فتاوى الأضحية
(1)
حُكْمُ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: الأُضْحِيَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}. وَهِيَ الإِبِلُ، وَالبَقَرُ، وَالغَنَمُ، فَلَا تُجْزِئُ مِنْ غَيْرِهَا. وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا)، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الأُضْحِيَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ فِي المَشْهُورِ عَنْهُمَا.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى القَادِرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحَدُ القَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
وَالقَوْلُ الأَوَّلُ أَرْجَحُ، إِلَّا أَنَّهَا سُنَّةٌ عَظِيمَةٌ، لَا يَرْغَبُ عَنْهَا إِلَّا مَحْرُومٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: "وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا - إنَّ الْأُضْحِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ؛ بَلْ سُنَّةٌ - أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَبِلَالٌ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةُ، وَالْأَسْوَدُ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَدَاوُدُ، وَغَيْرُهُمْ". انتهى.
وَالقَوْلُ بِوُجُوبِهَا لَهُ وَجْهٌ وَفِيهِ قُوَّةٌ.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالأَظْهَرُ وَقْفُهُ. وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: لَكِنْ رَجَّحَ الْأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَهُ. وَقَالَ فِي الْفَتْحِ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَعَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: «كُنَّا وُقُوفًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِعَرَفَاتٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَّةٌ وَعَتِيرَةٌ». رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَضَعَّفَهُ الشَّوْكَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْمَعَافِرِيُّ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(2)
حُكْمُ الاقْتِرَاضِ لِلْأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَنْ عَجَزَ عَنْ ثَمَنِ الأُضْحِيَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ ثَمَنَهَا؟
فَأَجَابَ: الأُضْحِيَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِهَا اشْتَرَطَ الإِيْسَارَ، وَهُوَ مِلْكُ ثَمَنِهَا فَاضِلًا عَنْ نَفَقَاتِهِ الضَّرُورِيَّةِ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَ لَهُ وَفَاءٌ؛ بِأَنْ كَانَ لَهُ دَخْلٌ يَسْتَطِيعُ بِهِ قَضَاءَ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقْتَرِضَ إِنْ تَيَسَّرَ دُونَ مِنَّةٍ وَيُضَحِّيَ؛ لِفَضْلِ الأُضْحِيَةِ فِي الإِسْلَامِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ( يَا رَسُولَ اللهِ، أَسْتَدِينُ وَأُضَحِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ دَيْنٌ مَقْضِيٌّ). رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ وَالبَيْهَقِيُّ؛ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الأُضْحِيَةِ، هَلْ يَسْتَدِينُ؟ فَأَجَابَ: "إِنْ كَانَ لَهُ وَفَاءٌ فَاسْتَدَانَ مَا يُضَحِّي بِهِ فَحَسَنٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ".
وَذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اليَتِيمَ المُوسِرَ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِ اليَتِيمِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَجْبُرُ كَسْرَ قَلْبِهِ.
وَيُجْزِئُ عَنِ المُسْلِمِ - وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ثَمَنِ الأُضْحِيَةِ - أَنْ يُضَحِّيَ بِالأُضْحِيَةِ المُهْدَاةِ لَهُ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، أَوْ كَانَ ثَمَنُهَا عَطِيَّةً وَهِبَةً.
(3)
حُكْمُ الأُضْحِيَةِ بِمَالٍ حَرَامٍ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ الأُضْحِيَةِ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ؟
فَأَجَابَ: لَا تُقْبَلُ الأُضْحِيَةُ وَلَا تُجْزِئُ إِذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ؛ بِأَنْ كَانَتْ مَسْرُوقَةً، أَوْ مَغْصُوبَةً، أَوْ تَمَّ شِرَاؤُهَا بِمَالٍ حَرَامٍ.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ!، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَن تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ». وَالأَحَادِيثُ فِي هَذَا البَابِ كَثِيرَةٌ.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ شَاةً، فَذَبَحَهَا لِمُتْعَتِهِ وَقِرَانِهِ، ثُمَّ أَجَازَهَا الْمَالِكُ أَجَزَأَتْ عَنْهُ.
وَمَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ لَحْمُ أُضْحِيَةٍ مُحَرَّمَةٍ؛ بِأَنْ كَانَتْ مَسْرُوقَةً مَثَلًا؛ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ اللَّحْمَ، وَرَخَّصَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ فِي الْأَكْلِ مِمَّنْ يُعْلَمُ فِي مَالِهِ حَرَامٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا عَلَانِيَةً، وَلَا يَتَحَرَّجُ مِنْ مَالٍ خَبِيثٍ يَأْخُذُهُ، يَدَعُوهُ إِلَى طَعَامِهِ، قَالَ: أَجِيبُوهُ، فَإِنَّمَا الْمَهْنَأُ لَكُمْ، وَالْوِزْرُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا خَبِيثًا أَوْ حَرَامًا، فَقَالَ: أَجِيبُوهُ. وَقَدْ صَحَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ... وَمَتَى عُلِمَ أَنَّ عَيْنَ الشَّيْءِ حَرَامٌ، أُخِذَ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ".
(4)
فَضْلُ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا فَضْلُ الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: فَضْلُ الأُضْحِيَةِ عَظِيمٌ، فَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، حَتَّى قَالُوا: يُقَاتَلُ أَهْلُ البَلَدِ الَّذِينَ لَا يُضَحُّونَ مَعَ القُدْرَةِ.
وَهِيَ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، حَثَّ القُرْآنُ عَلَيْهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَحَادِيثُ فِي أَسَانِيدِهَا ضَعْفٌ؛ نَحْوُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: «قُلْت: - أَوْ قَالُوا: - يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ، قَالُوا: مَا لَنَا مِنْهَا؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ، قَالُوا: فَالصُّوفُ؟ قَالَ: بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ الصُّوفِ حَسَنَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أُنْفِقَتِ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ نَحِيرَةٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيَّ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ. قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: "لَيْسَ فِي فَضْلِ الأُضْحِيَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَى النَّاسُ فِيهَا عَجَائِبَ لَمْ تَصِحَّ". انتهى.
وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِي فَضْلِ الأُضْحِيَةِ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُضَحِّي بِنَفْسِهِ، وَوَاظَبَ عَلَى الأُضْحِيَةِ حَضَرًا وَسَفَرًا: لَكَفَى.
فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَيْهِ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِيَّتَهُ، ثُمَّ قَالَ: (يَا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لَحْمَ هَذِهِ)، فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ.
وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "أَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، يُضَحِّي كُلَّ سَنَةٍ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ.
وَلِابْنِ سَعْدٍ: "أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، لَا يَدَعُ الأَضْحَى".
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأُضْحِيَةَ مِنَ الشَّعَائِرِ الَّتِي تَعْظُمُ: مَا جَاءَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: «كُنَّا نُسَمِّنُ الْأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
(5)
المَشْرُوعُ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا المَشْرُوعُ فِي حَقِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ؟
فَأَجَابَ: جَاءَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.
وَفي لفظ لِمُسْلِمٍ: (إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا). قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرْفَعُهُ، قَالَ: لَكِنِّي أَرْفَعُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا النَّهْيِ، هَلْ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلْكَرَاهِيَةِ؛ فَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَرَبِيعَةُ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَدَاوُد، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، حَتَّى يُضَحِّيَ فِي وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَلَيْسَ بِحِرَامٍ.
وَحُكِي عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ تَرْكَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ لِمَنْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ مُسْتَحَبٌّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُكْرَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: لَا يُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُكْرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ فِي التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبِ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُهْدِي مِنْ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَفِي رِوَايَةٍ (فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ أَقْرَبُ.
وَالَّذِي يُمْسِكُ هُوَ مَالِكُ الأُضْحِيَةِ لَا الوَصِيُّ وَلَا الوَكِيلُ وَلَا مَنْ أَشْرَكَهُمْ فِي أُضْحِيَتِهِ، فَيُمْسِكُ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِ بَدَنِهِ، وَعَنْ أَظْفَارِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَغْسِلَ شَعْرَهُ وَيُسَرِّحَهُ بِخِفَّةٍ، وَيُزِيلَ مَا انْكَسَرَ مِنْ أَظْفَارِهِ.
وَلَوْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَمَّدَ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَثِمَ، وَأُضْحِيَتُهُ مُجْزِئَةٌ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا.
وَلَوْ نَوَى أَنْ يُضَحِّيَ بَعْدَ مَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يَمَسَّ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا بَعْدَ العَزْمِ عَلَى الأُضْحِيَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(6)
التَّصَدُّقُ بِثَمَنِ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: أَيُّمَا أَفْضَلُ، الأُضْحِيَةُ أَمِ الصَّدَقَةُ بِثَمَنِهَا؟
فَأَجَابَ: ذَبْحُ الأُضْحِيَةِ للهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ القَيِّمِ وَغَيْرُهُمَا.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ).
وَفِي رِوَايَةٍ: (مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاةِ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَدَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الأُضْحِيَةَ سُنَّةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّةُ المُسْلِمِينَ، فَيَنْبَغِي التَّأَسِّي وَالاتِّبَاعُ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي جَذَعٌ»؟ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا أَبَا دَاوُد: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا».
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ، أُتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا؛ مَنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ: هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعًا الْمَسَاكِينَ، وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا، فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُضَحِّي، قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغُرْمَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَزَّارُ.
قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ: حَسَنٌ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا - إِذْ لَمْ يَعْدِلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الأُضْحِيَةِ إِلَى الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا - عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ للهِ بِذَبْحِ الأُضْحِيَةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِهَا، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ.
(7)
العُيُوبُ المَكْرُوهَةُ فِي الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا هِيَ العُيُوبُ المَكْرُوهَةُ فِي الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: العُيُوبُ الَّتِي يُكْرَهُ وُجُودُهَا فِي الأُضْحِيَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْهَا نَهْيَ تَنْزِيهٍ وَكَرَاهِيَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ: مَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَأَنْ لَا نُضَحِّيَ بِمُقَابَلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا شَرْقَاءَ، وَلَا خَرْقَاءَ». "عُيُوبٌ بِالأُذُنِ". لَا بَأْسَ بِهِ، رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيَّ وَالبُخَارِيُّ بِالوَقْفِ.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُضَحَّى بِأَعْضَبِ الْقَرْنِ وَالْأُذُنِ»، قَالَ قَتَادَةُ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَقَالَ: الْعَضْبُ النِّصْفُ فَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، لَكِنَّ ابْنَ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ قَتَادَةَ إِلَى آخِرِهِ. صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ فِي الفُرُوعِ: فِي صِحَّةِ الخَبَرِ نَظَرٌ.
فَالجُمْهُورُ يَرَوْنَ أَنَّ النَّهْيَ فِي الحَدِيثِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُودُ هَذِهِ العُيُوبِ أَوْ بَعْضِهَا فِي الأُضْحِيَةِ مِنَ الإِجْزَاءِ وَالقَبُولِ.
وَعَلَيْهِ: فَتُكْرَهُ هَذِهِ العُيُوبُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَالعُيُوبُ المُسَاوِيَةُ لَهَا أَوِ الَّتِي تَزِيدُ عَلَيْهَا - مَا لَمْ تَبْلُغِ العُيُوبَ الأَرْبَعَةَ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ - كَسُقُوطِ الأَسْنَانِ، وَمَبْتُورَةِ الذَّنَبِ لَا الأَلْيَةِ، وَذَاهِبَةِ القَرْنِ أَوِ الأُذُنِ بِالكُلِّيَّةِ لَيْسَ خِلْقَةً، وَالأَحْوَطُ تَجَنُّبُ هَذِهِ العُيُوبِ، خَاصَّةً أَعْضَبَ القَرْنِ وَالأُذُنِ، خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ العُلَمَاءِ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: "وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَةِ مَا كَانَ فِيهِ أَحَدُ الْعُيُوبِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يُجْزِئُ مُطْلَقًا، أَوْ يُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ احْتَاجَ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ يَصْرِفُ النَّهْيَ عَنْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْمُسْتَلْزِمُ لِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ". انتهى.
