تعريف القواعد الفقهية
- القواعد لغة: جمع قاعدة وهى تعنى أساس الشىء , فقواعد البيت أساسه , ومنه قوله تعالى «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل» , فالأحكام الفقهية تبنى على القاعدة كما أن الجدران تبنى على الأساس.
أما المعنى الاصطلاحى للقاعدة (أيا كانت , سواء نحوية أم أصولية أم فقهية) فهى: قضية كلية , بمعنى أنها محكوم فيها على كافة أفرادها.
- وأما لفظ (الفقهية) فهو يعنى أن هذه القواعد منسوبة إلى الفقه , والفقه لغة: الفهم , واصطلاحا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
- أما تعريف القواعد الفقهية باعتبارها لقبا لعلم معين فقد اختلف المعرفون لها بناء على اختلافهم في مفهومها هل هي: قضية كلية فتعرف بأنها (حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته لتعرف أحكامها منه). أو قضية أغلبية فتعرف بأنها (حكم أكثري ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه).
الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهى والمدرك
قال الزركشي : والغالب فيما اختص بباب وقصد به نظم صور متشابهة أن يسمى ضابطا. وإن شئت قل: ما عم صورا، فإن كان المقصود من ذكره القدر المشترك الذي به اشتركت الصور في الحكم فهو المدرك، وإلا، فإن كان القصد ضبط تلك الصور بنوع من أنواع الضبط من غير نظر في مأخذها فهو الضابط، وإلا فهو القاعدة.
وظائف فن القواعد الفقهية
- «القواعد الفقهية» هو فن يذكر فيه الفروع الفقهية المتحدة تصويرا ومعنى، المتفقة حكما وعلة, فمهمته جمع القواعد الشاملة وما يندرج تحتها من المسائل المؤتلفة في الشكل المتفقة في الحكم .
- «الأشباه والنظائر»
- الأشباه: هو فن يذكر فيه الفروع الفقهية المتحدة تصويرا ومعنى، المتفقة حكما وعلة, فمهمته جمع المسائل المؤتلفة في الشكل المتفقة في الحكم تحت قاعدتها الفقهية .
- والنظائر: هو فن يذكر فيه الفروع الفقهية المتحدة تصويرا ومعنى، المتفقة في الحكم والعلة، وكذلك المختلفة في الحكم لمدرك خاص بها, فمهمته توضيح المسائل المؤتلفة في الصورة المتفقة في الحكم أو المختلفة فيه تحت القاعدة الفقهية.
- الفروق : هو فن يذكر فيه الفرق بين القواعد أو الفروع الفقهية المتحدة تصويرا ومعنى، المختلفة حكما وعلة, فمهمته توضيح العلل الموجبة للاختلاف والعلل الموجبة للائتلاف تحت القواعد.
العلاقة بين القواعد الفقهية والقواعد الإصولية
تشبه القاعدة الفقهية القاعدة الأصولية من وجهين:
الأول: أن كلا منهما قضية كلية متعلقة بالفقه , يدخل تحتها فروع فقهية كثيرة.
الثانى: أن كلا منهما يعد معيارا للفروع الفقهية , فالقواعد الأصولية معيار لاستنباط الفروع من الأدلة , وأما القواعد الفقهية فهى معيار لضبط الفروع المتشابهة.
أما أوجه الفرق بينهما فتتمثل فيما يلى:
- أن القاعدة الفقهية تستخرج منها أحكام الجزئيات الفقهية مباشرة بدون توسط الدليل بخلاف القاعدة الأصولية التي تستخرج منها أحكام الجزئيات الفقهية بواسطة الدليل وليست مباشرة.
- أن موضوع القاعدة الفقهية هو فعل المكلف بينما موضوع القاعدة الأصولية هو الأدلة.
- أن القاعدة الأصولية وسيلة يتوصل بها المجتهد إلى التعرف علي الأحكام الفقهية , أما القاعدة الفقهية فهي ضابط كلي للأحكام يتوصل إليه المجتهد باستعماله القاعدة الأصولية.
- أن القاعدة الأصولية متقدمة في وجودها الذهني والواقعي علي القاعدة الفقهية بل إن القاعدة الأصولية متقدمة علي الفروع نفسها التي جاءت القاعدة الفقهية لجمعها وضبطها.
العلاقة بين النظرية الفقهية والقاعدة الفقهية
النظرية الفقهية هي موضوع كلي فقهي يدخل تحته موضوعات فقهية عامة متشابهة في الأركان والشروط والأحكام العامة مع اختصاص كل موضوع بأركانه وشروطه الخاصة. مثالها: النظرية العامة للإثبات , ونظرية العقد , وما شاكل ذلك.
وبهذا يكون فيها نوع من التشابه مع القواعد الفقهية من جهة اشتراكهما في أنهما يجمعان أحكاما فقهية من أبواب مختلفة , لكنهما يفترقان في أمور وهى:
- القاعدة الفقهية تتضمن حكما فقهيا في ذاتها ينتقل هذا الحكم إلي الفروع المندرجة تحتها, بخلاف النظرية فإنها تمثل معني عاما ليس فيه حكم , مثاله: قاعدة (اليقين لايزول بالشك) تضمنت حكما فقهيا فى كل مسألة اجتمع فيها شك ويقين , أما النظرية فليست كذلك.
- بينهما عموم وخصوص وجهي , وذلك أن النظريات تعد أعم وأوسع من القواعد فالقاعدة يمكن أن تدخل تحت النظرية وتخدمها , والقواعد تعد أعم من النظريات من جهة أن القاعدة لا تتقيد بموضوع معين اما النظرية فلابد ان تكون متعلقة بموضوع معين كالعقد أو الملكية فلا تدخل حينئذ في العبادات.
أقسام القواعد الفقهية
يتوجه النظر إلى القواعد الفقهية من زوايا مختلفة:
أولا: من زاوية العموم والخصوص فنجد:
- القواعد الداخلة في جميع الأبواب الفقهية أو غالبها وهي القواعد الكلية الكبرى - التي ذُكر أن الفقه مبنيٌ عليها - وعددها خمس قواعد: قاعدة الأمور بمقاصدها, قاعدة اليقين لا يزول بالشك, قاعدة المشقة تجلب التيسير, قاعدة الضرر يزال, قاعدة العادة محكمة.
- القواعد الداخلة في أبواب فقهية كثيرة وهي القواعد الكلية الصغرى, ومنها المتفرع عن القواعد الكبرى كقاعدة (الأصل براءة الذمة) المتفرعة عن قاعدة (اليقين لايزول بالشك) , ومنها المستقل عن القواعد الكبرى , كقاعدة (الإجتهاد لا ينقض بالإجتهاد).
- القواعد الداخلة على أبواب فقهية معينة سواء كانت متفرعة عن القواعد الكلية، أو غير متفرعة عنها ,وهي بمعني الضابط, فمثال المتفرعة قاعدة (العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني) وهذه قاعدة مختصة بالعقود.
ومثال غير المتفرعة (كل ميتة نجسة إلا السمك والجراد بالإجماع والآدمي على الأصح).
ثانيا: من زاوية الاتفاق وعدمه فنجد:
- القواعد المتفق عليها بين جميع المذاهب في الجملة وإن اختلفوا في بعض جزئياتها , كالقواعد الخمس الكبري.
- القواعد المختلف فيها بين علماء المذاهب الفقهية المختلفة , كقاعدة (الرخص لا تناط بالمعاصي).
- القواعد المختلف فيها بين علماء المذهب الواحد , والغالب فى هذا النوع أن يصاغ بأسلوب إنشائى ؛ إشارة إلى وقوع الخلاف فيه فى المذهب, ومن أمثلته قول السيوطى: قاعدة (هل العبرة بصيغ العقود او بمعانيها؟).
ثالثا: من زاوية الاستقلال والتبعية فنجد:
- القواعد الأصلية وهي القواعد المستقلة عن غيرها , وهذا القسم يشمل القواعد الكبرى , والقواعد الصغرى غير المتفرعة من الكبرى.
- القواعد التابعة وهي القواعد المتفرعة عن غيرها مثل قاعدة (الأصل براءة الذمة) فهي متفرعة عن قاعدة (اليقين لايزول بالشك) من جهة أن براءة الذمة فيها تمثل جانب اليقين.
رابعا: من زاوية الأصل الذي استمدت منه فنجد:
- القواعد التي أصلها النص الشرعي بلفظه مثل قاعدة (لاضرر ولا ضرار) فهى نص حديث نبوى ,
- القواعد التي أصلها النص الشرعي بمعناه لا لفظه مثل قاعدة (الأمور بمقاصدها) فقد أخذ لفظها من معنى حديث (إنما الأعمال بالنيات).
- القواعد التي أصلها الاستقراء للأحكام الفقهية وهذا القسم أكثر من الأول كقاعدة (لا ينسب للساكت قول)
خامسا: من زاوية الموضوعات المتعددة فنجد:
قواعد موضوعها الشروط , وهناك قواعد موضوعها العقود المالية , وأخري موضوعها السياسة الشرعية وهكذا.
نشأة القواعد الفقهية وارتقاؤها
القواعد الفقهية كغيرها من الفنون بدأت ونمت واكتملت ومرت بعدة مراحل وأطوار أولها التأسيس والتكوين, ثم البناء والتدوين, ثم الاستقلال التام والتطوير.
فالمتأمل في القواعد الفقهية يدرك أن كثيرا منها إما نص شرعي, أو معنى مأخوذ من لفظه, وهذا مُعلم بأول أطوارها التأسيسية، كما أن قواعد فقهية جرت على ألسنة بعض الصحابة والتابعين, كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (مقاطع الحقوق عند الشروط) بل كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه «اعرف الأمثال والأشباه, ثم قِسِ الأمور عند ذلك».
ومع مرور السنوات وازدهار الفقه وتظافر جهود الفقهاء في القرون الثلاثة الأولى التمت مسائل أشباه ونظائر وبرزت علل مسائل في الفقه فتكونت ضوابط وقواعد فقهية ذهنية تواطأت عليها الألسنة ودون شيئا من ذلك في بعض الرسائل والمؤلفات للأئمة كمالك (ت: ١٧٩) وأبي يوسف (ت: ١٨٢) ومحمد بن الحسن (ت: ١٨٩) والشافعي (ت: ٢٠٤) وغيرهم.
وفي القرن الرابع جمع أبو طاهر الدباس في حافظته سبع عشرة قاعدة في مذهب أبي حنيفة منها الخمس الأساسية جعل يرددها.
إلى أن بدأت - حسب علمنا - أول نواة التدوين للقواعد الفقهية كعلم قائم بنفسه على يد أبي الحسن الكرخي (ت: ٣٤٠) في رسالته ثم شق هذا الفن طريقه للإرتقاء حتى جاء القرن الثامن وفيه كثرت مؤلفات القواعد الفقهية وجودت وتتابع التنسيق والتطوير ومما تجدر الإشارة إليه أن القواعد الأساسية غير منسوبة لعالم.
مناهج العلماء في التأليف في القواعد الفقهية وأهم الكتب
تنوعت مناهج التأليف في القواعد الفقهية بالنظر إلي اعتبارات معينة , ويمكن حصرها في اعتبارين :
الاعتبار الأول: مناهجهم باعتبار الترتيب
تنوعت مناهج المؤلفين في ترتيب مؤلفاتهم في هذا الفن الي المناهج الآتية:
- المنهج الأول: الترتيب الهجائي
- المنهج الثاني: الترتيب الموضوعي.
- المنهج الثالث: الترتيب الفقهي ,
- المنهج الرابع: التنويع بين مهجين أو أكثر من المناهج المتقدمة .
- المنهج الخامس: سرد القواعد بدون ترتيب معين
الاعتبار الثانى: مناهجهم باعتبار المضمون
قل أن نجد كتابا خالصا في القواعد الفقهية, ولهم في هذا ثلاثة مناهج:
- المنهج الأول: إيراد القواعد الفقهية مع القواعد والمسائل الأصولية.
- المنهج الثاني: إيراد القواعد الفقهية مع موضوعات فقهية جزئية أو موضوعات عقائدية.
- لمنهج الثالث : المزج بين مضمون المنهجين السابقين.
صياغة القاعدة الفقهية
القواعد الفقهية لم تصغ جملة واحدة, وإنما صيغت بالتدرج عبر مراحل نشأتها وتطورها, ويمكن بهذا الصدد ملاحظة مايلي:
أولا: لا يعرف لكل قاعدة صائغ معين إلا إذا كانت القاعدة نص حديث نبوي أو أثرا عن صحابي أو تابعي.
ثانيا: اكتسبت القواعد الفقهية صياغتها من أثر تداولها في كتب الفقه.
ثالثا: العبارة التي تصاغ بها القاعدة الفقهية تكون في الغالب موجزة مع شمول معناها.
رابعا: إذا كانت القاعدة الفقهية متفقا عليها فإنها تصاغ باسلوب خبري, وإذا كانت مختلفا فيها صيغت باسلوب إنشائي.
حجية القاعدة الفقهية
يمكن حصر الاتجاهات العامة في حجية القاعدة الفقهية في اتجاهين:
الاتجاه الأول: عدم الاحتجاج بالقاعدة الفقهية , وذلك
- أولا: أن القواعد الفقهية أغلبية وليست كلية في نظرهم , كما صرح به ابن نجيم.
- ثانيا: أن كثيرا من القواعد الفقهية كان مصدرها الاستقراء وهو في الجملة استقراء غير تام فلا تحصل به غلبة الظن.
- ثالثا: أن القواعد الفقهية ثمرة للفروع ولا يعقل أن تجعل الثمرة دليلا عليها.
الاتجاه الثاني: الاحتجاج بالقاعدة الفقهية , وجعلها دليلا صالحا للاستنباط والترجيح, وهذا الاتجاه مبني علي اعتبار القواعد الفقهية كلية وليست أغلبية, وما استثني منها إما فاقد لشرط القاعدة أو وُجِد به ما يمنع من إلحاقه بحكمها.
وأما ما قيل من أن كثيرا من القواعد الفقهية مصدره الاستقراء غير التام فإن هذا لا يمنع من إطلاق وصف الكلية عليها , كما هو معاوم من كلام كثيرمن العلماء عن الاستقراء.
وأما ماقيل من أن القواعد الفقهية ثمرة للفروع فلا تجعل دليلا عليها فلا يصح لأن الفروع التي يستدل بالقاعدة عليها هي الفروع الحادثة لا الفروع التى استنبطت منها القاعدة.
والذي يبدو في موضوع حجية القواعد الفقهية أن الأمر لايزال محل نظر عند الكثيرين , إلا أن هنا أربعة أمور تكاد تكون محل اتفاق وهي:
الأمر الأول: إذا كانت القاعدة مستندة الي نص شرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع فإنها تكون حجة.
الأمر الثاني: أن القاعدة الفقهية تكون حجة يستأنس بها مع النص في الحكم علي الوقائع الجديدة.
الأمر الثالث: أن القاعدة الفقهية تكون حجة في ما إذا عدم الدليل النقلي علي الواقعة.
الأمر الرابع: أن القاعدة الفقهية تكون حجة لطالب العلم في بادئ الأمر؛ لتستقر الأحكام في ذهنه.
أهمية القواعد الفقهية وفوائد داستها
- الفائدة الأولي: جمع الفروع الفقهية المتعددة تحت أصل واحد مما يسهل إدراك الروابط والصفات الجامعة بين هذه الفروع في الأبواب المختلفة, كما يسهل إدراك أحكام الفروع وحفظها بطريق أيسر.
- الفائدة الثانية: أن الإلمام بالقواعد الفقهية وفهمها مما يكون الملكة الفقهية لدي دارسه من جهة , ومن جهة أخري يمكن الفقيه من الاطلاع علي مآخذ الفقه فيساعده ذلك في استنباط الأحكام المناسبة للوقائع المتجددة.
- الفائدة الثالثة: أن دراسة القواعد الفقهية تساعد علي إدراك مقاصد الشريعة فمثلا دراسة قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وما يندرج تحتها من فروع تعطي تصورا بان دفع الحرج ورفعه من مقاصد هذه الشريعة.
- الفائدة الرابعة: أن دراسة القواعد الفقهية تفيد غير المتخصصين في علوم الشريعة من حيث اطلاعهم علي الفقه بأيسر طريق, ووقوفهم واطلاعهم علي شموله , والرد علي من يتهمونه بالجمود.
- الفائدة الخامسة: أن الإلمام بالقواعد الفقهية وفهمها مما يفيد فى المقارنة بين المذاهب الفقهية.
الكلام على هذه القاعدة يمكن أن نجعله فى المسائل الآتية:
القاعدة الكبرى الأولى: الأمور بمقاصدها
المسألة الأولى: مكانة هذه القاعدة وأهميتها
هذه القاعدة قاعدة عظيمة القدر , تنبنى عليها أعمال القلوب التى يكون بها صلاح أعمال الجوارح أو فسادها , كما أن الثواب والعقاب يدور عليها , وتتأكد أهميةهذه القاعدة من خلال إدراكنا أنها تستند إلى حديث (إنما الأعمال بالنيات) الذى ذكر كثير من الأئمة أنه أحد ثلاثة أحاديث ترد إليها جميع الأحكام , وأنه ثلث العلم , ووجه بعضهم ذلك بأن كسب الإنسان يقع بقلبه ولسانه وجوارحه , فالنية أحد أقسامه الثلاثة.
المسألة الثانية: معنى القاعدة
تعنى هذه القاعدة أن تصرفات المكلف من قولية أو فعلية أو اعتقادية تختلف أحكامها الشرعية باختلاف إرادته ونيته. أما سبب عدول العلماء إلى التعبير بلفظ (الأمور بمقاصدها) دون لفظ الحديث (الأعمال بالنيات) فيحتمل أنهم رأوه أعم من لفظ الحديث والله أعلم مع أن بعضهم فضل لفظ الحديث.
مثال على القاعدة: من تزوج بقصد إعفاف نفسه فهو مأجور , ومن تزوج بقصد إضرار المرأة فهو مأزور.
المسألة الثالثة: الأدلة على القاعدة
هذه القاعدة دل على معناها أدلة كثيرة من القرآن والسنة والإجماع , ولكن العمدة فى تأصيلها هو حديث عمر بن الخطاب»رضى الله عنه» فى الصحيحين قال سمعت رسول الله»صلى الله عليه وسلم» يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ....... الحديث)) {} وهذا الحديث مما تلقته الأمة بالقبول , وفى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) حصر , معناه: لا عمل إلا بنية , وفي الكلام حذف تقديره (إنما صحة الأعمال بالنيات) وقيل تقديره: (إنما كمال الأعمال بالنيات) والأول أرجح ؛ لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال , فالحمل عليها أولي.
ويضاف إلي هذا الدليل مجموعة من الأدلة من القرآن والسنة: منها قوله تعالي» واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)) {الكهف: ٢٨} وهذا دليل علي أنه لابد من ملاحظة القصد والنية قي العمل, وذلك بإرادة وجه الله فيه.
المسألة الرابعة: حكم النية
النية عبادة مشروعة , ولكن اختلف العلماء في حكمها: فجعلها بعضهم شرطا لصحة الأعمال , وجعلها الأكثرون ركنا في جميع الأعمال , وللعلائي تفسير حسن هنا وهو: أن ما كانت النية معتبرة في صحته فهي ركن فيه , وأما ما يصح بدون النية ولكن يتوقف حصول الثواب فيه عليها فإنها تكون شرطا فيه , وذلك كالمباحات والكف عن المعاصي.
المسالة الخامسة: المقصود من شرع النية شرعت النية لثلاثة أمور:
الأمر الأول: تمييز العبادات عن العادات , ومن أمثلة هذا: أن الاغتسال بالماء متردد بين أن يكون للتنظف والتبرد , وبين أن يكون طهارة شرعية كرفع الجنابة.
على أن العادات قد تصبح عبادات بالنية فيحصل الثواب عليها وذلك كما في الأكل والشرب والنوم إذا قصد بها التقَوِّي علي طاعة الله.
الأمر الثاني: تمييز العبادات بعضها عن بعض , كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر، وتمييز الفرض من النفل , وتمييز الأداء من القضاء, وهذان الأمران هما اللذان يوجدان كثيرا في كلام الفقهاء وكتبهم.
الأمر الثالث: تمييز المقصود بالعمل، هل العمل لله وحده وهو المقبول، أم لغيره، أم له ولغيره. وهذه النية هي التي يتكلم عنها من كتب في التوحيد والإخلاص.
المسألة السادسة: انفراد النية عن التصرف أو التصرف عن النية
, وهذه المسألة لها حالتان:
الحالة الأولى: انفراد النية عن التصرف , والمقصود أن النية لم تقترن بفعل أو قول ظاهر بحيث لم تتجاوز القصد إلي التصرف , وحينئذ لا تترتب عليها أحكاما شرعية دنيوية , مثاله: لو أن رجلا نوى تطليق زوجته في قلبه ولم يتلفظ بالطلاق فإنه لا يقع الطلاق. أما أحكام الآخرة من ثواب أو عقاب فقد تترتب على النية ولو لم يصاحبها فعل.
الحالة الثانية: انفراد التصرف عن النية , وهذا لا يخلو من أمرين:
- الأمر الأول: أن يثبت الحكم للتصرف دون الحاجة للنية , كالواجبات التي تكون صورتها كافية في تحصيل مقصودها , مثل أداء الديون , ورد الأمانات , فهذه التصرفات يثبت فيها الحكم بمجرد الفعل , ولا حاجة إلى النية.
- الأمر الثاني: أن لا يثبت الحكم للتصرف حتى تقترن به النية , وهذا يشمل التصرفات غير الصريحة في المقصود منها , ولها أوجه متعددة كلٌ منها محتمَل ,وحينئذ فإن هذا التصرف يكون موقوفا حتى يُبيٍن لنا صاحبُه نيتَه منه , وذلك كمن قال لزوجته: اذهبي لأهلك , فإن هذا لا يكون طلاقا ؛ لأنه يحتمل الطلاق وغيره , كأن تذهب لزيارتهم مثلا.
المسألة السابعة: محل النية
النية محلها القلب , ولا يكفي التلفظ بها باللسان عن انعقادها فى القلب , فإذا تلفظ بها واختلف اللفظ عما في القلب فالمعتبر ما في القلب , على أن التلفظ بالنية بدعة؛ لعدم ثبوته عن النبي»صلى الله عليه وسلم» ولا عن أحد من أصحابه.
المسألة الثامنة: شروط النية
الشرط الأول: أن يكون الناوي مسلما , لأن النية عبادة ومن شروط صحة العبادة الإسلام.
الشرط الثاني: أن يكون الناوي مميزا, لأن النية لابد فيها من القصد , واستثنى العلماء من ذلك الاتلاف , فإنه يوجب الضمان ولو لم يكن الناوي مميزا ؛ لتعلقه بحقوق العباد التى مبناها على المشاحة.
الشرط الثالث: العلم بالمَنْوِي , فإنّ من لم يعلم بما نواه لم يمكنه تعيينه , وبناءً عليه فمن لم يعلم بفرضية الصلاة أو الوضوء مثلاً , لم يصح منه فعلهما.
