الأربعون النووية
للإمام محيي الدين النووي
المتوفى سنة 676
بشرح فضيلة الشيخ علي بن عبد الله النمي
تفريغ: القسم العلمي بمؤسسة ينابيع العلم
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
أيها الأحبة: إن من أفضل ما يقضي المسلم فيه أوقاته هو طلب العلم.
﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ﴾. [سورة الزمر: 9] ﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا﴾. [سورة طه: 114]، وقال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن حميد عن معاوية رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". وأفضل وأولى ما يقضي فيه المسلم وقته في طلب العلم: أن يَنْكَبّ على كتاب الله وعلى سنة رسول الله ﷺ؛ يقرأ، ويتفهم، ويستشرح، ويتعلم، ويتعرف على المعاني والأحكام، التي في الكتاب وفي السنة، ويبدأ طالب العلم بالكتب والمتون المختصرة، وخاصة أن يبدأ بعد كتاب الله جل وعلا بالسنة، بالحديث النبوي، ويبدأ بالأربعين النووية، لماذا؟ لأنها جُمِعَتْ هذه الأحاديث، وتُقُصِّد أن تكون الأحاديث الكليات والأصول الجوامع، فأحاديث الأربعين النووية أحاديث كلية وأصول جامعة، وعليها مدار الدين وأصول الإسلام وأصول الأحاديث، وعليها مدار الفقه فهي أحاديث عظيمة، ولهذا فإن الإمام أبو داود حين قال: إنني نظرت في الأحاديث المسندة، فإذا هي - يعني المنتخبة – وإذا هي ترجع إلى أربعة أحاديث، وذكر حديث: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"، وحديث: "الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ"، وحديث: "إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا"، وحديث: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"، وجاء عنه أيضًا روايات أخرى تختلف في بعض الأحاديث، المهم أن هذه الأحاديث التي هي الأربعين هي أحاديث كلية جامعة، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: أصول الإسلام، وقال: أصول الأحاديث ترجع إلى ثلاثة أحاديث؛ حديث: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"، وحديث: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"، وحديث: "الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ"، وكلها من أحاديث الأربعين، وقال إسحاق بن راهويه نحو هذا، وزاد حديث: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً"، وهكذا جاء عن أبي عبيد أنه قال: جمع النبي ﷺ أمور الآخرة في حديث: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"، وجمع أمور الدنيا في حديث: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
فالمقصود أيها الإخوة: أن أحاديث الأربعين النووية أحاديث كلية، وهي أحاديث مهمة جدًّا، يبدأ طالب العلم بحفظها واستشراحها، وأن يتفهمها، ولذلك إذا قلنا هي أحاديث كلية، وأحاديث جامعة، فمعنى ذلك لا يمكن في دورة، ولا يمكن في كتاب: أن يجمع شتات مسائل هذه الأحاديث، ولكن تأتي الإشارة إلى أصول المسائل التي ترجع إلى هذه الأربعين.
النبي ﷺ ثبت عنه في حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين أنه قال: "أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ"، ومعنى جوامع الكلم هو أن الألفاظ تكون موجزة، والعبارة تكون قصيرة، مختصرة، والكلمات قليلة، ولكن المعاني واسعة، فالحديث الواحد من هذه الأحاديث الجوامع تجد متنه مختصرًا، وسياقه قصيرًا، وألفاظه قليلة، ولكنه واسع المعاني، بحر، يضم معاني كثيرة.
وجاء عند أبي يعلى من حديث عمر بن الخطاب، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس، أن النبي ﷺ قال – واللفظ لابن عباس -: "اخْتُصِرَ لِيَ الحَدِيثُ اخْتِصَارًا"؛ فلذلك ينبغي على طالب العلم أن يبدأ، ويجتهد في مثل هذه الأحاديث التي تعتبر جوامع وكليات.
هذا، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أملاه: علي بن عبد الله النمي
الحديث الأول
عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَـرَ إِلَيْهِ". (رواه إماما المحدّثين: أبو عبد الله محمـد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رضي الله عنهما في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة).
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"، هذا الحديث متفق عليه، قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا الحميدي أبو بكر عبد الله بن الزبير، قال: حدثنا سفيان - يعني ابن عيينة -، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذا الحديث حديث غريب، كيف معنى غريب؟ من يعرف يا إخوان: ايش معنى غريب؟
يعني: ما انفرد به في طبقة من طبقات الإسناد شخص واحد، وهذا الحديث في كثير من طبقاته انفرد بها واحد، يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يشاركه أحد من الصحابة، وهكذا من دونه إلى سفيان بن عيينة، هو الذي شاركه عدد كبير، وجم غفير، هذا الحديث متفق على جلالته، وأخرجه أهل التصانيف، وذكروه في أبوابهم، سواء من أَلَّف في التوحيد، أو من أَلَّف في الفقه، فهو حديث عظيم متفق على صحته، ومع ذلك هو حديث غريب، وهذا يؤخذ منه أنه ليس كل ما كان الحديث غريبًا فهو ضعيف، لا، وقد ينفرد ثقة بحديث، وقد ينفرد ثقة بزيادة، وكلها تعتبر غريبة، لكن الأرجح في مثل هذا أن يقال: هناك من يُحتَمَلّ تَفَرُّدُه، فإذا انفرد عن غيره من الثقات، سواء بزيادة أو بمتن، فإنه يُقْبَل هذا التفرد، لماذا؟ لأن هذا المُتَفَرِّد مقبول انفراده؛ لأنه جمع مواصفات المُحَدِّث: الثقة، والحفظ، وغير ذلك ..
أما هناك من قد ينفرد بحديث أو بزيادة، ومع ذلك ترد عليه هذه الزيادة، وربما يُتوَقَّف في حديثه، أو يُرَدّ، لماذا؟ لأنه ليس أهلًا أن ينفرد عن الثقات في مثل هذا الحديث، أو بمثل هذه الزيادة، أو يخالف من هو أوثق منه، أو يخالف الجمع الثقات، فلذلك يُنْتَبَه لمثل هذا الأمر.
وحديث: إنما الأعمال بالنيات، حديث عظيم.
قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: إنه ينبغي على من صنف أن يجعل هذا الحديث في كل باب، وقال الشافعي رحمه الله: إن هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا، والمقصود به ليس العدد، وإنما القصد به الكثرة، المهم أن هذا الحديث يدخل في أبواب الفقه، بل ويدخل في أبواب التوحيد، فيُنْتَبَه إلى أن هذا الحديث حديث عظيم.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"؛ يعني إنما الأعمال مقبولة، أو صحيحة، أو فاسدة، أو مردودة، ونحو ذلك: بالنيات، وعلى هذا: إنما الأعمال هنا يُقْصَد بها الأعمال ماذا؟ الأعمال الشرعية، ولكن قال آخرون: الحديث أوسع من ذلك، فيقال في التقدير: إنما الأعمال حاصلة بالنيات، يعني أعمال الدنيا والآخرة؛ لأنه ليس هناك عاقل يعمل عملًا إلا وله نية، إلا المكره، أو من ليس له عقل كسكران ونحوه، وعلى هذا: مثل هذا التقدير يُبْعِد الوسوسة عن الإنسان، فبعض الناس قد يُبْتَلَى بالوسوسة؛ يتوضأ ثم يقول: ما نويت، يأتي للمسجد يصلي ثم يقول: ما نويت .. لا !! أنت ما جئت إلى الميضأة إلا وأنت تريد الوضوء، حتى لو غابت عنك النية في لحظتها، وما جئت إلى المسجد وإلا وأنت ناوٍ الصلاة، حتى لو غابت عنك النية، ولهذا التلفظ بالنية أيضًا عند العبادة بدعة من البدع .. بدعة من البدع.
إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: يعني كل امرئ ما نواه من هذا العمل؟ هل يريد بهذا العمل، هل نيته صالحة؟ فعمله صالح، هل نيته فاسدة؟ فعمله فاسد، هل نيته مباحة؟ فعمله مباح، ولذلك من عمل عملًا ونيته لله يُؤجَر على هذه النية، ومن عمل عملًا ونيته لغير الله فهو مأزور غير مأجور، ومن عمل عملًا ليس لله، ولا لغير الله، وإنما هو من العمل المباح، فهو لا مأجور ولا مأزور، وقد يُحَوِّل الإنسان المباحات إلى عبادات بالنية؛ كأن تنام لتَتَقَوَّى على صلاة الليل أو الفجر، أو تأكل لتَتَقَوَّى على العبادة، فأنت حَوَّلْتَ هذه العادة إلى عبادة، تُؤْجَر عليها.
"إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"، ثم ضرب النبي ﷺ مثلًا لهذا، قال: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ"؛ يعني أنه لما هاجر انتقل من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو من بلد الإباحية إلى البلد الذي فيه المحافظة؛ فارًّا بدينه، فعل ذلك لله فهو مأجور، "وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"، لكن لو كان هذا الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من أَجْل وظيفة، عَمَل، أو من أَجْل امرأة أن يتزوجها، فهذا عمله للدنيا، فقد يكون مباحًا، وقد يكون مُحرَّمًا، فالمهم أن كل عمل يَعُود إلى النية، هذا الحديث العظيم تناوله الفقهاء، حيث جعلوه تحت مصنفاتهم، وتحت الأبواب، بحكم أن هذا الحديث يُمَيِّز بين ماذا؟ بين العبادة والعادة، فالإنسان قد يغتسل من أَجْل أن يتبرد، هذا ماذا يُسَمَّى عادة أو عبادة؟ تُسَمَّى ماذا؟ عادة، وقد يغتسل من باب رفع الجنابة، هذا ماذا يُسَمَّى؟ عبادة.