وَالَّذِي يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُضَحِّيَ بِالسَّلِيمَةِ الخَالِيَةِ مِنْ جَمِيعِ العُيُوبِ، وَكُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ لَحْمًا، وَأَغْلَى ثَمَنًا، وَأَكْمَلَ فِي الصِّحَّةِ وَالخِلْقَةِ وَالمَنْظَرِ وَالطَّعْمِ: فَهِيَ أَفْضَلُ وَأَحْرَى فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(8)
العُيُوبُ المَانِعَةُ مِنْ إِجْزَاءِ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا هِيَ العُيُوبُ الَّتِي لَا تَجُوزُ فِي الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: العُيُوبُ الَّتِي لَا تُجْزِئُ مَعَهَا الأُضْحِيَةُ، وَتَمْنَعُ مِنْ قَبُولِهَا: مَا جَاءَتْ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الثَّابِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي». يَعْنِي العَجْفَاءَ الهَزِيلَةَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَالنَّوَوِيُّ.
وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزَ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي السِّنِّ نَقْصٌ؟ قَالَ: مَا كَرِهْتَ فَدَعْهُ، وَلَا تُحَرِّمْهُ عَلَى أَحَدٍ".
قَالَ النَّوَوِيُّ: "أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعُيُوبَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَهِيَ: الْمَرَضُ، وَالْعَجَفُ، وَالْعَوَرُ، وَالْعَرَجُ الْبَيِّنَاتُ؛ لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِهَا، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا أَوْ أَقْبَحَ مِنْهَا؛ كَالْعَمَى، وَقَطْعِ الرِّجْلِ، وَشِبْهِهِ". انْتَهَى.
وَرَوَى يَزِيدُ ذُو مِصْرَ، قَالَ: أَتَيْتُ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، إِنِّي خَرَجْتُ أَلْتَمِسُ الضَّحَايَا، فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا يُعْجِبُنِي غَيْرَ ثَرْمَاءَ، فَمَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَلَا جِئْتنِي أُضَحِّي بِهَا، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَجُوزُ عَنْكَ، وَلَا تَجُوزُ عَنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّكَ تَشُكُّ وَلَا أَشُكُّ، إنَّمَا: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُصَفَّرَةِ، وَالْمُسْتَأْصَلَةِ، وَالْبَخْقَاءِ، وَالْمُشَيَّعَةِ، وَالْكَسْرَاءِ؛ فَالْمُصَفَّرَةُ الَّتِي تُسْتَأْصَلُ أُذُنُهَا حَتَّى يَبْدُوَ صِمَاخُهَا، وَالْمُسْتَأْصَلَةُ الَّتِي ذَهَبَ قَرْنُهَا مِنْ أَصْلِهِ، وَالْبَخْقَاءُ الَّتِي تُبْخَقُ عَيْنُهَا، وَالْمُشَيَّعَةُ الَّتِي لَا تَتْبَعُ الْغَنَمَ عَجْفًا وَضَعْفًا، وَالْكَسْرَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ.
فَالعُيُوبُ الَّتِي دُونَ العُيُوبِ الأَرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ نُصَّ عَلَيْهَا، يَنْبَغِي تَجَنُّبُهَا لِكَوْنِهَا مِنَ المُشْتَبِهَاتِ، مَنِ اتَّقَاهَا اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ العُلَمَاءِ فِي الإِجْزَاءِ، كَأَعْضَبِ القَرْنِ وَالأُذُنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا أَوْ أَقْبَحُ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ.
وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ العُيُوبِ فَيُسْتَحَبُّ تَجَنُّبُهَا؛ لِأَنَّهَا إِمَّا مَكْرُوهَةٌ، أَوْ خِلَافُ الأَوْلَى وَالأَفْضَلِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(9)
حُدُوثُ العَيْبِ فِي الأُضْحِيَةِ بَعْدَ تَعْيِينِهَا
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: إِذَا حَدَثَ العَيْبُ فِي الأُضْحِيَةِ بَعْدَ تَعْيِينِهَا، فَمَا الحُكْمُ؟
فَأَجَابَ: إِذَا مَاتَتِ الأُضْحِيَةُ، أَوْ ضَلَّتْ، أَوْ تَعَيَّبَتْ بِأَحَدِ العُيُوبِ الأَرْبَعَةِ المَانِعَةِ مِنَ الإِجْزَاءِ، المَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِتَفْرِيطٍ مِنْ مَالِكِهَا: وَجَبَ عَلَيْهِ أُضْحِيَةٌ مَكَانَهَا، مِثْلُهَا أَوْ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ.
فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «اشْتَرَيْتُ كَبْشًا أُضَحِّي بِهِ، فَعَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ الْأَلْيَةَ، قَالَ: فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(10)
صِفَةُ أُضْحِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا صِفَةُ أُضْحِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَأَجَابَ: أُضْحِيَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ الأَفْضَلُ صِفَةً، الجَامِعَةُ بَيْنَ الأَكْمَلِ خِلْقَةً، وَالأَحْسَنِ مَنْظَرًا، الأَنْفَسِ وَالأَطْيَبِ عِنْدَ النَّاسِ، فَالأَحْسَنُ فِي الأَضَاحِي مَا كَانَ أَشْبَهَ بِكَبْشِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ تَعَالَى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَيْهِ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّضْحِيَةِ بِالْأَقْرَنِ الْأَمْلَحِ، وَهُوَ مَا خَالَطَ بَيَاضَهُ سَوَادٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: اشْحَذِيهَا عَلَى حَجَرٍ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَلِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ -: «يَأْكُلُ فِي سَوَادٍ».