الشرط الرابع: عدم المنافى بين النية والمنوى , والمنافى هنا له قسمان:
- القسم الأول: ما ينافى انعقاد النية ابتداء , كالتردد فى النية وعدم الجزم فيها أصلا , أو عدم القدرة على المنوى , أو التشريك فى النية , فهذا كله ينافى انعقاد النية ابتدء.
- القسم الثانى: ما ينافى استمرار النية , وهو إما أن يكون بقطع النية , أو بتغييرها ونقلها , كمن نوى قطع الصلاة , فإن صلاته تبطل بمجرد نية القطع , وأما تغيير النية أو نقلها فإنه يعتبر مناقيا لاستمرار ها في العبادات إذا كان نقلا من أمرٍ إلى أمرٍ مساوٍ له أو أعلى منه , وذلك مثل أن ينوى قلب الفرض إلى فرض آخر , أو ينوي قلب النفل إلى فرض.
الشرط الخامس: أن تكون النية مقارنة لأول العمل , إذا كان مما يشترط فيه المقارنة , وذلك في الأعمال التي يكون فيها المكلف غير مُخَيَّر في إيقاع النية في أى جزء من أوقات العبادة , مثل الصيام الواجب
الشرط السادس: الإخلاص في النية , وهذا شرط لقبول النية , ويدل على اشتراطه قوله تعالى «وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء» {البينة: ٤}
المسألة التاسعة: القواعد المتفرعة عن قاعدة الأمور بمقاصدها
تفرع هذه القاعدة مجموعة من القواعد التي يمكن أن تُصنف ثلاثة أصناف:
الصنف الأول من القواعد المتفرعة : القواعد المتعلقة بالعقود, وهذه القواعد تمثلها قاعدة واحدة وهى:
قاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني
وهذه القاعدة تشتمل على عدة مسائل:
- المسألة الأولى: هذا هو نص القاعدة عند الحنفية , وأما غيرهم فقد صاغوها بلفظ الاستفهام إشارة إلى اختلاف فقهائهم فيها , كقول السيوطى فى التعبير عنها: (هل العبرة بصيغ العقود أو بمعانيها؟)
- المسألة الثانية: معنى القاعدة : تعني هذه القاعدة أن أحكام العقود إذا اختلفت ما بين ألفاظ المتكلم ونيته , فإنه لا يُنظر إلى ألفاظه ولا تُبنى عليها العقود , بل يُنظر إلى مقصده ونيته.
- المسألة الثالثة: أمثلة للفروع المبينة على القاعدة
لو قال شخص لآخر: وهبتك هذه السيارة على أن تعطيني سيارتك , فإن هذا العقد يأخذ حكم البيع , وإن كان بلفظ الهبة ؛ لأن معناه بيع , والعبرة فى العقود بالمقاصد والمعانى لا بالألفاظ والمبانى. أما على مذهب بعض فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة - الذين يرون أن العبرة فى العقود بالألفاظ والمبانى لا بالمقاصد والمعانى- فإن هذا العقد يأخذ حكم الهبة.
[والأًولى إبرام العقود بالصيغ المخصوصة لكل عقد , ولكن عندما يتعارف الناس على صيغ وألفاظ معينة ويبرموا بموجبها العقود , ويصعب عليهم تركها أو يجهلوا الصيغة الأصلية لكل عقد , فإن الأَولى التوسعة على الأمة وعدم التحجر ؛ لاسيما وأنه ليس لدينا ما يدل على المنع صراحة].
الصنف الثاني من القواعد المتفرعة عن القاعدة الكبرى : القواعد المتعلقة بالأيمان , وهذا الصنف تحته أربع قواعد:
- القاعدة الأولى: النية فى اليمين تخصّص اللفظ العام وتعمّم اللفظ الخاص
وهذه القاعدة تشتمل على عدة مسائل:
- المسألة الأولى: هذا هو نص القاعدة عند المالكية والحنابلة وبعض الحنفية , فأما الشق الأول من القاعدة وهو تخصيص اللفظ العام بالنية فمتفق عليه بين المذاهب , وأما الشق الآخر وهو تعميم الخاص بالنية فقد منعه الشافعية وبعض الحنفية.
- المسألة الثانية: معنى القاعدة: تعني هذه القاعدة أن نية المتكلم لها أثر في باب الأيمان من جهة أن المتكلم لو تلفظ بيمين لفظها عام ونوى شيئا خاصل , فإن النية تخصص لفظه هذا ويُعامل بحكم ما نوى, وكذا العكس فيما لو تلفظ بلفظ خاص ونوى شيئا عاما فإن النية تعمم لفظه.
- المسألة الثالثة: أمثلة للفروع المبنية على هذه القاعدة
- أما الشق الأول من القاعدة وهو تخصيص العام بالنية , فمن أمثلته: لو حلف شخص ألا يكلم أحدا ونوى ألا يكلم زيدا فقط , فإنه لا يحنث لو كلم غير زيد؛ لأن يمينه وإن كانت عامة في لفظها إلا أنه قد خصصها بنيته.
- وأما الشق الثاني وهو تعميم الخاص بالنية ففيه الخلاف الذي علمت , ومن أمثلته: لو حلف شخص ألا يشرب من ماءِ فلانٍ من عطش , ونوى ألا ينتفع منه بشئ , فبناءً على نص القاعدة يحنث إذا انتفع منه بشئ ولو كان لفظه خاصا بالشرب منه من عطش؛ لأن نيته عامة.
وأما عند الشافعية وبعض الحنفية فإنه لا يحنث إلا بالشرب منه من عطش خاصة, ولا يحنث لو انتفع منه بشئ آخر؛ لأن النية في اليمين لا تعمم اللفظ الخاص عندهم.
- القاعدة الثانية: الأيمان مبنية على الأغراض لا على الألفاظ
وهذه القاعدة تشتمل على عدة مسائل:
- المسألة الأولى: هذا هو نص القاعدة عند المالكية والحنابلة , وأما عند الحنفية والشافعية فإن مبنى الأيمان على الألفاظ إن أمكن استعمال اللفظ , وإلا فإنها تُبنى على الأغراض.
- المسألة الثانية: معنى القاعدة: تعنى هذه القاعدة أن اليمين بالله تعالى إذا اختلف لفظها عن نية الحالف فإن الحكم هنا يكون مبنيا على النية إذا احتملها اللفظ.
- المسألة الثالثة: أمثلة للفروع المبنية على هذه القاعدة
لو اغتاظ والدٌ من ابنه فحلف ألا يشتري له بريال, ثم إنه بعد ذلك اشترى له شيئا بمائة مثلا, فبناءً على نص القاعدة يحنث هذا الشخص؛ لأن قصده عدم نفع ابنه مطلقا ، والأيمان مبنية على الأغراض لا على الألفاظ. وعند الحنفية والشافعية لا يحنث؛ لأن لفظه (ريال) واشترى له بأكثر منه, فلم يفعل ما حلف على تركه, والأيمان عندهم مبنية على الألفاظ لا على الأغراض.
- القاعدة الثالثة: مقاصد اللفظ على نية اللافظ إلا في اليمين عند القاضي
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: تعنى هذه القاعدة أن الأصل في اليمين أن تُحمل ألفاظها وتُفسر بما نواه الحالف , ويُستثنى من هذا موضعٌ واحدٌ وهو اليمين أمام القاضي أو أمام من له حق التحليف فإن اليمين تُفسر بحسب دلالة اللفظ لا بحسب نية الحالف.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة: دل على هذه القاعدة قوله»صلى الله عليه وسلم»: ((إنما اليمين على نية المستحلِف)) [أخرجه مسلم فى صحيحه ٣/١٢٧٤]. فهذا دليل على أن اللفظ إذا كان يمينا عند القاضي فإنه يكون على نية المستحلِف أى القاضي , فلا تنفع التورية ولا الاستثناء , وقد أجمع العلماء على هذا المعنى.
- المسألة الثالثة: أمثلة للفروع المبنية على هذه القاعدة:
هذه القاعدة متفَق عليها في المذاهب الأربعة , ومن أمثلتها : ما لو حلَّف القاضي مُنكِرَ الدَيْن أنه ما أخذ لفلان شيئا, فحلَف ونوى أنه ما أخذ هذا اليوم وكان في الواقع قد أخذ قبل ذلك فإنه يحنث في يمينه؛ لأنه لو كان الأصل في اليمين أن تُحمل على نية الحالف إلا أنها هنا أمام القاضي, فُتحمل على ما دل عليه لفظها.
- القاعدة الرابعة: اليمين على نية الحالف إن كان مظلوما , وعلى نية المستحلِف إن كان ظالما
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: أن هذه القاعدة مكونة من شقين: الشق الأول: كون الحالف مظلوما , فتكون اليمين على نيته. والشق الثانى: كون الحالف ظالماً فتكون اليمين علي نية المستحلِف. وهذه القاعدة متفق عليها فى الجملة فى المذاهب الأربعة.
- المسألة الثانية: معنى القاعدة: تعنى هذه القاعدة أن اليمين إذا حصلت أمام من له حق التحليف , واختلفت ألفاظ الحالف عن نيته , فإنه إن كان مظلوما فإن اليمين تُحمل على ما نواه لا على لفظه , فلا يحنث فى يمينه , وأما إن كان ظالما فإن اليمين تُحمل على ما دل عليه لفظها , وتفسر بحسب نية المستحلِف.
- المسألة الثالثة: أمثلة للفروع المبنة على القاعدة:
- أما الشق الأول من القاعدة فمثاله: لو أجبر ظالم رجلا على أن يطلق زوجته , فتلفظ بطلاقها ونوى ما يرفع حكم الطلاق , بأن نوى أنها كانت طالقا قبل مدة وليست طالقا الآن , فإن نيته تنفعه هنا ؛ لأن اليمين تكون على نية الحالف إن كان مظلوما.
- وأما الشق الثانى فيصلح التمثيل له بما ذكرناه من مثال فى القاعدة الثالثة.
الصنف الثالث من القواعد المتفرعة: القواعد المستثناة من القاعدة الكبرى, بناءً على القول بأن القواعد الفقهية أغلبية أكثرية , وهذا الصنف تحته قاعدة واحدة فقط , وهى:
قاعدة: من استعجل الشئ قبل أوانه عُوقب بحرمانه
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: هذا التعبير المعتمد لنص القاعدة منقول عن المالكية, وقريب منه تعبير الحنفية والشافعية , وقد يُعبَّر عنها بقاعدة (المعاملة بنقيض المقصود) كما ورد عند المالكية والشافعية , وأما الحنابلة فقد وردت هذه القاعدة عندهم بصياغة فيها شئ من الطول , كقول ابن رجب: (من تعجَّل حقه أو ما أُبيح له قبل وقته على وجه مُحرَّم عُوقب بحرمانه).
- المسألة الثانية: معنى القاعدة :
تعنى هذه القاعدة أن من يعمل الوسائل غير المشروعة بقصد الحصول على منفعة مشروعة , أو يعمل الوسائل المشروعة تحايلا للوصول إلى أمر غير مشروع , فإنه يعامَل بنقيض قصده , فيحرم من هذه المنفعة المشروعة.
- المسألة الثالثة: أمثلة للفروع المبنية على القاعدة:
هذه القاعدة كما يُلاحظ تشتمل على أمرين:
أولهما: استخدام وسائل غير مشروعة في الوصول إلى منفعة مشروعة, ومثاله: لو قتل شخص شخصا آخر عمداً, وكان بينهما سبب يوجب التوارث فإن القاتل يُحرَم من إرث المقتول؛ لأن القتل هنا وسيلة غير مشروعة لتعجيل الإرث الذى هو منفعة مشروعة , فيُعاقَب القاتل بحرمانه من الميراث معاملةً له بنقيض قصده.
وثانيهما: استخدام وسائل مشروعة للوصول إلى أمر غير مشروع , ومثاله: لو أن رجلا في مرض موته طلق زوجته طلاقا بائنا, ثم مات وهى في العدة فإنها تُوَرَّث منه؛ لأن الطلاق وإن كان وسيلة مشروعة إلا أنه يُتوصل به هنا إلى أمر غير مشروع وهو الحرمان من الإرث, فيُعامَل بنقيض مقصوده.
القواعد المستثناه من قاعدة (الأمور بمقاصدها)
- قاعدة: من استعجل الشئ قبل أوانه يعاقب بحرمانه.
ومعنى هذه القاعدة: أن من يتوسل بالوسائل غير المشروعة تعجلا منه للحصول على حق له, فإن الشرع عامله بضد مقصوده, فأوجب حرمانه من ذلك الحق جزاء استعجاله من باب سد الذرائع, والزجر عن التحايل على الشرع.
أمثلة على هذه القاعدة: إذا قتل الوارث مُوَرثه الذي يرث منه عمدا مستعجلا الإرث, فإنه يُحرم من الميراث. قال «صلى الله عليه وسلم»: (القاتل لا يرث) صحيح سنن الترمذي
- قال الشافعي: (الإيثار في القُرَب مكروه وفي غيرها محبوب)
الإيثار نوعان:
النوع الأول: إيثار الغير على النفس في الحظوظ الدنيوية وهو محبوب مطلوب, وهذا النوع مندرج تحت القاعدة الكبرى (الأمور بمقاصدها).
النوع الثاني: إيثار في الحظوظ الأخروية, وهى المُعبَر عنها بالقُرَب: جمع قُربَة وهو كل ما يتقرب به إلى الله, وهذا النوع هو موضوع هذه القاعدة. وهو يُعرض فاعله للمعاملة بنقيض مقصوده, فيكون مستثنى من القاعدة الكبرى.
ويكون الإيثار في القُرَب حراما إذا أدى إلى ترك واجب, كإيثار الغير بماء الطهارة مثلا حيث لا يوجد غيره, ويكون مكروها إذا أدى إلى ترك سنة أو ارتكاب مكروه, كأن يقوم عن مجلسه في الصف لغيره ويتأخر, ويكون خلاف الأولى إذا أدى إلى ارتكاب خلاف الأَولى مما ليس فيه نهي مخصوص, كمن آثر غيره بمكانه- الأقرب للإمام- فى نفس الصف.
تطبيق على طريقة معرفة حكم الجزئيات من القاعدة الكلية:
زيد أعطى فلانا من الناس مالا, فما حكمه؟
نستخرج من القاعدة الكلية (الأمور بمقاصدها) أن إعطاء المال يقصد به أمور مختلفة, ولما كان لكل مقصود حكم يخصه, نقول: إن كان مقصد زيد من الإعطاء التصدق أو الهبة كان فعله طاعة يثاب عليها, وإن كان قصده القرض أو الإيداع كان له حق استرداده, وإن كان قصده وفاء دين عليه كان الحكم براءة ذمته؛ لأن الأمور بمقاصدها.
قاعدة متعلقة بالنية: لا ثواب إلا بنية
- المسالة الأولى: معنى القاعدة: تعني هذه القاعدة أن حصول الثواب في الآخرة على أى عمل يعمله المكلف يشترط فيه نية التقرب به إلى الله تعالى , ويستوي في ذلك أن يكون العمل عبادة في الأصل أو غير عبادة.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة
دل على هذه القاعدة ما تقدم من قوله»صلى الله عليه وسلم»: ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) فقد ذكر بعض العلماء أن المراد بالحصر هنا: إنه إنما يحصل لكل امرئ ثواب العمل الذى نواه , فتكون هذه الجملة بيانا لترتب الثواب على النية فى الآخرة.
- المسألة الثالثة: ما تدخله القاعدة من الأعمال
هذه القاعدة تشمل جميع أحوال المسلم, فإنه لا يُثاب على أى عمل إلا إذا أدَّاه بنية التقرب إلى الله تعالى , فأعمال المسلم لا تخلو إما أن تكون فعلا للعبادات , أو تركا للمعاصي , ونية التقرب إلى الله فيهما ظاهرة , و إما أن تكون فعلا للمباحات , وهذا باب واسع للثواب ينبغى أن يغتنمه المسلم.
- المسألة الرابعة: شروط قبول العمل:
لا يُقبل العمل الذي يُتقرب به إلى الله إلا بأمرين:
الأول: أن تَبعث عليه نية صالحة؛ إذ النية روح العمل ولُبه, وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها.
الثانى: أن تكون صورة العمل الظاهرة مشروعة غير مبتَدَعة, وفي هذا يقول ابن مسعود»رضي الله عنه»: لاينفع قول إلا بعمل , ولا ينفع قول وعمل إلا بنية , ولا ينفع قول وعمل ونية إلا إذا وافق السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله «صلى الله عليه وسلم».
القاعدة الكبرى الثانية: اليقين لا يزول بالشك
الكلام فى هذه القاعدة يمكن أن نجعله فى المسائل الآتية:
المسألة الأولى : مكانة هذه القاعدة وأهميتها
هذه القاعدة أصل شرعي عظيم عليها مدار كثير من الأحكام الفقهية , قال السيوطي: اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر. كما أن كثيرا من القواعد الدائرة قي الفقه وأصول الفقه وثيقة الصلة بها, بل ناشئة عنها. [بالإضافة إلى ذلك فإن هذه القاعدة تمثل مظهرا من مظاهر البر والرحمة في الشريعة الإسلامية].
المسألة الثانية: معنى القاعدة
اليقين هو: حصول الجزم بوقوع الشئ أو عدم وقوعه. وهذا هو المعنى المراد به هنا, كما أنه يُراد به أمراً أقل منه درجة وهو (الظن) ومعناه: إدراك الاحتمال الراجح من احتمالين أو أكثر يتردد الذهن بينها.
أما الشك فهو: التردد بين وجود الشئ وعدمه دون ترجيح لأحدهما على الآخر. وهذا هو المعنى المراد به هنا , كما أنه يراد به من باب أولى أمراً آخر أقل منه درجة, وهو (الوهم) ومعناه: إدراك الاحتمال المرجوح من احتمالين أو أكثر يتردد الذهن بينهما.
وعلى هذا فيكون معنى القاعدة: أنه إذا ثبت أمر من الأمور ثبوتا جازما أو راجحا, وجودا أو عدما, ثم طرأ بعد ذلك شكٌ أو وهمٌ فى زوال ذلك الحكم الثابت باليقين, فإنه لا يُلتفت إلى ذلك الشك والوهم.
المسألة الثالثة: الأدلة على القاعدة: دلَّ على هذه القاعدة أدلة
من المنقول والمعقول.
فأما أدلة القرآن: فمنها قوله تعالى ((وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا)). {يونس: ٣٦} ووجه الدلالة من الآية: أن مما فُسّر به (الظن) أنه: حال الشك والريبة, وقد دلت الآية على أن هذا الحال لايغنى عن اليقين, ولا يقوم مقامه, فدل على أن الشك لو قابل اليقين لايقوى على معارضته, بل يبقى الحكم لليقين.
وأما أدلة السنة: فمنها في الصحيحين من حديث عبدالله بن زيد»رضى الله عنه» أنه شُكى إلى النبى «صلى الله عليه وسلم» الرجل يُخَيَّل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة, فقال له رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)). {البخارى: الوضوء: ١٣٧،ومسلم: الحيض: ٨٣٠}. قال النووى: (وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام, وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه, وهى أن الأشياء يُحكم ببقائها على أصولها حتى يُتيقن خلاف ذلك, ولا يضر الشك الطارئ عليها).
وأما الإجماع: فمعلوم من تخريجات العلماء المسائل عليها مما يدل على إجماعهم على أصلها، وقال القرافي: هذه قاعدة مجمع عليها.
وأما المعقول: فإن اليقين أقوى من الشك -كما هو معلوم- فلا يصح عقلاً أن يرتفع اليقين القوى بالشك الضعيف.
المسألة الرابعة: القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة
تفرّع عن هذه القاعدة مجموعة كبيرة من القواعد, ويمكن أن تُصنف على صنفين:
الصنف الأول : القواعد التي تُمثل منطوق القاعدة , وهى على النحو التالي:
- القاعدة الأولى: الأصل بقاء ما كان على ما كان
هذه القاعدة جعلها كثير من العلماء هي نفس القاعدة الكبرى في المعنى, وبعضهم جعلها من القواعد المتفرعة عنها, ثم إن الكلام عليها فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة
المراد بلفظ (الأصل) فى هذه القاعدة وما سيأتى من قواعد: القاعدة المستمرة فى الشرع, أو الراجح فى الشرع.
أما المعنى الإجمالى لهذه القاعدة فهو: أن الشئ إذا ثبت على حال من الأحوال في زمانٍ ما, فإنه يُحكم ببقائه ودوام ثبوته في الزمان التالي, حتى يأتي المغيِّر المُعتبر شرعا فيُؤخذ بمقتضاه حينئذ.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على هذه القاعدة
لو أن شخصا تيقن أنه على طهارة, ثم إنه بعد ذلك شك في أنه قد أحدث, فإنه يُحكم ببقائه على طهارته؛ لأن الأصل هنا هو الطهارة, والأصل بقاء ما كان على ما كان.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
أفادت هذه القاعدة أن بقاء الشئ على حالته التي ثبت عليها أمر متيقن, وتغيره بعد ثبوته مشكوك فيه, فنأخذ بالمتيقن وهو البقاء, ونترك المشكوك فيه وهو التغير, وهذا ما تفيده القاعدة الكبرى.
- المسألة الرابعة: قيد فى صيغة هذه القاعدة
وضع بعض العلماء قيدا لهذه القاعدة, وهذا القيد هو: عدم وجود مزيلٍ أَىْ: دليل يدل على عدم البقاء, فيُفهم من هذا أنه إذا وُجِد المزيل لا يُحكم ببقاء الشئ, بل يُحكم بزواله.
- المسألة الخامسة: علاقة هذه القاعدة بالاستصحاب
الاستصحاب هو: ثبوت أمرٍ فى الثانى لثبوته فى الأول؛ لعدم وجدان ما يصلح أن يكون مُغيِّرا بعد البحث التام. وهذه القاعدة تمثّل نوعا من أنواع الاستصحاب وهو: (استصحاب الماضى للحال),ومعناه: جعل الأمر الثابت فى الماضى مستصحبا فى الحال. وعكس هذا النوع:(الاستصحاب المقلوب) وهو: جعل الأمر الثابت فى الحال مستصحبا فى الماضى, ويسمّى أيضا: تحكيم الحال.
- القاعدة الثانية: الأصل براءة الذمة
الكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة
المقصود بالذمة هنا: ذات الإنسان ونفسه. فيكون المعنى الإجمالى للقاعدة: أن القاعدة المستمرة في الشرع: أن الإنسان غير مُكلَّف بشئ من الحقوق, لذا فإن تكليفه بحقٍ من الحقوق مخالِف للأصل فلابد أن يكون ثبوت تكليفه بدليل.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة
دلَّ على هذه القاعدة قوله «صلى الله عليه وسلم»: ((البينة على المُدَّعِي , واليمين على المُدَّعَى عليه)) {رواه الترمذى: ١٣٤١, وسنده ضعيف, لكن عليه العمل, وشطره الثانى فى الصحيحين}. ووجه الدلالة منه: أن النبي»صلى الله عليه وسلم»جعل البيّنة على المُدَّعِي؛ لأنه يَدَّعي شيئا خلاف الأصل, ولم يطلب من المدَّعَى عليه إلا اليمين, مما يدل على أن الأصل براءة الذمة.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على هذه القاعدة
لو أتلف شخص متاع شخص آخر, ثم اختلف المُتلِف وصاحب المتاع في قيمة الشئ المُتلَف, ولا بينة, فإن القول هنا قول المُتلِف الغارم مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة فى القيمة التى يدَّعيها صاحب المتاع.