إذن هذا الحديث يُمَيِّز بين العبادة والعادة، وقد يكون ليُمَيِّز بين عبادة وعبادة، فقد يقوم الشخص يصلي ركعتين نافلة كرعتي الفجر، وقد يقوم يصلي ركعتين وهي الفريضة ركعتي الفجر، فهذا ما الذي يَفْصِل بينه؟ النية، يميز بين عبادة وعبادة.
وتناول هذا الحديث من أَلَّف في التوحيد أو في السلوك، أنت تقصد مَنْ بهذه العبادة؟ تَنْوِي من؟ تَعْمَل لمن؟ هل تَعْمَل لله أم لغيره؟ فقد يَذْبَح شخص ذبيحة ينوي بها التقرب إلى الله، أضحية مثلًا، أو ينوي بها التقرب إلى الله بأن يطعمها المساكين، وقد يذبح هذه الذبيحة – والعياذ بالله – ينوي بها التقرب إلى الجن، أو إلى أهل القبور، أو غير ذلك، فهذا شرك مُخْرِج من الملة.
فلذلك تناول الحديث من أَلَّف في التوحيد والسلوك، ومن أَلَّف في الفقه، فهو حديث عظيم جليل.
وقول النبي ﷺ: "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ .." إلى آخره: لا يُعْتَبَر أن هذا الحديث مُنَاسَبَتُه هو ما يُسَمَّى بِمُهَاجِر أُمِّ قَيْس، فإنه لا يصح أنه هو المناسبة، وإن كان قد تُحَسَّن الحكاية والقصة، لكن لا ارتباط لها بهذا الحديث.
الحديث الثاني
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا، قَالَ: بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"، قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: "مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ"، ثُمَّ انْطَلَقَ. فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: "يَا عُمَرُ، أَ تَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟" قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ". (رواه مسلم).
هذا الحديث يقول الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، عن أبيه، عن كَهْمَس، عن ابن بُرَيْدَة، عن يحيى بن يعمر، في قصته مع حُمَيْد بن عبد الرحمن الحِمْيَرِيّ مع مَعْبَد الجُهَنِيّ، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو حديث عظيم، حسبك أن النبي ﷺ ماذا قال في آخره؟ "هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ لِيُعَلِّمَكُمْ دِينَكُمْ"، فجعل الدِّين ما هو موجود في هذا الحديث، لأن الدِّين ما هو؟ إسلام، وإيمان، وإحسان، فهذا حديث عظيم.
قال: (بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ)، وهذا فيه إشارة إلى أن الثياب البِيْض قد تُفَضَّل على غيرها، فالثياب البِيْض هي أَفْضَل من غيرها بالنسبة للرجال، قال: (لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ) - يعني: هذه من الآداب عند الشيخ – (وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ)؛ يعني جبريل وضع كفيه على فخذي النبي ﷺ كما عند النسائي، وقال: (يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ)، وهكذا ينبغي أيها الأحبة أن المسلم يسأل عن هذه الأصول العظيمة، وهذه الأركان والدعائم – الإسلام، والإيمان، والإحسان – وأن يتعلم هذه الأركان وهذه الدعائم؛ لأن بعض الناس قد يشغل نفسه في مسائل فروع، لا دليل عليها، ولا أصول لها، ويكثر منها، ويغلو ويبالغ، فيضيع على نفسه الوقت، أو ربما يشتغل بالقيل والقال في بعض ما يتعلق بالمناهج، ويضيع الوقت، لا، عليك أن تهتم بمثل هذه المسائل العظيمة، فهي الدِّين، وهي العِلْم.
أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ .." إلى آخره.
هنا الإسلام إذا أُطْلِق يدخل فيه الإيمان، ويدخل فيه الإحسان، والإيمان إذا أطلق أيضًا يدخل فيه الإسلام، ويدخل فيه الإحسان، لكن إذا اجتمع الإسلام والإيمان في حديث، أو في كلام، فإنهما يفترقان، فيكون الإسلام للأعمال الظاهرة، للأعمال العلانية، ويكون الإيمان للأعمال الباطنة، الاعتقادات.
هنا ذكر النبي ﷺ أركان الإسلام، وأعظمها الشهادتان، فمن لم يأت بها فهو كافر، والعياذ بالله، فهو كافر، حتى وإن صلى وصام وغير ذلك، وإن كان قد يكون مسلمًا حُكْمًا، لكن لو أن الإنسان أبى أن يَتَلَفَّظ بها فهو كافر، ثم ذكر الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذه أركان الإسلام، هذه أركان الإسلام، وسيأتي الكلام عنها.
ثم قال: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، فأخبره: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ"، الأشياء الاعتقادية وليس ما ذكره في هذا الحديث أن هذا هو الإسلام ككل .. صلاة وصيام وزكاة وحج لا .. هناك أشياء واجبة أخرى غير هذه، لكن هذه هي الدعائم والأركان العظيمة، كذلك الإيمان ذكر ما يجب عليك اعتقاده وليس ما يجب عليك اعتقاده هو فقط، هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث، لا .. هناك أشياء كل ما جاء بها الشرع يجب التصديق بها، والإقرار بها، لكن هذه هي الأصول.
والإسلام والإيمان هذه مسميات شرعية عظيمة، بسبب الاختلاف فيها: سُلَّت السيوف، وسُفِكَت الدماء، وحصل التكفير والتبديل وغير ذلك، لماذا؟ لأن هذه الأسماء – الإسلام والإيمان – يدخل فيها أشياء، فبسبب اختلاف الناس فيها قد يأتي من لا يعرف ماذا يدخل في الإسلام، وماذا يدخل في الإيمان، وماذا إذا نُفِي، من هو المنفي، ما هو المنفي، ونحو ذلك .. فمثلًا: الإسلام .. الإسلام إذا أُطْلِق يدخل فيه الإيمان، وهناك تحقيق الإسلام وهناك إسلام .. فمن حقق الإسلام، جاء به كاملًا على أتم وجه، فجاء بإسلام كامل، ومن لم يحققه جاء بإسلام ناقص أو ضعيف.
وكذلك القول في الإيمان، قد يحققه الشخص، ويأتي بالإيمان كاملًا، وقد يأتي به ناقصًا، قد يأتي به قويًّا، وقد يأتي به ضعيفًا، ولذلك الإسلام إذا نُفِي ففي الغالب والأصل أنه نَفْي لأصل الإسلام، فيكون الإنسان كافرًا، والعياذ بالله، فلا يُنْفَى الإسلام لانتفاء بعض واجباته، وإن كان تحقيقه أن تأتي بجميع واجباته، كما قال النبي ﷺ: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"، لكن مثلًا، ما جاء عن عبد الله بن شقيق قال: ليس من الأعمال شيء يرى أصحاب رسول الله ﷺ تركها كفر إلا الصلاة؛ لذلك تارك الصلاة الصحيح أنه كافر كفرًا أكبر.
أما الإيمان، فالإيمان يكون كاملًا ويكون ناقصًا، فمن جاء بالواجبات كاملة فإيمانه كامل، فإن زاد السنن فإيمانه أَكْمَل وأَتَمّ .. ومن وقع في أَنْ ترك شيئًا من الواجبات فماذا نقول؟ ليس بمؤمن، هو مسلم، لكن ما نقول هو كافر، هو مسلم، إلا أن يترك شيئًا من الواجبات التي تركها كفر كالصلاة مثلًا، وكذلك لو وقع في مُحرَّم، فإن كان كبيرة فإنه يرتفع عنه الإيمان، ولكن يبقى معه ماذا؟ الإسلام، ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا﴾ [سورة الحجرات: 14] فمن فعل كبيرة من الكبائر ارتفع إيمانه فوق رأسه، وأصبح مُسْلِمًا، ولذلك يجوز نَفْي الإيمان لِتَرْك واجب من واجباته، أو فِعْل محظور من محظوراته، كما قال النبي ﷺ في أكثر من حديث: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، "وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ"، وهكذا أحاديث كثيرة .. فبعض أهل البدع لما جاء إلى مثل هذه الأحاديث التي يَنْفِي النبي ﷺ الإيمان عن صاحب (مرتكب) الكبيرة، أو عمن ترك واجبًا ظنوا أنه أخرجه من الإسلام بالكلية، فلذلك كفروه وقاتلوه، فهذه مسائل دقيقة يا عباد الله (مسائل دقيقة)، فمن ترك واجبًا من الواجبات لا نسميه مؤمنًا، ولكن نسميه مُسْلِمًا، واختلفوا هل يقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال مُسْلِم؟ وذهب الإمام أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين أنه يقال مُسْلِم، ولا يقال مؤمن ناقص الإيمان، وهكذا من ارتكب كبيرة من الكبائر يقال مُسْلِم، ولا يقال مؤمن، لكن إذا ارتكب صغيرة من الصغائر ، نقول: مؤمن ناقص الإيمان، ولا نَنْفِي عنه الإيمان، الشخص قد يكون مؤمنًا، ولكن فيه جاهلية، وقد يكون مؤمنًا - أقصد الإيمان المُطْلَق الذي يَدْخُل به الإسلام -، قد يكون مؤمنًا وإن كان قد ارتكب شركًا أصغر، أو كفرًا أصغر، والشخص قد يُنْفَى عنه الإيمان ويَدْخُل في الإسلام، ولا يعني أنه ليس في قلبه إيمان البتة، لو كان ليس في قلبه إيمان البتة لكان كافرًا، لكن يبقى أن عنده جزءًا صغيرًا من الإيمان، يُصَحِّح به أعماله – وهو شرط صحة الأعمال –
ولهذا هل يتفاوت الناس في الإيمان؟ نعم يتفاوتون، فإيماننا ليس كإيمان أبي بكر، وإيمان أبي بكر ليس كإيمان النبي ﷺ، وإيمان الملائكة، يتفاوت الناس في الإيمان، ولهذا قيل لابن عمر رضي الله عنهما: هل يضحك أصحاب محمد ﷺ؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أمثال الجبال.