فقَوْلُهَا: "يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، ويَأْكُلُ فِي سَوَادٍ"؛ تَعْنِي فَمَهُ، وَمَا حَوْلَ عَيْنَيْهِ، وبَطْنُهُ وَقَوَائِمُهُ سُودٌ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيلٍ، يَأْكُلُ فِي سَوَادٍ، وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ». رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ حِبَّانَ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، قَالَهُ صَاحِبُ الِاقْتِرَاحِ.
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا ضَحَّى، اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، والطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَزَّارُ.
قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ: حَسَنٌ.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ خَصِيَّيْنِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
الْمَوْجُوءُ: مَنْزُوعُ الْأُنْثَيَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَشْقُوقُ عِرْقُ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْخِصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا.
وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ (وَفِي نُسْخَةٍ: ثَمِينَيْنِ) أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ؛ لِمَنْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ، وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ البُوصِيرِيُّ، وَابْنُ المُلَقِّنِ، وَأَعَلَّهُ الشَّوْكَانِيُّ. قَالَ: وَمَدَارُ طُرُقِهِ كُلِّهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَفِيهِ مَقَالٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ: حَدِيثُهُ حَسَنٌ، وَأُعِلَّ حَدِيثُهُ هَذَا بِالاضْطِرَابِ، وَلِلْحَدِيثِ شَوَاهِدُ.
وَفِي البَابِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا؛ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "ضَحَّى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ جَذَعَيْنِ خَصِيَّيْنِ".
فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِالْفَحِيلِ، وضَحَّى بِالْخَصِيِّ.
(11)
الأَسْنَانُ المُعتَبَرَةُ فِي الأَضَاحِي
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا هِيَ الأَسْنَانُ المُعْتَبَرَةُ فِي الأَضَاحِي؟
فأجاب: قَالَ تَعَالَى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ)، فَذَبْحُ الأَضَاحِي عَلَى اسْمِ اللهِ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ المِلَلِ، وَهِيَ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: "أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الضَّحِيَّةُ بِغَيْرِ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ".
وَأَمَّا أَسْنَانُهَا الوَاجِبَةُ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تَذْبَحُوا إلَّا مُسِنَّةً، إلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنْ الضَّأْنِ). رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: «ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ وَهْبٍ، وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ، وَسَكَتَ عَنْهُ، وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: «ضَحَّى خَالٌ لِي - يُقَالُ لَهُ: أَبُو بُرْدَةَ - قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شَاتُك شَاةُ لَحْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنْ الْمَعْزِ، قَالَ: اذْبَحْهَا، وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَالمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ، وَالجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ مَا دُونَ الثَّنِيَّةِ؛ فَالثَّنِيُّ مِنَ الإِبِلِ: مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَالثَّنِيُّ مِنَ البَقَرِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ، وَالثَّنِيُّ مِنَ الغَنَمِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ، وَالجَذَعُ مِنْهَا مَا تَمَّ لَهُ نِصْفُ سَنَةٍ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ العُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ الثَّنِيَّةِ وَالجَذَعَةِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ التَّضْحِيَةُ بِمَا دُونَ الثَّنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ، وَلَا بِمَا دُونَ الجَذَعَةِ مِنَ الضَّأْنِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ: إنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ مُطْلَقًا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: "وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّهُ يُجْزِئُ، سَوَاءٌ وَجَدَ غَيْرَهُ أَمْ لَا، وَحَمَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَفْضَلِ".
وَقَدْ أَفَادَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ المُسِنَّةَ مِنَ الضَّأْنِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الجَذَعِ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ.
وَيَعْتَمِدُ المُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ السِّنِّ المُعْتَبَرِ عَلَى المَعْرِفَةِ، أَوْ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الخِبْرَةِ الثِّقَاتِ، أَوْ عَلَى خَبَرِ البَائِعِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ.
(12)
أَفْضَلُ أَصْنَافِ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا أَفْضَلُ أَصْنَافِ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فِي الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: أَفْضَلُ أَصْنَافِ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فِي الأُضْحِيَةِ عَلَى القَوْلِ الرَّاجِحِ - وَاللهُ أَعْلَمُ – هُوَ حَسَبُ التَّرْتِيبِ المَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَأَفْضَلُ أَصْنَافِ الأَضَاحِي: البَدَنَةُ كَامِلَةً عَنْ وَاحِدٍ، ثُمَّ البَقَرَةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الكَبْشُ "الضَّأْنُ" المُسِنُّ، ثُمَّ المَعْزُ، ثُمَّ الجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ، ثُمَّ سُبْعُ بَدَنَةٍ، ثُمَّ سُبْعُ بَقَرَةٍ.
وَالذَّكَرُ أَطْيَبُ مِنَ الأُنْثَى، وَالصَّغِيرُ سِنًّا المُجْزِئُ المَرْغُوبُ فِيهِ أَحْسَنُ مِنَ الكَبِيرِ سِنًّا المَرْغُوبِ عَنْهُ.
وَقَدْ يُقَدَّمُ جِنْسٌ عَلَى جِنْسٍ، وَنَوْعٌ عَلَى نَوْعٍ فِي بَعْضِ البُلْدَانِ لِعَادَتِهِمْ فِي الأَكْلِ، فَبَعْضُ البُلْدَانِ مَثَلًا لَا يَأْكُلُونَ لَحْمَ الجَمَلِ، وَيُحِبُّونَ لَحْمَ البَقَرِ، فَالأُضْحِيَةُ بِالبَقَرَةِ فِي بَلَدِهِمْ أَفْضَلُ مِنَ البَدَنَةِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الأُضْحِيَةُ أَطْيَبَ وَأَنْفَسَ وَأَكْمَلَ: كَانَتْ أَفْضَلَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(13)
البَدَنَةُ بِسَبْعِ شِيَاهٍ فِي الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: كَمْ تَعْدِلُ البَدَنَةُ مِنَ الغَنَمِ فِي الأُضْحِيَةِ؟
فأجاب: تَعْدِلُ البَدَنَةُ بَعِيرًا كَانَتْ أَوْ بَقَرَةً سَبْعَ شِيَاهٍ؛ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ: «قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشْتَرِكُوا فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ». رَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ، قَالَ فِي "نَيْلِ الأَوْطَارِ": عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ، قَالَ: «اشْتَرَكْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ، فَقَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيَشْتَرِكُ فِي الْبَقَرِ مَا يَشْتَرِكُ فِي الْجَزُورِ؟ فَقَالَ: مَا هِيَ إلَّا مِنْ الْبُدْنِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إنَّ عَلَيَّ بَدَنَةً وَأَنَا مُوسِرٌ، وَلَا أَجِدُهَا فَأَشْتَرِيَهَا، فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبْتَاعَ سَبْعَ شِيَاهٍ فَيَذْبَحَهُنَّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَلَكِنْ عَطَاءٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: شَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «حَجَّتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ». رَوَاهُ أَحْمَدُ.