- المسالة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
تفيد هذه القاعدة أن براءة الذمة أمر متيقن وانشغالها أمر مشكوك فيه, فنأخذ بالمتيقن, وهو البراءة, ونترك المشكوك فيه ,وهو الانشغال, وهذا ما تفيده القاعدة الكبرى.
- القاعدة الثالثة: الأصل في الأمور العارضة العدم
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: هذه القاعدة تتعلق بصفات الأشياء, ولذلك نقول: إن الأمور والصفات على نوعين:
- النوع الأول: الأمور الأصلية, غير الطارئة: وذلك كالسلامة من العيوب في المبيع, وهذا النوع من الأمور الأصل فيه الوجود, ولا تتعلق به قاعدتنا هذه.
- النوع الثاني: الأمور العارضة, وهي: الصفات أو التصرفات التي لا توجد مع الأصل ابتداءً, بل هي طارئة, فيكون الشئ بطبيعته خاليا منها غالبا, وذلك مثل العيب في المبيع, وهذا النوع من الأمور الأصل فيه العدم.
- المسالة الثانية: معنى القاعدة : أن القاعدة المستمرة في الشرع فى الأمور العارضة: هو العدم, لذلك فإن الذي يَدَّعي وجود الأمر العارض فإنه يَدَّعي شيئا على خلاف الأصل, فيلزمه حينئذ الدليل الذي هو البينة.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعد:
لو اشترى شخص سيارة, ثم ادَّعى وجود عيب فيها من حين العقد, ليردها إلى البائع,وأنكر البائع وجود العيب في ذلك الوقت, ولا بينة, فالقول هنا قول البائع مع يمينه؛ لأنه يتمسك بالأصل الذي هو عدم العيب, والأصل في الصفات العارضة العدم.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
تبين من هذه القاعدة أن عدم الأمور العارضة أمر متيقن, وأن وجودها أمر مشكوك فيه, فنأخذ بالمتيقن الذى هو عدم الأمور العارضة, ونترك المشكوك فيه الذى هو وجودها, وهذا ما أفادته القاعدة الكبرى.
- القاعدة الرابعة: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته
الكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة:
المقصود بالحادث هنا: الشئ الذي لم يكن موجودا ثم وُجِد. وعلى هذا فيكون المعنى الإجمالى للقاعدة: أن القاعدة المستمرة في الشرع: أنه إذا وُجِد أمر حادث, وأمكن أن يكون وقته قريبا وبعيدا, ولا بينة, فإن وقته المُعتبر هو الوقت القريب.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على هذه القاعدة
لو رأى إنسان على ثوبه منيَّا, ولم يذكر احتلاما, فإن هذا المَنِيّ يُنسَب إلى آخر نومة نامها, فيلزمه الغسل, وإعادة كل صلاة صلاها بعد تلك النومة, لأن المنيّ أمر حادث, والأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
أفادت هذه القاعدة أنه عند التنازع فى وقت وقوع الأمر الحادث, فإن وقوعه فى وقته القريب هو الأمر المتيقن, و وقوعه فى الوقت البعيد مشكوكٌ فيه, فنأخذ بالمتيقن, وهو الوقت القريب, ونترك المشكوك فيه, وهو الوقت البعيد, وهذا ما أفادته القاعدة الكبرى.
- القاعدة الخامسة: الأصل في الأشياء الإباحة
الكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: هذه القاعدة متعلقة بحكم الأشياء المسكوت عنها, ولم يرد بشأنها دليل يبيحها أو يحرمها بعينها, والمقصود بلفظ (الأشياء): غير الضار منها؛ لأن الأشياء التي ثبت ضررها ليس الأصل فيها الإباحة, وإن لم يرد بشأنها دليل خاص.
- المسألة الثانية: معنى القاعدة:
تعني هذه القاعدة أن القاعدة المستمرة في الشرع: أن الأشياء المسكوت عنها شرعا وغير الضارة من الأعيان والمنافع والمعاملات: غير محرمة, ولا يُنتقل عن هذا الحكم إلا بدليل.
- المسألة الثالثة: الأدلة على هذه القاعدة:
دلّ على هذه القاعدة أدلة من القرآن والسنة والمعقول:
فأما الدليل من القرآن: فقوله تعالى ((هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)) {البقرة: ٢٩}. وجه الدلالة: أن الله تعالى امتن علينا في هذه الآية بأن خلق لنا جميع ما في الأرض, فيكون الانتفاع بجميع ما في الأرض مباحا لنا.
[وقد وردت السنة بما لا يُحصى كثرة في إرساء هذه القاعدة, منها ما رُوى عن سلمان «رضى الله عنه» أن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» سُئِلَ عن الجُبْن والفِرَاء والسمن, فقال: ((الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرَّم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا الله عنه)). {رواه ابن ماجة: كتاب الأطعمة: ٣٣٦٧. وحسنه الشيخ الألبانى}].
وأما الدليل من المعقول: أن الله تعالى إما أن يكون قد خلق هذه الأشياء لحكمة أو لغير حكمة, وكونه خلقها لغير حكمة ممتنع, بدليل قوله تعالى ((وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)) {الدخان: ٣٨} فيبقى أن الله تعالى خلق هذه الأشياء لحكمة, وهذه الحكمة لا تخلو إما أن تكون لانتفاعه بها أو لانتفاع خلقه بها, وانتفاعه تعالى بهذه الأشياء ممتنع, لاستغناءه سبحانه عن خلقه, فيبقى أنه تعالى خلقها لانتفاع الخلق بها, فثبت أن الأصل في الأشياء الإباحة.
- المسألة الرابعة: الفروع المبنية على القاعدة
أن الحيوان المُشكل أمره يكون حكمه الإباحة, وذلك كالزرافة, قال السيوطي: ومنها مسألة الزرافة. قال السبكي: المختار حِل أكلها لأن الأصل الإباحة. اهـ , كما أن النبات الذى جُهلت سُمّيته, وجُهل ضرره حكمه الإباحة بناءً على هذه القاعدة.
- المسألة الخامسة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
أفادت هذه القاعدة أن إباحة الأشياء غير الضارة المسكوت عنها شرعا أمر متيقن, وحرمتها أمر مشكوك فيه, فنأخذ بالمتيقَّن وهو الإباحة, ونترك المشكوك فيه, وهو التحريم, وهذا ما أفادته القاعدة الكبرى.
- القاعدة السادسة: الأصل في الأبضاع التحريم
الكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة
لفظ (الأبضاع) هو جمع بُضْعٍ وهو الفرج, وهذا اللفظ هنا كناية عن النساء والاستمتاع بهن, وعلى هذا فيكون المعنى الإجمالى للقاعدة: أن القاعدة المستمرة في الشرع في أمور النساء والاستمتاع بهن: هى التحريم, فلا يُخرج من هذه القاعدة إلا بيقين الإباحة.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على هذه القاعدة
لو أن رجلا طلق إحدى نسائه بعينها ثم نسيها, فإنه لا يجوز له أن يجتهد ويتحرى في تعيين المطلقة ووطء الباقايات؛ لأن حرمة الأبضاع مُتيقَنة؛ لكونها الأصل, وقد حصل الشك هنا في إباحة زوجاته له.
- المسألة الثالثة: مستند هذه القاعدة:
[مستند هذه القاعدة هو قول الله عزوجل ((والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فألئك هم العادون)). {المؤمنون: ٧،٦،٥}. فقوله تعالى ((والذين هم لفروجهم حافظون)) أى: ممسكون لها, والاستثناء في قوله ((إلا على أزواجهم)) أى: لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم, وماعدا ذلك فهو تعدٍ. كما أنها تستند إلى أصل عظيم اتفقت عليه جميع الشرائع السماوية وهو: حفظ النسل].
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
أفادت هذه القاعدة أن حرمة الأبضاع متيقنة, وإباحتها مشكوك فيها, فنأخذ بالمتيقن وهو التحريم ونترك المشكوك فيه وهو الإباحة, وهذا ما أفادته القاعدة الكبرى.
- القاعدة السابعة: لا يُنسب إلى ساكت قول, ولكن السكوت في معرِض الحاجة إلى البيان بيان
الكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى هذه القاعدة: هذه القاعدة مكونة من شقين:
- الشق الأول: قولهم (لا يُنسب إلى ساكت قول) وهذا هو الأصل في السكوت, ومعناه: أن السكوت لا يُنَزّلُ منزلة القول من جهة ما يترتب على القول من أحكام.
- الشق الثاني: وهو يُعد استثناءً من الأصل السابق, ومعناه: أن السكوت قد يُنزل منزلة القول فيُعطَى أحكامه, وذلك في حال وجود الحاجة إلى البيان.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على هذه القاعدة
- فمن أمثلة الشق الأول: إذا استُئذِنَت الثيّب في نكاحها فسكتت, فإن سكوتها لا يُعد إذنا منها بالتزويج؛ لأنه لا يُنسب إلى ساكت قول.
- ومن أمثلة الشق الثاني: إذا استُئذِنت البكر في نكاحها فسكتت, فإن سكوتها يُعد إذنا منها بالتزويج؛ لأن الغالب في حال الأبكار الحياء, وعدم إبداء الرغبة في الزواج, فنحن في موضعٍ نحتاج فيه إلى البيان, فيكون سكوتها هنا بيانا. [ وفى ذلك يقول رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ((لاتُنكح الأيم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن)), قالوا يا رسول الله: كيف إذنها؟, قال: ((أن تسكت)). {البخارى: ٥١٦٣، ومسلم: ١٤١٩}.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
العلاقة هنا تنحصر في الشق الأول من القاعدة, وهو قولهم: (لا ينسب إلى ساكت قط), وبيانها: أن عدم دلالة السكوت على القول في الأحوال العادية أمر متيقن, ودلالة السكوت على القول هنا أمر مشكوك فيه, فنأخذ بالمتيقن وهو عدم دلالة السكوت على القول, ونترك المشكوك فيه وهو دلالة السكوت على القول, وهذا ماتفيده القاعدة الكبرى.
- القاعدة الثامنة: لا عبرة بالتوهم
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: الوهم هو: إدراك الاحتمال المرجوح من احتمالين أو أكثر يتردد الذهن بينهما, سواء استند إلى دليل أو لم يستند. وقد أَلحق بعض العلماء بالوهم هنا أمران: أحدهما: إدراك الاحتمال العقلي البعيد النادر الحصول. والآخر: الوسوسة, وهي: توارد الاحتمالات على الذهن من غير وجود سبب معتبر.
وعلى ذلك يكون المعنى الإجمالي للقاعدة: أن التوهم, وما أُلحِق به, لا يصلح مستندا تُبنى عليه الأحكام الشرعية, كما أنه لا يصلح مستندا لتأخير العمل بالأحكام الثابتة شرعا.
- المسألة الثانية: وجه عدم بناء الأحكام شرعا على التوهم
هو أن الموهوم إما أن يكون احتمالا مستنِدا إلى دليل مرجوح, فهو حينئذ غير معتدٍ به؛ لأن المرجوح في مقابلة الراجح ملحق بالعدم, وإما أن يكون الموهوم احتمالا مجردا عن الدليل العقلي والحسي, ويكون حينئذ احتمالا بعيدا قليل الوقوع, فهو في عداد النادر, ومعلوم أن النادر لا يُبنى عليه حكم, فهو ملحق بالعدم أيضا.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على هذه القاعدة: هذه القاعدة بحسب معناها ذات شقين:
- أولهما: أن التوهم لا يصلح مستندا تُبنى عليه الأحكام الشرعية, ومثال هذا: لو اشتبهت القبلة على مسلم فصلى إلى جهة بدون تحرٍ واجتهاد, فإن صلاته غير صحيحة؛ لأنه بنى أمر إثبات جهة القبلة على مجرد التوهم, ومعلوم أنه لا عبرة بالتوهم.
- والآخر: أن التوهم لا يصلح مستندا لتأخير العمل بالحكم الثابت شرعا, ومثال هذا: لو أن الشهود ماتوا أو غابوا عن مجلس القضاء, بعد أدائهم الشهادة عند القاضي فيما مضى, فإنه لا يجوز للقاضي أن يؤخر الحكم في القضية لاحتمال رجوع الشهود عن شهادتهم؛ لأن هذا الاحتمال مجرد توهم ومعلوم انه لا عبرة بالتوهم.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
العلاقة هنا ظاهرة؛ وهي أنه قد تبين أ ن الأحكام شرعا إنما تُبنى على اليقين, أما بناء الأحكام أو تأخير العمل بها بناءً على الوهم فإنه لا يصح, وهو ما أفادته قاعدتنا هذه.
- القاعدة التاسعة: لا عبرة بالظن البيّن خطؤه
الكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة
تعني هذه القاعدة أن بناء الأحكام شرعا على الظن بناء صحيح, فلو أنه تبين بعد ذلك خطأ هذا الظن, فإن هذا الظن لا يُعتد به شرعا, ويُلغى ما بُنِي عليه من أحكام وآثار.
- المسألة الثانية: وجه عدم بناء الأحكام شرعا على الظن الخطأ
أن الأحكام في الأصل تُبنى شرعا على اليقين, وقد تُبنى على الظن عند تعذر اليقين, وذلك لأن الغالب في الظن الإصابة, والخطأ فيه نادر, والغالب لا يُترك للنادر, ولكن قد يُترك إذا علمنا خروجه عن حكم الغالب, وفي قاعدتنا هذه انتقض حكم الغالب الذي هو الإصابة في الظن بتبين الخطأ فيه.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
لو ظن مسلم طهارة ماء, فتوضأ به, فإن وضوءه صحيح في الظاهر, ولكن لو تبين له أنه ماء نجس, فإن عليه أن يعيد الوضوء بماء طهور, لأنه قد بنى الوضوء على ظن قد تبين خطؤه.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة باقاعدة الكبرى
العلاقة هنا ظاهرة أيضا وهى: أنه قد تبين أن الأحكام شرعا إنما تُبنى على اليقين, أو ما يقوم مقامه شرعا وهو الظن, والمقصود بالظن: الظن الصواب, أما الظن الخطأ فقد أفادت قاعدتنا هذه أنه لا يُعتد به.
- القاعدة العاشرة: الممتنع عادة كالممتنع حقيقة
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معني القاعدة
الممتنع حقيقة هو: الذي لا يمكن وقوعه؛ لمخالفته للعقل, فهو من قبيل المستحيل عقلا, وحكمه: أنه لا تُقبل الدعوى فيه أصلا؛ للتيقن بكذب مدَّعيه.
ومثاله: لو ادَّعى شخص بنوة شخص آخر, والحال أن الشخص المُدَّعِي مساوٍ فى السن للشخص المُدَّعَى, أو أصغر منه سِناً, فإن هذه الدعوى لا تُقبل؛لأنها دعوى بشئ ممتنع حقيقة.
وأما الممتنع عادة فهو: الذي لا يُعهد وقوعه وإن كان فيه احتمال عقلي بعيد, فهو من قبيل المستحيل عادة, وحكمه: أنه كالممتنع حقيقة, فلا تُقبل الدعوى فيه؛ للتيقن بكذب مدَّعيه.
ومن أمثلته: لو ادّعى ولي اليتيم أنه أنفق عليه أموالا عظيمة, وظاهر حال اليتيم يُكذب ذلك, فإن هذه الدعوى لا تُقبل؛ لأنه من الممتنع عادة أن يُنفَق على الشخص أموالا عظيمة ولا يظهر ذلك على حاله, والممتنع عادة كالممتنع حقيقة.
- المسألة الثانية: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
تفيد هذه القاعدة أن تجويز وقوع الممتنع عادة والأخذ به أخذ بما يفيد الشك, لذلك فإن اليقين هو عدم الأخذ بالممتنع عادة إلحاقا له بالممتنع عادة, وعدم اعتبار الشك والأخذ بما يفيد اليقين هو ما أفادته القاعدة الكبرى.
الصنف الثاني: القواعد التي تُمثل مفهوم المخالفة لنص القاعدة الكبرى, وهى على النحو الآتي:
- القاعدة الأولى: ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الشئ إذا ثبت ثبوتا جازما أو راجحا وجودا أو عدما فإنه يُحكم ببقائه, ولا يُحكم بتغيُّره إلا بأمر جازم أو راجح آخر ينفي ذلك الثبوت.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة
دلّ على هذه القاعدة قوله «صلى الله عليه وسلم»: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأَشكل عليه, أَخَرجَ منه شئ أم لا, فلا يخرُجَنَّ من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا)). {مسلم: ٨٣١} , ووجه الدلالة فيه: الأمرُ بعدم الخروج من الصلاة أو المسجد - والدخول فيهما لابد أن يكون بطهارة متيقنة - إلا بيقين آخر, وهذا اليقين يتمثل في سماع الصوت أو وجدان الريح.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
لو شك رجلا هل طلق زوجته أم لا؟ فإنه يُحكم بعدم وقوع الطلاق؛ لأن النكاح قد ثبت بيقين فلا يرتفع إلا بيقين الطلاق.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة باقاعدة الكبرى
هذه القاعدة تفيد مفهوم المخالفة للقاعدة الكبرى, وبيان ذلك: أن القاعدة الكبرى نصت على أن اليقين لا يزول بالشك, والمفهوم المخالف لذلك: أن اليقين يزول بما هو أقوى من الشك, وهو اليقين.
- القاعدة الثانية: لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة
أن الدلالة إنما تُعتبر ويُعتد بها إذا لم يعارضها تصريح بخلافها, فأما إن عرضها تصريح بخلافها, فإنه لا يُعتد بها, ويكون الاعتداد بالتصريح؛ لأنه هو الأقوى.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة
لو استأجر شخص سيارة جرى العُرف باستعمالها في حمل الأمتعة, فإنه يجوز له الانتفاع بها في هذا الأمر؛ لأنه مأذونٌ له بطريق دلالة العُرف في هذا النوع من الاستعمال, لكن لو صرَّح المُؤجر بمنع المستأجر من استعمال السيارة في هذا الأمر,فإنه لا يجوز للمستأجر حينئذ أن يستعملها في حمل الأمتعة؛لأن الإذن باستعمالها بطريق الدلالة قد عارَضَه تصريح بخلافه ولا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
هذه القاعدة تمثل مفهوم المخالفة للقاعدة الكبرى, وهو: أن اليقين يزول بما هو أقوى من الشك, وهو اليقين, وبيانه في هذه القاعدة: أن الدلالة إذا لم يعارضها تصريح بخلافها فإنها تفيد اليقين, فإنه يُعمل بها, فأما إذا عارضها تصريح بخلافها فإن هذا التصريح يفيد اليقين أيضا, وهو أقوى مما تفيده الدلالة, فيزول يقين الدلالة بيقين التصريح.
- القاعدة الثالثة: لاحُجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل
- المسالة الأولى: معنى القاعدة:
أن الحُجة القائمة على أمر من الأمور لا تُعتبر ولا يُعتد بها إذا عارضها احتمال, وكان هذا الاحتمال مستندا إلى دليل. فإذا لم يكن مستندا إلى دليل فإنه يبقى احتمالا مجردا, لا يقوى على معرضة الحجة, فيكون بمنزلة المعدوم, وهذا هو المفهوم المخالف لمعنى القاعدة.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على هذه القاعدة
لو أقر شخص في مرض موته لأحد ورثته بدَيْن, فإن الإقرار يُعد حُجة في الأصل في ثبوت الدَيْن, ولكن هذه الحُجة قد عارضها احتمال وهو: إرادة نفع بعض الورثة وحرمان الباقي, وهذا الاحتمال مستند إلى دليل, وهو أن الإقرار إنما حصل من هذا الشخص في مرض موته, لذلك يبطل هذا الإقرار ولا يُعتد به؛ وذلك لأنه لا حُجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل, وهذا في حال اعتراض باقي الورثة على هذا الإقرار. أما إذا كان المُقِر قد أقر بالدّيْن في مرض موته لغير وارث, فإن احتمال نفعه احتمال قائم, ولكنه احتمال غير مستند إلى دليل, فلا يُعتبر هذا الاحتمال ولا يُلتفت إليه. وهذا هو المفهوم المُخالف لمعنى القاعدة.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
هذه القاعدة تمثل مفهوم المخالفة للقاعدة الكبرى, وهو: أن اليقين يزول بما هو أقوى من الشك, وهو اليقين, وبيانه في هذه القاعدة: أن الحجة إذا لم يعارضها احتمال مستند إلى دليل فهي تفيد اليقين, فيُعمل بها,أما إذا عارضها احتمال مستند إلى دليل فإن هذا الاحتمال في هذه الحالة يفيد اليقين أيضا, وهو أقوى مما تفيده الحجة,فيزول يقين الحجة بيقين الاحتمال المستند إلى دليل.
خاتمة: فيما تُبْنَى عليه الأحكام شرعا
الأحكام في الشرع تُبْنى في الأصل على اليقين والعلم, وقد تُبنى على الظن للضرورة المتمثلة في أمرين:
- أولهما: أن الأخذ باليقين يتعذر في أكثر الصور.
- والآخر: أن الغالب في الظن الإصابة, والخطأ فيه نادر , والغالب لا يُترك للنادر.
وعلى هذا فإن الشك لا يُلتفت إليه فى بناء الأحكام, باستثناء حال الضرورة والحاجة, فإنه يجوز البناء على الشك, ويظهر ذلك فى موضعين:
الموضع الأول: عند تعذر الحصول على اليقين, أو ما يقوم مقامه, ومثاله: أن من اتُهم بالردة فأنكر وأقر بالشهادتين, فإنّا نحكم بصحة إسلامه مع حصول التردد في مستنده: هل هو الإسلام السابق, أو الإسلام المُجدَّد؟ ولكن نجعل إسلامه المشكوك في بقائه كالمتيقن؛ نظرا لتعذر الحصول على اليقين, وقيام الحاجة إلى البناء على الشك.
والموضع الآخر: عند وجود المشقة المترتبة على عدم البناء على الشك, ومثاله: لو شك شخص بعد فراغه من العبادة في ترك مأمور من مأموراتها, فإن هذه العبادة تكون صحيحة, مع الشك فيها, وذلك لأنّا لو كلّفناه بالإعادة, لشق عليه ذلك؛ فإن المسلم لو كُلِّف بأن يكون ذاكرا لجميع ما أداه من العبادة لتعذر عليه ذلك ولم يُطِقه, فينبغي أن يُسامَح فيه.
القاعدة الكبرى الثالثة: المشقة تجلب التيسير
المسألة الأولى: مكانة هذه القاعدة وأهميتها
هذه القاعدة من القواعد الكبرى التي بُني عليها الفقه, وقد ذكر العلماء أن جميع رُخص الشرع وتخفيفاته تتخرج عليها, فهى من أوضح مظاهر رفع الحرج في الشريعة.
