الحَيَاةُ فِي القَبْرِ 1- ثَبَتَ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: "إِنَّ مِنْ أَفْضلِ أيَّامِكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ، "فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَليْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ؟ - يَقُولُ: بَلِيتَ -، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالنَّوَوِيُّ. فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - يَكُونُ حَيًّا فِي قَبْرِهِ حَيَاةً بَرْزَخِيَّةً أَثْنَاءَ صَلَاتِنَا عَلَيْهِ لِتُعْرَضَ عَلَيْهِ. 2- ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: "لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ". وَثَبَتَ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ -، قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي؛ حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ". رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. يَدُلُّ عَلَى حَيَاةِ النَّبِيِّ - ﷺ - فِي قَبْرِهِ حَيَاةً بَرْزَخِيَّةً، حِينَ يُصَلَّى أَوْ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ. 3- ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ -، قَالَ: (إِنَّ للَّهِ مَلَائِكةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ، يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَزَادَ البَزَّارُ: (تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ). قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ البَزَّارُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ السُّيُوطِيُّ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُنْكَرَةٌ. وَالحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - تُرَدُّ عَلَيْهِ رُوحُهُ لِيَرُدَّ السَّلَامَ، لَا لِإِجَابَةِ المُشْرِكِينَ المُسْتَغِيثِينَ بِهِ. 4- قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَقَدْ تُعَادُ الرُّوحُ إِلَى الْبَدَنِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنْ النَّبِيِّ - ﷺ -، أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ". وَقَدْ حَكَى تَصْحِيحَ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا: ابْنُ القَيِّمِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَنَقَلَ القُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ تَصْحِيحَ عَبْدِ الحَقِّ لَهُ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ. وَهَذِهِ الحَيَاةُ البَرْزَخِيَّةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ. 5- رَوَى البُخَارِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - ﷺ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا. وأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، بِغَيْرِ ذِكْرِ أَبِي طَلْحَةَ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ -، بَلْ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، حَيٌّ يَسْمَعُ كَلَامَ النَّاسِ ... إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. 6- قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ)، وقال تعالى: (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ). قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ أُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، بِهَذِهِ الآيَةِ، عَلَى تَوْهِيمِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ - ﷺ - القَتْلَى الَّذِينَ أُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ العُلَمَاءِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ؛ لِمَا لَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ مُصَحِّحًا لَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ المُسْلِمِ، كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا، فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ، حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ". 7- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: (العَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَأَقْعَدَاهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ، مُحَمَّدٍ - ﷺ -؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الكَافِرُ - أَوِ المُنَافِقُ - فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَحَيَاةُ المَيِّتِ حَيَاةٌ اللهُ أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّتِهَا، وَسَمَاعُهُ وَقَوْلُهُ وَرُؤْيَتُهُ وَصِيَاحُهُ: كُلُّهُ حَقِيقَةٌ يَجِبُ الإِيمَانُ بِهَا. 8- عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحَصِيبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهُ لَنَا وَلَكُمُ العَافِيَةَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ - ﷺ - لِأُمَّتِهِ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَهْلِ القُبُورِ، أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ سَلَامَ مَنْ يُخَاطِبُونَهُ، فَيَقُولُ المُسْلِمُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ، وَلَوْلَا هَذَا الخِطَابُ لَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ المَعْدُومِ وَالجَمَادِ، وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الآثَارُ عَنْهُمْ، بِأَنَّ المَيِّتَ يَعْرِفُ بِزِيَارَةِ الحَيِّ لَهُ وَيَسْتَبْشِرُ. 9- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - ﷺ -: (يَا رَسُولَ اللهِ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ - يَعْنِي أَهْلَ القُبُورِ - قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِريِنَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "فَهَذَا خِطَابٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يُخَاطَبُ مَنْ يَسْمَعُ"، وَقَالَ أَيْضًا: "فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَأَمْثَالُهَا، تُبَيِّنُ أَنَّ المَيِّتَ يَسْمَعُ فِي الجُمْلَةِ كَلَامَ الحَيِّ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ لَهُ دَائِمًا؛ بَلْ قَدْ يَسْمَعُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ". 10- قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ). فَالأَمْوَاتُ، سَوَاءٌ كَانُوا أَنْبِيَاءَ أَوْ أَوْلِيَاءَ أَوْ شُهَدَاءَ، إِنْ قَدَّرْنَا سَمَاعَهُمْ لِكَلَامِ الحَيِّ فِي مَشْهَدٍ وَرَدَ فِيهِ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَفْعَ المُسْتَغِيثِ بِهِمْ، وَهَذَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ، فَالطَّلَبُ مِنْهُمْ، وَالاسْتِغَاثَةُ بِهِمْ: شِرْكٌ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَالمَيِّتُ، وَإِنْ سَمِعَ الكَلَامَ، وَفَقِهَ المَعْنَى، لَا يُمْكِنُهُ إِجَابَةُ الدَّاعِي. 11- عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: (الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي البَابِ عَنِ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعَنْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - نَهَاهَا عَنِ البُكَاءِ عَلَى ابْنِهَا، وَقَالَ: (أَيُغْلَبُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُصَاحِبَ صُوَيْحِبَهُ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، وَإِذَا مَاتَ اسْتَرْجَعَ، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَبْكِي فَيَسْتَعْبِرُ إِلَيْهِ صُوَيْحِبُهُ، فَيَا عِبَادَ اللَّه، لَا تُعَذِّبُوا مَوْتَاكُمْ). حَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الحَدِيثَ عَلَى تَأَلُّمِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَهْلِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ وَبَعْضِ البُكَاءِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ وَعِيَاضٍ وَاِبْنِ تَيْمِيَّةَ. قَالَ شَيْخُنَا مُحَمَّدٌ العُثَيْمِينُ - رَحِمَهُ اللهُ -: مَعْنَاهُ أَنَّ المَيِّتَ إِذَا بَكَى أَهْلُهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ وَيَتَأَلَّمُ. 12- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَلِابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ عِنْدَ المَوْتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ دَخَلَ الجَنَّةَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ». وَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ: التَّلْقِينُ سَاعَةَ الاحْتِضَارِ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - يَقُولُ: (مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ حُسِّنَ. أَمَّا تَلْقِينُ المَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَدِيثٌ، وَنَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ تَلْقِينَ المَقْبُورِ بِدْعَةٌ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. 13- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ، حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ يُتَوَقَّفُ فِيهِ؛ لِإِبْهَامِ الرَّاوِي عَنْ أَنَسٍ، قَالَ الهَيْثَمِيُّ: "رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِيهِ رَجُلٌ لَمْ يُسَمَّ". وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ لِشَوَاهِدِهِ، وَمِنْهَا: حَدِيثُ النُّعْمَانِ، صَحَّحَ إِسْنَادَهُ الحَاكِمُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ، وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي «التَّهْذِيبِ» بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقْرِبَائِكُمْ مِنْ مَوْتَاكُمْ، فَإِنْ رَأَوْا خَيْرًا فَرِحُوا بِهِ، وَإِنْ رَأَوْا شَرًّا كَرِهُوهُ، وَإِنَّهُمْ يَسْتَخْبِرُونَ المَيِّتَ إِذَا أَتَاهُمْ: مَنْ مَاتَ بَعْدَهُمْ؟ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَسْأَلُ عَنِ امْرَأَتِهِ: أَتَزَوَّجَتْ أَمْ لَا، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ، فَإِذَا قِيلَ: قَدْ مَاتَ، قَالَ: هَيْهَاتَ، ذَهَبَ ذَاكَ، فَإِنْ لَمْ يُحِسُّوهُ عِنْدَهُمْ، قَالُوا: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذَهَبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الهَاوِيَةِ، فَبِئْسَ المُرَبِّيَةُ". 14- عَنْ أَبِي رُهْمٍ السَّمَاعِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: (إِذَا قُبِضَتْ نَفْسُ الْعَبْدِ، تَلَقَّاهُ أَهْلُ الرَّحْمَةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، كَمَا يَلْقَوْنَ الْبَشِيرَ فِي الدُّنْيَا، فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ لِيَسْأَلُوهُ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْظِرُوا أَخَاكُمْ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي كَرْبٍ، فَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَا فَعَلَتْ فُلَانَةٌ؟ هَلْ تَزَوَّجَتْ؟ فَإِذَا سَأَلُوا عَنِ الرَّجُلِ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ هَلَكَ، فَيَقُولُونَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَبِئْسَتِ الْأُمُّ، وَبِئْسَتِ الْمُرَبِّيَةُ، قَالَ: فَيُعْرَضُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ، فَإِذَا رَأَوْا حَسَنًا فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: هَذِهِ نِعْمَتُكَ عَلَى عَبْدِكَ فَأَتِمَّهَا، وَإِنْ رَأَوْا سُوءًا قَالُوا: اللَّهُمَّ رَاجِعْ بِعَبْدِكِ). أَخْرَجَهُ ابْنُ المُبَارَكِ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَقَدْ أُعِلَّ بِالانْقِطَاعِ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ العِرَاقِيُّ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ لِشَوَاهِدِهِ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ ثَبَتَ المَوْقُوفُ فَلَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ. 15- قال تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ). قَالَ قَتَادَةُ: يُعْرَضُونَ صَبَاحًا وَمَسَاءً، مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، يُقَالُ لَهُمْ: يَا آلَ فِرْعَوْنَ، هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ، تَوْبِيخًا وَنِقْمَةً وَصَغَارًا لَهُمْ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ اجْتَمَعَتْ أَرْوَاحُهُمْ وَأَجْسَادُهُمْ فِي النَّارِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ. وَهَذِهِ حَيَاةٌ بَرْزَخِيَّةٌ بَيْنَ الحَيَاةِ الدُّنيَوِيَّةِ وَالحَيَاةِ الأُخْرَوِيَّةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. 16- قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ). ذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ سُؤَالَ القَبْرِ، وَعَذَابَهُ أَوْ نَعِيمَهُ، يَكُونُ لِلرُّوحِ وَالبَدَنِ مَعًا. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِيثًا فِيهِ البِشَارَةُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ؛ بِأَنَّ رُوحَهُ تَكُونُ فِي الجَنَّةِ تَسْرَحُ فِيهَا، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَهُوَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَزِيزٍ، اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ؛ فَإِنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ، رَوَاهُ عَنِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ، حَتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ". قَوْلُهُ: "يَعْلُقُ"؛ أَيْ: يَأْكُلُ. وَفِي هَذَا الحَدِيثِ: "إِنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الجَنَّةِ". وَأَمَّا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ، فَكَمَا تَقَدَّمَ: فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ. 17- قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ). فَالأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ، حَيَاتُهُمْ غَيْبِيَّةٌ بَرْزَخِيَّةٌ، لَا نُدْرِكُ حَقِيقَتَهَا، وَلَا نَشْعُرُ بِهَا، فَهِيَ تَخْتَلِفُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - عَنْ حَيَاتِهِمْ قَبْلَ المَوْتِ وَبَعْدَ البَعْثِ، كَمَا أَنَّ حَيَاةَ النَّائِمِ وَسَطٌ بَيْنَ حَيَاةِ اليَقْظَانِ وَحَيَاةِ المُغْمَى عَلَيْهِ وَصَاحِبِ البِنْجِ. فَمَنْ مَاتَ انْتَهَتْ حَيَاتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَبَدَأَتْ حَيَاتُهُ البَرْزَخِيَّةُ الَّتِي لَا نَشْعُرُ بِهَا، وَلَا نُدْرِكُ كُنْهَهَا، وَلَا نَسْتَفِيدُ مِنْ سُؤَالِ وَلَا نَدَاءِ أَصْحَابِهَا. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا - يَعْنِي بِدُعَائِهِ حَيًّا - فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ؛ "أَيْ بِدُعَائِهِ". وَمَعَ أَنَّ قَبْرَ النَّبِيِّ - ﷺ - عِنْدَهُمْ فِي المَدِينَةِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ. وَإِذَا بُعِثَ الأَمْوَاتُ: بَدَأَتْ حَيَاتُهُمُ الأُخْرَوِيَّةُ الكَامِلَةُ. 18- قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). لَقَدْ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ - ﷺ - إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ بِفِلَسْطِينَ، وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَجُمِعَ لَهُ الأَنْبِيَاءُ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى فَأَمَّهُمْ وَكَانُوا أَمْوَاتًا، وَلَمَّا صُعِدَ بِهِ رَأَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَنْبِيَاءَ سَمَّاهُمْ وَخَاطَبُوهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مَعَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ مَدْفُونَةٌ فِي قُبُورِهِمْ، فَعَالَمُ الأَمْوَاتِ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ حَيَاتُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ وَعَذَابُهُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ -: "الأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا اسْتَقَرَّتْ أَرْوَاحُهُمْ هُنَاكَ – أَيْ: فِي السَّمَاءِ - بَعْدَ مُفَارَقَةِ الأَبْدَانِ، وَرُوحُ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - صَعِدَتْ إِلَى هُنَاكَ فِي حَالِ الحَيَاةِ ثُمَّ عَادَتْ – أَيْ: فِي الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ -، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى مَعَ أَرْوَاحِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَعَ هَذَا فَلَهَا إِشْرَافٌ عَلَى البَدَنِ، وَإِشْرَاقٌ، وَتَعَلُّقٌ بِهِ، بِحَيْثُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ. 19- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -، قَالَ: (أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ -، قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ). رَوَاهُ البَزَّارُ، وَقَدْ حُسِّنَ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: "حَيَاةُ النَّبِيِّ - ﷺ - فِي قَبْرِهِ هُوَ وَسَائِرُ الأَنْبِيَاءِ مَعْلُومَةٌ عِنْدَنَا عِلْمًا قَطْعِيًّا؛ لِمَا قَامَ عِنْدَنَا مِنَ الأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ، وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الأَخْبَارُ". وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ: رَأَى النَّبِيُّ - ﷺ - مُوسَى قَائِمًا يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَرَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَجْ بِمُوسَى مِنْ قَبْرِهِ ثُمَّ رُدَّ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَقَامُ رُوحِهِ وَاسْتِقْرَارُهَا، وَقَبْرُهُ مَقَامُ بَدَنِهِ وَاسْتِقْرَارُهُ إِلَى يَوْمِ مَعَادِ الأَرْوَاحِ إِلَى أَجْسَادِهَا، فَرَآهُ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، وَرَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، كَمَا أَنَّهُ - ﷺ - فِي أَرْفَعِ مَكَانٍ فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى مُسْتَقِرًّا هُنَاكَ، وَبَدَنُهُ فِي ضَرِيحِهِ غَيْرُ مَفْقُودٍ، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ المُسْلِمُ، رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ؛ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَلَمْ يُفَارِقِ المَلَأَ الأَعْلَى. 20- عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - ﷺ - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ - وَذَكَرَ الحَدِيثَ بِطُولِهِ -، وَفِيهِ خُرُوجُ رُوحِ العَبْدِ المُؤْمِنِ، ثُمَّ إِعَادَةُ رُوحِهِ فِي جَسَدِهِ، وَمَا يَلْقَى مِنَ النَّعِيمِ، وَفِيهِ نَزْعُ رُوحِ العَبْدِ الفَاجِرِ، ثُمَّ إِعَادَةُ رُوحِهِ فِي جَسَدِهِ، وَمَا يَلْقَى مِنَ العَذَابِ. خَرَّجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمَا، وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ. وَخَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - ذَكَرَ فَتَّانَيِ القَبْرِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتُرَدُّ إِلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "نَعَمْ، كَهَيْئَتِكُمُ اليَوْمَ". فَالمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ تُعَادُ لَهُ رُوحُهُ وَعَقْلُهُ وَحَيَاتُهُ، لَكِنَّهَا حَيَاةٌ غَيْبِيَّةٌ بَرْزَخِيَّةٌ، يَجِبُ الإِيمَانُ بِهَا. قال تعالى: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ). قَالَ الضَّحَّاكُ: البَرْزَخُ: مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَقَالَ الحَسَنُ: هِيَ هَذِهِ القُبُورُ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الآخِرَةِ. وَعَنْهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ هَذِهِ القُبُورُ الَّتِي تَرْكُضُونَ عَلَيْهَا لَا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ. وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: مَاتَ فُلَانٌ، قَالَ: لَيْسَ هُوَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ، هُوَ فِي بَرْزَخٍ. وَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: مَاتَ فُلَانٌ، أَصْبَحَ مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ، قَالَ: لَا تَقُلْ: مِنْ أَهْلِ الآخِرَةِ، وَلَكِنْ قُلْ: مِنْ أَهْلِ القُبُورِ. 21- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ)، وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: البَابُ السَّابِعُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ تَلَاقِي المَوْتَى فِي البَرْزَخِ وَتَزَاوُرِهِمْ. عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -: (إِذَا وَلِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ، فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ). وَخَرَّجَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الهَمْدَانِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَعِنْدَهُ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَكَذَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، مِنْ قَوْلِهِ، فَلَعَلَّ الزِّيَادَةَ فِي آخِرِهِ مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ. وَصَحَّحَ السُّيُوطِيُّ الزِّيَادَةَ: (فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ)، وَتَعَقَّبَ إِعْلَالَ ابْنِ الجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَشَوَاهِدُ، عِنْدَ الحَارِثِ بْنِ أُسَامَةَ فِي "مُسْنَدِهِ"، وَالدَّيْلَمِيِّ، وَالبَيْهَقِيِّ فِي "الشُّعَبِ". 22- خَرَّجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ حُسِّنَ، عَنْ أُمِّ هَانِئٍ الأَنْصَارِيَّةِ، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ الله - ﷺ -: أَنَتَزَاوَرُ إِذَا مِتْنَا؟ وَيَرَى بَعْضُنَا بَعْضًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (تَكُونُ النَّسَمُ طَيْرًا تَعْلُقُ بِالشَّجَرِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ دَخَلَتْ كُلُّ نَفْسٍ فِي جَسَدِهَا). وَقَالَ السَّفَّارِينِيُّ فِي "لَوَامِعِ الأَنْوَارِ البَهِيَّةِ": وَقَدْ تَوَاتَرَتِ المَرَائِي بِتَلَاقِي الأَرْوَاحِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَقَدْ جَاءَتْ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ بِتَلَاقِي الأَرْوَاحِ وَتَعَارُفِهَا؛ فَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ البَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَجَدَتْ عَلَيْهِ أُمُّ بِشْرٍ وَجْدًا شَدِيدًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَا يَزَالُ الهَالِكُ يَهْلِكُ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَهَلْ يَتَعَارَفُ المَوْتَى فَأُرْسِلُ إِلَى بِشْرٍ بِالسَّلَامِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا أُمَّ بِشْرٍ، إِنَّهُمْ لَيَتَعَارَفُونَ كَمَا تَتَعَارَفُ الطَّيْرُ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ). فَكَانَ لَا يَهْلِكُ هَالِكٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إِلَّا جَاءَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ، فَقَالَتْ: يَا فُلَانُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَيَقُولُ: وَعَلَيْكِ، فَتَقُولُ: اقْرَأْ عَلَى بِشْرٍ السَّلَامَ. وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ. 23- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِمَاسَةَ المَهْرِيِّ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ العَاصِ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ: إِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا؛ حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالإِقَامَةُ حَوْلَ قَبْرِ المَيِّتِ - لَا لِلدُّعَاءِ لَهُ - لَا َأْصَلَ لَهَا، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ، إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ". لَا يَصِحُّ. وَالمَشْرُوعُ هُوَ أَنْ يَشْهَدَ جَنَازَةَ المُسْلِمِ حَتَّى تُدْفَنَ، ثُمَّ يَدْعُوَ لِلْمَيِّتِ حِينَ يَفْرَغُ مِنْ دَفْنِهِ بِالثَّبَاتِ وَالمَغْفِرَةِ لِسُؤَالِ المَلَكَيْنِ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ صُحِّحَ. 24- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ - أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ - أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَالآخَرُ: النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ: لا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاعُهُ، فَلا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: فِي البَابِ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ، وَعَائِشَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ؛ كُلُّهُمْ رَوَوْا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَذَابِ القَبْرِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَحَسَّنَهُ آخَرُونَ. وَقَدْ دَلَّتْ تِلْكَ الأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ رُوحَ المَيِّتِ وَجَسَدَهُ بَيْنَهُمَا اجْتِمَاعٌ وَافْتِرَاقٌ، وَأَنَّ مُفَارَقَةَ الرُّوحِ لِجَسَدِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ اتِّصَالٍ وَنَوْعِ حِيَاةٍ بَرْزَخِيَّةٍ لِلْجَسَدِ، يُحِسُّ مَعَهَا بِالنَّعِيمِ وَالعَذَابِ، كَالنَّائِمِ، فَإِنَّ جَسَدَهُ قَدْ يَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ أَوِ التَّعَبِ، وَلَوْ أَنَّ رُوحَهُ قَدْ فَارَقَتْهُ. 25- قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). فَاللهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَتَوَفَّى جَمِيعَ الأَنْفُسِ، إِمَّا لِمَمَاتِهَا أَوْ لِمَنَامِهَا. رَوَى ابْنُ مَنْدَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَرْوَاحَ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ تَلْتَقِي فِي المَنَامِ، فَيَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ، فَيُمْسِكُ اللهُ أَرْوَاحَ المَوْتَى، وَيُرْسِلُ أَرْوَاحَ الأَحْيَاءِ إِلَى أَجْسَادِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: يَتَوَفَّاهَا فِي مَنَامِهَا، فَتَلْتَقِي رُوحُ الحَيِّ وَرُوحُ المَيِّتِ، فَيَتَذَاكَرُونَ وَيَتَعَارَفُونَ، قَالَ: فَتَرْجِعُ رُوحُ الحَيِّ إِلَى جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى بَقِيَّةِ أَجَلِهَا، وَتُرِيدُ رُوحُ المَيِّتِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى جَسَدِهِ فَتُحْبَسَ. وَقَدْ أَفَادَتِ الرُّؤَى الصَّادِقَةُ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا، وَالوَاقِعَةُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، أَنَّ أَرْوَاحَ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ تَلْتَقِي، وَخَيْرُ بُرْهَانٍ التَّطَابُقُ الغَيْبِيُّ بَيْنَ الرُّؤْيَا المَنَامِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ الحَقِيقِيَّةِ الوَاقِعِيَّةِ.