يَا مَعْشَرَ الجِنِّ
1- قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
فَالجِنُّ عَالَمٌ خَلَقَهُمُ اللهُ لِعِبَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الجِنِّ قِيْلَهُمْ: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)؛ يَعْنِي الجَائِرُونَ عَنِ الإِسْلَامِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (إنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ قَدْ أَسْلَمُوا، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: (فَإِنَّهُ كَافِرٌ).
2- قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ).
وقال تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).
فَإِبْلِيسُ جِنِّيٌّ شَيطَانِيٌّ نَارِيٌّ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (خُلِقَتِ المَلَائِكَةُ مِنْ نُّورٍ، وَخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ الحَسَنُ: "مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ المَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَصْلُ الإِنْسِ".
3- قال تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).
فَهَذَا خِطَابٌ وَأَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِآدَمَ - عَلَيْهِ سَلَامُ اللهِ - وَلِإِبْلِيسَ - عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ - أَنْ يَهْبِطَا إِلَى الأَرْضِ، فَظَاهِرُهَا دَارُ إِقَامَتِهِمَا وَذُرِّيَاتِهِمَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
فَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الجِنِّ فَقَدْ كَذَّبَ الأَدِلَّةَ النَّقْلِيَّةَ وَالعَقْلِيَّةَ، وَخَالَفَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالإِجْمَاعَ، وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ قَبِيحٌ.
4- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ - وَذَكَرَ حُضُورَهُمْ صَلَاةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ - ﷺ -، وَقَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
دَلَّ عَلَى أَنَّ مِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يُؤْمِنُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ عَنْ قَرِينِهِ: (إِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: بِفَتْحِ المِيمِ، أَصْبَحَ الشَّيْطَانُ مُسْلِمًا. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الشَّيْطَانُ لَا يُسْلِمُ.
5- قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ – إلى قوله: - أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
قَالَ مُجَاهِدٌ: أَسْمَاؤُهُمْ حَيٌّ وَحَسِّيٌّ وَمَسِّيٌّ، وَشَاصِرٌ وَنَاصِرٌ، وَالْأَرْدُ وَإِبْيَانُ وَالْأَحْقَمُ.
وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حَجَرٍ لِعَدَدٍ مِنَ الجِنِّ فِي كِتَابِهِ: "الإِصَابَةُ فِي تَمْيِيزِ الصَّحَابَةِ".
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى أَنَّهُ فِي الجِنِّ نُذُرٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ رُسُلٌ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الجِنَّ لَمْ يَبْعَثِ اللهُ مِنْهُمْ رَسُولًا".
6- قَالَ تَعَالَى عَنْ قِيلِ الجِنِّ: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا). أَيْ: أَهْلَ مِلَلٍ وَنِحَلٍ، فَمِنْهُمُ المُؤْمِنُ وَالكَافِرُ، وَالبَرُّ وَالفَاجِرُ، وَالعَالِمُ وَالجَاهِلُ، وَصَاحِبُ السُّنَّةِ وَصَاحِبُ البِدْعَةِ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ نَجِيلٍ - وَذَكَرَ رَجُلًا مِنَ الجِنِّ - قَالَ: فَقُلْنَا: مَا أَنْتُمْ؟ فَقَالَ: أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ، وَفِينَا قَبَائِلُ كَقَبَائِلِكُمْ، قُلْنَا: فَهَلْ فِيكُمْ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فِينَا مِنْ كُلِّ الْأَهْوَاءِ، الْقَدَرِيَّةُ، وَالشِّيعَةُ، وَالمُرْجِئَةُ.
وَرَوَى نَحْوَهُ النَّجَّادُ فِي أَمَالِيهِ، قَالَ الْمِزِّيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الْأَعْمَشِ.
7- قَالَ تَعَالَى عَنْ قِيلِ الجِنِّ: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ ۖ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا - إلى قوله: - وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنِ الجِنِّ: "كَافِرُهُمْ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا مُؤْمِنُهُمْ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ: "أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ، تَرَاهُمْ الْإِنْسُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ". وَهَذَا الْقَوْلُ مَأْثُورٌ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: إنَّ ثَوَابَهُمُ النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ". انتهى.
وَقَوْلُ الجُمْهُورِ أَظْهَرُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
8- قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ).
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ -، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟! قَالَ: "نَعَمْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ: "هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الجِنِّ".
وَالحَدِيثُ حَسَنٌ لِطُرُقِهِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ قُوَّتَهُ وَصِحَّتَهُ.
فَالشَّيَاطِينُ هُمْ شِرَارُ الجِنِّ، وَمِنْهُمْ كُفَّارُهُمْ.
9- قال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ).
قَالَ مُجَاهِدٌ: ذُرِّيَّتُهُ: هُمُ الشَّيَاطِينُ. وَقَالَ الحَسَنُ عَنْ إِبْلِيسَ: إِنَّهُ أَصْلُ الجِنِّ. قَالَ قَتَادَةُ: وَهُمْ يَتَوَالَدُونَ كَمَا تَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ العَرَبِيِّ: "الشَّيَاطِينُ هُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلقِ اللهِ، وَهُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللهُ -، وَهُمْ أَجْسَامٌ يَأْكُلُونَ وَيَطْعَمُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُولَدُونَ وَيَمُوتُونَ وَيُعَذَّبُونَ وَلَا يُنَعَّمُونَ بِحَالٍ".
10- قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ... الآية)، وقال تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ).
وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ فِي صِفَاتِهِمْ كَثِيرَةٌ، كَحَدِيثِ حُذَيْفَةَ: (إِنَّ يَدَهُ - يَعْنِي الشَّيْطَانَ - فِي يَدِي مَعَ يَدَيْهِمَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ: (اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِي مُصَلَّايَ، فَأَخَذْتُ بِحَلْقِهِ فَخَنَقْتُهُ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى كَفِّي). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ. وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثِ أَبي هُريْرَةَ: (أَدْبرَ الشيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَدِيثِ أُمَيَّةَ: (مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَلمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ.
11- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: "أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ، وَنِعْمَ الْجِنُّ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ - وَهُوَ لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ فِي الكُبْرَى، وَابْنِ حِبَّانَ -: "فَإِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الجِنِّ".
فَالجِنُّ المُؤْمِنُونَ إِخْوَانٌ لَنَا، وَهُمْ دَرَجَاتٌ فِي الأَخْلَاقِ وَالآدَابِ وَالمَقَامَاتِ.
12- قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَضْلَلْتُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا.
وَالجِنُّ لَهُمْ عُدْوَانٌ عَلَى الإِنْسِ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: قَدْ يَكُونُ - وَهُوَ كَثِيرٌ أَوْ الْأَكْثَرُ - عَنْ بُغْضٍ وَمُجَازَاةٍ، مِثْلَ أَنْ يُؤْذِيَهُمْ بَعْضُ الْإِنْسِ، أَوْ يَظُنُّوا أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ أَذَاهُمْ: إمَّا بِبَوْلٍ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَإِمَّا بِصَبِّ مَاءٍ حَارٍّ، وَإِمَّا بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْإِنْسِيُّ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ - وَفِي الْجِنِّ جَهْلٌ وَظُلْمٌ - فَيُعَاقِبُونَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ عَبَثٍ مِنْهُمْ وَشَرٍّ بِمِثْلِ سُفَهَاءِ الْإِنْسِ.
13- قَالَ تَعَالَى عَنْ قِيلِ إِبْلِيسَ: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).
وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: "إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَثَبَتَ عَنْ سَبْرةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - ﷺ - يَقُولُ: (إِنَّ الشَّيطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ كُلِّهَا). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ.
14- قال تعالى: (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ).
فَعَسَاكِرُ إِبْلِيسَ أَصْحَابُ فِتنَةٍ وَشَرٍّ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (إِنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَثَبَتَ عِنْدَ أَحْمَدَ: (عَرْشُ إِبْلِيسَ عَلَى البَحْرِ، يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً أَفْتَنُهُمْ لِلنَّاسِ).
15- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ، قَالَ: جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - ﷺ - مِنَ الأَوْدِيَةِ، وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجِبَالِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ، يُرِيدُ أنْ يَحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللهِ - ﷺ - قَالَ: فَرُعِبَ، قَالَ جَعْفَرٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: جَعَلَ يَتَأَخَّرُ. قَالَ: وَجَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: (يَا مُحَمَّدُ، قُلْ! قَالَ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يا رَحْمَنُ!"، فَطَفِئَتْ نارُ الشَّيَطانِ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَفِي الإِصَابَةِ عَنِ البُخَارِيِّ: فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَصَحَّحَهُ غَيْرُهُ.
فَتَحَصَّنْ دَائِمًا بِالقُرْآنِ وَالأَدْعِيَةِ وَالأَذْكَارِ.
16- قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَجْنُونًا يُخْنَقُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ التَّخَبُّلُ الَّذِي يَتَخَبَّلُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الجُنُونِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَتَخَبَّلُهُ الشَّيْطَانُ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الَّذِي يَخْنُقُهُ فَيَصْرَعُهُ "مِنَ المَسِّ"؛ يَعْنِي: مِنَ الجُنُونِ.
فَدُخُولُ الجِنِّيِّ فِي الإِنْسِيِّ - وَهُوَ التَّلَبُّسُ وَالمَسُّ - دَلَّ عَلَيْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَالمُقِرُّ بِذَلِكَ مُصِيبٌ، وَالمُخَالِفُ مُخْطِئٌ لَا يَكْفُرُ.
17- قَالَ تَعَالَى عَنِ الشَّيْطَانِ: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ).
عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: (هُوَ وَقَبِيلُهُ)، قَالَ: الجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَبِيلُهُ: نَسْلُهُ.
فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ مِنْ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ لَا يَرَى إِبْلِيسَ وَلَا ذُرِّيَّتَهُ - وَهُمُ الشَّيَاطِينُ وَالجِنُّ - عَلَى حَقِيقَتِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَصَوَّرُونَ وَيَتَلَبَّسُونَ بِمَخْلُوقَاتٍ، وَقَدْ صَحَّتِ الأَخْبَارُ بِرُؤْيَتِهِمْ كَذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَيَتَصَوَّرُونَ فِي صُوَرِ الحَيَّاتِ وَالعَقَارِبِ وَغَيْرِهَا، وَفِي صُوَرِ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالخَيْلِ وَالبِغَالِ وَالحَمِيرِ، وَفِي صُوَرِ الطَّيْرِ، وَفِي صُوَرِ بَنِي آدَمَ.