المسألة الثانية: معنى القاعدة
تعني هذه القاعدة أن الشدة والصعوبة البدنية أو النفسية التي يجدها المُكلَّف عند القيام بالتكاليف الشرعية تصير سببا شرعيا صحيحا للتسهيل والتخفيف بحيث تزول تلك الشدة أو الصعوبة أو تهون.
المسألة الثالثة: أقسام تيسيرات الشرع وتخفيفاته:
تنقسم هذه التخفيفات في الشرع إلى قسمين:
- القسم الأول: التيسير والتخفيف الأصلي: بمعنى أن الشرع قد جاء بأحكام رُوعيَ فيها التخفيف منذ شُرِعت ابتداءً , وعامة أحكام الشرع مبنية على هذا, ومن صور هذا القسم: سهولة الشريعة بالنسبة للشرائع السابقة, واعتبار أن الأصل فى الأشياء الإباحة, وإباحة ما يحتاج إليه الناس من المعاملات,ومراعاة اختلاف أحوالهم, وعدم تكليفهم بما يتعذر أو يمتنع.
- القسم الثاني: التيسير والتخفيف الطارئ: والمراد أن الشرع قد راعى وجود بعض الأعذار الطارئة للمكلف في أحوال مختلفة, فشرع التيسير عند وجودها, وهذا هو المقصود بالرخصة. وقد قسّم بعض العلماء التيسير والتخفيف الطارئ إلى ثمانية أنواع:
- النوع الأول: تخفيف الإسقاط, ومثاله: إسقاط الجمعة والجماعة عن المريض.
- النوع الثاني: تخفيف التنقيص, ومثاله: قصر الصلاة الرباعية في السفر إلى ركعتين.
- النوع الثالث: تخفيف الإبدال, بحيث يكون البدل أخف وأسهل من المُبْدَل, ومثاله: إبدال القيام فى الصلاة بالقعود.
- النوع الرابع: تخفيف التقديم, ومثاله: تقديم بعض الصلوات المعينة إلى وقت ما قبلها, كتقديم العصر إلى الظهر في السفر والمطر.
- النوع الخامس: تخفيف التأخير, ومثاله: تأخير صوم رمضان إلى عدة من أيام أُخَر لعذر شرعي.
- النوع السادس: تخفيف الترخيص, ومثاله: صحة الصلاة مع النجاسة التي يَعسُر الاحتراز منها.
- النوع السابع: تخفيف التغيير, ومثاله: تغيير نظم الصلاة في حال الخوف.
- النوع الثامن: تخفيف التخيير, ومثاله: التخيير في كفارة اليمين بين الإطعام, والكسوة, وتحرير رقبة.
المسألة الرابعة: الأدلة على هذه القاعدة
هناك أدلة عامة على التيسير الأصلى الذى بُنيَت عليه الشريعة, منها: قوله تعالى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج)). {الحج: ٧٨}. [قال ابن كثير: أى ما كلَّفكم ما لا تطيقون, وما ألزمكم بشئ يشق عليكم, إلا جعل لكم فرجا ومخرجا], وقول الرسول «صلى الله عليه وسلم»: ((إن الدين يُسر)). {صحيح البخارى: ٩٣}.
وهناك أدلة أخرى على مشروعية الترخيص عند وجود المشقة, منها: قوله تعالى ((وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصُروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)). {النساء: ١٠١} , ووجه الدلالة في هذه الآية: أن الله أباح للمسلمين في حال المشقة المتمثلة في الخوف عند القتال أن يقصروا الصلاة ويُغَيروا نظمها.
ومن السنة: قوله «صلى الله عليه وسلم»: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما اُستكرِهوا عليه)). {أخرجه ابن ماجة فى سننه:١/٦٥٩, والحاكم فى المستدرك:٢/١٩٨}, ووجه الدلالة في الحديث: أن المؤاخذة بما يحصل خطأ أو نسيانا أو إكراها يترتب عليه لحوق المشقة بالمكلَّف, لذا لم يؤاخذ الشرع بموجب التصرف في هذه الأحوال تيسيرا وتخفيفا, مما يدل على أن حصول المشقة يُعد سببا في التيسير.
المسألة الخامسة: أسباب المشقة الجالبة للتيسير:
- السبب الأول: السفر, ومن تخفيفاته: جواز الفطر في حال الصوم في السفر.
- السبب الثاني: المرض, ومن تخفيفاته: جواز التيمم فى حال المرض الذى يضر معه الاغتسال بالماء.
- السبب الثالث: النسيان, ومن تخفيفاته: عدم وجوب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا وهو صائم.
- السبب الرابع: الإكراه, ومن تخفيفاته: عدم وقوع طلاق المُكرَه.
- السبب الخامس: الجهل, ومن تخفيفاته: عدم سقوط الحق في الرد إذا اكتشف المشتري أن في السلعة عيبا, وجهل أنه يجب ردها بمجرد اكتشاف العيب.
- السبب السادس: العسر وعموم البلوى, والمقصود بعموم البلوى هنا: شيوع البلاء بحيث يصعب على المرء الابتعاد عنه, فحقيقة عموم البلوى تشمل صورتين:
- الصورة الأولى: عسر الإحتراز, مثل: النجاسة اليسيرة التي تكون بسبب نجاسة يعسر الاحتراز منها, كسلس البول.
- الصورة الثانية: عسر الإستغناء, مثل: مس الصبى المحدِث للمصحف عند التعلم.
وعلى كل حال فهذا السبب هو أهم أسباب المشقة, وأوسعها تطبيقا, وأكثرها ملامسة للقضايا الفقهية المستجدة.
- السبب السابع: النقص, وله نوعان:
- النوع الأول: النقص الحقيقي في البدن أو أحد أعضائه, وهذا منه ما هو نقص عقلي, فيشمل: الصغر, والجنون, ونحوه, ومنه ما هو عضوي غير العقل: وهذا منه ما هو خِلقي طبيعي: وهو الأنوثة, ومنه ما هو غير طبيعي: فيدخل فيه أنواع العاهات.
- النوع الثاني: النقص الحكمي, وهو مختص بالرِّ ق.
ونظرا لأن صاحب النقص أضعف من غيره, فإنّا نجد الشارع قد خفف عنه, فمثلا: الصغير غير مكلف بالعبادات الدينية, وأصحاب العاهات غير مكلفين بالجهاد.
ومن العلماء من حصر أسباب المشقة في هذه الأسباب السبعة, نظرا إلى أن تخفيفات الشرع ترجع إليها غالبا, مع أن هناك أسبابا أخرى للمشقة غير هذه السبعة, كالخطأ, والخوف, وكبر السن أو الشيخوخة, وغيرها, لكنها يمكن إرجاعها إلى الأسباب السبعة بنوع من التأويل.
المسألة السادسة: ضابط المشقة الجالبة للتيسير:
المشاق عموما لا تخلو من قسمين:
- القسم الأول: مشاق ورد بشأنها نص شرعي, فهذه ينبغي أن يُتَّبع فيها النص.
- القسم الثاني: مشاق لم يرد بشأنها نص شرعي, وهذه لا تخلو من نوعين:
- النوع الأول: أن تكون تلك المشاق في العبادات, ولا تنفك عنها العبادة غالبا, مثل: مشقة الوضوء والغسل في البرد, فهذا النوع من المشاق لا أثر له في التخفيف, وإلا لفاتت مصالح العبادات فى جميع الأوقات أو أغلبها, ولفات ما رُتب عليها من الثواب.
- النوع الثاني: أن تكون تلك المشاق في جانب العبادات, وهى مما تنفك عنه العبادة غالبا, أو تكون هذه المشقة في جانب المعاملات, وهذا يمكن ضبطه بالنظر إلى عادة الناس, فإن جرت العادة بتحمُّل هذا النوع من المشاق, فهذا غير جالب للتيسير؛ لأنه ما من تكليف إلا وفيه مشقة يمكن احتمالها, وأما ما جرت العادة بعدم احتماله مما هو خارج عن الوسع, فهذا النوع من المشاق جالب للتيسير.
فإذا لم يكن عُرفٌ محددٌ جرت عليه عادة الناس, فإن هذه المشقة تُقرَّب إلى المشاق المعتبرة من جنسها, وحينئذٍ تتميز المشقة الجالبة للتيسير من غيرها.
المسألة السابعة: شروط اعتبار المشقة الجالبة للتيسير:
- الشرط الأول: أن تكون المشقة مما تنفك عنها العبادة غالبا, لأن المشاق الملازمة للعبادة لا تُؤثر فى التيسير, كما تقدّم.
- الشرط الثاني: أن تكون المشقة خارجة عن المعتاد, وهي: المشقة التي تشوش على النفس في تصرفها, ويؤدي الدوام على العمل معها إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه, وإلى وقوع خلل في النفس, أو المال, أو حال من الأحوال.
- الشرط الثالث: أن تكون المشقة متحققة بالفعل لا متوهَّمة, وذلك بأن تكون المشقة مستندة إلى الأسباب التي خفف الشارع عندها, أو تكون منضبطة بالضوابط التى تُدخلها فيما اعتبره الشارع جالبا للتيسير.
- الشرط الرابع: أن يكون للمشقة شاهد من جنسها في أحكام الشرع , كمشقة الجرح الذي لا يرقأ دمه ونحوه, فإن مشقته تدخل في جنس مشقة الاستحاضة.
- الشرط الخامس: أن يكون للشارع مقاصد من وراء التلكيف بها, وذلك كمشقة الجهاد, من السفر والتعرض للهلاك, فإنها غير جالبة للتيسير؛ لأنّ للشارع مقاصد من وراء التكليف بها.
- الشرط السادس: ألا يكون بناء التيسير على المشقة مؤديا إلى تفويت مصلحة أعظم.
المسألة الثامنة: القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة:
تفرّع عن هذه القاعدة عددٌ من القواعد, ومنها:
- القاعدة الأولى: الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه إذا تحققت مشقة في أمر من الأمور, ونتج عنها حرج وضيق, فإنه يُوَسع فيها ويُخفف بما يزيل هذه المشقة, فإذا زالت عاد الأمر إلى ما كان عليه في أصل التكليف.
- المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة: دلّ على هذه القاعدة القرآن والسنة:
فأما القرآن: فما ورد في شأن مشروعية صلاة الخوف في قوله تعالى: ((وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)) إلى قوله تعالى: ((فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)). {النساء: ١٠١- ١٠٣}. ووجه الدلالة: أن الله تعالى شرع لنا قصر الصلاة وتغيير نظمها عند حصول الضيق والمشقة في حال الخوف من العدو, مما يدل على أن الأمر إذا ضاق اتسع, ثم بين أنه إذا زال الخوف وحصل الاطمنئنان فإنه يلزم إقامة الصلاة على هيئتها المعتادة, مما يدل على أن الأمر إذا اتسع ضاق.
وأما من السنة: فما رواه مسلم عن عائشة «رضي الله عنها» قالت: دَفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحي في زمان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» , فقال رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: (( ادَّخروا ثلاثا, ثم تصدقوا بما بقي)). قالت: فلما كان بعد ذلك قالوا يارسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم.., وقد نَهَيتَ أن تُؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما نهيتكم من أجل الدّافّة التى دفّت, فكلوا, وادّخروا, وتصدقوا)). {مسلم: ١٩٧١, وأبو داود: ٢٨١٢, وغيرهما}. ووجه الدلالة: أن الرسول «صلى الله عليه وسلم» نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ثلاث ليالٍ, أو فوق الثُّلث, توسيعا على المسلمين, لما ضاق الأمر عليهم بقدوم أهل البادية إلى المدينة وقت المجاعة, فلما اتسع الأمر وزال الضيق بعد ذلك عاد الأمر إلى ما كان عليه, فأُبيح لهم الانتفاع كما كان من قبل.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
لو أن شخصا كان عليه دَيْن حالٌّ, فأعسر في سداده, وليس له كفيل بالمال, فإنه يجب إنذاره, وإذا لم يستطع أداءه جملة فإنه يُسَاعَد في تأديته مُقسطا, لأن الأمر إذا ضاق اتسع, فلو أن هذا المُعسر قد زال اعساره بعد ذلك, فإنه يجب عليه الوفاء بالدَين حالا, لأن الأمر إذا اتسع ضاق.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
هذه القاعدة تفيد في شقها الأول (إذا ضاق الأمر اتسع) أن: حصول المشقة في أمر من الأمور يُعد سببا للتوسيع, وهذا هو عين ما تفيده القاعدة الكبرى, كما أنها أفادت في شقها الثاني (وإذا اتسع ضاق) أن: التيسير عند حصول المشقة مقيد بحال وجودها, فإذا زالت زال التيسير معها, وهذا تقييد للقاعدة الكبرى.
- القاعدة الثانية: الضرورات تبيح الحظورات
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: اختلف الفقهاء فى تفريع هذه القاعدة: فبعضم فرّعها على قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار) من جهة أن التلبُّلس بالضرورة تلبسٌ بضرر ينبغى إزالته, وبعضهم فرّعها على قاعدة: (المشقة تجلب التيسير), وهو الأَولى؛ لأن مضمون هذه القاعدة التى معنا متعلّق بالتيسير عند وجود الاضطرار, وهذا المعنى أليق بقاعدة (المشقة تجلب التيسير).
- المسألة الثانية: معنى القاعدة: الضرورة هى: الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى حدٍ إذا لم تُراعَ لجُزِم أو خِيفَ أن تضيع مصالحه الضرورية. والمحظورات هى: الأشياء الممنوعة شرعا. وعلى هذا فيكون معنى القاعدة: أن الوصول إلى حد الهلاك أو مقاربته, إذا لم يكن للخلوص منه إلا طريق تناول المحرم شرعا فإنه يُرَّخص في تناوله.
- المسألة الثالثة: الأدلة على القاعدة
دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة من القرآن الكريم, منها : قوله تعالى: ((فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)). {البقرة: ١٧٣}. فقد أفادت هذه الآية أن التلبس بحالة الضرورة مُبِيحٌ لتناول المحرم شرعا.
- المسألة الرابعة: الفروع المبنية على القاعدة
لو شارَف شخصٌ على الهلاك جوعا, ولم يجد إلا طعاما محرما, كالميتة, فإنه يجوز له الأكل منها دفعا لمشقة الجوع.
- المسألة الخامسة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
هذه القاعدة أفادت أن الضرورة التي هي أعلى درجات المشقة يُشرَع عندها الأخذ بالأيسر, ولو كان ذلك بتناول أمر محرم, وذلك من أجل دفع هذه المشقة,وهذا هو ما تفيده القاعدة الكبرى.
المسألة السادسة: هذه القاعدة مقيَّدة بعدة قيود, منها: ما سيأتي من قواعد لاحقة, ومنها: ما ذكره بعض العلماء من قولهم: (الضرورات تبيح المحظورات, بشرط عدم نقصانها عنها). ومعنى هذا: أنه لابد أن يكون البقاء على حالة الضرورة أشد من الإقدام على المحرّم, فإذا كانت الضرورة مساوية لارتكاب المحظور, أو أقل منه, فأنها حينئذ لا تبيحه.
- القاعدة الثالثة: الضرورة تُقدَّر بقدرها
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن التصرُّف الذي يُستباح به الأمر المحرم من أجل الضرورة يجب أن يُكتفَى فيه بما يدفع تلك الضرورة , ولا يجوز الزيادة.
- المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة
دلّ على هذه الآية: قوله تعالى: ((فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم)). {النحل: ١١٥}. ووجه الدلالة: أنه قد فُسِّر (الباغي) بأنه: الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال, وفُسِّر (العادي) بأنه: الذي يتعدي القدر الذي يحتاج إليه من المحرم, وبناءً عليه فإن هذه الآية تدل على جواز الترخيص في حال الضرورة بشرط ألا يعتدى المضطر عند استباحته المحرم, فدّل على أن الضرورة تنبغي أن تٌقدَّر بقدرها.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
لو شارف شخص على الهلاك جوعا, ولم يجد إلا طعاما محرما, كالميتة, فإنه يجوز له الأكل منها دفعا لمشقة الجوع كما تقدم, ولكن يجب عليه أن يقتصر في الأكل على ما يدفع ضرورة الهلاك جوعا؛ لأن إباحة الأكل من الطعام المحرم كان لأجل الضرورة, والضرورة تقدر بقدرها.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
تقدم لنا أن الضرورة سبب في المشقة يُشرع عندها استباحة الأمر المحرم, وقد أفادت هذه القاعدة أن ما يُستباح من الأمر المحرم يجب أن يُقتصر فيه على ما يحصل به التيسير ويدفع الضرورة, فهذه القاعدة تعد قيدا لقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
- القاعدة الرابعة: الإضرار لا يُبطل حق الغير
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن التصرف الذى يُستباح به الأمر المحرم لأجل الضرورة إذا تعلّق بإتلاف حق لآدمى, أو تفويته, فأنه يلزم ضمان هذا الحق, ولا يبطل بهذا الاضطرار.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة
هذه القاعدة تدل بلفظها على أن كل اضطرار لا يُبطل حق الغير مطلقا, ولكن العلماء يجعلون الاضطرار مبطلا حينا, وغير مبطل حينا آخر, لذلك حاول ابن رجب أن يضبط هذا التفاوت بقاعدة فيها تفصيل دقيقٌ حسنٌ, فقال: (من أتلف شيئا لدفع أذاه له لم يضمنه, وإن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه), وخرَّج على هذه القاعدة جملة من الفروع, منها: لو صال على الآدمي آدمى آخر أو بهيمة, ولم يمكن له دفعه إلا بقتله, فإنه لا يضمنه؛ لأنه أتلفه لدفع أذاه له, ولو أنه قتل حيوانا مملوكا لغيره في مجاعة ليُحيي به نفسه, فإنه يضمنه؛ لأنه أتلفه لدفع الأذى به.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
تقدم لنا أن الضرورة سبب في المشقة يُشرع عندها استباحة الأمر المحرم, وقد أفادت هذه القاعدة أن ما يُستباح من الأمر المحرم إذا كان متعلقا بحق آدمي فإن هذا الحق لا يبطل, بل يلزم ضمانه, فهذه القاعدة تعد قيدا لقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
وقد يقول قائل: فما فائدة الاضطرار هنا إذا كان لا يبطل ما ترتب عليه؟
والجواب: أن فائدة الضرورة هنا هي في رفع الإثم المترتب على إتلاف مال المسلم, أو تفويت حق من حقوقه.
- القاعدة الخامسة: الحاجة تُنَزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة
وهذه القاعدة تتضمن المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: الحاجة التي تُعطَى حكم الضرورة لا تخلو من نوعين:
- النوع الأول: الحاجة العامة, وهي الحاجة الشاملة لجميع الأمة فيما يمس مصالحهم العامة.
- النوع الثاني: الحاجة الخاصة, وهي : الحاجة الشاملة لطائفة معينة من الناس كأهل بلدٍ, أو حرفةٍ معينةٍ, فالحاجة فى هذين النوعين معتبرة عند إلحاقها بالضرورة, أما الحاجة الخاصة بفرد أو أفراد محصورين فغير معتبرة أصلا, ولا تُلحق بالضرورة.
وعلى هذا فيكون معنى القاعدة: أن الحاجة العامة تُعطَى حكم الضرورة, من جهة كونها سببا في المشقة التي يجوز الترخص عندها.
- المسألة الثانية: شروط إعمال هذه القاعدة
- الشرط الأول: أن تكون الحاجة متحققة, ويمكن أن يُستدل على تحققها بتحقق دليلها, ودليل الحاجة هي: الأمارة المحسوسة, سواء أكانت زمانا أم مكانا أم عملا صادرا من المكلفين, فمثلا: قد يحتاج الزوجان, أو أحدهما إلى الطلاق, فيكون حينئذ مأذونا فيه شرعا, وهذه الحاجة أمر باطن يعسر الإطلاع عليه, فيُستدل على وجودها بوقوع الطلاق في زمانه, وهو الطهر الخالي من الجماع, فإن الغالب فيمن أوقع الطلاق فيه أنه يكون محتاج إليه.
- الشرط الثاني: أن تكون الحاجة عامة لجميع الأمة, أو لطائفة معينة منهم في جميع أحوالهم.
- الشرط الثالث: أن يكون المحرم المستباح بالحاجة من قبيل المحرم لغيره, ومعنى هذا أن الحاجة لا تقوى على إستباحة المحرم لذاته؛ وذلك لأنها أضعف من الضرورة في تخصيص النص المحرم.
- الشرط الرابع: ألا يكون النهي نصا خاصا صريحا في التحريم, فالحاجة يقتصر أثرها على تخصيص النص العام .
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
أن الناس يحتاجون إلى التعامل بجملة من العقود, كالإجارة والقرض والمضاربة وغيرها, ولو قيل: أنه لا يحق لأحد الإنتفاع إلا بما هو ملكه, للحقت المشقة العظيمة بالناس,فجاء التيسير عليهم؛ تنزيلا للحاجة العامة منزلة الضرورة.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى
تقدم لنا أن الضرورة سبب في المشقة الجالبة للتيسير, وقد أفادت هذه القاعدة إلحاق الحاجة العامة أو الخاصة بالضرورة فتكون الحاجة حينئذ سبب في المشقة الجالبة للتيسير.
- المسألة الخامسة: الفرق بين الحاجة والضرورة
- الوجه الأول: أن الأحكام الإستثنائية الثابتة بالضرورة تكون في الغالب إباحة لمحظور ممنوع بنص شرعي خاص صريح, وتكون هذه الإباحة مؤقتة حتى ينتهي الاضطرار, وتتقيد بالشخص المضطر, أما الأحكام الاستثنائية الثابتة بالحاجة فهي غالبا لا تخالف نصا خاصا صريحا, ولكنها تخالف النصوص العامة أو القواعد العامة في الشرع, والحكم الثابت بها يكون في الغالب ثابتا بصورة دائمة, ويستفيد منها المحتاج وغيره.
- الوجه الثاني: أن الضرورة تبيح المحظور سواء أكان الاضطرار حاصلا للفرد أم للجماعة, أما الحاجة فلا تكون سببا في التيسير إلا إذا كانت حاجة عامة, أو خاصة بطائفة كثيرة غير محصورة, فلا تكون سببا في التيسير في حق فرد أو أفراد محصورين.
القاعدة الكبرى الرابعة: لا ضرر ولا ضرار
المسألة الأولى: مكانة هذه القاعدة:
هذه القاعدة أصل من أصول الشرع, ولها أثر واسع في أحكام الفقه, ومن أجَلّ قواعده, فقد ذكر بعض العلماء أن نصف الفقه يندرج تحتها, كما أن لها صلة بعلم أصول الفقه باعتبارها من أدلة الفقه؛ من حيث إنها يُقضَى بها في جزئياتها كأنها دليل عليها.
المسألة الثانية: صياغة هذه القاعدة:
صيغة هذه القاعدة مأخوذة من حديث نبوي, وهو قوله»صلى الله عليه وسلم»: ((لا ضرر ولا ضرار)) {أخرجه الدارقطني (٥٢٢), والحاكم (٢/٥٧- ٥٨), وحسنه الألبانى}, ولكنها لم تُذكر بهذه الصيغة باعتبارها قاعدة فقهية إلا في وقت متأخر, وإنما وردت بلفظ(الضرر يُزال), ولكنّ الأَولى أن يُستعمل نص الحديث في صياغة القاعدة لأن فيه من العموم ما لا يوجد في اللفظ الآخر, كما أن نص الحديث يعطيها قوة في التأثير.
المسألة الثالثة:معنى القاعدة:
لفظي (الضَّرر والضِّرار) قيل: إنهما بمعنى واحد, وقيل: هما مختلفان في المعنى, وهو الراجح, ولكن حصل الخلاف في تحديد معنى كلٍ منهما على أقوال, الراجح منها: أن (الضرر) هو: إلحاق الإنسان مفسدة بغيره ابتداءً, وأما (الضرار) فهو: إلحاق الإنسان مفسدة بمن أضر به على سبيل المجازاة على وجه غير جائز.
وأما النفي الوارد في نص القاعدة فهو بمعنى النهي, فالمقصود بالنفي هنا نفي الجواز, وعلى هذا فيكون معنى القاعدة: أن الضرر والضرار محرمان في شريعتنا, ولذا يحرُم إيقاع الضرر ابتداءً أو مقابلة على وجه غير جائز, فيجب دفع الضرر قبل وقوعه أو رفعه بعد الوقوع إن أمكن.
المسألة الرابعة: مجال إعمال القاعدة:
هذه القاعدة سند لمبدأ الاستصلاح المتعلق بجلب المصالح ودرء المفاسد, ولذلك فإن كثيرا من أبواب الفقه تنبني عليها, ومن ذلك: مشروعية الخيار بأنواعه, فإنه شُرع لرفع الضرر الذي يلحق بأحد المتعاقدين, وفى كل باب من أبواب الفقه دفع أو رفع لأضرار كثيرة معلومة.
ويجدر التنبيه على أن هذه القاعدة من قبيل العموم المخصوص؛ فليس كل ضرر محرم شرعا, وذلك أنه يخرج من هذه القاعدة ثلاث أنواع من الضرر:
- أولها: الضرر الذي أذن الشرع في إيقاع العمل المشتمل عليه, ومنه ضرر العقوبات من الحدود والقصاص.
- ثانيها: الضرر الذي تعم به البلوى: وهو غالبا ما يكون ضررا يسيرا يمكن احتماله, ومن هذا النوع الضرر الذي يكون في بعض المعاملات إما بسبب الغُبن أو الغَرر.
- ثالثها: ما رضِي به المكَلَّف مما كان متعلقا بحقه لا بحق الله تعالى, ومنه تزويج الولي مُوَلِيَته بغير كفءٍ, فإنه ضرر عليها فلو أنها رضيت فإن العقد يصح.
المسألة الخامسة: الأدلة على القاعدة:
أصرح دليل على هذه القاعدة هو حديث ((لا ضرر ولا ضرار)), ويُضاف إليه الأدلة من القرآن والسنة على النهي عن إيقاع الضرر بالغير بغير وجه حق, ومنها: قوله تعالى ((وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا)) {البقرة: ٢٣١} , فهذا نهي صريح عن المضارَّة بالمطلقة بمراجعتها قبل انتهاء عدتها, وتطليقها مرة أخرى لتطول عليها العدة.
المسألة السادسة: علاقة هذه القاعدة بقاعدة (المشقة تجلب التيسير) :
بين هاتين القاعدتين علاقة تداخل, فكلا القاعدتين يُمكن أن يُحكّم في الأمر الخارج عن المعتاد في الشدة من تصرفات المكلفين, إلا أن قاعدة (المشقة تجلب التيسير) تُحكّم في تصرفات الخلق مع الخالق, وأما قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) فتُحكّم في تصرفات الخلق فيما بينهم.
المسألة السابعة: القواعد المتفرعة عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) :
يمكن أن نُصنف القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة فى صنفين:
الصنف الأول: القواعد الخاصة بإزالة الضرر فى حال انفراده. وهى على النحو الآتى:
- القاعدة الأولى: الضرر يُزال
والكلام على هذه القاعدة بحسب المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الواجب شرعا فى شأن الضرر إذا كان واقعا أن يُسعى فى إزالته ورفعه.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة:
لو أحدث شخص نافذة فى بيته, وصارت تكشف بيت جاره بحيث يتأذى منها, فإنه يجب على من أحدث تلك النافذة أن يزيلها, أو يضع حائلا يمنع من انكشاف بيت جاره.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدةالكبرى:
هذه القاعدة تفيد وجوب السعى فى إزالة الضرر ورفعه بعد وقوعه, وهذا جزء مما أفادته القاعدة الكبرى.
- القاعدة الثانية: الضرر يُدفع بقدر الإمكان
وفيها عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة:
أن الواجب شرعا هو منع وقوع الضرر أو رفعه بعد وقوعه بحسب الاستطاعة والقدرة, فإن أمكن منعه أو رفعه بالكلية, وإلا فإن المنع أو الرفع يكون بحسب المستطاع.
- المسألة الثانية: الأدلة على هذه القاعدة:
قوله تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)). {الأنفال: ٦٠} ووجه الاستدلال منه: أن الله تعالى أمر المؤمنين بإعداد القوة لدفع ضرر الأعداء, وقيّد هذا الأمر بالاستطاعة, مما يدل على أن رفع الضرر يكون بحسب الإمكان.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
هذه القاعدة لها جانبان: جانب دفع الضرر أو رفعه بالكلية, وجانب دفع الضرر أو رفعه جزئيا, فحصل عندنا أربعة أقسام:
- فأما القسمان الأولان, وهما: رفع الضرر بعد وقوعه جزئيا وبالكلية, فتقدم التمثيل لهما في القاعدة الأولى.
- وأما القسم الثالث وهو: دفع الضرر قبل وقوعه جزئيا, فمن أمثلته: أن أذى المعتدي على العِرض إذا لم يندفع إلا بدفع المال إليه فإنه يُشرع ذلك؛ إزالةً للضرر بقدر الإمكان,وهذا من قبيل دفع الضرر جزئيا,فإن الضرر لا يندفع بالكلية إلا بانصراف المعتدي دون أخذ شئ.
- وأما القسم الرابع وهو: دفع الضرر قبل وقوعه بالكلية, فمن أمثلته: أن أحد المتبايعين قد يقع له ضرر بعد لزوم عقد البيع,فشُرع خيار المجلس وخيار الشرط؛ لدفع الضرر المتوقع لأحد المتعاقدين. وهذا في الجملة فيه دفع للضرر بالكلية.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
لما كان الواجب شرعا هو منع وقوع الضرر أو رفعه بعد وقوعه, كما نصت عليه القاعدة الكبرى, فقد أفادت هذه القاعدة أن ذلك المنع أو الرفع مقيد بحسب الاستطاعة.
- القاعدة الثالثة: القديم يُترك على قِدَمِه
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: لفظ (القديم) هو ما توافر فيه وصفان:
- أحدهما: ألا يوجد وقت النزاع فيه مَنْ أدرك مبدأه.
- والآخر : أن يكون مشروعا فى أصله.
فيكون معنى القاعدة: أن مايقع فيه النزاع من أعيان أو منافع - وكان مما لايدرِك أحد مبدأه, وهو مشروع فى أصله – فإنه يُترك على حالته التى هو عليها بلا زيادة ولا نقص ولا تغيير ولا تحويل, ويُعد قِدمه دليلا على أنه حق قائم بطريق مشرع.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة:
يمكن أن يُستدل لهذه القاعدة بدليل من المعنى, وهو: أنه كان هذا الشئ المُتنازَع فيه من الزمن القديم على حاله, فإن الأصل بقاؤه على ما كان عليه, خاصة وأن الغالب على الظن أنه ما حدث إلا بوجه شرعى, فينبغى تركه على حالته.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو كان لشخص ممر فى أرض جاره يمر منه من الزمن القديم, وأراد الجار إغلاق هذا الممر, فإنه يُمنع من ذلك؛ لأن الممر قديم, والقديم يُترك على قِدَمِه.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
أنه لما كان بعض ما فى أيدى الناس مما هو قديم من أعيان أو منافع, فد يظهر أن فيه ضررا تجب إزالته, فقد جاءت هذه القاعدة لتبيّن أن القديم يُترك على قِدمه, وإن ظهر أن فيه ضررا.
- القاعدة الرابعة: الضرر لا يكون قديماً
- المسألة الأولى: معنى القاعدة:
أن ما فى أيدى الناس من أعيان أو منافع من الزمن القديم, إذا كانت مشتلة على الضرر, فإنه لا يصح الاحتجاج بقدم وجودها, بل يجب إزالة الضرر الواقع فيها, ولو ترتب على ذلك إزالتها بالكلية.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة:
يمكن أن يُستدل لهذه القاعدة بحديث سمرة بن جندب «رضى الله عنه» أنه كان له عضد من نخل فى حائط رجل من الأنصار, وكان مع الرجل أهله, فكان سمرة يدخل إلى نخله, فيتأذّى منه الأنصارى, فطلب من سمرة أن يبيعه أو يُناقله فأبى, فأتى الأنصارى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فذكر له ذلك, فطلب النبى»صلى الله عليه وسلم»من سمرة أن يبيعه أو يُناقله فأبى, فقال النبى «صلى الله عليه وسلم» لسمرة: (أنت مضار), ثم قال للأنصارى: (اذهب فاقلع نخله). {أبو داود فى سننه: ١٠/٤٦،٤٧}. ووجه الدلالة منه: أن الذى يظهر: أن حق سمرة فى دخول حائط الأنصارى كان قديما, ولكن لما اشتمل على ضرر بالأنصارى, لم يعتبر النبى»صلى الله عليه وسلم»قِدَم هذا الحق, مما يدل على أنه لا عبرة بالشئ المشتمل على ضرر ولو كان قديما.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو كان لشخص فى داره ميزاب من الزمن القديم يصب فى الطريق العام, ويؤذى المارّين, فإنه تجب إزالته, ولا يُعتد بقدمه؛ لأنه ضرر, والضرر لا يكون قديما.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تعد قيدا للقاعدة السابقة (القديم يُترك على قِدمه) , فالذى يُترك على قِدمه هو ما لا ضرر فيه, وأما ما كان مشتملا على ضرر, فإنه لا يصح الاحتجاج بقدمه, بل تجب إزالة الضرر الواقع فيه.
- المسألة الخامسة: في بيان ضابط ما يُحترم قِدَمُهُ ومالا يُحترم:
اجتهد الشيخ أحمد الزرقا فى ذلك فجعل ميزان مراعاة قِدم الضرر وعدم مراعاته يرجع إلى تحديد فُحش الضرر, وبيّن ضابط هذا الفحش بقوله: إن كل ما يمكن أن يُستَحق على الغير بوجه شرعى فهو ليس بضرر فاحش, فتجب حينئذ مراعاة قِدمه, وما لا يمكن أن يُستحق على الغير بوجه شرعى, فهو ضرر فاحش, ويُرفع مهما كان قديما.
الصنف الثاني: القواعد الخاصة بإزالة الضرر في حالة التعارض. وهى على النحو الآتى:
- القاعدة الأولى: الضرر لا يُزال بمثله
وفيها عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة:
أن الواجب شرعا عدم إزالة الضرر بضرر مثله, ولا بضرر أشد منه من باب أولى, وهذا يعنى أن الضرر يجب أن يُزال بدون ضرر – إن أمكن – وإلا أُزيل بضرر أقل.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة:
لو أُكره شخص عن طريق التهديد بالقتل على قتل معصوم فإنه لا يجوز له قتله؛ لأن الإكراه بالتهديد بالقتل ضرر, والإقدام على قتل معصوم ضرر مثله, والضرر لا يُزال بمثله.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تُعد قيدا لقاعدة الضرر يزال ؛ فحيث وجبت إزالة الضرر، فإنه لا تجوز إزالته بمثله, ولا بأشد منه, بل تجب إزالته بلا ضرر إن أمكن, أو بضرر أقل.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بقاعدة (الضرر لا يُزال بالضرر):
جعل بعض العلماء القاعدتين بمعنى واحد, والظاهر أن بينهما فرقا وهو: أن لفظ (الضرر لا يُزال بالضرر) أعم من لفظ (الضرر لا يُزال بمثله) فاللفظ الأول يفيد عدم جواز إزلة جنس الضرر بجنس ضرر آخر سواء كان مساويا أو أقل أو أشد, بينما اللفظ الثانى يفيد عدم جواز إزالة الضرر بضرر مساوٍ أو أشد من باب أولى, وهذا يعنى جواز إزالة الضرر بضرر أقل منه.
- القاعدة الثانية: الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه إذا تقابل ضرران وكان أحدهما واقعا وهو أعظم من الآخر وأشد فى نفسه, فإنه يُرتكب الضرر الأخف لإزالة الضرر الأشد
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة
يمكن أن يستدل لهذه القاعدة بأدلة من النص ومن المعني: فأما الدليل من النص فمنه: ماورد في شأن صلح الحديبية, أن المشركين اشترطوا علي النبي صلي الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم, ومن جاءكم منا رددتموه علينا, فقال الصحابة: يارسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم ,(إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله, ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا). {البخارى: ٩٦١، ومسلم: ١٤١١}. ووجه الدلالة منه: أن هذا الشرط فيه ضرر علي المسلمين لما فيه من الإذلال وعدم المكافاة بين الفريقين, ومع ذلك قَبِله النبي «صلي الله عليه وسلم»لكون هذا الضرر أخف من ضرر حصول القتل للمسلمين الذين بمكة.
- المسالة الثالثة: الفروع المبنية علي القاعدة
لو وقع أسير مسلم في يد الكفار ولم يكن إطلاقه إلا بالفداء بالمال, فإنه يجوز دفع المال في هذه الحالة إلي الكفار؛ لأن ضرر بقاء المسلم في الأسر أشد من ضرر إنتفاع الكفار بأموال المسلمين, والضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبري
هذه القاعدة تمثل إحدي صور مفهوم المخالفة لقاعدة (الضرر لا يزال بمثله), التي هي قيد لقاعدة (الضرر يُزال)؛ وذلك أنه إذا كان الضرر لا يُزال بمثله فإن مفهوم المخالفة من ذلك أنه يُزال بما هو أقل منه.
- القاعدة الثالثة: إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما
- القاعدة الرابعة: يختار أهون الشرين
- المسالة الأولي: معني القاعدتين: إذا تقابل ضرران ولم يقع أحدهما بعد, وكان أحدهما أعظم من الآخر, وأشد في نفسه, فإنه يُرتكب الضرر الأخف والأهون؛ لإزالة الضرر الأشد.
- المسألة الثانية: الدليل علي القاعدتين.
يمكن أن يستدل لهاتين القاعدتين بعموم الأدلة المتقدمة في القاعدة السابقة؛ وذلك أنه لا فرق في مراعاة شدة الضرر وخفته بين أن يكون الضرر واقعا أو متوقعا.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية علي القاعدتين
لو أن شخصا به جرح إذا سجد سال دمه, وإن لم يسجد لم يسل, فإنه يُشرع له أن يُصلي بدون سجود؛لأنه قد تقابل في حقه ضرران: إما ترك السجود وإما الصلاة مع الحدث والصلاة مع الحدث أعظم ضررا من ترك السجود, فيُراعى الضرر الأعظم بارتكاب الضرر الأخف, كما أن ترك السجود يدفع عنه ضررا, وهو سيلان الدم, فيُختار أهون الشرين.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تمثل إحدى صور مفهوم المخالفة لقاعدة (الضرر لا يُزال بمثله), التي هي قيد لقاعدة (الضرر يُزال) كما تقدم في القاعدة السابقة.
تنبيه: ذهب بعض العلماء إلى أن هاتين القاعدتين, وقاعدة (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) بمعنى واحد, إلا أن الشيخ أحمد الزرقا _رحمه الله_ قد مال إلى التفريق بينها, ووجه الفرق: أن قاعدة (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) تُخصص بما إذا كان الضرر الأشد واقعا وأمكن إزالته بالأخف, أما هاتان القاعدتان اللتان معنا فتُخصصان بما إذا تعارض الضرران ولم يقع أحدهما بعد.
- القاعدة الخامسة: يُتَحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه إذا تقابل ضرران وكان أحدهما عاما, والآخر خاصا فإنه يُرتكب الضرر الخاص لإزالة الضرر العام.
- المسألة الثانية: الأدلة على القاعدة
يمكن أن يُستدل لهذه القاعدة بما ورد عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذة, فإذا أنا بأبي ذر «رضي الله عنه» ,فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في ((والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم)) {التوبة:٣٤} قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب, فقلت: نزلت فينا وفيهم, فكان بيني وبينه ذاك, وكتب إلى عثمان»رضي الله عنه» يشكوني, فكتب إليَّ عثمان أن اقدم المدينة, فقدمتها فكثر الناس عليَّ, حتى كأنهم لم يَرَوني قبل ذلك, فقال لي عثمان: إن شئت تَنحيتَ فكنتَ قريبا. فذاك الذي أنزلني هذا المنزل, ولو أمَّروا عليَّ حبشيا لسمعتُ وأطعتُ.
ووجه الاستدلال منه: أن انتقال أبي ذر إلى الرَبذة ضرر خاص به, و فى بقائه في الشام أو المدينة ضرر عام؛ لما يترتب عليه من حدوث المنازعة للإمام, فرَّجح عثمان دفع الضرر العام على دفع الضرر الخاص.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو أن لشخص جدارا قد مال على الطريق العام, ويُخشى سقوطه على المارّين, فإنه يُشرع إجباره على هدم هذا الجدار, لأنه وإن كان فيه ضرر في هدمه, إلا أنه ضرر خاص, وما يقع بالمارّين ضرر عام, ويُتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تمثل إحدى صور مفهوم المخالفة لقاعدة (الضرر لا يُزال بمثله), التي هى قيد لقاعدة (الضرر يُزال)؛ وذلك أنه إذا كان الضرر لا يُزال بمثله فإن مفهوم المخالفة من ذلك أنه يُزال بما هو أقل منه, ومن صور ذلك كَون أحد الضررين خاصا فينبغي احتماله لدفع الضرر العام.
- القاعدة السادسة: درء المفاسد أَولى من جلب المصالح
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه إذا اجتمع في أمر من الأمور مفسدة ومصلحة فيجب تقديم الإتيان بالأمر على الوجه الذي يتأدى به دفع المفسدة, وتجنب الإتيان به على الوجه الذي يتأدى به تحصيل المصلحة.
- المسألة الثانية: شروط إعمال هذه القاعدة:
- الشرط الأول: عدم إمكان الجمع بين دفع المفسدة وجلب المصلحة في تصرف واحد.
- الشرط الثاني: غلبة المفسدة على المصلحة.
- المسألة الثالثة: الأدلة على القاعدة:
يمكن أن يُستدل على هذه القاعدة بأدلة كثيرة, منها: قوله تعالى: ((يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)). {البقرة: ٢١٩}. ووجه الدلالة منها: أن الله تعالى قد بيَّن هنا أن في الخمر والميسر إثما كبيرا, وهو مفسدة, وفيهما منافع للناس,وهي مصلحة إلا أن مفسدتهما أعظم من مصلحتهما, ولما كان الأمر كذلك حرَّمهما الله تعالى.
ومنها أيضا: قول الرسول»صلى الله عليه وسلم»: ((دعوني ما تركتكم,فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم,فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه, وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم)). {البخارى: ٧٢٨٨, ومسلم: ١٣٣٧} ووجه الدلالة منه: أن النبي»صلى الله عليه وسلم» قيد فعل الأمر بالإستطاعة, ولم يُقيد اجتناب النهي بذلك, فدل على أن اعتناء الشرع باجتناب المنهيات أشد من اعتنائه بفعل المأمورات, فمتى اجتمع في أمر مفسدة ومصلحة وجب تقديم درء المفسدة لأنه من اجتناب المنهيات.
- المسألة الرابعة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو وجب على المرأة غسل ولم تجد سترة من الرجال, فإنه يُشرع له تأخير الغُسل, لأنه وإن كان في الغُسل مصلحة إلا أن في تكّشُفها أمام الرجال مفسدة أعظم, ودرء المفاسد أَولى من جلب المصالح.
- المسألة الخامسة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تفيد أنه يجب أن يُسعى في إزالة الضرر حتى وإن قابل مصلحة ما دام أن مفسدة العمل معه أعظم, وهذا يتفق مع ما أفادته القاعدة الكبرى.
- المسألة السادسة: وقفات مع هذه القاعدة:
- الوقفة الأولى: في ذكر قواعد أخرى تتفق مع مضمون القاعدة , وإن اختلفت فى اللفظ, منها:
- قاعدة: (إذا تعارض المانع والمُقتضى يُقدم المانع إلا إذا كان المُقتضى أعظم) والمراد بالمانع هنا: المفسدة, والمراد بالمقتضى: المصلحة, والمعنى: أنه إذا اشتمل العمل على مفسدة تُنفِّر منه, ومصلحة تدعو إليه فإنه يُرجح جانب المنع, إلا إذا غلبت المصلحة على المفسدة.
- قاعدة: (إذا اجتمع الحلال والحرام أو المُبيح والمحرِّم غُلِّب الحرام).
- الوقفة الثانية: في بيان ميزان المفاضلة في المصالح والمفاسد:
الترجيح بين المصالح والمفاسد في حال التزاحم لا يكون إلا بالقرآن والسنة, وعليه فالذي يمكن أن يُفَوَّض إليه الموازنة بينها في أحكام الشرع هو العالم المجتهد الذي اطّلع على أدلة الشرع واستوعبها.
- الوقفة الثالثة: الصور التي خرجت بمراعاة شروط القاعدة: خرج بمراعاة الشرط الثاني للقاعدة صورتان:
- الصورة الأولى: غلبة المصالح على المفاسد, فيجب تحصيل المصالح الراجحة, ولا عبرة بالمفاسد المرجوحة. والدليل على ذلك: أن النبي»صلى الله عليه وسلم» كان يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم, مع أنه كان يفعل أحيانا ما ينكره عليه, كما فعل يوم بني جُذيمة, وتبرأ النبي»صلى الله عليه وسلم» من ذلك. {أخرج البخارى هذه الوقعة فى صحيحه: ٤٣٣٩}. ووجه الدلالة منه: أن النبي»صلى الله عليه وسلم» غلّب مصلحة تولية خالد»رضي الله عنه» على الحرب على مفسدة ما يقع منه من تجاوزات.
ومن أمثلة هذه الصورة : لو أن شخصا مات أبوه وعليه دَين, وقد ترك الأب مالا فيه شبهة, فإنه يجب على الولد أن يسدد هذا الدَين من المال المشتبه؛ لأن السداد منه مفسدة, وقضاء الدَين مصلحة, وهذه المصلحة أعظم, لذلك يُغلَب جلب المصلحة على درء المفسدة.