وجاء في حديث آخر أن النبي ﷺ قال: "يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ".
فهناك فرق بين جبل وبين ذرة، طيب، ومع ذلك هذه الذرة هي التي شرط لصحة الأعمال، وهي التي وإن دخل صاحبها النار إلا أنه سيدخل الجنة بإذن الله، لكن لو هذه الذرة غير موجودة ما دخل الجنة، وحُرِّمَتْ عليه الجنة، والعياذ بالله.
طيب، ما هو الإيمان؟ وما هو الإسلام يا إخوان؟ الإيمان ما هو؟ من يعطيني تعريفات الإيمان؟
طيب، الإيمان: يَصْدُق أن نقول عنه: إنه قول باللسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بالعصيان، طيب، ونُعَرِّف الإيمان: بأنه التصديق والإقرار والمعرفة، وهذه أعمال ماذا؟ قلبية، فالتصديق هو قول القلب، والإخلاص عمل القلب، إذن الإيمان هو التصديق والإقرار والمعرفة، هل نحن نستوي في التصديق يا عباد الله؟ هل الناس يستوون في التصديق، وإن كانوا جميعًا يَصْدُق عليهم أنهم مؤمنون، ولكن هل يستوون في التصديق؟ لا .. وإن كان مرجئة الفقهاء قالوا: إن الناس في أصله واحد، لكن هذا قول مرجوح، الناس يختلفون في التصديق، بعض الناس تصديقه قوي، ويقينه كبير، فلا يهتز بأي شبهة تثيرها عنده، كالصِّدِّيق مثلًا، وإيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إيمان قوي، تصديق قوي، لا يمكن أن تُبَلْبِل عليه مهما أَثَرْتَ عندهم الشبهة ..
لكن بعض الناس وإن كان مصدقًا لو تثير عنده شبهة أو شبهتين ربما يتزعزع هذا التصديق – يتزعزع – بل بعضهم ربما يذهب بهذا التصديق بالكلية والعياذ بالله، فلذلك الناس يختلفون في التصديق والإقرار والمعرفة، طيب، هل كلنا معرفتنا واحدة بالله جل وعلا، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله؟ لا.
هناك من معرفته قلبية كأن في قلبه عينًا ترى الله جل وعلا، وآخر عَيْن قلبه عليها غشاوة، وأعشى، هو يرى لكن ضعيف الرؤية، وهناك والعياذ بالله من هو أعمى القلب، ليس لقلبه عين تشاهد الغيب، لا تشاهد الآخرة، ولا تشاهد ملكوت السماوات.
طيب، ما هو الإسلام؟
الإسلام هو الاستسلام لله جل وعلا، والانقياد، والخضوع، هذا هو الإسلام، إذن لا بد ما يأتي شخص ويقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهو لا ينقاد، ولا يخضع لأوامر الله جل وعلا، لا صلاة، لا صيام، لا حج، لا زكاة، هذا ليس بمُسْلِم، وإن قال: أنا مُسْلِم، وإن نطق بالشهادتين.
ثم ذكر النبي ﷺ الإحسان، وهو "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"، يعني الإحسان هو أن ترى الله جل وعلا بعين ماذا؟ بعين قلبك، لا بعين رأسك، نحن نرى الله جل وعلا إن كنا مؤمنين بأعين رؤوسنا يوم القيامة، أما في الدنيا فلا، لكن عين القلب قد ترى الله جل وعلا ولو أنك في الدنيا، يعني تتخايل الله جل وعلا (تتخايل الله جل وعلا) .. طيب .. هذا هو الإحسان، الناس يتفاوتون في هذا الإحسان.
وهذا الحديث جعل الدين مراتب، مرتبة الإسلام، وأعلى منها ما هو؟ الإيمان، وأعلى من الإيمان ما هو؟ الإحسان.
ثم ذكر النبي ﷺ الساعة أشراطها، التي هي أماراتها، قال: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا"؛ يعني: اختلف أهل العلم في معناها، لكن حسبنا أن نقول: أن تلد الأَمَةُ (ابْنَةَ السيد)، وكذلك أن تلد الأَمَة رَبَّهَا (ابن السيد سيد على أُمِّه)؛ لأنه بمنزلة أبيه، وهكذا البنت، وكأنه يشير هنا إلى الفتوحات، وأنه سيكون هناك فتوحات، وتكثر الإماء، ويكثر وطء الإماء، فيعتبر هذا التوالد من الإماء علامة على قُرْب الساعة، قال: "وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ - يعني الفقراء – يَتَطَاوَلُونَ فِي البُنْيَانِ"، يعني كانوا فقراء، ثم إنهم في عصر من هذه العصور سيكونون أثرياء، ويبدأون يتطاولون في البنيان، يتفاخرون فيها طولًا وعرضًا، لكن الغالب الطول، فتبدأ ناطحات السحاب، وتبدأ الأدوار، بينما كان في الأول يكفي المُسْلِم ما يُكِنُّه عن البرد والحر، لا يتفاخرون في البنيان، حتى حجرات النبي ﷺ كان الداخل فيها يَمَسّ السقف، وهكذا عريش موسى عليه السلام، أما الآن انظر كيف بدأت (يعني) الارتفاع والتطاول في البنيان؟، ولنستفد أولًا أنه ليس كل شرط من أشراط الساعة أنه مذموم .. لا، وإن كان الأصل أنه مذموم، لكن قد يكون أحيانًا علامة وليس مذمومًا، لكنه علامة، ولكن الغالب والأصل أن ما كان من علامات الساعة وأشراطها أنه مذموم.
الحديث الثالث
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ؛ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ". (رواه البخاري ومسلم).
نعم .. هذا الحديث المتفق عليه، يقول الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: حدثنا حنظلة بن أبي سفيان، قال: حدثنا عكرمة بن خالد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا الحديث حديث جليل، وهو أن النبي ﷺ قال: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ .." إلى آخر الحديث، هذه الخمس هي أركان الإسلام، وهي مبانيه العظام، وهي الدعائم، فشبَّه النبي ﷺ الإسلام بالبنيان، وله خمسة أركان، هذه الأركان لو سقطت ماذا يصير على البنيان؟ يسقط. لكن لو سقط حائط من الحيطان، وليس هو الركن بقي البنيان، صحيح أن البنيان يعتبر ناقصًا، لكن بقي البنيان، هكذا الإسلام من جاء بهذه الأركان فإسلامه قائم، حتى لو فَرَّط في بعض الواجبات فإنه يعتبر بنيانه ناقصًا، لكنه باقٍ وقائم، لكن لو فَرَّط في هذه الأركان الخمسة فبنيانه ساقط، ولا إسلام له، وكذلك لو فَرَّط في أعظم الأركان، وهو الشهادتان، لو إنسان ما جاء بها لا يَصِحّ له بنيان، ولا يَقُوم له بنيان، هذا بإجماع أهل العلم، لكن اختلفوا في بقية الأركان، الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فمن العلماء من قال: لو تركها، وإن جاء بالشهادتين، فليس له إسلام، ترك جميع هذه الأركان ليس له إسلام، واختلفوا فيما لو ترك الشخص بعض هذه الأركان، فذهب بعضهم إلى أن من ترك ركنًا من هذه الأركان، سواء الصلاة، أو الصيام، أو الحج، أو الزكاة؛ فإنه كافر كفرًا أكبر، وقال آخرون: لا، لا يَكْفُر إلا بترك الشهادتين فقط، وقال آخرون: إنه يَكْفُر بترك الصلاة وهذا هو الصحيح، أن من ترك الصلاة لا يصليها لا في بيته، ولا في المسجد، وداوم على تركها، وأَصَرَّ، هذا كافر والعياذ بالله، هذا كافر.
والذي في صحيح مسلم: "إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ". صريح، ونَقَل الإجماع عبد الله بن شقيق، وأيوب، وغيرهم، على أن تارك الصلاة كافر، والعياذ بالله، وإن كانت طبعا مسألة خلافية، المسألة خلافية، لكن المتقدمون كأنه إجماع عندهم: أن تارك الصلاة يعتبر كافرًا.
الحديث الرابع
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا". (رواه البخاري ومسلم).
