُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «مَوْتُ الْعَالِمِ مُصِيبَةٌ لَا تُجْبَرُ، وَثُلْمَةَ لَا تُسَدُّ، وَنَجْمٌ طُمِسَ، وَمَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: ثَبَتَ كَمَا فِي صَحِيحِ الحَاكِمِ، مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). قَالَ: مَوْتُ عُلَمَائِهَا. وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَوْتُ عَالِمٍ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنْ مَوْتِ سَبْعِينَ عَابِدًا. ح 29 مَنْزِلَةُ العَالِمِ قَالَ تَعَالَى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَعْظَمُ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ كَانَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ: الأَنْبِيَاءُ، وَالعُلَمَاءُ. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَجَالِسِ الأَنْبِيَاءِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَجَالِسِ العُلَمَاءِ". وَعَنِ ابْنِ المُنْكَدِرِ قَالَ: إِنَّ العَالِمَ دَاخِلٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ. لِذَا كَانَ السَّلَفُ يَتَحَاشَوْنَ الفَتْوَى وَلَا يَجْرُؤُونَ عَلَيْهَا. قَالَ عَلْقَمَةُ: كَانُوا يَقُولُونَ: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَقَلُّكُمْ عِلْمًا. وَعَنِ البَرَاءِ قَالَ: "أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ المَسْأَلَةِ، مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ". وَفِي رِوَايَةٍ: "فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الأَوَّلِ". وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْتَفْتُونَهُ لَمَجْنُونٌ". وَسُئِلِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: مَا أَنَا عَلَى الفُتْيَا بِجَرِيءٍ. وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِحَرِيصٍ عَلَى الفُتْيَا، مَا وَجَدْتُ مِنْهَا بُدًّا. وَلَيْسَ هَذَا الأَمْرُ لِمَنْ وَدَّ أَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إِلَيْهِ، إِنَّمَا هَذَا الأَمْرُ لِمَنْ وَدَّ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِالفَتْوَى أَسْكَتُهُمْ، وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَدْرَكْنَا الفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي المَسَائِلِ وَالفُتْيَا، حَتَّى لَا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا، وَإِذَا أُعْفُوا مِنْهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا فَقَدْ عَرَّضَهَا لِأَمْرِ عَظِيمٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تُلْجِئُ الضَّرُورَةُ. قِيلَ لَهُ: فَأَيُّمَا أَفْضَلُ؟ الكَلَامُ أَمِ السُّكُوتُ؟ قَالَ: الإِمْسَاكُ أَحَبُّ إِلَيَّ. قِيلَ لَهُ: فَإِذَا كَانتِ الضَّرُورَةُ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ: الضَّرُورَةَ الضَّرُورَةَ! وَقَالَ: الإِمْسَاكُ أَسْلَمُ لَهُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: أَيُّهَا المُفْتُونَ! انْظُرُوا كَيْفَ تُفْتُونَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ لِقَتَادَةَ لَمَّا جَلَسَ لِلْفُتْيَا: تَدْرِي فِي أَيِّ عَمَلٍ وَقَعْتَ، وَقَعْتَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَقُلْتَ: هَذَا يَصْلُحُ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ مِنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَتَبَدَّلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ بِالذِي كَانَ. وَكَانَ النَّخَعِيُّ يُسْأَلُ فَتَظْهَرُ عَلَيْهِ الكَرَاهَةُ وَيَقُولُ: مَا وَجَدْتَ أَحَدًا تَسْأَلُ غَيْرِي؟! وَقَالَ: قَدْ تَكَلَّمْتُ وَلَوْ وَجَدْتُ بُدًّا مَا تَكَلَّمْتُ، وَإنَّ زَمَانًا أَكُونُ فِيهِ فَقِيهَ الكُوفَةِ لَزَمَانُ سُوءٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَسْتَفْتُونَنَا اسْتِفْتَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّا لَا نُسْأَلُ عَمَّا نُفْتِيكُمْ بِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الحِسَابِ الفُقَهَاءُ. وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ المَسْأَلَةِ كَأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ لِبَعْضِ المُفْتِينَ: إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَا يَكُنْ همُّكَ تَخْلِيصَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ تَخْلِيصَ نَفْسِكَ أَوَّلًا. وَقَالَ لِآخَرَ: إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَتَفَكَّرْ؛ فَإِنْ وَجَدْتَ لِنَفْسِكَ مَخْرَجًا فَتَكَلَّمْ وَإِلَّا فَاسْكُتْ. وَكَلَامُ السَّلَفِ فِي هَذَا المَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُ. ح 30 فَضْلُ العِلْمِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا). دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ العِلْمَ أَفْضَلُ القُرُبَاتِ، وَلِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَحَاجَةِ الخَلْقِ إِلَيْهِ وَإِلَى أَهْلِهِ: جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ صُحِّحَ. وَقَدْ تَنَاوَلَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ: «مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ» فَضْلَ العِلْمِ، فَأَجَادَ وَأَفَادَ، فَلْيُرَاجَعْ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: "العِـلْمُ لَا يَـعْـدِلُهُ شَـيْءٌ لِمَنْ صَحَّـتْ نِيَّـتُـهُ". قَالُوا: وَكَيْفَ تَصِحُّ نِيَّتُـهُ؟ قَالَ: "يَنْـوِي أَنْ يَرْفَعَ الجَهْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ". وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: "لَيسَ بَعْدَ الفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: "لَا نَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الأَعْمَالِ أَفْضَلَ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ وَالحَدِيثِ لِمَنْ حَسُنَتْ فِيهِ نِيَّتُهُ. قِيلَ لَهُ: وَأَيُّ شَيءٍ النِّيَّةُ فِيهِ؟ قَالَ: يُرِيدُ اللهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ". قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ): (كَانَ طَالِبُ العِلْمِ فِيمَا مَضَى يَسْمَعُ لِيَعْلَمَ، وَيَعْلَمُ لِيَعْمَلَ، وَيَتَفَقَّهُ فِي دِينِ اللهِ لِيَنْتَفِعَ وَيَنْفَعَ، وَقَدْ صَـارَ الآنَ: يَسْمَعُ لِيَجْمَعَ، وَيَجْمَعُ لِيُذْكَرَ، وَيَحْفَظُ لِيَغْلِبَ وَيَفْخَرَ). وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَا: "البَابُ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُل أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا". وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: "مُذَاكَرَةُ العِلْمِ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ". وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَأَنْ أَفْقَهَ سَاعَةً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْيِيَ لَيلَةً أُصَلِّيهَا حَتَّى أُصْبِحَ". وَرُوِيَ عَنْهُ: "لَأَنْ أَعْلَمَ بَابًا مِنَ العِلْمِ فِي أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَبْعِينَ غَزْوَةً فِي سَبِيلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "تَذَاكُرُ العِلمِ بَعْضَ لَيلَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِحْيَائِهَا". وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَجْلِسٌ أَجْلِسُهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَوْثَقُ فِي نَفْسِي مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ". صَحَّحَهُ ابْنُ رَجَبٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: دَرْسُ الفِقْهِ صَلَاةٌ. وَعَنِ الحَسَنِ قَالَ: "لَأَنْ أَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ العِلْمِ فَأُعَلِّمَهُ مُسْلِمًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِي الدُّنْيَا كُلُّهَا أَجْعَلُهَا فِي سَبِيلِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -". وَعَنْهُ قَالَ: "إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُصِيبُ البَابَ مِنَ العِلْمِ، فَيَعْمَلُ بِهِ، فَيكُونُ خَيرًا لَهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَوْ كَانَتْ لَهُ فَيَجْعَلُهَا فِي الآخِرَةِ". وَعَنْهُ قَالَ: "مِدَادُ العُلَمَاءِ وَدَمُ الشُّهَدَاءِ مَجْرًى وَاحِدٌ". وَعَنْهُ: "مَا مِن شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللهُ أَعْظْمُ عِندَ اللهِ فِي عَظِيمِ الثَّوَابِ مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ، لَا حَجٌّ، وَلَا عُمَرَةٌ، وَلاَ جِهَادٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا عِتْقٌ، وَلَوْ كَانَ العِلْمُ صُورَةً لَكَانَتْ صُورَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ صُورَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالسَّمَاءِ وَالعَرْشِ". وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "تَعَلُّمُ سُنَّةٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ مِائَتَيْ سَنَةٍ". وَقَالَ المُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ: "كِتَابَةُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِيَامِ لَيلَةٍ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "طَلَبُ العِلْمْ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ نَافِلَةٍ". وَرَأَى مَالِكٌ بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَكْتُبُ العِلْمَ ثُمَّ تَرَكَهُ وَقَامَ يُصَلِّي، فَقَالَ: عَجَبًا لَكَ! مَا الَّذِي قُمْتَ إِلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِنَ الَّذِي تَرَكْتَهُ. وَالآثَارُ المَوْقُوفَةُ عَنِ السَّلَفِ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. ح 31 طَلَبُ العِلْمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ) رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَثَبَتَ عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي؟ فَقَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَمَا قَدِمْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ). رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ. وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: "أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ أَسْأَلُهُ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا زِرُّ؟ فَقُلْتُ: ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي "مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ": عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ المُخَارِقِ قَالَ: "أتَيْتُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: كَبُرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مَا يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ". قَالَ: "يَا قَبِيصَةُ، مَا مَرَرْتَ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إِلَّا اسْتَغْفَرَ لَكَ". قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي رِسَالَتِهِ "وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ": «وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لِقُوَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي العِلْمِ وَالدِّينِ وَالخَيْرِ، يَرْتَحِلُ أَحَدُهُمْ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ لِطَلَبِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ يَبْلُغُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ حِكَايَاتٍ كَافِيَةً - ثُمَّ قَالَ: اسْتِقْصَاءُ هَذَا البَابِ يَطُولُ». فَالطَّرِيقُ إِلَى العِلْمِ طَرِيقٌ إِلَى الجَنَّةِ، وَحِلَقُ العِلْمِ رِيَاضُ الجَنَّةِ، وَالاشْتِغَالُ بِالعِلْمِ أَفْضَلُ مِنَ الاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ وَالعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ العِلْمَ ذِكْرٌ وَعِبَادَةٌ، وَعَنْ طَرِيقِهِ مَعْرِفَةُ الأَحْكَامِ. وَمِنَ العِلْمِ مَا تَعَلُّمُهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فِعْلُ وَاجِبٍ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: "الَّذِي يَجِبُ عَلَى الإِنسَانِ مِنَ العِلْمِ مَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي صَلاَتِهِ وَإِقَامَةِ دِيْنِهِ". وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ العِلْمِ؛ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا فُضِّلَ عَلَى المَلَائِكَةِ المُشْتَغِلِينَ بِالعِبَادَةِ بِالعِلْمِ الَّذِي خُصَّ بِهِ، فَإِنَّهُ صَاحِبُ الوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -. وَكَذَلِكَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ إِنَّمَا فُضِّلُوا عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - بِمَزِيدِ العِلْمِ المُقْتَضِي لِزِيَادَةِ المَعْرِفَةِ بِاللهِ وَالخَشْيَةِ لَهُ. فَإِذَا تَأَمَّلْتَ أَقْسَامَ النَّاسِ المَذْكُورَةَ؛ لَمْ تَجِدْ أَشْرَفَ وَلَا أَقْرَبَ عِنْدَ المَلِكِ جَلَّ جَلَالُهُ مِنَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، فَهُمْ أَفْضَلُ الخَلْقِ بَعْدَ المُرْسَلِينَ. ح 32 مَا يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ قَالَ تَعَالَى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). فَالعِلْمُ هُوَ مَعْرِفَةُ الفِقْهِ الأَكْبَرِ أُصُولِ الاعْتِقَادِ، وَالفِقْهِ الأَصْغَرِ الأَحْكَامِ وَالوَعْظِ. قَالَ عَطَاءٌ الخُرَاسَانِيُّ: "مَجَالِسُ الذِّكْرِ مجَالِسُ الحَلالِ والحَرَامِ، كَيفَ تَشْترِي وَتَبِيعُ، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ، وتنْكِحُ وتُطلِّقُ، وتَحُجُّ وأَشْبَاهُ هَذَا". وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَا يَبِيعُ فِي سُوقِنَا إِلَّا مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ". خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَمِمَّا يَنْبَغِي تَعَلُّمُهُ: آدَابُ العِلْمِ وَأَخْلَاقُ العُلَمَاءِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَبِيبٍ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ، إِيتِ الفُقَهَاءَ وَالعُلَمَاءَ، وَتَعَلَّمْ مِنْهُمْ، وَخُذْ مِنْ أَدَبِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَهَدْيِهِمْ، فَإِنَّ ذَاكَ أَحَبُّ إِلَيَّ لَكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الحَدِيثِ". وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَرْحَلُونَ إِلَيْهِ، فَيَنْظُرُونَ إِلَى سَمْتِهِ، وَهَدْيِهِ، وَدَلِّهِ، قَالَ: فَيَتَشَبَّهُونَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الهَدْيَ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ العِلْمَ. قَالَ: وَبَعَثَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا، فَنَظَرَ كَيْفَ هَدْيُ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَحَالُهُ. وَقَالَ الحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنَّا نَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِ الإِمَامِ أَحْمَدَ زُهَاءَ خَمْسَةِ آلَافٍ أَوْ يَزِيدُونَ؛ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ يَكْتُبُونَ، وَالبَاقِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ حُسْنَ الأَدَبِ، وَحُسْنَ السَّمْتِ. وَقَالَ الأَعْمَشُ: كَانُوا يَأْتُونَ هَمَّامَ بْنَ الحَارِثِ، يَتَعَلَّمُونَ مِنْ هَدْيِهِ وَسَمْتِهِ. وَعَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «كُنَّا نَخْتَلِفُ إِلَى قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ، نَتَعَلَّمُ مِنْهُ الحِلْمَ، كَمَا نَتَعَلَّمُ الفِقْهَ». وَأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نَتَعَلَّمُ اجْتِنَابَ السُّلْطَانِ، كَمَا نَتَعَلَّمُ سُورَةً مِنَ القُرْآنِ. وَأُذَكِّرُ بِمَا جَاءَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ حَسَنَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ سَبِيلُ مَنَازِلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْدَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ، وَالمُعِينُ عَلَى الضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَقْوَامًا، فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً، تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، حِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ البَرِّ وَأَنْعَامُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمَصَابِيحُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلْمِ، وَقُوَّةُ الأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ، يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ فِي الْعِلْمَ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ والأَبْرَارِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ، وَمُدَارَسَتُهُ تَعْدِلُ الْقِيَامَ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ إِمَامُ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ. وَتَأَسَّفَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَبَكَى، قَالَ: "إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَقِيامِ لَيْلِ الشِّتَاءِ، وَمُزَاحَمَةِ العُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ". وَفِي الخِتَامِ: جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ قَالَ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ: وَمَحَبَّةُ العَالِمِ دِينٌ يُدَانُ بِهَا. وَفِي الأَثَرِ المَعْرُوفِ: "كُنْ عَالِمًا، أَوْ متَعَلِّمًا، أَوْ مُسْتَمِعًا، أَوْ مُحِبًّا لَهُمْ، وَلَا تَكُنْ الخَامِسَ فَتَهْلَكَ"؛ أَيْ: لَا تَكُنْ إِلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الأَرْبَعَةِ، وَإِلَّا هَلَكْتَ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.