- الصورة الثانية: تساوي المصالح والمفاسد,وهذه صورة شائكة اختلفت مواقف العلماء في وجودها على النحو الآتي:
- الموقف الأول: أن هذه الصورة موجودة وواقعة, ويمكن فرض تحققها في تساوي مصلحة الواجب أو المستحب مع مفسدة المحرّم أو المكروه, واختلفوا في الحكم هنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن درء المفسدة مُقَدَّم على جلب المصلحة.
القول الثاني: أن جلب المصلحة مُقدم على درء المفسدة, واستُدِل على هذا بأن النبي»صلى الله عليه وسلم» مرَّ بمجلس فيه أخلاطٌ من المشركين والمسلمين فسلّم عليهم. {البخارى: ٦٢٥٤، مسلم: ٤٧٦٠}.
القول الثالث: أن الأمر يختلف بحسب الأحوال فتارة تُرجح المصلحة, وتارة تُرجح المفسدة ,وتارة يُخير بينهما, وتارة يقال بالتوقف, بحيث يختلف الحكم باختلاف الوقائع والأشخاص والأحوال, وهذا هو الأقرب للصواب.
- الموقف الثاني: أن تساوي المصالح والمفاسد من كل وجه غير موجود, فإما أن تترجح المفسدة, وإما أن تترجح المصلحة. وهذا الموقف تبناه ابن القيم ولم ينسبه إلى أحد.
والذي يظهر أن الخلاف هنا لفظي, وذلك أن ابن القيم - الذي تبنى الموقف الثاني – يقول: بأن المصلحة أو المفسدة لا بد أن تغلب إحداهما الأخرى, ويظهر أن قصده بذلك أنه لا يمكن أن تُبطِل إحداهما الأخرى في الواقع, ولا يقول بأنه لا يمكن تساويهما في نظر المجتهد, فحصل الاتفاق - فيما يظهر - مع أصحاب الموقف الأول على أن التساوي قد يقع في نظر المجتهد, وعلى أنه لا يمكن تساوي المصلحة والمفسدة فى الواقع بحيث تُبطل كلٌ منهما الأخرى.
القاعدة الكبرى الخامسة: العادة مُحَكَّمة
الكلام فى هذه القاعدة يمكن أن يكون من خلال المسائل الآتية:
المسألة الأولى: مكانة هذه القاعدة
هذه القاعدة من أجَلّ قواعد الشرع, فهى ترتبط بتحكيم العرف الذى يُعد مستندا لكثير من أحكام الفقه, كما أن لهذه القاعدة صلة بعلم أصول الفقه, وذلك باعتبارها من أدلة الفقه, أو تشبهها من حيث إنها يُقضى بها فى جزئياتها, كأنها دليل على ذلك الجزئى.
المسألة الثانية: صياغة هذه القاعدة
بالرغم من وجود التطبيق العملى المبكر لأحكام هذه القاعدة إلا أن ذكرها بهذه الصيغة فى مدونات القواعد الفقهية قد تأخر كثيرا, وإن كانت قد وردت عند بعض العلماء الإشارة إلى مضمونها بألفاظ متقاربة, وبحسب الوقائع فإن السيوطى هو أول من ذكر هذه القاعدة بهذه الصيغة ثم تابعه العلماء بعد ذلك.
المسألة الثالثة: معنى القاعدة
أحسن ما عُرِّفت به(العادة)اصطلاحا أنها: (تكرر الأمر مرة بعد أخرى تكررا يخرج عن كونه واقعا بطريق الاتفاق) وبناء على هذا التعريف لا فرق بين العادة والعرف, كما هو واقع استعمال الفقهاء, وإن كان بعضهم قد يُفرّق بينهما إلا أن هذا التفريق فيه شئ من البعد.
وبالنظر إلى هذا التعريف نجد أن العادة تشمل ثلاثة أمور:
- الأمر الأول: ما يعتاده الفرد من الناس في شئونه الخاصة, كعادته في أكله وشربه.
- الأمر الثاني: ما تعتاده الجماعة والجماهير من الناس, وهو العُرف.
- الأمر الثالث: الأمر المتكرر الناشئ عن سبب طبيعي, كإسراع البلوغ في البلاد الحارة
وأما لفظ (مُحَكَّمة) فمعناه: المرجع عند النزاع. وقد تفاوتت مواقف العلماء في هذه المرجعية, فبعضهم يرى أن العادة دليل من أدلة الأحكام, وبعضهم يرى أنها لا تصلح دليلا لإثبات حكم شرعي, ويمكن التقريب بين هذين القولين بأن العادة والعُرف مرجعا للإثبات عند الاختلاف مع عدم وجود الدليل النقلي في المسألة, ولا ييعتمد عليهما كدليل مستقل عند وجود الدليل النقلى.
وعلى هذا فيكون المعنى الإجمالي للقاعدة: أن العادة –بحسب معناها المتقدم- تُجعل مرجعا يُفوض إليه إثبات الأحكام أو نفيها.
المسألة الرابعة: الأدلة على القاعدة:
دلّ على هذه القاعدة أدلة كثيرة من القرآن والسنة منها: قوله تعالى: ((وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) {البقرة: ٢٣٣}. ووجه الإستدلالمن الآية: أن الله تعالى علّق أمر النفقة على الزوجة على المقدار المتعارف عليه بين الناس, وهذا دليل على إعمال العادة والالتفات إليها في بناء الأحكام.
ومن السنة: ما ورد أن هندا بنت عتبة -رضي الله عنها- قالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجلا شحيح, وليس يُعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذته منه وهو لا يعلم. فقال الرسول»صلى الله عليه وسلم»: ((خذي ما يكفيكِ وولدك بالمعروف)) ووجه الاستدلال منه: أن الرسول «صلى الله عليه وسلم» أباح لها أن تأخذ من مال زوجها كفايتها من النفقة, وقيدَ ذلك بالمعروف, وهذا دليل على إعمال العادة والالتفات إليه في بناء الأحكام.
المسألة الخامسة: مجال تحكيم العادة وإعمال القاعدة:
بناءً على ما تقدم فإن العادة تُحكم في أمرين:
- الأمر الأول: إنشاء حكم جديد وتأسيسه, ولابد أن تتفق العادة هنا مع نصوص الشريعة وهي هنا مستندة في الواقع إلى المصلحة, فدليل المصلحة يُعد دليلا عليها.
- الأمر الثاني: ضبط أمر حَكمَ فيه الشرع حكما مطلقا,ولم يرد في اللغة ما يضبطه, فيُرجع إلى العادة والعُرف.
المسألة السادسة: أقسام العرف والعادة:
تنقسم العادة والعرف أقساما متعدة باعتبارات مختلفة:
- التقسيم الأول: تقسيم العادة والعرف من حيث الموضوع , وتنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين:
- القسم الأول: العادة اللفظية, أو العرف اللفظى, ومعناه: أن يشيع بين الناس استعمال بعض الألفاظ في معانٍ معينة, بحيث تصبح هي المتبادرة إلى الأذهان عند إطلاق تلك الألفاظ, مثل: إطلاق لفظ(الولد)على الذكر دون الأنثى, مع أنه فى اللغة يُطلق على الذكر والأنثى.
- القسم الثانى: العادة العملية, أو العرف العملى, ومعناه: اعتياد الناس على بعض الأفعال فى الأمور العادية, وفى المعاملات, فمن أمثلته فى الأمور العادية: اعتياد بعض الناس لُبس أنواعٍ مخصوصة من اللباس, ومن أمثلته فى المعاملات: اعتياد بعض الناس تعجيل جزء من المهر, وتأجيل الباقى إلى ما بعد الطلاق, أو الوفاة.
- التقسيم الثانى: تقسيم العادة والعرف من حيث الشيوع والانتشار , وتنقسم بهذا العتبار إلى قسمين:
- القسم الأول: العادة العامة, أو العرف العام, ومعناه: أن يكون الأمر فاشيا في جميع البلاد وبين جميع الناس, ومن أمثلته: عقود الاستصناع في كثير من الحاجات كالأطعمة والبنيان ونحو ذلك.
- القسم الثانى: العادة الخاصة, أو العرف الخاص, ومعناه: أن يكون العمل مقتصرا على مكان أو فئة من الناس دون غيرها, استعمال لفظ (البيت) أو (الدار) بمعنى (الغرفة) فإن هذا الاستعمال مقتصرعلى بلاد معينة.
المسألة السابعة: التعارض في العادة والعرف:
- أولا: تعارض العُرف اللفظي مع استعمال الشرع, وهذا التعارض له حالتان:
- الحالة الأولى: أن لا يُعلِّق الشرع باللفظ أحكاما, فيُقدَّم العُرف اللفظي, مثال ذلك: لفظ (البساط) استعمله الشرع بمعنى الأرض, ولم يُعلق به أحكاما في معناه الخاص, ولذلك فمن حلف لا يجلس على بساط, فإنه لا يحنث بالجلوس على الأرض, وإن سمّاها الله بساطا.
- الحالة الثانية: أن يُعلِّق الشرع باللفظ أحكاما, وفي هذه الحالة يُقدم استعمال الشرع, مثال ذلك: لفظ (الصلاة) استعمله الشرع في الصلاة المعروفة وعلق به أحكاما, ومعناه في العُرف (مطلق الدعاء), فيُقدم استعمال الشرع, فمن حلف لا يصلي, فإنه يحنث بالصلاة الشرعية المعروفة, ولا يحنث بمطلق الدعاء.
- ثانيا: تعارض العُرف اللفظي مع اللغة: وهذه المسألة محل خلاف في المُقدَّم منهما
ومن الأمثلة على تقديم العُرف: لو حلف شخص ألا يأكل رأسا, ففي هذا تعارض العُرف اللفظي واللغة, فاللغة تفيد شمول هذا التعبير لجميع الرؤوس, والعُرف يفيد التخصيص برؤوس الأنعام, فلا يحنث هذا الشخص إلا برؤوس الأنعام خاصة.
- ثالثا: تعارض العُرف الخاص مع العُرف العام: وهنا لا يخلو تعارضهما من حالتين:
- الحالة الأولى: أن يكون موضوع العُرف مما أقرت الشريعة اختلاف الأعراف فيه, فيكون العُرف الخاص معتبرا وإن خالف عُرفا عاما, ومثاله: لو كان عمل رجل ما بالليل وسكونه بالنهار, كالحراس, فإن عِماد القَسْم بين نسائه هو النهار, وإن كان مخالفا للعُرف العام.
- الحالة الثانية: أن يكون موضوع العُرف مما كان للشريعة دخل في تحديده فلا يُعتبر العُرف الخاص, ومن أمثلة هذا: لو جرت عادة شخص أنه إذا اقترض ردّ أكثر مما اقترض, فإن عادته غير معتبرة,لأنها مخالفة للعُرف العام, ولما قرره الشرع.
المسألة الثامنة: شروط اعتبار العادة والعرف:
- الشرط الأول: أن يكون العرف مطردا أو غالبا, وهذا الشرط يُعبّر عنه بقاعدة سيأتي بيانها وهي: (إنما تُعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت).
- الشرط الثاني: أن يكون العرف المراد تحكيمه قائما عند إنشاء التصرف, ويُعبر عن هذا الشرط بقاعدة: (العرف الذي تُحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر), فلا تُفسر الألفاظ بالأعراف السابقة.
- الشرط الثالث: ألا يعارض العرفَ تصريحٌ بخلافه, فإن عارضه فإن العرف يُهمل ويؤخذ بالتصريح.
- الشرط الرابع: ألا يعارض العرف نص شرعي خاص, بحيث يؤدي العمل بالعرف إلى تعطيل النص, ففي هذه الحالة لا يُعتبر العرف.
المسألة التاسعة: القواعد المتفرعة عن قاعدة (العادة محكّمة) :
تفرّع عن هذه القاعدة عدد من القواعد, وهى على النحو الآتى:
- القاعدة الأولى: استعمال الناس حجة يجب العمل بها
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: لفظ (استعمال الناس) يحتمل ثلاثة معانٍ:
- تكرر الأمر من قِبل الناس, فيكون بمعنى العادة.
- إطلاق اللفظ على معنى معين, فيكون بمعنى العرف اللفظي.
- نقل اللفظ من مسماه الأصلي إلى مسماه المجازي, فيكون مخصوصا بنوع من العرف اللفظي.
وعلى هذا فيختلف معنى القاعدة بناءً على اختلاف المراد بلفظ (الاستعمال), فإن أُريد به المعنى الأول فسيكون معنى القاعدة هو ما تقدم ذكره في معنى القاعدة الكبرى, وإن أُريد به المعنى الثاني أو الثالث, وهذا هو الراجح؛ لكون لفظ (الاستعمال) مما يختص بالألفاظ, فيكون معنى القاعدة أن المرجع في تفسير ألفاظ الناس وعباراتهم هو استعمالهم لها حقيقة أو مجازا.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة:
يُستدل لهذه القاعدة فى المعنى الراجح لها بدليل من المعنى حاصله: أن العلة في ثبوت الأحكام بالألفاظ هى: دلالة اللفظ على المعنى المراد للمتكلِّم, فإذا كان المعنى متعارفا عليه بين الناس, كان دليلا على أن ذلك المعنى هو المراد باللفظ في الظاهر, فينبغي أن يُربط به الحكم.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
من الأمثلة على هذه القاعدة -فى المعنى الراجح لها- : لو حلف شخص ألا يبيع شيئا, ثم وكّل من باعه عنه, فإن البيع حقيقة في البيع بنفسه, مجاز في التوكيل بالبيع عنه, والاستعمال في الحقيقة هو الأكثر, فيحنث إذا باع بنفسه دون ما إذا وكّل غيره؛ لأن استعمال الناس حجة يجب العمل به.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تفيد في المعنى الراجح لها أن المرجع في تفسير ألفاظ الناس وعباراتهم هو ما جرت به عادتهم في استعمالهم لها حقيقة أو مجازا, وهذا هو ما تفيده القاعدة الكبرى.
- القاعدة الثانية: الحقيقة تُترك بدلالة العادة
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: المراد بالحقيقة: استعمال اللفظ فيما وُضع له في أصل اللغة, وبذلك يكون معنى القاعدة: أنه إذا احتمل الكلام للحقيقة والمجاز, ودلت العادة على إرادة المجاز, فإنه يُنتقل إلى المعنى الذي دلت عليه العادة.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة: يمكن أن يُستدل لهذه القاعدة من وجهين:
- الوجه الأول: أن ثبوت الأحكام بالألفاظ إنما كان لدلالة اللفظ على المعنى المراد للمتكلم, فإذا كان المعنى متعارفا عليه بين الناس كان دليلا على انه هو المراد, فيُرتب عليه الحكم.
- الوجه الثاني: أن جريان العُرف باستعمال لفظ في معنى ما, يجعل ذلك الاستعمال حقيقة بالنسبة للمستعملين, ويكون معناه الأصلي مجازاً عندهم, ومن المقرر أنه إذا دار الاستعمال بين الحقيقة والمجاز, ترجحت الحقيقة, وهي هنا: المعنى الذي جرى به العُرف والعادة.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو حلف شخص ألا يضع قدمه في دار فلان, فإن ذلك حقيقة في وضع الجزء المعروف من الجسد فقط, ومجاز في دخول بيته, وقد دلت العادة على إرادة المعنى المجازي, وترك المعنى الحقيقي, فلا يحنث إلا إذا دخل البيت؛ لأن الحقيقة تُترك بدلالة العادة.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تمثل صورة من صور إعمال القاعدة الكبرى, وذلك أن تحديد المراد باللفظ يرجع إلى ما جرت به العادة, فاللفظ قد يُنقل من حقيقته إلى مجازه بدلالة العادة, وهذا من قبيل تحكيم العادة.
- القاعدة الثالثة: إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: معنى (الاطراد) هو: استمرار العمل بالعادة في جميع الحوادث, وعدم تخلفه مطلقا, أما (الغلبة) فهي: استمرار العمل بها في أكثر الحوادث, بحيث لا يتخلف إلا قليلا, وعلى هذا فيكون معنى القاعدة: أن تحكيم العادة مشروط باستمرار العمل بها في جميع الحوادث أو أكثرها, سواء كان العمل عاما في جميع البلاد الإسلامية أو خاصا ببعضها, وسواء أكان لفظيا أم عمليا.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة:
يمكن أن يُستدل على هذه القاعدة بدليل من المعنى حاصله: أن اطراد العمل بالعادة أو غلبته مما يفيد غلبة ظنٍ بصلاحية تلك العادة لربط الأحكام بها, والعمل بغلبة الظن واجب, ولا يضر تخلفها في بعض الحوادث؛ لأنه نادر, والعبرة في الأحكام تكون للغالب لا للنادر.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
أن تحديد أجرة العمال في البناء تكون بقياس كامل مساحته, ويشمل ذلك موضع الأبواب والنوافذ وإن لم يعمل فيها شيئا, وهذه عادة مطردة أو غالبة لدى مقاولي البناء فتُعتبر.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تمثل شرطا من شروط إعمال القاعدة الكبرى, وذلك أن اعتبار العادة وتحكيمها مقيد بكون العمل بها مستمرا في جميع الحوادث أو أكثرها.
- القاعدة الرابعة: العبرة للغالب الشائع لا للنادر
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الشرع بنى أحكامه على ما يكثر وقوعه, وأما ما كان وقوعه قليلا فإنه لا يُلتفت إليه.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة: يمكن أن يُستدل على هذه القاعدة من وجهين متقابلين:
- الوجه الأول: الإجماع على اعتبار الغلبة والعمل بالغالب, وتتمثل صورة الإجماع في الاتفاق على العمل ببعض الأصول التي تفيد الظن في الجملة كخبر الواحد, بسبب غلبة الصدق أو الصحة فيها, فتكون قريبة من اليقين, ومعلوم أن ما قارب الشئ أُعطي حكمه.
- الوجه الثاني: أن اعتبار الشئ النادر وبناء الأحكام عليه فيه مشقة وعسر, والمتعسر كالمتعذر, والمتعذر كالممتنع, فيُلغى اعتبار النادر.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
أن الشرع قد جعل وقت التكليف في حالة عدم ظهور أمارات البلوغ هو سن الخامسة عشرة؛ لأن هذا هو سن البلوغ في الغالب, أما عدم البلوغ عند هذا السن فهو أمر نادر, وهذا النادر لم يَلتفت إليه الشرع بل ألحقه بالغالب.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تفيد أن الشرع بنى الأحكام على الغالب دون النادر, وهذا يشير إلى وجه إعمال القاعدة الكبرى؛ حيث إن تحكيم العادة ملتَفتٌ فيه إلى تكرر وقوعها.
- المسألة الخامسة: حكم النادر: عند إعطاء الحكم للغالب, فإن النادر لا يخلو من حالتين:
- الحالة الأولى: أن يُلغى فلا يُلتفت إليه ولا يُلحق بالغالب, في حالة عدم كون النادر من جنس الغالب, وأمكن مراعاة فرده بدون عسر.
- الحالة الثانية: ألا يُلغى النادر, بل يُلحق بالغالب, وهذا في حالة كون النادر من جنس الغالب, مع عسر مراعاة فرده بحكم يخصه.
- القاعدة الخامسة: الكتاب كالخطاب
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن المكاتبة تُعطَى حكم المخاطبة من جهة ما يُشترط في كل منهما, وما يترتب عليهما من أحكام.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة:
دل على هذه القاعدة عمل النبي»صلى الله عليه وسلم» وعمل أصحابه من بعده, فقد كان النبي»صلى الله عليه وسلم» يُرسل رسله بالكتب إلى القبائل وزعمائها وإلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام, فكانت هذه الكتب ملزِمة لهم, ويترتب عليها ما يترتب على الخطاب.
- المسألة الثالثة: شروط إعمال القاعدة:
- أن يكون الكتاب ظاهرا واضحا.
- أن يكون الكتاب مرسوما, أى مكتوبا على الوجه المعتاد في الخط والمخطوط عليه.
- أن يكون الكتاب من الغائب, فلا عبرة بالكتاب من الحاضر, إلا في حالة العجز عن الخطاب,أو أن يكون الكتاب مما يستقل به الإنسان كالإقرار, والطلاق.
- المسألة الرابعة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو كتب شخص لآخر كتابا, وفيه (بعتك داري الواقع بمكان كذا بكذا), فقبِل المرسَل إليه البيع, فإن البيع ينعقد كما لو كان بالمشافهة.
- المسألة الخامسة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
ذكر هذه القاعدة تحت القاعدة الكبرى إما أن يكون من باب التفرع فهي تمثل صورة من صور تحكيم العادة, وهي عمل الناس بالكتاب, وإما أن يكون ذكرها من باب المجانسة؛ لأن الكتابة تشترك ممع العادة في أن كلا منهما يؤدي معنى وهو غير لفظٍ.
- القاعدة السادسة: الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن إشارات الأخرس إذا كانت معتادة معلومة, فإنها تعتبر وتقوم مقام التلفظ بالقول, فتُعطَى أحكامه.
- المسألة الثانية: شروط إعمال القاعدة:
- أن يكون الخرس أصليا لا عارضا.
- ألا تكون إشارته فيما يُطلب فيه الاحتياط, كالحدود.
- ألا يكون قادرا على الكتابة.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو أشار الأخرس ببيع سلعةٍ, وأشار إلى ثمنها, فقبلها المشتري, فإن البيع يصح وينعقد.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى كعلاقة القاعدة السابقة بها, وذلك أن ذكرها تحت القاعدة الكبرى إما أن يكون من باب التفرع فهي تمثل صورة من صور تحكيم العادة, وهي عمل الناس بإشارة الأخرس, وإما أن يكون من باب المجانسة, لأن الإشارة تشترك مع العادة في أن كلا منهما يؤدي معنى وهو غير لفظٍ.
تنبيه: قد تُعتبر الإشارة من القادر على الكلام, وذلك في موضعين:
- الموضع الأول: أن يكون محل الإشارة مما يسعى الشرع إلى وقوعه وثبوته, كالإسلام, فلو قيل لشخص قادر على الكلام: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ فأشار برأسه (نعم) فإنه يُحكم بإسلامه.
- الموضع الثاني: أن تنضم الإشارة إلى النطق في تفسير لفظ مبهم, كما لو قال رجل لزوجته: أنتِ طالق هكذا, وأشار بأصابعه الثلاث, فإنه يقع الطلاق ثلاثا.
- القاعدة السابعة: المعروف عُرفا كالمشروط شرطا
- القاعدة الثامنة: التعيين بالعُرف كالتعيين بالنص
- القاعدة التاسعة: المعروف بين التجار كالمشروط بينهم
هذه القواعد الثلاث متقاربة المعنى لذلك سيكون الكلام عليها متقاربا من خلال المسائل الآتية:
- المسألة الأولى: معنى هؤلاء القواعد:
أن ما تقرر العمل به بين الناس وأصبح عُرفا فإنه يُراعَى عند الحكم, فيكون بمنزلة الأمر المشروط, أو المنصوص عليه باللفظ.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على هؤلاء القواعد:
أنه قد جرى العُرف عند الناس في حالة التبايع بالسلع التي تحتاج إلى نقل وتركيب أن يكون ذلك على البائع, فيكون هذا العُرف بمنزلة الأمر المشروط في العقد.