هذا الحديث يقول الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك - يعني الطيالسي - قال: حدثنا شعبة، قال: أنبأني الأعمش، وشعبة إذا روى عن الأعمش، فإنه قد كفاك العَنْعَنَة، وإن كان هو قد صَرَّح طبعًا في هذا الإسناد بالتحديث، قال: أنبأني الأعمش، قال: حدثني زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال – وهو الصادق المصدوق-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ بِبَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً .." إلى آخر الحديث، المهم أن الله جل وعلا يَجْمَع الخَلْق في بطن الأم أربعين يومًا نطفة، فهو يجمع هذه النطفة من العروق؛ لأن النطفة أول ما تدخل في الرحم فإنها تنتشر، ثم يجمعها الله جل وعلا، فتكون نطفة، وبعد أربعين يومًا تكون ماذا؟ علقة .. دم .. قطعة دم، ثم بعد أربعين يومًا ماذا تكون؟ مضغة، قطعة لحم، ثم تكون عظامًا، ثم تُكْسَى لحمًا، وهذا أمر عظيم، والطب الحديث وقف عند هذا حائرًا، كيف قَبْل ألف وأربعمائة سنة النبي ﷺ يحكي بدقة؟، ما جاءوا الآن بأي شيء جديد، ولا خالفوا هذا الحديث، بل سَلَّموا واستسلموا وأنابوا، وهذا من معجزات النبي ﷺ، ومن معجزات القرآن.
طيب، هذا الحديث عظيم في تَخَلُّق ما في الرحم، وقد جاء في القرآن ذلك.
هذا الحديث لم ينفرد بهذا التَّخَلُّق وهذا التصوير، فقد جاءت أحاديث أخرى، جاء عن أنس، وجاء عن مالك بن الحويرث، وجاء عن جابر، وجاء عن أبي ذر، وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء عن حذيفة بن أُسَيْد، والمهم أنها أحاديث تتفق ولا تفترق، وتأتلف ولا تختلف، لكن قد يأتي فيها شيء من الاختلاف مثلما جاء في حديث حذيفة بن أسيد مع حديث عبد الله بن مسعود ومع غيره، وكما جاء في حديث مالك بن الحويرث؛ فمالك بن الحويرث حديثه كأن الجَمْع في اليوم السابع يعني .. ولا زالت نطفة .. وفسر بعضهم هذا الجمع بأنه تصوير وتخطيط، وهي نطفة لا زالت ماء، وجاء في حديث حذيفة بن أسيد: أنه إذا مضى على النطفة اثنان وأربعون يومًا، فإن المَلَك يُؤْمَر بِخَلْق سمعها وبصرها .. إلى آخره، وهي لا زالت ماذا؟ علقة، وهي قطعة الدم. وجاء في حديث عبد الله بن مسعود: أنه يأتي إليها المَلَك إذا كانت مضغة، وهي التي جاءت في القرآن مخلقة وغير مخلقة، يعني القرآن نَصَّ على أن التخليق يكون في أي مرحلة؟ المضغة، لكن القرآن لم يَنْفِ أن العلقة لا تَتَخَلَّق، فكيف نتعامل مع هذه الأحاديث والآيات، طبعًا إذا كان هناك حديث فيه ضَعْف، فلا شك أن الصحيح يُقَدَّم ولكن الحديث الصحيح، مثل حديث حذيفة في صحيح مسلم فإننا نَجْمَع، إما أن نقول: تختلف الأجنة بعضها عن بعض، فبعضها قد تتخلق في الأربعين الثانية، وبعضها في الأربعين الثالثة، أو أن يقال: إن هذا التصوير وهذا الخَلْق الذي هو في الأربعين الثانية ليس هو التصوير والخلق الذي في الأربعين الثالثة، فالأربعين الثالثة يتبين العَيْن، أما في الثانية فإنه تخطيط أقل من التخطيط الذي بعده، وهذا واضح وجلي إن شاء الله.
المهم أن هذا الحديث أيضًا بنى عليه الفقهاء مسائل؛ لأن النطفة لا زالت ماء لم تَنْعَقِد، فلهذا قال بعض أهل العلم: إنه يجوز للمرأة أن تُسْقِط هذه النطفة إذا كانت تحتاج إلى إسقاطها، يعني قد تكون امرأة مثلًا لا تريد الحمل الآن، لأي سبب من الأسباب، فما دامت أنها نطفة أجاز لها بعض العلماء أن تُسْقِط هذه النطفة لحاجة، وإن كان طبعًا الأَوْلَى أن لا تُقْدِم على هذا الإسقاط، لكن الآن نطفة ليست مُنعَقِدَة فلا ندري قد تكون إنسانًا، وقد لا تكون إنسانًا، قد تسقط هذه النطفة لا تَتَخَلَّق. لكن إذا انعقدت أصبحت ماذا؟ علقة، قطعة دم، فإنها بهذه الحالة انعقدت، فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تُسْقِط، وبعضهم قد أجازه لها للضرورة، كأن تكون مثلًا مريضة لا تحتمل، عندها مثلًا مرض مع هذا الحمل، قد تتضرر، مرض قلب أو غير ذلك. ولكن إذا تخلقت أصبحت مضغة، وتخلقت، بدأ يبين فيها شيء من أجزاء الإنسان كأصبع ونحوه، هنا شددوا أكثر وأكثر أنه لا يجوز.
أما إذا نُفِخَت فيها الروح، متى تُنْفَخ فيها الروح؟ بعد مائة وعشرين يومًا، بعد الأربعين الثالثة، هنا إذا نُفِخَت فيها الروح أصبح إنسانًا لا يجوز إسقاطه، ويترتب عليه دية، وقتل نفس، ونحو ذلك، مهما كان الأمر؛ لأنها نَفْس، وليست نَفْس الأم أَوْلى من نَفْس هذا الجنين.
طيب .. متى تتخلق؟ قلنا: في الأربعين الثالثة، أربعين يومًا نطفة لا تتخلق فيها، إلا ما جاء في حديث مالك بن الحويرث، وهو ممكن جمع وهو ما ذكره القرآن أمشاج، تخطيط عروق لكن لا يتبين الإنسان، ثم تأتي الأربعين الثانية يكون هناك تصوير في حديث ماذا؟ حذيفة بن أسيد، لكنه أيضًا لا يتبين لكن ربما – ربما- يتبين مثلًا من جنين إلى جنين آخر، يتبين شيء يسير جدًّا، لكن الأربعين الثالثة إذا كان مضغة، يعني واحد وثمانين يومًا وما فوق يتبين للبصر، فقد يكون هناك وضوح أنه إنسان بوجود عضو من أعضاء الإنسان، فهذه الحالة لو أسقطت المرأة أو سقط هذا الذي في بطنها، قد تَخَلَّق، طبعًا لم تنفخ فيه الروح، لا يُغَسَّل، ولا يُدْفَن، ولا يُعَقّ عنه، ولا شيء، لكنه تعتبر المرأة نُفَسَاء، ودمها الذي يخرج معها يعتبر دم نفاس، تَدَعُ الصلاة والصيام، أما بعد الأربعين الثالثة يعني بعد مائة وعشرين يومًا، وهي التي ذكرها القرآن أربعة أشهر وعشرًا، عشرة الأيام هذه تُنْفَخ فيه الروح، في هذه الحالة لو سقط قد نُفِخَت فيه الروح، فيُغَسَّل، ويُدْفَن في مقابر المسلمين، ويُصَلَّى عليه، وتعتبر المرأة في نفاس، وتعتبر الأَمَة أُمّ ولد، وتخرج المرأة من عِدَّتِها بخروج هذا الحَمْل المنفوخ فيه الروح، المهم أنه يترتب عليه أحكام، وأما بالنسبة للعقيقة فمن شاء أن يَعقّ عَقّ، ومن شاء ألا يَعقّ لا يَعقّ؛ لأنه لم تكتمل به النعمة، والوارد عن النبي ﷺ إنما هو أن يعق عما استهل، وخرج طفلًا حيًّا، لكن لو الإنسان أراد كرمًا وتقربًا أكثر وأكثر، فلا مانع من ذلك.
ثم قال في الحديث: "ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ"، طبعًا ينفخ فيه الروح بإذن ربه، الله جل وعلا يقول: كن فيكون، لكن ليس أن هذا المَلَك هو الذي خَلَق من الأساس، وإن كان الله جل وعلا جعل له قدرة الخَلْق، لكن بعد خلق الله جل وعلا.
"فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ"، المهم أن هذا هو الكتاب، وقد جاء مثل حديث حذيفة، أو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أو حديث أبي ذر، أو حديث جابر، أو حديث مالك بن الحويرث، المهم ما يخالف مثل ما ذكرنا في بعض هذه الأمور، ومنها إرسال المَلَك، والمقصود أن المَلَك ربما يُرْسَل مرتين، مرة أُولَى، ومرة ثانية، وهذه الكلمات: شقي أو سعيد، أجله ... إلى آخره، مسبوق هذا بماذا؟ بالكتاب الأول، وهو الأُمّ، فهذا إنما هو مأخوذ من كتاب الأم؛ لأنه كما جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم، حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي ﷺ قال: "إِنَّ اللهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ". وفي حديث عبادة بن الصامت الذي عند الإمام أحمد، وهو حديث صحيح، أن النبي ﷺ قال: "إِنَّ اللهَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ القَلَمَ، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: فَجَرَى فِي لَحْظَتِهِ بِمَقَادِيرِ الخَلَائِقِ"، المهم أن هذا كتاب سابق، ولهذا لا يصح إيمان عَبْدٍ حتى يُؤْمِن بهذا الكتاب، وكما جاء في الحديث الأول: ويُؤمِن بالقَدَر خيره وشره، لا يصح إيمان عَبْدٍ وهو لم يُؤْمِن بأن الله جل وعلا عَلِم أعمال الخَلْق، وكَتَب أعمال الخَلْق، وخَلَق أعمال الخَلْق، وأراد أعمال الخَلْق، هذه الأشياء الأربعة لا بد منها.