فَالبَدَنَةُ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ، بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً، وَعَلَيْهِ فَتُجْزِئُ عَنْ سَبْعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَفِي المَسْأَلَةِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الوَاحِدَةُ مِنَ الغَنَمِ فَلَا تُجْزِئُ إِلَّا عَنِ الوَاحِدِ بِالاتِّفَاقِ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: "وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ جَوَازُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِكُونَ مُفْتَرِضِينَ أَوْ مُتَطَوِّعِينَ، أَوْ بَعْضُهُمْ مُفْتَرِضًا، وَبَعْضُهُمْ مُتَنَفِّلًا، أَوْ مُرِيدًا لِلَّحْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ فِي الِاشْتِرَاكِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَقَرِّبِينَ، وَعَنْ دَاوُدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ دُونَ الْوَاجِبِ، وَعَنْ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا".
وَقَوْلُ الجُمْهُورِ أَصَحُّ.
(14)
التَّشْرِيكُ فِي الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ التَّشْرِيكِ فِي الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: البَدَنَةُ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً، يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مِلْكِهَا سَبْعَةٌ؛ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا السُّبْعُ مِنَ البَدَنَةِ، وَالرَّأْسُ مِنَ الغَنَمِ، فَلَا تَصِحُّ شَرَاكَةُ المِلْكِ فِيهِ، وَلَكِنْ يَصِحُّ التَّشْرِيكُ فِي الثَّوَابِ، فَيُشْرِكُ مَنْ شَاءَ - وَإِنْ كَثُرُوا مِنَ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ - بِلَا إِحْدَاثِ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ.
فَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ، لِمَنْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ، وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ البُوصِيرِيُّ وَابْنُ المُلَقِّنِ. وَمَا جَازَ فِي رَأْسِ الغَنَمِ جَازَ فِي سُبْعِ البَعِيرِ وَالبَقَرَةِ.
وَإِلَى صِحَّةِ التَّشْرِيكِ فِي الأَجْرِ ذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ: لَا يُشْرِكْ أَحَدًا فِي ثَوَابِ السُّبْعِ، وَلَا فِي ثَوَابِ الوَاحِدَةِ مِنَ الغَنَمِ.
وَمِنَ المُحْدَثَاتِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - عَمَلُ بَعْضِ الحَرِيصِينَ؛ حَيْثُ يُشْرِكُونَ فِي الثَّوَابِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أُمَّتَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ: كَيْفَ كَانَتِ الضَّحَايَا فِيكُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَ كَمَا تَرَى». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانُوا مِائَةَ نَفْسٍ أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا قَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ.
(15)
مَتَى يَبْدَأُ وَقْتُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَتَى يَبْدَأُ وَقْتُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: يَبْدَأُ وَقْتُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ العِيدِ.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَيَجُوزُ بَعْدَهَا قَبْلَ ذَبْحِ الْإِمَامِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ وَقْتِ الأُضْحِيَةِ حَدِيثُ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أَضْحَى، قَالَ: فَانْصَرَفَ، فَإِذَا هُوَ بِاللَّحْمِ وَذَبَائِحِ الْأَضْحَى، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا ذُبِحَتْ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ (وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ) فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ حَتَّى صَلَّيْنَا، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ كَانَ نَحَرَ قَبْلَهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلَا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ: مَتَى يَجُوزُ ابْتِدَاءُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ الفَجْرِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالأَفْضَلُ بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَخُطْبَتِهِ، وَذَبْحِهِ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ لَا تَلْزَمُهُ صَلَاةُ الْعِيدِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَمَضَى قَدْرُ الصَّلَاةِ وَالخُطْبَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(16)
مَتَى يَنْتَهِي وَقْتُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَتَى يَنْتَهِي وَقْتُ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: أَرْجَحُ الأَقْوَالِ فِي انْتِهَاءِ وَقْتِ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ هُوَ غُرُوبُ شَمْسِ اليَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي إسْنَادِهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مُنْقَطِعٌ، لَا يَثْبُتُ وَصْلُهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ وَصَلَهُ فِي صَحِيحِهِ.
وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشَرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ. وَرَوَى البُخَارِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَا: «لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ».
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: أَيِ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ: أَيِ التَّشْرِيقُ. وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ الَّتِي قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
فَعَلَى القَوْلِ الرَّاجِحِ: وَقْتُ ذَبْحِ الأَضَاحِي أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ؛ يَوْمُ العِيدِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، وَمَكْحُولٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَابْنُ القَيِّمِ، وَشَيْخُنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ بَازٍ، وَشَيْخُنَا مُحَمَّدٌ العُثَيْمِينُ - رَحِمَهُمُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً -.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ: إنَّ وَقْتَ الذَّبْحِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِه، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَبْحَ الأُضْحِيَةِ لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ جَائِزٌ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: "مَا نَعْلَمُ أحدًا مِنَ السَّلَفِ قَبْلَ مَالِكٍ مَنَعَ مِنَ التَّضْحِيَةِ لَيْلًا".