- المسألة الثالثة: علاقة القواعد الثلاث بالقاعدة الكبرى:
هؤلاء القواعد الثلاث تفيد كلا منها أن ما جرت به العادة والعُرف عند جميع الناس أو عند طائفة منهم, أمر معتبر, ويكون مرجعا يقوم مقام اللفظ, وهذا هو مضمون القاعدة الكبرى.
- القاعدة العاشرة: لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الأزمان
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: الموقف من نص هذه القاعدة:
لقيت صيغة هذه القاعدة معارضة من بعض الباحثين المعاصرين: فمنهم من رفضها جملةً وتفصيلاً, بناءً على أن أحكام الشريعة لا تتغير بتغير الزمان أو غيره, ولذلك فإن مضمون هذه القاعدة لا يصح, ومنهم من ذهب إلى تقييد مجال إعمال هذه القاعدة بالأحكام الاجتهادية أو المبنية على العُرف والمصلحة, ويمكن الخروج من هذا الإشكال بأمربن:
- الأمر الأول: أن يُفسَر لفظ (الأحكام) في القاعدة بالأحكام المنصوصة المعلَقة – بطريق التعليل- على المصلحة أو العُرف أو العادة.
- الأمر الثاني: أن يُبدَّل لفظ (الأحكام) بلفظ الفتوى أو الاجتهاد, فإنهما يتغيران بتغير الزمان. والأَوْلى أيضا أن نُبدل لفظ (الأزمان) الوارد في نص القاعدة بلفظ (الأحوال) فإن صلة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى لا تتأتى إلا إذا دخل العُرف والعادة في إطلاق القاعدة, ولا يكون ذلك إلا بالتعبير بلفظ (الأحوال).
- المسألة الثانية: معنى القاعدة: أن تبدل الأحكام -بالمعنى السابق- بناءً على تبدل واختلاف الأزمان أمر متقرر,وليس محلا للاعتراض.
- المسألة الثالثة: مجال إعمال هذه القاعدة:
إعمال هذه القاعدة ينحصر في مجال واحد, وهو أن تكون العادة والعُرف مناطا للحكم الشرعي, بأن يتعلق بها, دون أن تكون حكما شرعيا بذاتها, ومثال ذلك: أن ما يُخل بالآداب والمروءات يختلف من زمن لآخر, ومن حال لآخر, فيختلف الحكم باختلاف الأحوال فيها.
- المسألة الرابعة: الفروع المبنية على القاعدة:
لما جرت العادة في زمان أبي حنيفة بأن صبغ الثوب بالسواد يُعد عيبا, أفتى أبو حنيفة بذلك, ولما اختلف عُرف الناس في زمان صاحبيه, وأصبح الصبغ بالسواد حُسنا, أفتى الصاحبان بذلك.
- المسألة الخامسة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة تفيد أن للعادة تأثيرا في اختلاف الحكم, وهذا يتفق مع مضمون ما أفادته القاعدة الكبرى.
القواعد الكلية غير الكبرى
القاعدة الكلية الأولى: التابع تابع
والكلام على هذه القاعدة فى عدة مسائل:
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الشئ إذ كان مرتبطا بغيره على وجه لا يمكن انفكاكه عنه حسا أو معنى, فإنه يُعطَى حكم ذلك المتبوع, سواء أكان ذلك فى الوجود والعدم, أم فى الإثبات والنفى, أم فى السقوط والبطلان.
- المسألة الثانية: أسباب التبعية: حتى تتحقق التبعية فى شئ ما, فإنه لابد من تحقق سبب من الأسباب الآتية:
- السبب الأول: أن يكون الشئ جزءً من من غيره, كالسقف بالنسبة للدار, أو كالجزء منه, كالجنين بالنسبة للأم, أو من ضروراته, كالمفتاح بالنسبة للقفل.
- السبب الثانى: الاتحاد بين الشئ وغيره في الجنس, كالثمار التي من جنس واحد, فإنه يجوز بيعها بعد بدو الصلاح في ثمرة واحدة منها, ويلحق غيرها بها.
- السبب الثالث: الاتصال بين الشئ وغيره مع إرادة البقاء, كالشجرة والبناء بالنسبة للأرض.
- السبب الرابع: تولد الشئ من غيره, كالنتاج بالنسبة للماشية
- السبب الخامس: تميز الشئ عن غيره بقلة أو ضعف, فإن هذا القليل أو الضعيف يتبع الكثير أو القوي في حكمه, كالأنف بالنسبة للجبهة في السجود.
- المسألة الثالثة: الأدلة علي هذه القاعدة: دلّ علي هذه القاعدة أدلة من النص والمعني:
فأما النص: فمنه قوله صلي الله عليه وسلم: ((ذكاة الجنين ذكاة أمه)) {مسند أحمد:٣/٣٩، وأبو داود: ٣/١٠٣، وغيرهما}. ووجه الاستدلال: أن النبي صلي الله عليه وسلم حكم للجنين بحكم أمه, لكونه تابعا لها.
وأما المعني: فإن العقل يقتضي أن وجود أي ارتباط بين شيئين علي وجه يصل إلي عدم الانفكاك بينهما, يلزم منه أن يرتبط أحدهما بالاخر في الحكم.
- المسألة الرابعة: القواعد المتفرعة عن القاعدة, هذه القاعدة ذات معني مجمل, تفصله القواعد المتفرعة عنها, وهي علي النحو الآتي:
- القاعدة الأولي: من ملك شيئا ملك ما هو من ضروراته
- المسألة الأولي: معني القاعدة: أن من حصل له ملك عين أو تصرف فإنه يملك ما هو من لوازم ذلك, بطريق العقل أو العرف.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية علي القاعدة:
لو اشتري شخص أرضا فإنه يدخل فيها ما فوقها وما تحتها, فيحق له أن يبني في فضائها, ويحفر في أعماقها؛ وذلك لأن العلو والسفلي من لوازم الأرض فيتبعانها في الحكم.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بقاعدتها المتفرعة عنها:
هذه القاعدة تفيد أن ما كان من لوازم الشئ فإنه يتبعه في الحكم, وهذا هو ما تفيده القاعدة الكبري من أن التابع يعطي حكم متبوعه.
- القاعدة الثانية: التابع لا يفرد بالحكم
- المسألة الأول:معني القاعدة: أن مايصدق عليه وصف التابع لا يعطي حكما مستقلا, بل يعطي حكم متبوعه في جميع الأحوال. ويجدر التنبيه هنا إلى أن الشيخ الزرقا ذهب إلى تقييد هذه القاعدة بقيدين هما: أن يكون معنى التابع في القاعدة (ما كان جزءا أو كالجزء من غيره), وأن يكون معنى الحكم في القاعدة (العقد). والأَولى أن نقيّد التابع في القاعدة بالذي لا يمكن تمييزه سواء أكان جزءا أو كالجزء أو لم يكن, وسواء أكان التصرف عقدا أم لم يكن.
- المسألة الثانية: الدليل علي هذه القاعدة
دلّ علي هذه القاعدة ما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلي الله عليه وسلم نهي أن يُباع صوف علي ظهر, ولا يباع لبن في ضرع) {ابن أبى شيبة فى مصنفه: ٥/٦٠،وأبو داود فى المراسيل: ص١٦٨،وغيرهما} ووجه الاسيتدلال: أن الصوف واللبن تبع للدابة, ولا يمكن تمييز هذا التابع وهو في هذه الحال, وقد نهي النبي صلي الله عليه وسلم عن بيعهما, فدل علي أن التابع لا يفرد بالحكم
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية علي القاعدة
أن العضو من البهيمة كجلدها إذا كانت حية تابعا لها, فلا يجوز إفراده بالبيع, لأن التابع لا يفرد بالحكم.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بقاعدتها المتفرعة عنها
هذه القاعدة تفيد أن ما كان تابعا لا يستقل بالحكم, بل يجري عليه حكم متبوعه, وهذا يتفق تماما مع ما أفادته القاعدة الكبري
- القاعدة الثالثة: إذا سقط الأصل سقط الفرع
- القاعدة الرابعة: إذا بطل الشئ بطل مافي
هاتان القاعدتان متقاربتان في المعني, لذلك سيكون كلامنا عليهما متقاربا من خلال المسائل الآتيه:
- المسألة الاولي: معني القاعدتين: أن التابع يعطي حكم المتبوع في السقوط والبطلان, فإذا ارتفع حكم المتبوع لأي سبب, استلزم ذلك ارتفاع حكم التابع
- المسألة الثانية الفروع المبنية علي القاعدة:
أنه لا يشرع للحائض بعد الطهر قضاء السنن الرواتب التي فاتتها أيام الحيض, لأن الفرائض الفائتة في ايام الحيض لا يشرع قضاؤها, فكذلك لا يشرع قضاء توابعها, وهي الرواتب
- المسألة الثالثة: الفرق بين التابع والضمني أو المتضمن:
لا يفرق كثير من العلماء بين اللفظين, لكن بتدقيق النظر نلحظ أن بينهما عموم وخصوص مطلق, فالضمني أو المتضمن يقتصر على الحق اللازم من التصرف مما يُعد من ضرورات الشئ, والتابع يشمل هذا ويشمل صورا أخرى مما ذُكر في أسباب التبعية.
- المسألة الرابعة: علاقة هاتين القاعدتين بقاعدتهما المتفرعتين عنها
هاتان القاعدتان تفيدان أن التابع يعطي حكم متبوعه في السقوط والبطلان, وهذا يمثل جزءا مما أفادته القاعدة الكلية
- القاعدة الخامسة: قد يثبت الفرع دون الأصل
- المسألة الاولي: معني القاعدة: أنه قد يحصل أن يثبت التابع أو الفرع مع سقوط المتبوع أو الأصل, وذلك إذا كان الفرع حقا من الحقوق التي توافر لها من الوسائل المثبتة ما لم يتوافر في الأصل.
- المسالة الثانية: الفروع المبنية علي القاعدة
لو أقر زوج بأنه قد خالع زوجته, لكن الزوجة أنكرت حصول المخالعة, فإن البينونة تثبت بين الزوجين وهي الفرع, ولا يثبت العوض الذي هو الأصل في الخلع؛ لأن الوسيلة المثبتة للفرع قد توافرت في جانبه, ولم تتوافر في جانب الأصل,وهذه الوسيلة هي الإقرار الذي يعد حجة قاصرة.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بقاعدتها المتفرعة عنها:
هذه القاعدة تمثل حالة الاستثناء من القاعدتين الثالثة والرابعة, اللتان تفيدان أن الفرع يسقط بسقوط الأصل, فإن هذه القاعدة تشير أن الفرع قد يثبت ولو سقط الأصل
- القاعدة السادسة: يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها
- المسألة الاولي: معني القاعدة:
أنه يتسامح ويتساهل في الأشياء إذا كانت تابعة ما لا يتسامح ويتساهل فيها ما لو كانت متبوعة أو مقصودة في أنفسها
- المسألة الثانية: الفروع المبنية علي القاعدة:
فروع هذه القاعدة يمكن ذكرها من خلال ذكر صور الاغتفار في التوابع, علي النحو الآتي:
- الصورة الأولي: ألا يشترط في التابع ما يشترط في المتبوع, ومثاله: أن المسبوق في صلاة الجمعة إذا أدرك ركعة منها, أدرك الجمعة, ولا يُشترط له العدد, لأنه مدرك للجمعة تبعا, والتابع لا يُشترط فيه ما يُشترط في المتبوع, فيُغتفر فيه ما لا يُغتفر في غيره.
- الصورة الثانية: أن يجوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع, ومثاله: أنه يجوز بيع الحمل مع الأم, لأنه تابع, فيجوز فيه من الغرر ما لا يجوز في المتبوع,فيُغتفر فيه ما لا يُغتفر في غيره.
- الصورة الثالثة: ألا يلزم في التابع من الضمان ما يلزم في المتبوع, ومثاله: لو كُشط جلد المحرم, فزال معه بعض الشعر لم يلزمه الفدية, لأن إزالة الشعر حصلت تبعا لإزالة الجلد, و لا يلزم في التابع من الضمان ما يلزم في المتبوه, فيغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بقاعدتها المتفرعة عنها:
هذه القاعدة استثناء من قاعدة ( التابع تابع )؛ وذلك أن هذه القاعدة تفيد أن التوابع لشدة ارتباطها بمتبوعاتها ينبغي أن يُتساهل ويُتسامح فيها, فلا تأخذ احكام متبوعاتها استقلالا.
القاعدة الكلية الثانية: لا مساغ للاجتهاد في مورد النص
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه لا يجوز ولا يصح الاجتهاد في حكم مسألة ورد بشأنها نص صريح من القرآن أو السنة الصحيحة أو الإجماع الثابت. والمقصود الاجتهاد فى الحكم من حيث ثبوته, ومن حيث دلالته إن كان واضح الدلالة, فأن لم يكن كذلك, أو كان الاجتهاد فى تطبيق النص, لم يدخل تحت المنع الوارد في القاعدة.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة:
لو اجتهد مجتهد وقال: إن المطلقة الرجعية يُشترط رضاها لصحة رجعتها, فإن اجتهاده هذا غير صحيح, وهو محرَّم, ومردود؛ لأنه مخالف لنص شرعي واضح الدلالة, وهو قوله تعالى((وبعولتهن أحق بردهن)) {البقرة: ٢٢٨}.
القاعدة الكلية الثالثة: الاجتهاد لا يُنقض بمثله
- المسألة الأولى: معنى القاعدة:
أنه إذا حصل اجتهاد في حكم شرعي لمسألة من المسائل, وأُمضِي الحكم الذي تضمنه ذلك الاجتهاد, ثم وقعت مسألة أخرى مناظرة لها, فتغير اجتهاد المجتهد سواء أكان هو المفتي نفسه أم غيره إلى حكم مخالف, فإنه لا يصح نقض الاجتهاد السابق بهذا الاجتهاد المخالف.
- المسألة الثانية: ضوابط إعمال هذه القاعدة:
- الضابط الأول: أن يكون الاجتهاد الثاني مساويا للأول, فإذا كان أقوى منه فإنه ينقضه.
- الضابط الثاني: أن يكون الاجتهاد الأول في أحكام قد مضت واستقر العمل بها فتوىً أو قضاءً.
- المسألة الثالثة: الأدلة على القاعدة: دلّ على هذه القاعدة دليلان من النقل والعقل:
فأما النقل فقد أجمع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على عدم مشروعية نقض الاجتهاد السابق, فقد خالف عمر أبا بكر -رضي الله عنهما- في مسائل اجتهادية, ومع ذلك لم ينقض عمر بعد أن ولى الخلافة اجتهاد أبي بكر, وأقره الصحابة على ذلك.
وأما العقل: فلأنه لو ساغ نقض العمل بالتجتهادات فى الفتاوى والأقضية, كلما تغير اجتهاد المجتهد, لما استقر حكم في حادثة؛ لأن الاجتهاد عُرضة للتبدل بتكرير النظر في الأدلة والأمارات.
- المسألة الرابعة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو صلى شخص إلى جهة بناءً على الاجتهاد في القبلة, ثم اجتهد مرة أخرى فتغير اجتهاده, فإنه لا يُحكم على صلاته الأولى بالبطلان؛لأن الاجتهاد لا يُنقض بمثله.
القاعدة الكلية الرابعة: ما حرم أخذه حرم إعطاؤه
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الشئ الذي يحرم على الإنسان أن يأخذه فإنه يحرم على غيره أن يعطيه إياه, سواء أكان هذا الإعطاء على سبيل الابتداء أم على سبيل المقابلة.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة:
قوله تعالى: ((وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)) {المائدة: ٢}. ووجه الاستدلال: أن إعطاء الشئ المحرم يُعد إعانة على الإثم, وقد نصت الآية على تحريمه.
وقوله «صلى الله عليه وسلم»: ((لعن الله (آكل الربا, وموكله)) {مسلم: ٣/١٢١٨}. ووجه الاستدلال: أنه قد ورد في هذا الحديث لعن آكل الربا ومعطيه وهذا صريح في أن ما حرم أخذه حرم إعطاؤه.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
أن من المتقرر شرعا أن المال الذي يُدفع في الرشوة يُحرم أخذه, فكذلك يُحرم إعطاؤه.
تنبيه: يُستثنى من هذه القاعدة بعض الصور التي يكون فيها الأخذ محرما إلا أن العطاء لا يكون كذلك, وهذا يكون عند الضرورة, كما لو اضطر السلطان دفع مال للهجائين, للتخلص من أذى ألسنتهم, فإنه يحرم عليهم الأخذ, ويجوز له العطاء.
القاعدة الكلية الخامسة: إن تعذر الأصل يُصار إلى البدل
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه يجب على المكلَّف أداء الأصل ابتداءً, لكن لو تعذر الأصل وجب الانتقال إلى البدل, سواء أكان البدل حقيقيا أم حكميا.
- المسالة الثانية: الأدلة على هذه القاعدة:
يمكن أن يُستدل على هذه القاعدة بالأدلة الواردة في القرآن والسنة الدالة على مشروعية الانتقال إلى الأبدال عند تعذر المُبدلات, منها: قوله تعالى: ((فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيبا)) {النساء: ٤٣}.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
أن الأصل في حق المكلف القادر أن يصوم رمضان, لكن لو تعذر ذلك بسبب العجز للكبر, فإنه يُشرع الانتقال إلى بدله وهو الإطعام.
- المسألة الرابعة: وقفات متعلقة بالبدل:
- الوقفة الأولى: وقت الانتقال إلى البدل: لا يخلو البدل هنا من ثلاث حالات:
- الحالة الأولى: أن يتعلق الأصل بوقتٍ يفوت بفواته, فيُشرع الانتقال إلى البدل مباشرة, ولو كان يُرجى حصول الأصل, كمن دخل عليه وقت الصلاة ولم يجد الماء, فيتيمم, وإن كان يرجو القدرة على الماء.
- الحالة الثانية: ألا يتعلق الأصل بوقت يفوت بفواته, ولا ضرر في تأخيره, فلا يُشرع الانتقال إلى البدل, إذا كان يُرجى حصول الأصل, كمن يرجو وجود ماله الغائب, ليشتري به رقبة في كفارة القتل أو اليمين.
- الحالة الثالثة: ألا يتعلق الأصل بوقت يفوت بفواته ,وفي تأخيره ضرر, فهذا فيه خلاف, والراجح أنه يُنظر إلى مدى تحمله للضرر, كمن ينتظر وجود ماله الغائب ليشتري به رقبة في كفارة الظهار.
- الوقفة الثانية: القدرة على الأصل بعد الشروع في البدل, فهل ينتقل إلى الأصل أو يستمر في البدل؟ لا يخلو الأمر من حالتين:
- الحالة الأولى: أن يكون البدل مقصودا في نفسه, فهذا يُشرع له الاستمرار في البدل, كمن قدر على العتق في أثناء الصوم, فيُتم صومه.
- الحالة الثانية: أن يكون البدل مقصودا لغيره, فيلزمه العودة للأصل,كما لو قدر على الماء أثناء التيمم,أو بعده وقبل الشروع في الصلاة.
- الوقفة الثالثة: الفرق بين البدل والتابع: يجتمعان في أن لكل منهما حكم أصله, ويفترقان في أمور منها:
- أن البدل والمبدَل لا يجتمعان, بخلاف التابع مع متبوعه.
- أن ثبوت البدل مشروط بعدم المبدَل, بينما ثبوت التابع مشروط بثبوت المتبوع.
- أن البدل يقوم مقام المبدَل, بينما التابع لا يقوم مقام المتبوع.
القاعدة الكلية السادسة: التصرف على الرعية منوط بالمصلحة
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن مقتضى الولاية على الرعية أن تكون محققة للمصلحة الدينية أو الدنيوية لهم, ولذلك فإن ما يترتب على هذه الولاية غير لازم لهم, ما لم يكن محققا لتلك المصلحة.
- المسألة الثانية: الأدلة على هذه القاعدة:
قوله تعالى: ((ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن)) {الأنعام: ١٥٢}. ووجه الاستدلال: أن الله تعالى قد أباح لولي اليتيم التصرف في ماله بما فيه صلاحه, مما يدل على أن تصرف الوالي ينبغي أن يكون محقِّقا للمصلحة.
وقد وردت جملة من الأحاديث التي تفيد التحذير من غش الرعية وعدم النصح لهم, منها: قوله «صلى الله عليه وسلم»: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة)) {البخارى: ٢٦١٤}. وهذا يعني وجوب العمل على ما يحقق مصالحهم.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
أن مصلحة الرعية تقتضي أن يُعين الوالي لإمامة الصلاة بهم إماما عدلا, ولا يجوز تعين فاسق؛ لأن الصلاة خلف الفاسق مكروهة, ولا مصلحة في ذلك.
القاعدة الكبرى السابعة: الخراج بالضمان
- المسألة الأولى: معنى القاعدة:
المراد بلفظ (الخراج): المنافع المنفصلة التي تحصل من الشئ, وهى مستندة إلى سبب مشروع, وأما لفظ (الضمان) فمعناه: الالتزام بالتعويض, وتحمُّل تبعة الشئ, وعلى هذا فيكون معنى القاعدة: أن استحقاق تلك المنافع يكون لمن يتحمل تلك التبعة.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة:
ما روى عن عائشة «رضى الله عنها» أن رجلا اشترى عبدا فاستغله, ثم ظهر منه عيب, فخاصم فيه إلى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فقضى له بردّه, فقال البائع: يا رسول الله إنه قد أخذ خراجه. فقال رسول الله «صلى الله عليه وسلم» : (الخراج بالضمان) {مسند أحمد٦/٢٣٧, وسنن أبي داوود ٣/٢٨٤}. وهذا الحديث نص في القاعدة, فقد جعل النبي «صلى الله عليه وسلم» المنفعة التي استفادها المشتري من العبد في مقابل ضمانه له لو تلف عنده.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
لو اشترى شخص سيارة, ثم استعملها لعدة أيام, وكسب من وراء ذلك مالا, ثم وجد بها عيبا فأراد ردَّها للبائع, فإن ما حصل من السيارة من منفعة لا يحق للبائع المطالبة بعوض عنه؛ لأنه خراج, فيكون للمشتري مقابل ضمانه للسيارة.
- المسألة الرابعة: شروط إعمال هذه القاعدة:
- الشرط الأول: أن تكون المنفعة منفصلة غير متولدة من الأصل. فإن كانت متصلة كلبن الدابة, أو كانت منفصلة ومتولدة من الأصل كولد الدابة, فإنها تكون لمالك الأصل.
- الشرط الثاني: أن تكون المنفعة مستندة إلى سبب مشروع, كالشراء مثلا. فإن كانت بسببٍ غير مشروع, كالغصب مثلا, فإنها لا تُباح للغاصب.