ولذلك غلاة أهل البِدَع لما خالفوا في مسألة أن الله جل وعلا قد عَلِم – مثل مَعْبَد الجُهَنِيّ، أن الله لم يَسْبِق له العِلْم، وإنما الأمر أُنُف - بَيَّن ابن عمر أن هذا كُفْر وأنهم خرجوا من الإسلام، وهؤلاء يعني غلاة، وإلا لم ينكر هذا حتى من أهل البدع إلا القليل، ثم مسألة الكتابة، الكتابة نعم، خالف فيها الكثير من أهل البدع والضلالة، وأن الله جل وعلا لم يَكتُب أفعال الخَلْق، ولكن هذا أيضًا لا يصح إيمان عَبْدٍ حتى يُؤْمِن بهذا الأمر، وأن الله كتب مقادير الخلائق قبل خَلْقِهم، وأيضًا لا بد أن يُؤمِن الشخص بأن الله جل وعلا خَلَق أفعال العباد، وأن العبد عَمَلُه وكَسْبُه هو كَسْبُه، وأن الله جل وعلا ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ﴾ [سورة فاطر: 8]، ﴿وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدٗى﴾ [سورة محمد: 17]، وأما في الطائفة الأخرى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ﴾ [سورة الصف: 5]، إذن الله جل وعلا يَهْدِي ويُضِل، ومن زاغ أزاغه الله، ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ﴾ [سورة العنكبوت: 69]، ﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ﴾ [سورة فاطر: 8] سبحانه وتعالى.
وأما إرادة الله جل وعلا فتنقسم إلى قسمين، ما هي؟ إرادة كونية، وإردة شرعية، ما الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؟ من لم يُفَرِّق في هذا فإنه خطر عليه، ولهذا أهل البدع و الضلالات لما لم يُفَرِّقوا بين الإرادة الكونية والشرعية وقعوا في البدعة المُخْرِجَة من الملة، فما الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية يا إخوان؟ الإرادة الكونية لا بد من حصولها، ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيًۡٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾ [سورة يس: 82]، والإرادة الكونية قد يحبها الله، وقد لا يحبها، أما الإرادة الشرعية فالله جل وعلا يريد من العبد الإسلام، والإيمان، والإحسان، ولكن قد لا يقع، قد يريده من العبد ولا يقع، أرأيت إبليس أراد الله منه أن يسجد فلم يسجد، هل إرادة الله له شرعية أم كونية؟ شرعية، لو كانت كونية لسجد رغم أنفه، ولكنها شرعية، فلذلك لم يسجد، الإرادة الشرعية يحبها الله.
طيب، هذه مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، هنا هذا الحديث ذكر أن الشقي من شقي في بطن أمه، هذا كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، في غير هذا الحديث، الشقي من شقي في بطن أمه، وأن السعيد إذن من سعد في بطن أمه، من كتب الله جل وعلا عليه الشقاوة فسييسر الله جل وعلا له عمل أهل الشقاوة، ومن كتب الله جل وعلا له السعادة فسييسر له عمل أهل السعادة، وسيتخلى جل وعلا عن أهل الشقاوة فلا يعينهم على العمل الصالح، ويعين أهل السعادة فيعملون العمل الصالح، هذه أمور مهمة يا إخوان، هذه أمور مهمة.
طيب، قال في الحديث: "وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ .." إلى آخره، هنا يستفاد منه أن الشخص قد يعمل بعمل أهل الجنة العُمْر الطويل، ولكن يسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار والعياذ بالله، وفي قوله: "إِنَّ أَحَدَكُمْ": يدل على أنهم مُسْلِمُون، بخلاف الحديث الآخر – حديث سهل –: "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيما يُرَى"، هذا نَحْمِلُه على المنافق، المهم والشاهد: أن الله جل وعلا لا مُعَقِّب لحُكْمِه، وهو الرب يَهْدِي من يشاء ويُضِلّ من يشاء، والأعمال بالخواتيم، قد يختم لهذا بعمل أهل الجنة، وقد يختم لهذا بعمل أهل النار، حتى وإن عمل سبعين سنة بعمل أهل الجنة، قد يختم الله جل وعلا له بعمل أهل النار، وقد يعمل سبعين سنة بعمل أهل النار، ويختم الله له بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة، لكن كما قال عمر بن عبد العزيز وغيره: الله جل وعلا أكرم وأجود أن يختم لشخص عمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة، وليس له دسيسة (عمل فاسد في السر)، أن يختم له بعمل أهل النار، وإن كان لا يُحْجَر على الله جل وعلا في هذا الأمر، لكن عمومًا الله جل وعلا أجود وأكرم، وقد يختم للشخص بعمل أهل النار أن عنده خبيئة من أعمال سيئة.
قد يقول القائل: كيف تقول دسيسة مثلًا، والنبي ﷺ يقول: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرُونَ"؟ نقول: نعم قد يأتي الإنسان ويعمل دسيسة وفي الخفاء، لا أنه يستتر عن أعين الناس وهو يشعر بلائمة في نفسه في الخفاء، أنه عمل هذه المعصية، لا من شعر في نفسه أنه مذنب وعاص، ويسأل الله التوبة ونادم، هذا داخل في أنه غير مجاهر، لكن المشكلة أنه إذا غاب عن عين الناس عمل هذه السيئة وهذه المعصية من غير خوف من الله، ولا ندم، وأنه باطر لهذه النعمة، كافر لهذا الدين، هذه هي المشكلة.
الحديث الخامس
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَىْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
الحديث هذا رواه الإمام البخاري، قال الإمام البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم يعني الدورقي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي ﷺ قال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".
هذا الحديث أصل عظيم، وهو ميزان للأعمال الصحيحة من الفاسدة المردودة؛ لأن العمل لا يُقْبَل إلّا أن يكون خالصًا صوابًا، الخالص: هو أن تكون النية فيه صحيحة؛ أي لله جل وعلا، والصواب: أن يكون العمل موافقًا للسنة سنة النبي ﷺ، يعني ما تأتي بعمل لم يشرعه الله، ولم يأتِ به الرسول ﷺ، هذا لا يمكن أن يتعبد الإنسان به إلى الله جل وعلا، ولو تعبد بشيء شرعه الله، وأتى به النبي ﷺ، ولكنك لم تخلص النية، فهذا العمل أيضًا مردود.
إذًا ما هو شرط صحة العمل يا إخوان؟ لا بد من شرطين: ما هو؟ .. نعم.
لا بد من الإخلاص ولا بد من المتابعة، هذا هو الذي عَبَّر عنه الفضيل بن عياض وغيره، أنه لا يمكن أن يُقْبَل العمل إلَّا أن يكون خالصًا صوابًا.
هنا يقول النبي ﷺ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ". فهنا معنى من أحدث يعني: من جاء بشيء جديد، وقوله: في أمرنا، كما جاء في رواية أخرى: في ديننا، فمعناه أن الإتيان بشيء جديد لم يشرعه الله، ولم يأتِ به رسول الله، وهذا الأمر إنما هو من أجل التعبد لله، لا في دين الله، هذا مردود على صاحبه.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَىْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
نعم، كما أسلفنا لكم أن هذا الحديث في الصحيحين، قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه سعد بن إبراهيم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي ﷺ قال: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ".
وقوله: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا"، أي من اخترع في ديننا، أما لو اخترع شيئًا في دنيانا فهذا لا يضر، العادات والاختراعات التي في الدنيا، لا دخل لها في التعبد، ولا في الدين، هذه لا مانع منها، فأنت مثلًا ترى بنيانًا قد اخترعت في بنيانها، وطرقات قد اخترعت، وأجهزة اخترعت وغير ذلك من الأشياء الجديدة التي لم تكن على عهد النبي ﷺ، لكن هذه هل هي بدعة؟ لا، ليست بدعة، لماذا ليست ببدعة؟ لأنها في الدنيا وليست في الدين، لا يقصد بها التعبد.
أما لو اخترع الإنسان شيئًا جديدًا يقصد به التعبد لله جل وعلا، فهذا يكون بدعة وضلالة، وكل ضلالة في النار، وهو مردود على صاحبه.
وممكن يكون الإنسان يقول: طيب أنا لم أُحْدِث شيئًا جديدًا، لكن هناك أشياء قالها مَن قبلنا، اخترعوها، ودونوها، وأنا سأعمل بها، أنا ما جئت بشيء جديد، ولا اخترعت شيئًا جديدًا، ولم أُحْدِث شيئًا جديدًا.