18- قال تعالى: (خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ قِيلِ إِبْلِيسَ: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).
وَبِهَذِهِ الآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَاسْتِقْرَاءِ الوَاقِعِ الحَدِيثِ وَالقَدِيمِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَقَعُ الزَّوَاجُ بَيْنَ الجَانِّ وَالإِنْسَانِ، وَهَذَا قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ التَّحْرِيمُ، ثُمَّ مِنْ حَيْثُ الإِمْكَانُ.
وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَقَدْ يَتَنَاكَحُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَيُولَدُ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، وَهَذَا كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ". انتهى
وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الاجْتِهَادِ، وَللِرَّأْيِ فِيهَا مَجَالٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَأُحِيلُ عَلَى كِتَابِ: "آكَامُ المَرْجَانِ فِي أَحْكَامِ الجَانّ"، لِلْمُؤَلِّفِ: الشِّبْلِيِّ، (المُتَوَفَّى: سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ لِلْهِجْرَةِ).
19- قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ). قِيلَ: بِنُصْبٍ فِي بَدَنِي، وَعَذَابٍ فِي مَالِي وَوَلَدِي.
فَالشَّيْطَانُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي مَسِّ الإِنْسَانِ بِالضُّرِّ - بِإِذْنِ اللهِ - عَنْ طَرِيقِ الوَسْوَسَةِ أَوِ المَسِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: (فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ). فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: (وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شُهَدَاءُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِأَسَانِيدَ، وَرِجَالُ بَعْضِهَا رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الثَّلَاثِ.
فَالأَدْعِيَةُ وَالأَذْكَارُ: حِصْنٌ حَصِينٌ، وَحِرْزٌ مَتِينٌ.
20- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لأُمَّتِي، وَوَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الإِبِلِ تَخْرُجُ فِي الآبَاطِ وَالْمَرَاقِّ، مَنْ مَاتَ فِيهِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ أقَامَ فِيهِ كَانَ كَالمُرَابِطِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ فَرَّ مِنْهُ، كَانَ كَالفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ). عَزَاهُ الهَيْثَمِيُّ لِأَحْمَدَ، وَأَبِي يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الأَوْسَطِ، وَاللَّفْظُ لَهُ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ، وَبَقِيَّةُ الأَسَانِيدِ حِسَانٌ.
وَمِثْلُ هَذَا وَرَمُ السَّرَطَانِ، فَيَتَعَاهَدُ المُسْلِمُ نَفْسَهُ بِالنَّظَافَةِ، وَيَتَحَصَّنُ بِالقُرْآنِ وَالأَدْعِيَةِ وَالأَذْكَارِ.
21- عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ - ﷺ -، فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالصَّرَعُ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ اضْطِرَابًا فِي خَلَايَا المُخِّ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ المَسَّ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "وَصَرْعُهُمْ لِلْإِنْسِ؛ قَدْ يَكُونُ عَنْ شَهْوَةٍ وَهَوًى وَعِشْقٍ".
22- عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، عَنْ النَّبِيِّ - ﷺ -، أَنَّهُ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا قَدْ أَصَابَهُ لَمَمٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - ﷺ -: (اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ)، قَالَ: فَبَرَأَ، فَأَهْدَتْ لَهُ كَبْشَيْنِ وَشَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (يَا يَعْلَى، خُذِ الْأَقِطَ وَالسَّمْنَ، وَخُذْ أَحَدَ الْكَبْشَيْنِ، وَرُدَّ عَلَيْهَا الْآخَرَ). رَوَاهُ أحْمَدُ، وَالحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي "المُعْجَمِ الكَبِيرِ"، وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: "رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ". وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: "رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ".
وَهَذَا الحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، يَدُلُّ عَلَى أَذَى بَعْضِ الجَانِّ لِلْإِنْسَانِ.
23- عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَيْتُ مِنْهُ شَيْئًا عَجَبًا؛ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي هَذَا بِهِ لَمَمٌ مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، يَأْخُذُهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أَدْنِيهِ"، فَأَدْنَتْهُ مِنْهُ، فَتَفَلَ فِي فِيهِ، وَقَالَ: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ، أَنَا رَسُولُ اللهِ"، ثُمَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "إِذَا رَجَعْنَا فَأَعْلِمِينَا مَا صَنَعَ"، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - اسْتَقْبَلَتْهُ وَمَعَهَا كَبْشَانِ وَأَقِطٌ وَسَمْنٌ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "خُذْ هَذَا الكَبْشَ فَاتَّخِذْ مِنْهُ مَا أَرَدْتَ"، فَقَالَتْ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ مَا رَأَيْنَا بِهِ شَيْئًا مُنْذُ فَارَقْتَنَا". رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَشَوَاهِدُهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا؛ لِذَا قَالَ التِّبْرِيزِيُّ: صَحِيحٌ لِشَوَاهِدِهِ.
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ بِهِ لَمَمٌ مِنَ الجَانِّ وَمَسٌّ مِنَ الشَّيْطَانِ: يُعْرَضُ عَلَى الرَّاقِي لِيَرْقِيَهُ.
24- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بِوَلَدِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بِهِ لَمَمًا، وَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ عِنْدَ طَعَامِنَا، فَيُفْسِدُ عَلَيْنَا طَعَامَنَا، قَالَ: "فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - صَدْرَهُ، وَدَعَا لَهُ، فَتَعَّ تَعَّةً، فَخَرَجَ مِنْ فِيهِ مِثْلُ الْجَرْوِ الْأَسْوَدِ، فَشُفِيَ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَلَهُ شَوَاهِدُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
قَالَ الهَيْثَمِيُّ: فِيهِ فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالعِجْلِيُّ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُمَا.
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقَوْلُهُ: "تَعَّ"؛ أَيْ: سَعَلَ وَقَاءَ. وَقَوْلُهُ: "مِثْلُ الجَرْوِ"؛ أَيْ: وَلَدُ الكَلَبِ.
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: الصَّرَعُ وَعِلَاجُهُ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا قَلِيلُ الحَظِّ مِنَ العِلْمِ وَالعَقْلِ وَالمَعْرِفَةِ، وَأَكْثَرُ تَسَلُّطِ الأَرْوَاحِ الخَبِيثَةِ عَلَى أَهْلِهِ، يَكُونُ مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ دِينِهِمْ، وَخَرَابِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ، مِنَ الذِّكْرِ وَالتَّعَاوِيذِ وَالتَّحَصُّنَاتِ النَّبَوِيَّةِ وَالإِيمَانِيَّةِ.
25- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ القُرْآنَ يَنْفَلِتُ مِنِّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي، وَقَالَ: يَا شَيْطَانُ اخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثْمَانَ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا أُرِيدُ حِفْظَهُ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.
وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، أَتَى النَّبِيَّ - ﷺ -، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -: (ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا). قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَالتَّخْلِيطُ وَالنِّسْيَانُ وَالوَسْوَسَةُ: بَعْضُ أَذِيَّةِ الشَّيَاطِينِ.
26- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، قَالَ: «لَمَّا اسْتَعْمَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - عَلَى الطَّائِفِ جَعَلَ يَعْرِضُ لِي شَيْءٌ فِي صَلَاتِي، حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ رَحَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -، فَقَالَ: "ابْنُ أَبِي الْعَاصِ؟" قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "مَا جَاءَ بِكَ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَرَضَ لِي شَيْءٌ فِي صَلَاتِي حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلِّي. قَالَ: "ذَاكَ الشَّيْطَانُ، ادْنُهْ". فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَجَلَسْتُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيَّ. قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرِي بِيَدِهِ، وَتَفَلَ فِي فَمِي، وَقَالَ: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ". فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "الْحَقْ بِعَمَلِكَ". قَالَ: فَقَالَ عُثْمَانُ: فَلَعَمْرِي مَا أَحْسَبُهُ خَالَطَنِي بَعْدُ». تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ البُوصِيرِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَفِيهِ قَصْدُ الرَّاقِي الثِّقَةِ؛ لِإِخْرَاجِ الجَانِّ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالسُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ.
27- قال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، فَمَا أَحْوَجَ المُسْلِمَ إِلَى المُعَوِّذَتَيْنِ فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ، وَفِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَإِلَى تَعْوِيذِ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ.
28- قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ: حَدَّثَنِي – يَعْنِي ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَنَّهُ قَرَأَهَا مَرَّةً فِي أُذُنِ المَصْرُوعِ، فَقَالَتِ الرُّوحُ: نَعَمْ، وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ، قَالَ: فَأَخَذْتُ لَهُ عَصًا، وَضَرَبْتُهُ بِهَا فِي عُرُوقِ عُنُقِهِ حَتَّى كَلَّتْ يَدَايَ مِنَ الضَّرْبِ، وَلَمْ يَشُكَّ الحَاضِرُونَ أَنَّهُ يَمُوتُ لِذَلِكَ الضَّرْبِ، فَفِي أَثْنَاءِ الضَّرْبِ قَالَتْ: أَنَا أُحِبُّهُ، فَقُلْتُ لَهَا: هُوَ لَا يُحِبُّكِ، قَالَتْ: أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ بِهِ، فَقُلْتُ لَهَا: هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكِ، فَقَالَتْ: أَنَا أَدَعُهُ كَرَامَةً لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ طَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَتْ: فَأَنَا أَخْرُجُ مِنْهُ، قَالَ: فَقَعَدَ المَصْرُوعُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَقَالَ: مَا جَاءَ بِي إِلَى حَضْرَةِ الشَّيْخِ؟ قَالُوا لَهُ: وَهَذَا الضَّرْبُ كُلُّهُ؟ فَقَالَ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَضْرِبُنِي الشَّيْخُ وَلَمْ أُذْنِبْ؟! وَلَمْ يَشعُرْ بِأَنَّهُ وَقَعَ بِهِ الضَّرْبُ البَتَّةَ.
وَضَرْبُ مَنْ بِهِ صَرَعُ الجَانِّ لَهُ ضَوَابِطُ؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَفَعَهُ: (مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يَكُنْ بِالطِّبِّ مَعْرُوفًا، فَأَصَابَ نَفْسًا فَمَا دُونَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ). قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، إِلَّا أَنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ أَقْوَى مِمَّنْ وَصَلَهُ.