القاعدة الكلية الثامنة: الغُرْم بالغُنْم
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن ما يلزم المرء من تبعات شئ مطلوب له تكون في مقابل حصول منافع ذلك الشئ.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة:
قوله تعالى ((والوالدات يُرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يُتم الرضاعة)) {البقرة: }, ووجه الاستدلال منه: أن الله تعالى قد جعل إرضاع الوالدات سواء كنّ زوجات أم مطلقات –وهو غُرم- في مقابل رزقهن وكسوتهن –وهو غُنم- فدل على أن الغُرم بالغُنم.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
أن أجرة كتابة صك عقد المبايعة تكون على المشتري؛ لأنه المنتفع به, فأجرة الكتابة هنا غُرم, والانتفاع غُنم, وقد تقرر أن الغُرم بالغُنم.
- المسألة الرابعة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة السابعة:
هذه القاعدة تفيد عكس ما أفادته القاعدة السابعة, فقاعدة (الخراج بالضمان) أفادت أن المنفعة التي يحصل عليها الشخص تكون في مقابل تحمله تبعات ذلك الشئ, وهذه القاعدة أفادت أن تحمله تبعات الشئ تكون في مقابل ما يحصل منه من منفعة.
القاعدة الكلية التاسعة: الجواز الشرعي ينافي الضمان
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن التصرف المباح شرعا (وهو المقصود بالجواز الشرعي) إذا ترتب عليه إتلاف, فإن هذا الإتلاف لا يكون مضمونا.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة: يمكن أن يُستدل هلذه القاعدة بدليلين:
- أحدهما من المعنى, وحاصله : أن اتصاف الشئ بالجواز في حكم الشرع يمنع من وصفه بالتعدي, وإذا امتنع وصفه بالتعدي, امتنع ترتب الضمان عليه.
- وثانيهما: أنه يمكن أن يُستدل لبعض صور القاعدة التي يكون الفاعل فيها مُحسنا بقوله تعالى: ((ما على المحسنين من سبيل)) {التوبة:٩١}, فمن أحسن على غيره, ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف, لم يضمنه.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة:
لوحفر شخص حفرة في ملكه, أو في الطريق العام بإذن ولي الأمر, فسقط فيها إنسان أو حيوان, وحصل له تلف, فإنه لا ضمان عليه؛ لأن فعله هذا جائز شرعا, والجواز الشرعي ينافي الضمان.
- المسألة الرابعة: شروط إعمال هذه القاعدة:
- الشرط الأول: ألا يكون التصرف المباح مقيدا بشرط السلامة.
- الشرط الثاني: ألا يكون عبارة عن إتلاف مال غيره لأجل نفسه, في حال الضرورة.
القاعدة الكلية العاشرة: لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذن
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه لا يحل لأحد ولا يصح منه أن يتصرف في ملك غيره تصرفا بدون إذنٍ من المالك أو من الشرع.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة:
يمكن أن يُستدل لهذه القاعدة بأدلة الشرع العامة الدالة على اشتراط الرضا في العقود ونحوها, كقوله تعالى: ((يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم)) {النساء: ٢٩} , ووجه الدلالة: أن التصرف العاري من الإذن يُعد خاليا من الرضا, وقد دلّت الآية على أنه لا يحل به المال, فيكون التصرف العارى من الإذن كذلك.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
لو أخذ شخص سيارة غيره بدون إذنه, واستعملها, فإن تصرفه لا يجوز, فلو تلفت السيارة, وجب عليه الضمان.
القاعدة الكلية الحادية عشرة: يُضاف الفعل إلى الفاعل لا الآمر مالم يكن مجبرا
- المسألة الأولى: معنى القاعدة
أن الفعل الذي هو عبارة عن تعَدٍ على الغير إذا كان بأمر من أحد, فإن حكم هذا الفعل يُنسب إلى فاعله دون الآمر به, إلا إذا كان الآمر مُكرِها للفاعل, فيُنسب حكم الفعل إلى الآمر.
- المسألة الثانية: الدليل على هذه القاعدة
قوله تعالى: ((لا يُكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)) {البقرة:٢٨٦} ووجه الاستدلال: أن الله تعالى بيّن أن التكليف يحصل بما كان في مقدور المكلَف, ولذلك فإنه يكون مسئولا عنه, فما كان خارجا عن مقدوره, فلا يكون مسئولا عنه.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
لو أمر شخص آخر أن يحفر حفرة فى الطريق العام , ففعل, فوقع فيها إنسان أو دابة, فإن الضمان يكون على الفاعل دون الآمر, فإن كان الآمر هو السلطان, كان عليه الضمان, لأنه فى حكم المُجْبِر.
القاعدة الكلية الثانية عشرة: الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الأمر الثابت بالبينة الشرعية, كالشهود العدول, يُعطَى حكم الثابت بمشاهدة العين.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة
لو شهد الشهود بحصول المبايعة لسلعة ما بين شخصين, فإن ملكية تلك السلعة تثبت للمشتري, ويكون ثبوت ذلك بالشهادة بمنزلة ثبوته بالمعاينة.
تنبيه: يترتب على إعطاء الثابت بالبرهان حكم الثابت بالعيان ثلاثة أمور:
- ألا يُقبَل من المدعَى عليه إنكارٌ بعد ذلك الثبوت.
- ألا يُسمع من المدعَى عليه ادعاءٌ بخلاف ذلك الثبوت.
- أن يَسري الاثبات بالبرهان على غير حكم المقضي عليه من ذوي العلاقة, فيثبت الحكم بالنسبة إليهم أيضا.
تنبيه آخر: يختلف الثابت بالبرهان عن الثابت بالعيان في شئ واحد وهو: أن الأول يمكن سماع الدعوى التي بخلافه, أما الآخر فلا تُسمع الدعوى التي بخلافه.
القاعدة الكلية الثالثة عشرة: إعمال الكلام أَوْلى من إهماله
- المسألة الأولى: مكانة هذه القاعدة وأهميتها:
هذه القاعدة ذات مكانة عظيمة, ويتفرع عنها كثير من الفروع الفقهية, وهى تقرب من القواعد الكبرى حيث إنها محل اتفاق بين العلماء في الجملة, وتدخل غالب أبواب الفقه.
- المسألة الثانية: معنى القاعدة:
أن الكلام إذا أمكن حمله على معنى من المعاني بحيث يكون له ثمرة, وأمكن حمله على معنى آخر بحيث لا يكون له ثمرة, فإن حمله على المعنى الذي له ثمرة أَوْلى.
- المسألة الثالثة: الدليل على هذه القاعدة:
يمكن أن يُستدل لها بدليل عقلي حاصله: أن إهمال الكلام يجعله لغوا, وكلام العاقل يُصان عن اللغو ما أمكن ذلك, وصون الكلام عن اللغو يحصل بإعماله, وعدم إهماله.
- المسألة الرابعة: القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة: تفرع عن هذه القاعدة عدد من القواعد, منها:
- القاعدة الأولى: الأصل في الكلام الحقيقة
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الراجح أو الغالب في الكلام إذا تردد بين الحقيقة والمجاز أن يُحمل على الحقيقة؛ لأنها هى الأصل.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة
لو قال شخص لآخر: وهبتك هذا الشئ, ثم طالبه بعد ذلك بقيمته, بحجة أنه أراد بلفظ الهبة البيع؛ لم تصح هذه المطالبة؛ لأن الهبة حقيقة فيما كان بغير عوض, والأصل فى الكلام الحقيقة.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة ترسم منهجا من مناهج إعمال الكلام, وذلك انه إذا أمكن إعمال الكلام على وجه الحقيقة وعلى وجه المجاز, فإن الراجح إعماله على وجه الحقيقة.
- المسألة الرابعة: فرَّع بعض العلماء هذه القاعدة على قاعدة (اليقين لا يزول بالشك), ووجه تفريعها عليها: أن إرادة المعنى الحقيقي في كلام المتكلم أمر متيقن, وإرادة المعنى المجازي أمر مشكوك فيه, والحمل على اليقين أَوْلى.
- القاعدة الثانية: إذا تعذرت الحقيقة يُصار إلى المجاز
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز ولم يمكن حمله على حقيقته, فإنه يُحمل على مجازه.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على هذه القاعدة: يمكن ذكرها من خلال ذكر أوجه تعذر الحقيقة, وهى ثلاثة أوجه:
- الوجه الأول: التعذر الحقيقي, وله صورتان:
الصورة الأولى: أن تكون إرادة المعنى الحقيقي ممتنعة, ومثالها: ما لو وقف شخص شيئا على (أولاده), ولم يكن له أولادا, ولكن له (أولاد أولاد), فإن الوقف يكون لهم؛ لأن لفظ (الولد) حقيقة في الولد المباشر , وهو ممتنع هنا, فيُحمل على مجازه, وهو الولد غير المباشر.
الصورة الثانية: أن تكون إرادة المعنى الحقيقي ممكنة ولكن بمشقة, ومثالها: ما لو حلف شخص على الأكل من هذه الشجرة, فإن ذلك حقيقة في الأكل من خشبها وأوراقها, وهذا ممكن ولكن بمشقة, فيُصار إلى المجاز, وهو الثمر, فلا يحنث إلا إذا أكل منه.
- الوجه الثاني: التعذر العُرفي, وذلك بأن يكون العُرف هو الذي أدّى إلى هُجران الحقيقة, ومثاله: ما لو حلف شخص ألا يضع قدمه في دار فلان, فإن ذلك حقيقة في وضع الجزء المعروف من الجسم فقط, ومجاز في الدخول عليه في بيته, وقد دل العُرف على عدم إرادة المعنى الحقيقي, فيُحمل الكلام على مجازه.
- الوجه الثالث: التعذر الشرعي, وذلك بأن يكون الشرع هو الذي أدّى إلى هُجران الحقيقة, ومثاله: ما لو وكّل شخص آخر بالخصومة, فإن الخصومة حقيقة في المنازعة, ومجاز في المرافعة, وقد دل الشرع على عدم إرادة المعنى الحقيقي, فيُحمل الكلام على مجازه.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة ترسم منهجا آخر من مناهج إعمال الكلام؛ وذلك بالانتقال من الحقيقة إلى المجاز عند تعذرها.
- القاعدة الثالثة: المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصا أو دلالة
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: إذا وُجد كلام خالٍ من القيود, فإنه يُعمل به على إطلاقه, فإذا قام الدليل على تقييده, يُعمل به مقيدا, سواء أكان التقييد بطريق اللفظ أم بطريق الدلالة.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة: يمكن ذكرها من خلال ذكر حالات القاعدة,وهى لا تخلو من ثلاث حالات:
- الحالة الأولى: إجراء المطلق على إطلاقه, ومثالها: لو وكَّل شخص آخر بقوله: اشتر لي سيارة, فاشترى له سيارة بيضاء, فقال الموكل: أردتها حمراء, فإنه لايقبل كلامه هنا, لأن توكيله مطلق, والمطلق يُجرى على إطلاقه.
- الحالة الثانية: تقييد المطلق نصا, ومثالها: لو وكَّل شخص آخر بقوله: اشتر لى سيارة سوداء, فاشترى له سيارة خضراء, فإنه لا يلزم الموكل قبولها, لأنه قد قام التقييد نصا, فلا يكون الكلام مطلقا.
- الحالة الثالثة: تقييد المطلق دلالة, ومثالها: لو كان هناك شخص يعمل في حمل الأمتعة, فوكّل صديقا له أن يشتري له سيارة, فاشترى له سيارة صغيرة لا تصلح لحمل الأمتعة, فإنه لا يلزم الموكل قبول السيارة؛ لأنه قد قام التقييد دلالة, المتمثل في حال الموكل.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبرى:
هذه القاعدة ترسم منهجا من مناهج إعمال الكلام؛ وذلك أن الكلام إذا كان مطلقا, فإنه يُعمل به على الإطلاق, وإذا كان مقيدا فإنه يُعمل به على التقييد.
- القاعدة الرابعة: ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله
- المسألة الأولي: هذا هو نص القاعدة عند ابن نجيم وفي مجلة الاحكام العدلية, وقد ذكرها غيرهم بألفاظ مختلفة, لكن بنفس المعني.
- المسألة الثانية: معني القاعدة: أن ما لا يقبل التجزئة يكون ذكر البعض منه قائما مقام ذكر الكل,من جهة ما يترتب علي الكل من أحكام.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية علي القاعدة:
لو عفا بعض أولياء الدم عن حقهم من القصاص, فإن القصاص يسقط كله؛ لأن القصاص حق لا يتجزأ, فيكون إسقاط بعضه كإسقاط كله.
- المسألة الرابعة: علاقة هذ القاعدة بالقاعدة الكبري
هذه القاعدة ترسم منهجا من مناهج إعمال الكلام واجتناب إهماله, بتنزيل بعض ما لا يتجزأ منزلة الكل فيما يترتب عليه من أحكام .
- المسألة الخامسة: تنبيهان متعلقان بهذه القاعدة:
- التنبيه الأول: هذه القاعدة متعلقة بما لا يقبل التجزأة, أما مايقبل التجزأة فيكون للبعض منه حكم خاص, كما أن للكل حكما خاصا.
- التنبيه الثاني: ذكر بعض العلماء أن الجزأ لا يزيد علي الكل في الحكم إلا في مسائل قليلة, منها: لو قال رجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي, فهذا ظهار صريح, ولو قال انت علي كأمي, لم يكن صريحا, بل هو كناية عن الاحترام مثلا, ولا يقع ظهارا إلا إذا نواه.
- القاعدة الخامسة: الوصف في الحاضر لغو وفي الغائب معتبر
- المسألة الأولي: معني القاعدة
هذه القاعدة تتعلق في أغلب أحوالها بالعقود, لذلك يكون معناها: أن المعقود عليه إما أن يكون حاضرا في مجلس العقد, وإما أن يكون غائبا, فإن كان حاضرا ووُصِف بوصف ما فإن الوصف في هذه الحالة لا أثر له في الحكم, والمعتبر هنا هو التعيين بالإشارة, وأما إن كان المعقود عليه غائبا, فإن الوصف في هذه الحالة معتبر.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية علي القاعدة: يمكن ذكرها من خلال ذكر حالات هذه القاعدة, وهى لا تخلو من حالتين:
- الحالة الأولى: إلغاء الوصف في الحاضر, ومن أمثلة هذه الحالة: لو كان عند شخص سيارة سوداء حاضرة في مجلس العقد, فقال للمشتري بعتك سيارتي هذه الخضراء, فإن العقد يصح على السيارة السوداء؛ بناءً على الإشارة, والوصف في الحاضر لغو.
- الحالة الثانية: اعتبار الوصف في الغائب, ومن أمثلتها: لو كان عند شخص سيارة, وهى غائبة عن مجلس العقد, فقال للمشتري: بعتك سيارتي السوداء اللون, فإننا ننظر: إن طابق الوصف الواقع صح العقد, وإن خالفه لم يصح.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبري
هذه القاعدة ترسم منهجا من مناهج إعمال الكلام, واجتناب إهماله؛ فإلغاء الوصف في الحاضر واعتباره في الغائب مما يؤدي إلى ذلك.
- القاعدة السادسة: السؤال معاد في الجواب
- المسألة الأولي: معني القاعدة: أن السؤال -ويشمل الاستفهام والطلب- إذا أتي بعده جواب, فإن مضمون السؤال يكون مكررا في الجواب.
- المسألة الثانية: أمثلة للفروع المبنية علي القاعدة: لو قيل لرجل: هل طلقت زوجتك؟, فقال: نعم, كان هذا إقرارا منه بالطلاق؛ لأن السؤال معاد في الجواب, فكأنه قال: نعم طلقت زوجتي.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبري: هذه القاعدة ترسم منهجا من مناهج إعمال الكلام, واجتناب إهماله؛ لأنه إذا اعتُبر الجواب بمفرده لم يكن للكلام فائدة, فإذا أعيد السؤال في الجواب كان للكلام فائدة.
- القاعدة السابعة: إذا تعذر إعمال الكلام
- المسألة الاولي: معني القاعدة: أنه إذا استحال حمل الكلام علي معني صحيح, فإن الكلام حينئذ يعد لغوا, فلا يعتد به.
- المسألة الثانية: أمثلة للفروع المبنية علي هذه القاعدة: يمكن ذكرها من خلال ذكر أسباب تعذر إعمال الكلام, وأهمها سببان:
- السبب الأول: معارضة الكلام للواقع, ومثاله: لو أقر شخص أنه قطع يد شخص آخر, فلما نظرنا وجدنا أن يد ذلك الشخص سليمة, فإن هذا الإقرار يعد لغوا, لتعذر إعماله.
- السبب الثاني: أن يكون اللفظ مشتركا بين معنيين, ولا مُرجِّح لأحدهما, ومثاله: لو كفل شخص أخر, ولم يبن نوع الكفالة: هل هى كفالة نفس أو كفالة مال؟ فإن كلامه يهمل, لأن لفظ (الكفالة) مشترك بين معنيين, ولا مُرجح لأحدهما.
- المسألة الثالثة: علاقة هذه القاعدة بالقاعدة الكبري
أن القاعدة الكبري مقيدة بما إذا كان الإعمال ممكنا, فإذا كان الإعمال غير ممكن فإن الكلام يهمل, وهذا ما أفادته هذه القاعدة.
القاعدة الكلية الرابعة عشرة: الساقط لا يعود
- المسألة الأولى: معنى القاعدة:
إذا سقط حق بإسقاط صاحبه له, أو بإسقاط الشرع له, فإنه يصبح كالمعدوم, فلا يتمكن من إرجاعه.
- المسألة الثانية: ما يجري فيه الإسقاط: الإسقاط يجري في الحقوق الخالصة للعباد بشرط كونها حقوقا اختيارية, كحق الخيار, وحق الشفعة ونحوهما, ومعنى هذا أن الإسقاط لا يجري في الأعيان, ولا في الحقوق التي تنتقل جبرا, كالحق فى الإرث, ولا في الحقوق الخالصة لله تعالى, كالحق في حد الزنا ونحوه.
- المسألة الثالثة: أمثلة للفروع المبنية على القاعدة
لو أن الشفيع أسقط حقه في الشفعة, فإنه ليس له الحق في المطالبة بها بعد ذلك؛ لأن الساقط لا يعود.
القاعدة الكلية الخامسة عشرة: تبدل سبب المِلك قائم مقام تبدل الذات
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن تغير سبب تملك الإنسان لشئ يُنزَّل منزلة تغير ذات ذلك الشئ, فتُعطَى الذات حكما غير حكمها الأول.
- المسألة الثانية: دليل هذه القاعدة
ما ورد أن بريرة «رضي الله عنها» أهدت عائشة «رضي الله عنها» لحما, فقال النبى»صلى الله عليه وسلم»: ((لو صنعتم لنا من هذا اللحم)), فقالت عائشة: تُصُدِق به على بريرة , فقال رسول الله»صلى الله عليه وسلم»: ((هو لها صدقة, ولنا هدية)) {البخاري ٢/٩١١,ومسلم ٢/٧٥٦} ,ووجه الدلالة منه: أن تبدل سبب المِلك من الصدقة إلى الهدية قام مقام تبدّل ذات اللحم.
- المسألة الرابعة: الفروع المبنية على هذه القاعدة
لو أن شخصا تصدق على قريب له, ثم مات هذا القريب بعد ذلك, وعاد المال إلى المتصدق, فإنه يملكه, وإن كان هو عين ما بذل؛ لأن سبب الملك قد تبدل.
- المسألة الخامسة: شروط إعمال هذه القاعدة:
- الشرط الأول: ألا يحصل المقصود مع اختلاف الأسباب؛ لأنه إذا حصل المقصود لم يعد لاختلاف الأسباب أثر, ويحدث ذلك عندما يتغيّر العاقدان لهذه الأسباب المختلفة, ومثال هذا: لو أن امرأة قبضت نصف مهرها, فوهبته مع النصف الآخر لزوجها, ثم طلقها زوجها قبل الدخول, فإن الأصل أن يسترد الزوج نصف ما دفعه لزوجته؛ ولكنه هنا لا يأخذ شيئا؛ لأن المقصود قد حصل باسترجاعه بطريق الهبة.
- الشرط الثاني: أن يكون السبب المتبدل مشروعا في الأصل, ومن أمثلة هذا: لو سرق شخص مال آخر, ثم وهبه لشخص آخر, فإن تبدل السبب هنا من كونه سرقة إلى كونه هبة لا يقوم مقام تبدل ذات الشئ, بل يبقى موصوفا بأنه مسروق.
القاعدة الكلية السادسة عشرة: ما ثبت بالشرع مقدم على ما ثبت بالشرط
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أنه إذا ثبت أمر بطريق الشرع, واشترط الإنسان أمرا يناقض ما ثبت بالشرع, فإن المعتبر هو الثابت بالشرع.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة
قوله «صلى الله عليه وسلم» : ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) {مسند أحمد ٧/٤٦,وابن ماجة:٢/٨٤٣} , ووجه الدلالة منه: أنه دل على أن الشرط المتضمن مخالفة ما ورد في الكتاب والسنة فهو غير معتد به.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
لو أحرم شخص بالحج عن غيره, وهذا الشخص لم يحج حجة الإسلام, فإن إحرامه بالحج يكون حجة الإسلام؛ لأنها ثابتة بالشرع, وحجه عن غيره ثابت بالشرط, وما ثبت بالشرع مقدم على ما ثبت بالشرط.
القاعدة الكلية السابعة عشرة: المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط
- المسألة الأولى: معنى القاعدة: أن الأمر المعلق على شرط يكون معدوما قبل حصول شرطه, ويكون متحققا عند تحقق شرطه.
- المسألة الثانية: الفروع المبنية على القاعدة
لو قال رجل لزوجته إن خرجتِ من البيت بغير إذني فأنتِ طالق, فإن الطلاق يقع عند ثبوت الشرط, فإذا لم تخرج لم يقع الطلاق.
القاعدة الكلية الثامنة عشرة: يلزم مراعاة الشرط بقدر الإمكان
- المسألة الأولى: معنى القاعدة
أنه يجب الوفاء بالشرط بالقدر الذي تسمح به قواعد الشريعة, فإن كان الشرط جائزا لزم الوفاء به, وهو ما تتعلق به هذه القاعدة, وإن كان الشرط فاسدا لم يلزم الوفاء به.
- المسألة الثانية: الدليل على القاعدة
قوله «صلى الله عليه وسلم»: ((المسلمون على شروطهم, إلا شرطا أحل حراما أو حرّم حلالا)) {الدار قطني في سننه: ٣/٢٧,والحاكم: ٢/٥٠} ووجه الدلالة منه: أن النبي «صلى الله عليه وسلم» بيّن أنه يلزم الوفاء بالشروط, إلا ما كان مخالفا للشرع.
- المسألة الثالثة: الفروع المبنية على القاعدة
- مثال الشرط الجائز: لو اشترى شخص سلعة,واشترط على البائع حملها, فإن الشرط صحيح, ويجب الوفاء به بقدر الإمكان.
- ومثال الشرط الفاسد: لو باع شخص سلعة, واشترط على المشتري أن يبيعه سلعة أخرى, فهذا شرط فاسد,و مفسد للعقد.
- ومثال الشرط اللغو: لو باع شخص سلعة, واشترط على المشتري ألا يتصرف فيها, فالشرط لغو, والعقد صحيح.
تم بحمد الله اختصار كتاب الممتع فى القواعد الفقهية