فنقول له: الرواية الأخرى أصرح في هذا، بالنسبة لمن يَدَّعِي هذه الدعوة، وهو أن النبي ﷺ قال: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَىْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
إذًا حتى لو عملت عملًا لم تخترعه أنت، ولم تأتِ به أنت، وإنما جاء به من هو قبلك، ولكنه يُقصَد به التعبد، وليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله ﷺ، فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ماهي البدعة يا إخوان؟ طيب جميل
إذًا كلنا حولها ندندن في هذا الموضوع، ومما دُوِّن في ذلك أن البدعة هي كل شيء جديد ليس عليه دليل من الشرع، طيب، إذًا البدعة هي: "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يُقْصَد من ورائها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى".
البدعة قد تكون فعلىة، وقد تكون تَركيَّة، كيف معنى فعلىة وتَركيَّة؟ من يمثل لي ببدعة فعلية، ويمثل لي ببدعة تركية؟ بدعة فعلىة وبدعة تَركيَّة. فالإنسان قد يفعل فعلًا ونقول: هذه بدعة، وقد يترك شيئًا ونقول: هذه بدعة. طيب. إنسان مثلًا يصلي في وقت النهي، هذه بدعة فعلىة، يقول: أنا سأتقرب إلى الله بعد العصر، أصلي، هذه بدعة فعلىة. طيب، بدعة تَركيَّة، يعني ترك شيئًا وارد فيه الدليل، أو ترك شيئًا لم يرد في تركه الدليل.
مثال: لو أن الإنسان قال: سأترك وجبة الإفطار تعبدًا لله جل وعلا، نقول: تركك الإفطار عبودية: بدعة، تركك بدعة، وهذا مثل ما جاء أن أحدهم أراد أن يترك الزواج، والآخر أراد أن يترك أكل اللحم، هذه الأشياء المتروكات بنية التعبد لله بدعة.
وأما الفعلية فأشياء كثيرة جدًّا، مثل: بدعة المولد بدعة فعلىة، مثل: ما ابتدعه الصوفية من الرقص، والطرب تعبدًا لله جل وعلا، وغير ذلك.
طيب إذًا البدعة تَنْقَسِم إلى بدعة فعلية وبدعة تَرْكِيَّة.
هناك أيضًا البدعة قد تكون لزيادة، وقد تكون لنقص، فمثلًا إنسان تعبد لله جل وعلا، بأن يغسل داخل عينه في الوضوء، هذه زيادة لم يَرِد بها الشرع.
أو مثلًا إنسان يتوضأ ويزيد في غسل العضو أربع مرات، وخمسًا، وستًّا، ما بعد الثلاث، ماذا نسميها؟ بدعة.
لأنه لم يَرِد بها الشرع، الشرع واحدة – اثنتان – ثلاث، أما بعد الثالثة بدعة، طبعًا هذا الشخص الذي يزيد الرابعة والخامسة والسادسة، ماذا يقصد من هذا؟ التعبد لله، لكن هذه الزيادة لا تبطل الوضوء، هي مردودة علىه، لكن ليس كل الوضوء مردودًا علىه، وإنما المردود عليه ماذا؟ الزيادة ، أما الوضوء صحيح.
لكن لو أن الإنسان تعبد لله جل وعلا، وزاد ركعة خامسة في الظهر، أو العصر، أو العشاء، ألىست هذه زيادة بدعة؟ نعم، وتبطل الصلاة بأكملها.
فالمهم أن البدعة التي تعتبر زيادة قد تُبطِل العمل من أصله، وقد تُبطِل الزيادة فقط.
طيب البدعة قد تكون قولية، وقد تكون فعلىة، وقد تكون قلبية.
فقد تكون فعلىة مثل ما يفعله عباد القبور مثلًا، من الاستغاثة، من الطواف بالقبور مثلًا، والذبح لها، هذه بدع، أو مثل ما قلنا بدعة المولد، وغير ذلك من البدع الكثيرة.
وقد تكون قولية، مثل أولئك الذين يتلفظون بالنية عند الصلاة، إذا أراد أحدهم أن يصلي، قبل أن يكبر قال: اللهم إني نويت أن أصلي لك الظهر أربع ركعات وهكذا. هذه بدعة قولية، وقد تكون قلبية، كالاعتقادات الفاسدة، فالاعتقادات الفاسدة كلها بدع اعتقادية.
كذلك البدع دركات، بعضها أسوأ من بعض، فبعض البدع مُخْرِجَة من الملة، تُكَفِّر صاحبها، وبعض البدع لا تُخْرِج من الملة، لكنه يطلق عليه أنه مبتدع.
وبعض البدع قد تكون بدعة خَفِيَّة، لا يدعو إليها صاحبها، يعني له شبهة قوية فيها، ولم يعمل إلا هذه البدعة، ولم يجادل فيها، يعني يدعو إلىها ويظهرها، فهذه بدعة، ولكن لا نطلق على صاحبها أنه مبتدع، لكن لو دعا إلىها، وأظهرها، وجادل فيها، وأصبح يدعو إلى المناظرة فيها، ونحو ذلك، فهذا مبتدع.
البدعة تنقسم إلى جلية وإلى خفية.
جلية، ايش معنى جلية؟ يعني واضحة ظاهرة، وخفية يعني أنها ليست ظاهرة لكل أحد، وإنما ظاهرة لأهل العلم، يعني هناك بدعة واضحة جلية لكل أحد ممن عنده أدنى شيء من العلم، وهناك خفية لا يعلمها إلا أهل العلم، البدعة الجلية هي التي لا أصل لها في الشريعة، ليس لصاحبها علىها دليل، ليس لها أصل في الشرعية، وإن هو قد يستدل بأدلة، لكن هذه الأدلة التي يستدل بها ماذا نسميها؟، نسميها شبهات، هي ليست حججًا وبراهين وأدلة في الحقيقة، وإنما هي شبهة، ليس له علىها أي دليل.
فمثلًا: لو جاء إنسان يطوف بالقبر يتعبد، فهذه البدعة ماذا نسميها؟ جلية أو خفية؟ جلية واضحة، لا دليل علىها، ممكن هو يأتي ويقول: هذا ولي من أولياء الله، ويبدأ يأتي بهذا الكلام، فليس هذا دليلًا، هذه شبهة فقط، شبهات، طيب هذه بدعة جلية، يعني واضحة. لكن ما هي البدعة الخفية؟ البدعة الخفية هي التي يصاحبها دليل، ولكنه مرجوح، أو نقول: إن هذه البدعة تدخل تحت أصل عام، مثاله ماذا؟ لو أن جماعة من الناس اجتمعوا وجعلوا يذكرون الله بطريقة مخصوصة، سبحوا عشرًا، ثم يسبحون جماعة، كبروا عشرًا، احمدوا عشرًا، ارفعوا أصواتكم، اخفضوا أصواتكم، وهكذا. فنحن ماذا نقول عن هذا العمل، بدعة أو غير بدعة؟ بدعة .
طيب هو يقول: أنا أسبح، نحن نسبح، و نذكر الله، الله جل وعلا أمرنا بذكره، نقول: صحيح أن ذكر الله جل وعلا جاء في الكتاب والسنة، ولكن لم يأتِ بهذه الطريقة.
فهذه تسمى ماذا؟ بدعة خفية؛ لأنها قد تخفى على بعض الناس، وطبعًا هي درجات، الجلية درجات، والخفية درجات، ولهذا لما جاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، إلى جماعة في المسجد يذكرون الله جل وعلا بطريقة مخصوصة قال: "يا هؤلاء، إما أنكم أتيتم ببدعة ظلماء، أو أنكم فُقْتُم محمدًا وأصحابه علمًا، فقالوا: إنما نسبح"، فما كان يزيدهم على هذا الجواب: "إما أنكم أتيتم ببدعة ظلماء، أو أنكم فُقْتُم محمدًا وأصحابه علمًا" يعني هل النبي ﷺ جمع أصحابه، وجعلوا يسبحون ويحمدون ويكبرون ويهللون بأعداد معينة، وجماعية، وأصوات مخصوصة؟ لا. وإنما الكل يسبح لوحده، ويهلل لوحده، ويكبر لوحده، وهكذا.
طيب، إذًا هنا عرفنا الآن البدعة الجلية والخفية، وأقسام البدعة: القولية، والفعلىة، والاعتقادية، وأن هناك بدعًا تَركيَّة وفعلىة، وهناك بدع زيادة، وبدع نقصان.
واعلموا أن مسألة البدع مسألة مهمة جدًا، مسألة البدعة، وتحديد البدعة، وقد تخفى على كثير من طلبة العلم، ناهيك عن عامة الناس، فلذلك ينبغي على طالب العلم أن يهتم بدراسة هذا الموضوع، ويتعلم على أيدي المشايخ؛ ليفرق بين البدعة والسنة، والبدعة الجلية، والبدعة الخفية، ونحو ذلك.
وهناك كما قلنا بدعة مُكَفِّرَة، وأهل الملل غير ملة الإسلام، كلهم على بدع مُكَفِّرة، الىهودية والنصرانية في هذا العصر، أي بعد النبي ﷺ، فالىهودية والنصرانية وغيرها تعتبر بدعًا؛ لأنه بعدما جاء النبي ﷺ وجاءت الشريعة الإسلامية نُسِخَت جميع الشرائع، فأصبح من يتعبد في هذا العصر بالىهودية أو بالنصرانية، فيعتبر تعبده بدعة، واعتناقه لليهودية، وترك الإسلام بدعة مُكَفِّرَة، وهناك بدع غير مُكَفِّرة، والنبي ﷺ ذكر أن هذه الأُمَّة ستفترق على ثلاث وسبعين فِرْقَة، كلها في النار إلا واحدة.
إذًا الفِرَق هذه الاثنتان وسبعون فرقة، هي من أهل القبلة، فبدعهم غير مُكَفِّرَة، هذا هو الأصل، لكن قد يكون هناك من المبتدعة من هو بدعته يعني فيها غلو، فتكون مُكَفِّرَة؛ ولهذا الجهمية لم يَذْكُرْها أهل العلم في الاثنتين وسبعين فرقة لماذا؟ لأن بدعتها ماذا؟ مُكَفِّرَة، فهم ليسوا من أهل القبلة، وأما الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، الفرقة الناجية؛ يعني الناجية من البدع، الناجية من الضلالات في الدنيا، في الآخرة ناجية من النار، الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة، هؤلاء على السنة، وليسوا على البدعة.
والبدعة بعد الشرك، البدعة أشد من الكبيرة، يعني أعظم شيء الشرك بالله جل وعلا، ثم يليه البدعة، ثم يليه الكبيرة من كبائر الذنوب.
ولهذا قالوا: إن صاحب البدعة ليس له توبة، لماذا؟ لأنه في الغالب أن صاحب البدعة لا يتخلى عن بدعته، مهما جئته بالبراهين والأدلة، أنت ترى مثلًا الرافضة المبتدعة وغيرهم، لا يتخلون إلا ما ندر منهم، وَقَلَّ منهم؛ لأن البدعة خطيرة، صعب أن يتخلص منها صاحبها، خاصة إذا رَبَى علىها، وشبَّ علىها، وشاب علىها، إلَّا من رحم الله جل وعلا، المهم أن البدعة خطيرة.
لكن البدعة غير المُكَفِّرَة داخلة تحت المشيئة: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ
ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ﴾. [النساء: 48] فيدخل تحت المشيئة صاحب البدعة كما يدخل صاحب الكبيرة، كما يدخل صاحب الشرك الأصغر، والكفر الأصغر، كلهم داخلون تحت المشيئة. هذا هو الصحيح والله أعلم.
الحديث السادس
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكَ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ». رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث رواه البخاري ومسلم، قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو نُعَيْم، قال: حدثنا زكريا، عن الشَّعْبِيّ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إِنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ"؛ يعني أن الحلال واضح، والحرام واضح، فالذي جاء علىه الدليل بالتحريم، مثل تحريم شرب الخمر، تحريم الربا، هذا بَيِّن واضح، النص فيه ظاهر، وصريح، وأما الحلال فإن ما لم يَرِد فيه التحريم، فالأصل أنه حلال؛ لأنه داخل تحت نص عام: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾. [البقرة: 29]
فالأصل في الأشياء الحِلّ، إلا الفروج، لكن مثلًا الأطعمة الأصل فيها الحل. وهكذا.
إذًا الحلال بَيِّن، ولا يحتاج الحلال إلى دليل خاص في كل قضية، لا يحتاج لدليل خاص، لكن الحرام هو الذي يحتاج إلى دليل خاص، فهناك أشياء مُحَرَّمَة، أدلتها واضحة، ظاهرة، وصحيحة، وبَيِّنة، هذا حرام بَيِّن، وهناك أمور مشتبهات، يعني الدليل فيها ليس ظاهرًا، وواضحًا، وبَيِّنًا، سواء من جهة الصحة والضعف، يعني هل هذا الحديث صحيح أو ضعيف؟ بعض العلماء يصححه، وبعض العلماء يضعفه، أو هل ورد فيها دليل خاص أو لم يَرِد؟ هل هي تدخل تحت هذا العموم أو لا تدخل؟ وهكذا. يعني مسائل كثيرة متعددة تعتبر محل شبهة، ولكن كما قال النبي ﷺ: "إِنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ وَالحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ".
ماذا نستفيد من قول النبي ﷺ: لا يعلمهن كثير من الناس؟ يعني فيه من هو يعلم أهو حلال أم حرام، لكن كثير من الناس لا يعلمونه، ولكن هناك من هو يعلمه هل هي من الحلال أم من الحرام ؟. طيب
"وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ". هناك من يعلم أنها حلال أو حرام في نفس الأمر عند الله، يعني هل هي حلال أم حرام؛ لأنه عنده الدليل، وهناك من قد يكون علمه وهمًا، يعني يرى أنها حلال أو يرى أنها حرام؛ لأن الله جل وعلا يقول كذا وكذا، أو لأن النبي ﷺ يقول كذا وكذا، ولكنه واهم إما لأن الدليل لا ينطبق على المسألة، أو لأن الدليل فيه ضعف لا يصح، إذًا هو يرى أنه يعلم، ويعمل بعلمه، لكن علمه ماذا يسمى؟ وهمًا. وإن كان طبعًا هو مأجور على اجتهاده إذا كان من أهل الاجتهاد، وأهل العلم، ولكنه في الحقيقة لا يعلمها حقيقة.
قال: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ".
هنا أيضا قَسَّم النبي ﷺ الذين لا يعلمون هذه المسألة، وإنما هي مشتبهة عندهم، أنها منقسمة إلى قسمين:
من هم يا إخوان؟ أحدهما الذي يتقي الشبهة، يقف، هو لا يعلم أنها حلال أم حرام، يقف مباشرة، فيتقيها ويتركها، وآخر لا، هو يعلم أنها شبهة، ولكنه قال: ما دام أنها ليست حرامًا بَيِّنًا سأعملها.
إذًا قِسْم اتقاها، وقِسْم وقع فيها، قال النبي ﷺ: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ" استبرأ لدينه يعني أنه احتاط لدينه، حيث إنه جعل بينه وبين الحرام حاجزًا وهو الشبهة، فلو أنه اجترأ في يوم من الأيام فإنما يقع فقط في الشبهة، لكن ما يصل إلى الحرام؛ لأن هذه الشبهة حِمى للحرام، يعني هذا استبرأ لدينه.
وأما الذي استبرأ لعِرْضِه، كيف عرضه؟ أن الناس لا يتكلمون فيه، ما يقولون: انظر لهذا، طالب علم ويفعل كذا وكذا، انظر لهذا: ملتحٍ وثوبه قصير، ومع ذلك يفعل كذا وكذا، ويبدأون يتكلمون فيه، فالذي يتقي الشبهات نجا من حيث إنه بعيد عن المُحَرَّم، وأيضًا كسب أجرًا؛ لأن تركه الشبهة عبودية، وأيضا حَفِظ عِرْضَه، لا أحد يتكلم فيه، وهو هنا حين ترك هذا الشيء ليس لأنه يرائي، يعني ما ترك هذا الموضوع من أجل أن يمدحه الناس، يقولون: انظر ما شاء الله علىه، متدين، ملتزم، قوي، لا، هو فقط من أجل أن ينجو.
ولهذا يقول أنس رضي الله عنه: "من لم يستحِ من الناس لا يستحِ من الله"، فالإنسان يستحي من الناس، ومطلوب أن يحفظ عرضه كما هو مطلوب أن يحفظ دمه وماله .. طيب.
قال النبي ﷺ: "وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ"، إذًا هذا الشخص الذي تجرأ على هذه الشبهة هل هو آثم؟ لا، ليس بآثم. اللهم إلا أن تكون الشبهة قوية وهو غير مبالٍ بها إطلاقًا، ما في نفسه أي حرج، تجرأ علىها دون خوف، دون مبالاة، فقد يقع في الحرام بسبب جرأته، وعدم مبالاته، وقوة الشبهة.