(17)
أَفْضَلُ مَكَانٍ لِذَبْحِ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا هُوَ أَفْضَلُ مَكَانٍ لِذَبْحِ الأُضْحِيَةِ؟
فَأَجَابَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَمُصَلَّى العِيدِ يَكُونُ بِالصَّحْرَاءِ، فَالذَّبْحُ فِيهِ أَظْهَرُ لِلشَّعِيرَةِ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَحْضُرَهَا الفُقَرَاءُ فَيُشَاهِدُونَ وَيَطْعَمُونَ.
وَكُلُّ مَكَانٍ طَاهِرٍ يَجُوزُ ذَبْحُ الأُضْحِيَةِ فِيهِ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: (جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا زِيَادَةُ: «إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَالبَيْهَقِيُّ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ دِحْيَةَ، وَالنَّوَوِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ دَقِيقِ العِيدِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذَّبْحُ فِي بُقْعَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَى الذَّبْحِ فِيهَا إِيذَاءٌ أَوْ مُخَالَفَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَا، كَالذَّبْحِ فِي المَقْبَرَةِ وَعِنْدَ القَبْرِ، وَفِي مَكَانٍ يُذْبَحُ فِيهِ لِغَيْرِ اللهِ.
فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "نَذَرَ رَجُلٌ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيْدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَالأَحْوَطُ عَدَمُ الذَّبْحِ فِي الحَمَّامِ مَكَانَ قَضَاءِ الحَاجَةِ وَلَوْ كَانَ نَظِيفًا؛ فَهِيَ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَمَحَلُّ النَّجَاسَاتِ، ثُمَّ إِنَّ الذَّابِحَ يَذْكُرُ اسْمَ اللهِ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، وَأَمَّا الذَّبْحُ خَارِجَهُ عِنْدَ بَابِهِ؛ لِيَسِيلَ الدَّمُ فِيهِ: فَلَا مَانِعَ مِنْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(18)
حُكْمُ التَّرَاجُعِ عَنْ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: هَلْ يَجُوزُ التَّرَاجُعُ عَنْ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ؟
فأجاب: القَوْلُ الرَّاجِحُ - وَاللهُ أَعْلَمُ - قَوْلُ الجُمْهُورِ: أَنَّ الأُضْحِيَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا تَهَاوُنًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا: مَا جَاءَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، فَعَلَّقَ الأُضْحِيَةَ بِالإِرَادَةِ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا ضَحَّى، اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ، أُتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ، فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا، مَنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ: هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعًا الْمَسَاكِينَ، وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا، فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُضَحِّي، قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغُرْمَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ حَسَنٌ. وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهَةَ أَنْ يَظُنَّ مَنْ رَآهُمَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ مِثْلُ هَذَا مَعَ إِيسَارِهِ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: "لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَصَحَّ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَنْ الْجُمْهُورِ".
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا: فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّرَاجُعِ عَنْ ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ وَإِنْ كَانَ عَازِمًا وَأَمْسَكَ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُعَيِّنَ الأُضْحِيَةَ بِقَوْلِهِ قَاصِدًا التَّعْيِينَ أَوْ بِذَبْحِهَا بِنِيَّةِ الأُضْحِيَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ أَيْضًا بِالشِّرَاءِ مَعَ النِّيَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا تَعَيَّنَتْ حَرُمَ التَّرَاجُعُ، فَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «أَهْدَى عُمَرُ نَجِيبًا، فَأُعْطِيَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَهْدَيْتُ نَجِيبًا فَأُعْطِيت بِهَا ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَبِيعُهَا وَأَشْتَرِي بِثَمَنِهَا بُدْنًا؟ قَالَ: لَا، انْحَرْهَا إيَّاهَا». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
وَقَوْلُهُ: (نَجِيبًا)، النَّجِيبُ: النَّاقَةُ.
(19)
حُكْمُ التَّضْحِيَةِ عَنِ الرَّجُلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُضْحِيَةٍ وَاحِدَةٍ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ أَنْ يُضَحِّيَ الشَّخْصُ الوَاحِدُ أَوْ أَهْلُ البَيْتِ الوَاحِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُضْحِيَةٍ؟
فَأَجَابَ: الأُضْحِيَةُ الوَاحِدَةُ مِنَ الغَنَمِ أَوْ سُبْعِ البَدَنَةِ تُجْزِئُ عَنِ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ، وَإِنْ كَثُرَ العَدَدُ.
وَلَا يَنْبَغِي المُبَاهَاةُ وَالمُفَاخَرَةُ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ: كَيْفَ كَانَتْ الضَّحَايَا فِيكُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ، حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَ كَمَا تَرَى». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُضَحِّيَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ مَعَ الإِيسَارِ، أَوْ أَحَبَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يُضَحِّيَ هُوَ أَيْضًا بَعِيدًا عَنِ المُبَاهَاةِ، فَيُشْرَعُ ذَلِكَ، وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اخْتِيَارِ العَدَدِ فِي الأُضْحِيَةِ. انتهى.
وَفِي شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ لِابْنِ بَطَّالٍ: وَهَذِهِ الآثَارُ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنَى حَدِيثِ أَنَسٍ، وَمُفَسِّرَةٌ لَهُ، وَاخْتِلَافُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ بِاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ؛ فَهُوَ أَزْيَدُ فِي أَجْرِهِ.
وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِكَبْشَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ البَيْتِ يُضَحُّونَ بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ البُوصِيرِيُّ وَالشَّوْكَانِيُّ.
وَقَال البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: أَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ. وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقَالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: كَانَ أَهْلُ البَيْتِ يُضَحُّونَ بِالشَّاةِ، ضَحَّوْا هُمْ «أَيْ: أَهْلُ العِرَاقِ» عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَأَهْدَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ بَدَنَةٍ، (فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
لِذَا فَضَّلَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ البَدَنَةَ الكَامِلَةَ عَلَى الكَبْشِ، وَالفُقَهَاءُ يَقِيسُونَ الضَّحَايَا عَلَى الهَدَايَا.
وَقَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الضَّحَايَا كَحُكْمِ الهَدَايَا، فَمَا جَازَ فِي الهَدَايَا جَازَ فِي الضَّحَايَا. انتهى
وَلَوْ كَانَ تَعَدُّدُ الأُضْحِيَةِ مَحَلَّ ذَمٍّ وَخِلَافَ السُّنَّةِ؛ لَبَيَّنَ ذَلِكَ الرَّحِيمُ بِأُمَّتِهِ، خَاصَّةً وَالحَاجَةُ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى ظَاهِرِيَّتِهِ: وَجَائِزٌ أَنْ يُضَحِّيَ الوَاحِدُ بِعَدَدٍ مِنَ الأَضَاحِي، ضَحَّى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، الأُضْحِيَةُ فِعْلُ خَيْرٍ، فَالاسْتِكْثَارُ مِنَ الخَيْرِ حَسَنٌ. انتهى.
وَقَالَ فِي كِتَابِ المَسَالِكِ: وَالاخْتِيَارُ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ شَاةً، فَإِنْ ضَحَّى بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَهُمْ.
وَقَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الوَاحِدَ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ يُجْزِئُ الإِنْسَانَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: أَنْ يُضَحَّى عَنِ الإِنْسَانِ بِشَاةٍ لِمَنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ.
وَقَالَ شَيْخُنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ بَازٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَإِذَا ضَحَّى الإِنْسَانُ بِوَاحِدَةٍ أَوْ بِثِنْتَيْنِ أَوْ بِأَكْثَرَ: فَلَا بَأْسَ.
وَفِي فَتَاوَى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ: إِذَا كَانَتِ العَائِلَةُ كَثِيرَةً وَهِيَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَيُجْزِئُ عَنْهُمْ أُضْحِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ ضَحَّوْا بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ. انتهى.
وَلِشَيْخِنَا مُحَمَّدٍ العُثَيْمِينِ - رَحِمَهُ اللهُ - كَلَامٌ حَسَنٌ فِي عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الأُضْحِيَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ عَنِ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
(20)
حُكْمُ الأُضْحِيَةِ عَنِ الأَمْوَاتِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا حُكْمُ الأُضْحِيَةِ عَنِ الأَمْوَاتِ؟
فأجاب: الأُضْحِيَةُ عَنِ المَيِّتِ إِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً فَوَاجِبٌ الوَفَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ تَشْرِيكًا فِي الثَّوَابِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ خَصَّ المَيِّتَ بِأُضْحِيَةٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، إِنْ كَانَ الَّذِي خَصَّهُ بِأُضْحِيَةٍ ضَحَّى عَنْ نَفْسِهِ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُضَحِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُشْرِكْهَا فِي أُضْحِيَتِهِ المَذْبُوحَةِ عَنِ المَيِّتِ: فَقَدْ أَخْطَأَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: اشْحَذِيهَا عَلَى حَجَرٍ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا ضَحَّى، اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ، أُتِيَ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلَّاهُ، فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا، مَنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ: هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعًا الْمَسَاكِينَ، وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا، فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُضَحِّي، قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغُرْمَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ. قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ: وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ حَسَنٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي الأُضْحِيَةِ عَنِ المَيِّتِ، وَسَاقَ إِسْنَادًا فِيهِ ضَعْفٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: أَمَرَنِي بِهِ؛ يَعْنِي النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا أَدَعُهُ أَبَدًا».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ، وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ أَنْ يُضَحَّى عَنِ المَيِّتِ، وَلَمْ يَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُضَحَّى عَنْهُ، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ وَلَا يُضَحَّى عَنْهُ، وَإِنْ ضَحَّى فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا شَيْئًا، وَيَتَصَدَّقُ بِهَا كُلِّهَا».
(21)
السُّنَّةُ فِي نَحْرِ الإِبِلِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا هِيَ السُّنَّةُ فِي نَحْرِ الإِبِلِ؟
فَأَجَابَ: قَالَ تَعَالَى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
قَالَ الْبُخَارِيُّ: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوَافَّ: قِيَامًا". وَصَلَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قِيَامًا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ، مَعْقُولَةً يَدُهَا اليُسْرَى، يَقُولُ: "بِسْمِ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ".
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا».
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى، قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "فَنَحَرَ رَسُولُ اللهِ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، جَعَلَ يَطْعَنُهَا بِحَرْبَةٍ فِي يَدِهِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالطَّعْنُ يَكُونُ فِي الوَهْدَةِ أَسْفَلَ الرَّقَبَةِ، بَيْنَ الصَّدْرِ وَأَصْلِ العُنُقِ.
وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ: قِفْ مِنْ شِقِّهَا الأَيْمَنِ، وَانْحَرْ مِنْ شِقِّهَا الأَيْسَرِ.
وَقَوْلُهُ: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ؛ أَيْ: وَمَاتَتْ.
وَصِفَةُ نَحْرِ الإِبِلِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، فَلَوْ بَرَكَهَا أَوْ أَضْجَعَهَا ونَحَرَهَا أَوْ ذَبَحَهَا فِي رَقَبَتِهَا كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ: جَازَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
(22)
السُّنَّةُ فِي ذَبْحِ الغَنَمِ
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا السُّنَّةُ فِي ذَبْحِ الأُضْحِيَةِ مِنَ الغَنَمِ؟
فَأَجَابَ: الأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ وَضَّحَتِ السُّنَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَيْهِ عَلَى صِفَاحِهِمَا، يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ، يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: اشْحَذِيهَا عَلَى حَجَرٍ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدَ الْأَضْحَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِيَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي، وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَيَتَقَوَّى بِشَوَاهِدِهِ.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ عِيدٍ بِكَبْشَيْنِ، فَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.
فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَاشِرَ ذَبْحَ أُضْحِيَتِهِ بِيَدِهِ، وَإِنْ أَنَابَ فَلَا يُنِيبُ إِلَّا المُسْلِمَ، وَلَوِ امْرَأَةً طَاهِرًا أَوْ حَائِضًا، أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُ الكِتَابِيِّ لَا غَيْرِهِ مِنَ الكُفَّارِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِمَحَلِّ الذَّبْحِ مِنَ الرَّقَبَةِ القِبْلَةَ، وَأَنْ يُضْجِعَ الذَّبِيحَةَ مِنَ الغَنَمِ أَوِ البَقَرِ عَلَى الجَنْبِ الَّذِي يُلَائِمُهُ، كَالجَنْبِ الأَيْسَرِ لِمَنْ يَذْبَحُ بِاليَمِينِ.
وَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ تَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ، وَالتَّكْبِيرُ مُسْتَحَبٌّ، وَيُسْتَحَبُّ تَسْمِيَةُ مَنْ يُضَحِّي عَنْهُمْ، نَحْوُ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَهَذَا نُسُكٌ، لَا مِنْ بَابِ التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ.
(23)
كَيْفَ تُقَسَّمُ الأُضْحِيَةُ؟
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: كَيْفَ يُفَرَّقُ لَحْمُ الأُضْحِيَةِ؟
فأجاب: جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسْلَامِيَّةُ بِالقِسْمَةِ الحَكِيمَةِ الجَامِعَةِ بَيْنَ حَقِّ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ، وَحَقِّ القَرِيبِ وَالفَقِيرِ.
قال تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
فَجَزَّأَتْ هَذِهِ الآيَةُ الأُضْحِيَةَ جُزْئَيْنِ: نِصْفًا لِلْمُضَحِّي، يَأْكُلُ مِنْهُ، وَيَحْبِسُ، وَيُهْدِي، وَنِصْفًا لِلْفُقَرَاءِ.
وقال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)، قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: قَوْلُهُ: (فَكُلُوا مِنْهَا)؛ أَمْرُ إِبَاحَةٍ، وَقِيلَ: لِلْوُجُوبِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الأَكْلَ مِنَ الأُضْحِيَةِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ - وَهِيَ مِائَةٌ – بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَطُبِخَتْ، فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ جَزَّأَتْ الآيَةُ هَذِهِ الأُضْحِيَةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ: ثُلُثٍ لِلْمُضَحِّي، يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَدَّخِرُ، وَثُلُثٍ يُهْدِيهِ، وَثُلُثٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ.
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ.
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُوا، وَأَطْعِمُوا، وَادَّخِرُوا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، وَأَطْعِمُوا، وَادَّخِرُوا». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - حَسَّنَهُ الأَصْفَهَانِيُّ - تَفْرِقَتُهَا أَثْلَاثًا: لَهُ، وَلِقَرَابَتِهِ، وَلِلْفُقَرَاءِ، وَإِلَى هَذَا التَّقْسِيمِ ذَهَبَ أَحْمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ.
وَيَجُوزُ التَّفَاوُتُ فِي الأَثْلَاثِ؛ بَلْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَكْلُهَا كُلِّهَا. وَأَوْجَبَ بَعْضُهُمُ الصَّدَقَةَ مِنْهَا.
وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا بَقِيَ مِنْهَا؟، قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: (بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
(24)
مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ لِلْأُضْحِيَةِ قَبْلَ ذَبْحِهَا.
سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ - حَفِظَهُ اللهُ -: مَا الَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ لِلْأُضْحِيَةِ قَبْلَ ذَبْحِهَا؟
فَأَجَابَ: يَنْبَغِي الإِحْسَانُ وَالرِّفْقُ بِالبَهِيمَةِ، فعَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ البَهَائِمِ المُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحَيْهِمَا»، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ النَّوَوِيُّ.
وَكَتَبَ ابْنُ رَجَبٍ: "خَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَدِّ الشِّفَارِ، وَأَنْ تُوَارَى عَنِ الْبَهَائِمِ، وَقَالَ: إِذَا ذَبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجْهِزْ»؛ يَعْنِي: فَلْيُسْرِعِ الذَّبْحَ.
وَخَرَّجَ الْخَلَّالُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، فَقَالَ: أَفَلَا قَبْلَ هَذَا؟ تُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا، خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ: «هَلَّا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا؟». وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تُقَادُ إِلَى الذَّبْحِ قَوْدًا رَفِيقًا، وَتُوَارَى السِّكِّينُ عَنْهَا، وَلَا تُظْهَرُ السِّكِّينُ إِلَّا عِنْدَ الذَّبْحِ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِذَلِكَ: أَنْ تُوَارَى الشِّفَارُ.
وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ عِنْدَ الذَّبْحِ، كَمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ الَّتِي تَذْبَحُ فَتَقْطَعُ الْجِلْدَ، وَلَا تَفْرِي الْأَوْدَاجَ»، وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَعِنْدَهُ قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانُوا يَقْطَعُونَ مِنْهَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، ثُمَّ يَدَعُونَهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَلَا يَقْطَعُونَ الْوَدَجَ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي كِتَابِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: «إِنَّ جَزَّارًا فَتَحَ بَابًا عَلَى شَاةٍ لِيَذْبَحَهَا، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ حَتَّى جَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاتَّبَعَهَا، فَأَخَذَ يَسْحَبُهَا بِرِجْلِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصْبِرِي لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنْتَ يَا جَزَّارُ فَسُقْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا رَفِيقًا».
وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، أَنَّ عُمَرَ رَأَى رَجُلًا يَسْحَبُ شَاةً بِرِجْلِهَا لِيَذْبَحَهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ! قُدْهَا إِلَى الْمَوْتِ قَوْدًا جَمِيلًا.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى قَصَّابًا يَجُرُّ شَاةً، فَقَالَ: سُقْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا جَمِيلًا، فَأَخْرَجَ الْقَصَّابُ شَفْرَتَهُ، فَقَالَ: مَا أَسُوقُهَا سَوْقًا جَمِيلًا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَذْبَحَهَا السَّاعَةَ، فَقَالَ: سُقْهَا سَوْقًا جَمِيلًا.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَذْبَحَ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ»". انتهى.