29- ذَكَرَ ابْنُ أَبِي يَعْلَى فِي "طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ": أَنَّ الإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ يَجْلِسُ فِي مَسْجِدِهِ، فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ الخَلِيفَةُ العَبَّاسُ المُتَوَكِّلُ صَاحِبًا لَهُ يُعْلِمُهُ أَنَّ جَارِيَةً بِهَا صَرَعٌ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا بِالعَافِيَةِ، فَأَخْرَجَ لَهُ أَحْمَدُ نَعْلَيْ خَشَبٍ بِشِرَاكٍ مِنْ خُوصٍ لِلْوُضُوءِ، فَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: اِمْضِ إِلَى دَارِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَتَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِ الجَارِيَةِ، وَتَقُولُ لَهُ - يَعْنِي الجِنِّ -: قَالَ لَكَ أَحْمَدُ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ: تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الجَارِيَةِ؟ أَوْ تُصْفَعُ بِهَذِهِ النَّعْلِ سَبْعِينَ؟ فَمَضَى إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، فَقَالَ لَهُ المَارِدُ عَلَى لِسَانِ الجَارِيَةِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، لَوْ أَمَرَنَا أَحْمَدُ أَنْ لَا نُقِيمَ بِالعِرَاقِ مَا أَقَمْنَا بِهِ، إِنَّهُ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ اللهَ أَطَاعَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَخَرَجَ مِنَ الجَارِيَةِ وَهَدَأَتْ وَرُزِقَتْ أَوْلَادًا، فَلَمَّا مَاتَ أَحْمَدُ عَاوَدَهَا المَارِدُ، فَأَنْفَذَ المُتَوَكِّلُ إِلَى صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ المَرُّوذِيِّ وَعَرَّفَهُ الحَالَ، فَأَخَذَ المَرُّوذِيُّ النَّعْلَ وَمَضَى إِلَى الجَارِيَةِ، فَكَلَّمَهُ العِفْرِيتُ عَلَى لِسَانِهَا: لَا أَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الجَارِيَةِ، وَلَا أُطِيعُكَ وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ، أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَطَاعَ اللهَ، فَأُمِرْنَا بِطَاعَتِهِ.
30- عَنْ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، كَالجُبَّائِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَغَيْرِهِمَا، دُخُولَ الجِنِّيِّ فِي بَدَنِ المَصْرُوعِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا وُجُودَ الجِنِّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ظُهُورُ هَذَا فِي المَنْقُولِ عَنِ الرَّسُولِ - ﷺ - كَظُهُورِ هَذَا، وَإِنْ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الجِنِّيَّ يَدْخُلُ فِي بَدَنِ المَصْرُوعِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ: قُلْتُ لِأَبِي: إِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ الجِنِّيَّ لَا يَدْخُلُ فِي بَدَنِ الإِنْسِيِّ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، يَكْذِبوُنَ، هُوَ ذَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: دُخُولُ الجِنِّيِّ فِي بَدَنِ الإِنْسَانِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ فِي أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ مَنْ يُنْكِرُ دُخُولَ الجِنِّيِّ فِي بَدَنِ المَصْرُوعِ.
31- قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).
قَالَ قَتَادَةُ: ازْدَادَتِ الجِنُّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ جَرَاءَةً.
فَالخَوْفُ الزَّائِدُ عَنِ الطَّبِيعِيِّ، مِنْ أَسْبَابِ تَسَلُّطِ فَسَقَةِ الجِنِّ وَمَرَدَتِهِمْ وَسُفَهَائِهِمْ، فَكُنْ شُجَاعًا بِرَبِّكَ، مُتَمَسِّكًا بِوِرْدِكَ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). فَالمُسْلِمُ المُتَمَسِّكُ بِدِينِهِ وَوِرْدِهِ: تَحْرُسُهُ المَلَائِكَةُ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَمْلَاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالهَوَامِّ، فَمَا مِنْهَا شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ المَلَكُ: وَرَاءَكَ! إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ.
32- عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (الجِنُّ عَلَى ثَلَاثَةٍ: فَثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الهَوَاءِ، وَثُلُثٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَثُلُثٌ يَحُلُّونَ وَيَظْعَنُونَ). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَالذَّهَبِيُّ، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: (خَلَقَ اللهُ الجِنَّ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ وَخَشَاشُ الأَرْضِ، وَصِنْفٌ كَالرِّيحِ فِي الهَوَاءِ، وَصِنْفٌ كَبَنِي آدَمَ، عَلَيْهِمُ الحِسَابُ وَالعِقَابُ). رَوَاهُ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَالْزَمِ الذِّكْرَ، وَلَا يَضُرُّكَ شَيْءٌ بِإِذْنِ اللهِ.
33- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأخَذْتُهُ فقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - ﷺ -، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ، وَبِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، ... إِلَى أَنْ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِراشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرسِيِّ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَا يقْربُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
آيَةُ الكُرسِيِّ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وَسَيِّدَةُ آيِ القُرْآنِ.
34- عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ جُرْنٌ مِنْ تَمْرٍ، فَكَانَ يَنقُصُ، فَحَرَسَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ شِبْهِ الغُلَامِ المُحْتَلِمِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ: مَا أَنْتَ؟ جِنِّيٌّ أَمْ إِنْسِيٌّ؟ قَالَ: جِنِّيٌّ ... قَالَ: فَمَا يُنَجِّينَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الآيَةُ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، مَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أُجِيرَ مِنَّا حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ أُجِيرَ مِنَّا حَتَّى يُمْسِيَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - ﷺ -، فَقَالَ: (صَدَقَ الخَبِيثُ). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمَا.
فَحَافِظْ عَلَى آيَةِ الكُرْسِيِّ تَحْفَظْكَ - بِإِذْنِ اللهِ - مِنْ كُلِّ سُوءٍ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ -: "مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ، كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ إِلَى الصَّلَاةِ الأُخْرَى".
35- عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ سَهْوَةٌ فِيهَا تَمْرٌ، فَكَانَتْ تَجِيءُ الغُولُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ ... إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالَتْ: آيَةُ الكُرْسِيِّ اقْرَأْهَا فِي بَيْتِكَ، فَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ وَلَا غَيْرُهُ، قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: صَدَقَتْ وَهِيَ كَذُوبٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَالحَاكِمُ، وَقَالَ: مَشْهُورٌ.
وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ: لَمَّا قَطَعَ ثَمَرَةَ حَائِطِهِ جَعَلَهَا فِي غُرْفَةٍ لَهُ، فَكَانَتِ الغُولُ تُخَالِفُهُ إِلَى مَشْرُبَتِهِ فَتَسْرِقُ تَمْرَهُ وَتُفْسِدُهُ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ وُثِّقُوا كُلُّهُمْ، وَفِي بَعْضِهِمْ ضَعْفٌ.
فَالشَّيَاطِينُ لَهَا اعْتِدَاءَاتٌ عَلَى الأَنْفُسِ وَالمُمْتَلَكَاتِ، فَاللهَ اللهَ بِالأَوْرَادِ.
36- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: "أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: خَرَجْتُ أُصَلِّي العِشَاءَ فَسَبَتْنِي الجِنُّ، فَلَبِثْتُ فِيهِمْ زَمَانًا طَوِيلًا، فَغَزَاهُمْ جِنٌّ مُؤْمِنُونَ فَقَاتَلَوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، فَسَبَوْا مِنْهُمْ سَبَايَا، فَسَبَوْنِي فِيمَا سَبَوْا مِنْهُمْ، فَقَالُوا: نَرَاكَ رَجُلًا مُسْلِمًا وَلَا يَحِلُّ لَنَا سَبْيُكَ، فَخَيَّرُونِي بَيْنَ المُقَامِ وَبَيْنَ القُفُولِ إِلَى أَهْلِي، فَاخْتَرْتُ القُفُولَ إِلَى أَهْلِي...". رَوَاهَا البَيْهَقِيُّ مُطَوَّلَةً، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهَا الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ.
فَإِنْ صَحَّتْ فَهِيَ نَادِرَةٌ لَا تُحْمَلُ عَلَى الخَوْفِ وَنَسْجِ الحِكَايَاتِ، وَلَكِنْ تُحْمَلُ عَلَى الاهْتِمَامِ البَالِغِ بِالأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
37- قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).
قَالَ قَتَادَةُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: قَدْ وَاللهِ شَارَكَهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ، مَجَّسُوا وَهَوَّدُوا وَنَصَّرُوا، وَصَبَغُوا غَيْرَ صِبْغَةِ الإِسْلَامِ، وَجَزَّءُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ جُزْءًا لِلشَّيْطَانِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
أَمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُسَمِّ جَامَعَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ يَثْبُتْ شَيْئًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ -: ( لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ).
38- عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْلًا إِلَى حَائِطٍ لَهُ، فَسَمِعَ فِيهِ جَلَبَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الجَانِّ أَصَابَتْنَا السَّنَةُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنْ ثِمَارِكُمْ، فَطَيِّبُوهُ لَنَا، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَلَا تُخْبِرُنَا بِالَّذِي يُعِيذُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: آيَةُ الكُرْسِيِّ. عَزَاهُ السُّيُوطِيُّ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ، وَأَبِي الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ - قَالَ: (مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَاحْرِصْ يَا عَبْدَ اللهِ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي بَيْتِكَ عَلَى الدَّوَامِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَخْتِمَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ عَجَزْتَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَسْتَمِعَ لَهَا عَبْرَ المِذْيَاعِ وَأَجْهِزَةِ التِّلَاوَةِ.
39- قال تعالى: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ). قَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ كَأَنَّهُ جَبَلٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - ﷺ -: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فأمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فأرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حتَّى تُصْبِحُوا وتَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَا تَجْعَلْ لِلْخَوْفِ وَالقَلَقِ مَجَالًا، فَاللهُ خَيْرُ حَافِظٍ.
40- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلِمُسْلِمٍ: (لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ).
هَذَا تَوْجِيهٌ نَبَوِيٌّ يَشْهَدُ لَهُ الوَاقِعُ، فَأَمْسِكُوا الصِّبْيَانَ وَالمَوَاشِيَ فِي البُيُوتِ، مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَبَعْدَهَا بِقَلِيلٍ، فَمَنْ خَالَفَ فَأَصَابَ صِبْيَانَهُ وَبَهَائِمَهُ بَغْيٌ وَعُدْوَانٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. قَالَ النَّبِيُّ - ﷺ - فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: "فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
41- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - ﷺ - قَالَ: (أَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ: (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً).
وَلِابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْبَابَ مُغْلَقًا دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ السِّقَاءَ مُوكًى شَرِبَ مِنْهُ).
مَا أَعْظَمَهُ مِنْ نَبِيٍّ! وَمَا أَوْسَعَ رَحْمَتَهُ بِأُمَّتِهِ! فَمَا تَرَكَ مِنْ خَيْرٍ إِلَّا دَلَّهَا عَلَيْهِ، وَمَا تَرَكَ مِنْ شَرٍّ إِلَّا حَذَّرَهَا مِنْهُ، فَهَلْ مِنْ مُمْتَثِلٍ؟
42- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - ﷺ -، يَقُولُ: "إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - قَالَ: (سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الْخَلَاءَ: أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَالَ المَنَاوِيُّ: أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: (سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا وَضَعَ أَحَدُهُمْ ثَوْبَهُ: أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ المَنَاوِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يَصِحُّ فِي البَابِ حَدِيثٌ. انتهى.
وَقَدْ صَحَّحَ الحَدِيثَيْنِ غَيْرُ وَاحِدٍ لِلشَّوَاهِدِ.
43- قَالَ تَعَالَى عَنْ قِيلِ الجِنِّ: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا).
فَلَا تَخْشَ يَا عَبْدَ اللهِ مِنْ مَخْلُوقٍ مَرْبُوبٍ مَغْلُوبٍ، لَا يَسْتَطِيعُ طَلَبًا وَلَا هَرَبًا إِلَّا بِأَمْرِ اللهِ - جَلَّ وَعَلَا –
قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)؛ أَيْ: إِلَّا بِمَلَكَةٍ مِنَ اللهِ. فَنَوَاصِي الإِنْسِ وَالجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ بِيَدِ اللهِ، فَكُنْ يَا عَبْدَ اللهِ قَوِيَّ القَلْبِ، رَابِطَ الجَأْشِ، لَا تَفْزَعُ وَلَا تَخَافُ، مُسْتَعِينًا بِاللهِ، مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، مُسْتَعِيذًا بِهِ، لَاجِئًا إِلَيْهِ، فَالشَّجَاعَةُ وَالثَّبَاتُ وَالطُّمَأْنِينَةُ بِذِكْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ.
44- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللهِ - ﷺ - قَالَ: (إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الحَقَّ، وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ - وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَفَهَا، وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا: كَذَا وَكَذَا! فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَحْفَظُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ).
لَا يَجُوزُ الاسْتِعَانَةُ بِالجِنِّ فِي المُحَرَّمَاتِ، وَلَا فِيمَا يَجُرُّ إِلَيْهَا.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مِنَ الجِنِّ المُؤْمِنِينَ مَنْ يُعَاوِنُ المُؤْمِنِينَ، وَمِنَ الجِنِّ الفُسَّاقِ وَالكُفَّارِ مَنْ يُعَاوِنُ الفُسَّاقَ، كَمَا يُعَاوِنُ الإِنْسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
45- قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).
لَقَدْ أَضَلَّ شَيَاطِينُ الْجِنِّ كَثِيرًا مِنْ جَهَلَةِ الْإِنْسِ، وَحَمَلُوهُمْ عَلَى أَنْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ، وَيُضَيِّعُوا فَرَائِضَهُ، وَيَنْتَهِكُوا مَحَارِمَهُ، فَأَطَاعُوهُمْ بِذَلِكَ، وَرُبَّمَا اسْتَمْتَعَ مَرَدَةُ الْجِنِّ بِتَقَرُّبِ بَعْضِ الْإِنْسِ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، كَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِمْ، وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَذَبْحِ الْقَرَابِينِ؛ إِمَّا رَهْبَةً وَخَوْفًا مِنْهُمْ، أَوْ رَغْبَةً وَطَمَعًا فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَعْرِفَةِ مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، وَالضَّالَّةِ، وَالسِّحْرِ، وَمَعْرِفَةِ الْعَائِنِ، أَوْ لِتَسْلِيطِهِمْ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ، وَمَسِّ أَبْدَانِهِمْ، وَإِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ، وَحَبْسِهِمْ عَنْ أَزْوَاجِهِمْ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا أَنْ يَكْتُبَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلِلَّهِ جُنُودٌ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَجِنٍّ صَالِحِينَ وَإِنْسٍ مُسْتَقِيمِينَ، سَخَّرَهُمُ اللَّهُ لِدَفْعِ الْأَشْرَارِ وَأَذَى الْفُجَّارِ، وَالشَّيَاطِينُ ضُعَفَاءُ أَذِلَّةٌ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ.
46- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ، إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ؟ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ، جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الفَزَعَ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَرَ الجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا، وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا، وَلُحُوقَهَا بِالقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا؟ قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ، فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ، لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ، يَقُولُ: يَا جَلِيحْ، أَمْرٌ نَجِيحْ، رَجُلٌ فَصِيحْ، يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا نَبِيٌّ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلِأَبِي نُعَيْمٍ: (فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ).
فَالجِنُّ يَتَصَوَّرُونَ لِبَعْضِ البَشَرِ وَهَذَا مَشْهُورٌ.
أَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَرَى الْجِنَّ أَبْطَلْنَا شَهَادَتَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. فَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُمْ عَلَى صُوَرِهِمُ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا، وَقَدْ تَوَارَدَتِ الْأَخْبَارُ بِتَصوُّرِهِمْ فِي الصُّوَرِ.
47- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بَالَ قَائِمًا، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي لَأَجِدُ دَبِيبًا، فَمَاتَ، فَسَمِعُوا الْجِنَّ تَقُولُ:
قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ ** سَعْدَ بْنَ عُبَادَةْ
رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ ** فَلَمْ نُخْطِئْ فُؤَادَهْ
رَوَاهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَغَيْرُهُمْ، بِأَسَانِيدَ أُعِلَّتْ بِالْإِرْسَالِ، وَتَحْتَمِلُ التَّحْسِينَ لِتَعَدُّدِهَا وَاخْتِلَافِ مَخَارِجِهَا.
وَذَكَرَ الْعَيْنِيُّ: أَنَّهُمْ أَصَابُوهُ بِالْعَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: "وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ وُجِدَ مَيِّتًا عَلَى مُغْتَسَلِهِ، وَقَدِ اخْضَرَّ جَسَدُهُ".
وَمِثْلُ هَذَا يَحْمِلُنَا عَلَى تَعَاهُدِ الْأَذْكَارِ، وَتَحْصِينِ الصِّغَارِ، وَتَجَنُّبِ مَا عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ إِيذَاءً لِلْجِنِّ، مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَأَوْهَامٍ وَخُرَافَاتٍ.
48- عَنْ أَبِي السَّائِبِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ، فَوَثَبْتُ لأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ، فَجَلَسْتُ، فَأَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: كانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ – قَالَ: - فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْخَنْدَقِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَدَخَلَ الْبَيْتَ، فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ، مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَى أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا: الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى؟ قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ».
قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِالْإِنْذَارِ، فَهُوَ شَيْطَانٌ، فَاقْتُلُوهُ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ سَبِيلًا لِلِانْتِصَارِ عَلَيْكُمْ بِثَأْرِهِ، بِخِلَافِ الْعَوَامِرِ، وَمَنْ أَسْلَمَ.
49- قال تعالى: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ).
فَالجِنُّ كَالإِنْسِ، لَهُمْ قُدْرَاتٌ مَحْدُودَةٌ، فَلَيْسَ فِي قُدْرَتِهِمْ عِلْمُ الغَيْبِ، أَمَّا الحَاضِرُ كَمَعْرِفَةِ مَكَانِ الضَّالَّةِ، فَلَيْسَ مِنَ الغَيْبِ، وَكَذَلِكَ مَا سَمِعُوهُ فِي السَّمَاءِ.
قال تعالى: (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سَأَلَ رسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُنَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: لَيْسُوا بِشَيءٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أحْيَانًا بشَيْءٍ فيكُونُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ ولِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ معهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ. مُتَّفَقٌ عَليْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ المَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنانِ - وَهُوَ السَّحابُ -، فَتَذْكُرُ الأمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فيَسْتَرِقُ الشَّيْطَانُ السَّمْعَ، فَيَسْمَعُهُ، فَيُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.
50- قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ).
فَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَسْتَعْمِلُ الْجِنَّ فِي أَعْمَالِهِ، فَالْبُنَاةُ مِنْهَا يَصْنَعُونَ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ، وَالْغَوَّاصَةُ يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الْحُلِيَّ مِنَ الْبِحَارِ، وَآخَرُونَ يَنْحِتُونَ لَهُ جِفَانًا وَقُدُورًا، وَالْمَرَدَةُ مُقَيَّدُونَ فِي السَّلَاسِلِ.
ثَبَتَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ). وَلَفْظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ: (صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ مَرَدَةُ الْجِنِّ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.
فَالشَّيَاطِينُ وَسُفَهَاءُ الجِنِّ فِي قَبْضَةِ اللهِ، فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُوا اللهَ جَلَّ وَعَلَا.
51- قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)، وَفِي قِرَاءَةٍ مَشْهُورَةٍ: (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عِبَادَهُ).
فَالْمُسْلِمُ قَوِيٌّ بِاللَّهِ، وَمَعَ التَّحَصُّنِ وَالِاحْتِرَازِ بِالْأَذْكَارِ، وَالتِّلَاوَةِ وَالْعِبَادَةِ، يَشْتَدُّ قُوَّةً، وَيَزْدَادُ مَهَابَةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخَافَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَفَسَقَةِ الْجِنِّ؛ بَلْ هُمُ الَّذِينَ يَخَافُونَهُ وَيَهَابُونَهُ، مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ وَالْأَوْرَادِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ يُصَلِّي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: "لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ أُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
52- قال تعالى: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). وقال تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ).
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ عُمَرُ: وَهَمْزُهُ: الْمَوْتَةُ؛ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: الْمَوْتَةُ يَعْنِي الْجُنُونَ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُصَلِّي، فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ". ثُمَّ قَالَ: "أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ" - ثَلَاثًا -، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ! قَالَ: "إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ، فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاَللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ صِبْيَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَمِنْ أَنْفَعِ مَا يَدْفَعُ الشَّيْطَانَ وَفَسَقَةَ الْجَانِّ: الِاسْتِعَاذَةُ بِاَللَّهِ.