أما لو كان يقول: ليس هناك دليل، وهناك عالم يفتي بها، ونسأل الله جل وعلا أن يعفو عنا، وأتى إلى الشبهة، فهذا لا إثم علىه. طيب. لكنه وقع في الحرام؛ يقول النبي ﷺ، كيف وقع في الحرام؟ إما أن يكون معناه أنه ما دام أنه جَرُأ وجسر على الشبهة، وجشر علىها، أي رعى فيها، ووقع فيها، فإنه سيجرأ ربما إلى المُحَرَّم؛ لأن الشيطان له خطوات، يَجُرُّك أول شيء إلى الشبهة، ثم يجرك إلى المحرم، ونفسك أيضًا، النفس أمارة بالسوء، فتزين لك أن تقع في الشبهة، ثم تزين لك أن تقع في الحرام، ولهذا جاء أن بني إسرائيل لما حَرَّم الله علىهم أن يصطادوا في السبت، وضعوا الشِّباك يوم الجمعة، وأخذوا الحوت والأسماك ماذا؟ يوم الأحد، وهذه حيلة على المُحَرَّم، ما تجوز، لكن عمومًا، بعد هذا تجرؤوا أكثر من ذلك، وقالوا بعد ذلك: الصيد يوم السبت حلال، ما فيه شيء، ما هو الفرق أن نضع الشِّباك يوم الجمعة، ونأخذها يوم الأحد، وأن نضعها يوم السبت؟ فاجترأوا على الحرام، فالشاهد أن هذا هو معنى قول النبي ﷺ: "وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ"، أو يدخل في ذلك أيضًا قسم آخر هو أن الإنسان قد يأتي إلى هذا العمل وهو مُحَرَّم في الحقيقة، فيكون خالط دَمَه ومَالَه هذا المُحَرَّم، يعني هناك مثلًا شركة أسهم مختلطة مثلًا، فبعض العملاء يقول: لا مانع منها، واختلفوا هل هي جائزة أم محرمة؟ المهم أنها مختلطة وشبهة، فربما تكون حرامًا، فأنت إذا ساهمت فيها، وأخذت هذا المال، أخذت مالًا حرامًا، وإن كنت قد تُعْذَر مثلًا من حيث أنك لا تأثم لِتَحَرِّيك وبحثك وسؤالك العلماء، لكن عمومًا إذا كانت فعلًا عند الله مُحَرَّمَة، كما قال بها بعض أهل العلم أنها مُحَرَّمَة، فأنت المال الذي أخذته حرام، والحرام إذا خالط الدم له شُؤْمُه، خالط اللحم له شُؤْمُه، أرأيت كيف فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما جيء له بذلك المال الذي تُكُهِّن به؟ وأبو بكر لا يدري يعني أكله له حلال، ومع ذلك لما أُخْبِر به وقد دخل في بطنه، ماذا فعل أبو بكر؟ تَقيَّأه، أدخل أصبعه حتى أخرجه من بطنه وهو حلال له أصلًا، لكن الحرام إذا دخل المنزل، أو دخل البطن، أو لبسته، أو أكلته، أو ركبته أو غير ذلك، فقد يكون له شؤم. طيب.
ثم مثل النبي ﷺ بمثال، قال: "كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ"؛ يعني أن هناك حِمًى لمزارع مثلًا، بعض الملوك، لو جاء راعٍ بإبله أو غنمه، ودنا بها عند مزرعة الملك مثلًا، وقال: الإبل والأغنام ستأكل قريبة من المزرعة لكن لن تدخل المزرعة، فإذا قَرُبَت قد لا يستطيعها، قد تدخل غفلة، لأنه ما ترك لها حِمى، وإنما دخل في الحِمى، هو ليس ممنوعًا أن يرعى بإبله أو غنمه عند المزرعة، لكن حقيقةً أنه لما لم يجعل بين المزرعة وبين الغنم حِمى، أصبح أقرب خطأ وغفلة، تدخل هذه الماشية في مزرعة الملك، طيب ثم قال النبي ﷺ: " كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ"، إذًا نبتعد عن المحارم، ونجعل بيننا وبين المُحَرَّم: المشتبهات والمكروهات، لا نقرب المكروهات ولا نقرب المشتبهات، وإن كان المكروه ليس حرامًا، لكن لئلا تجسر على الحرام، ولا يكون العبد من المتقين حتى يَدَع ما لا بأس به؛ حَذَرًا مما به بأس، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ أي أَمْر فيه شك، فيه ريب، فإنك تبتعد عنه، وطبعًا الشبهات أنواع، فمثلًا لو وَجَدتَ في بيتك مالًا، وجدت مثلًا ألف ريال، الأصل أنها لك، لأن الأصل أنها في البيت لك، لكن لو أنك نظرت، وقلت: أنا ما كان عندي هذا المبلغ، وفي ضيوف دخلوا، وفي ضيوف خرجوا، فتورعت عن هذا المال، قلت: والله كم شخص دخلوا وطلعوا، وعندنا ولائم، أكيد أحد سقط منه، تورعت عن هذا المال، هذا من التورع، فهذا المال من الشبهات، لكن لو علمت أنه لك، أو ليس هناك دليل على أنه ممكن أن يكون لأحد، فهنا لا يعتبر من الشبهات.
النبي ﷺ لما وجد تمرة عند فراشه، قال: أخشى أن تكون من تمر الصدقة، فلم يأكلها، هذه شبهة، والشبهة أحيانًا قد تكون مسائل خلافية.
فمثلًا: لو جئت للتصوير الفوتوغرافي مثلًا، شبهة، من العلماء مثلًا من يقول: حرام، ومنهم من يقول: جائز، والخلاف قوي، فتركه أقل أحواله أنه من ترك الشبهات، لكن لو جاءت مسألة خلافية ما علىها دليل، المخالف لا دليل معه، وهذا الخلاف غير مُعتَبَر؛ لأن المخالف ما عنده دليل، فهنا ما نقول: هذا من الشبهات، ليس كل عالم خالف المسألة نتركها ونقول: إنها من الشبهات، حتى يكون العالم الذي خالف معه دليل قوي معتبر، فتكون من الشبهات، المهم: أن الشبهات أنواع، وأقسام، وألوان، ليست شيئًا واحدًا.
قال النبي ﷺ: "أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ"؛ يعني أن هذه المضغة الذي هو القلب هو مَلِك الأعضاء، والجوارح جنوده، هذا الملك إذا صلح تصلح الجنود، وتصلح الرعية، وإذا فسد، فسدت الجوارح، فسدت جنوده، ويفسد كثير من الرعية، لذلك هذا القلب ينبغي مراعاة تربيته، والاهتمام به، وأن تتفقد هذا القلب دائمًا وأبدًا؛ لأن في صلاحه صلاح الجوارح، وفي فساده فساد للجوارح.
وهذا يدل على أهمية مسألة القلب، والقلب لا يعني أنه لو غُيِر مثلًا بقلبِ كافر أن الشخص يصبح كافرًا، لأن القلب ليس المقصود به اللحمة هذه، القلب النابض هذا ليس هو المقصود به شرعًا، وإنما القلب هو الذي داخل هذه المضغة، الذي يعقل، ويتأمل، ويتدبر.
وأما هذه المضغة فقط حتى لو أخذ قلب كافر، ووضعت في جوف مسلم، منذ أن يستيقظ هذا الشخص من العملية هو مسلم بإذن الله، ويصلي ويخاف وكل شيء، لماذا؟ لأن هذه المضغة وعاء، ولكن ما في جوفه الله أعلم به هو القلب، نعم.
الحديث السابع
عَنْ أَبِي رُقَيَّةَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». رواه مسلم.
هنا يقول الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا محمد بن عَبَّاد المكي، قال: حدثنا سفيان يعني ابن عيينة، عن سهيل، عن عطاء بن يزيد، عن تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ"؛ يعني أن الدين التام، والدين الكامل، هو الذي أخذ صاحبه بالنصيحة، فصار ناصحًا لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
"الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ". رواه مسلم.
المهم أن معنى النصيحة ليس هو ما يفهمها البعض، أن النصيحة الكلام الذي تقوله، وإنما النصيحة هي كلمة جامعة، تدل على إخلاص الناصح للمنصوح في فعل الخير له، فيبذل قصارى جهده في عمل الخير، وبمعنى آخر أنك تعطي كل ذي حق حقه، كما جاء عن النبي ﷺ أنه قال: "إِنَّ اللهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، إذًا النصيحة أن تعطي كل ذي حق حقه، فما هي النصيحة لله؟ أن تعطيه حقه، وحق الله تعالى، ماذا؟ أن تعبده ولا تشرك به شيئًا، وأن تحقق توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأن تطيعه فيما أمر، وتجتنب ما عنه نهى وزجر، وتخلص العمل له، إلى غير ذلك من حقوق الله جل وعلا.
وهكذا النصيحة لكتابه: القرآن، كيف النصيحة للقرآن؟ أن تؤمن بالقرآن، وبما تضمنه القرآن، وتُحَكِّم القرآن، وتعمل بالقرآن، وهكذا.
كيف النصيحة للرسول؟ أن تؤمن بالرسول، وأن تصدقه فيما أخبر، وأن تطيعه فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وألا تعبد الله إلا بما شرع إلى غير ذلك.
وهكذا النصيحة لأئمة المسلمين، أئمة المسلمين هم العلماء والأمراء، العلماء تنصح لهم، وذلك بأن تسألهم فيما يشكل علىك، وأن تبحث عن أوثق العلماء، وأعلمهم، وأكثرهم ورعًا، فتصدر عن قوله في الحلال والحرام، وما تتعرض للعلماء بالغيبة، والنميمة، والسب، والشتم، ونحو ذلك، والاستنقاص، ولو رأيت من عالم خطأ، فإنك تنصح فيما بينك وبينه، وهكذا الأمراء، طبعًا الأمراء أيضًا طبقات، فكل من كان ترجع له في أمر، فهو أميرك في هذا الأمر. فمثلًا: الخليفة أو المَلِك من النصح لهم: أن توجه لهم النصيحة فيما بينك وبينهم، وأن تدعو لهم بالصلاح، والهداية، ألَّا تَخْرُج علىهم، ألَّا تُكَفِّرَهم، وهذا الأمر يعود إلى العلماء، وليس إلى عامة الناس، وليس إلى طلبة العلم الذين لم يبلغوا درجة معرفة مثل هذه الأمور.
فالمهم أن هذا من النصح لهم، والأشياء كثيرة، المهم أن تعطي كل ذي حق حقه.
وكذلك عامة المسلمين: أن تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وأن تدلهم على الخير، وتحثهم عليه، وتحرضهم عليه، وتحذرهم من الشر، وأن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وغير ذلك من الأمور. نعم.
الحديث الثامن
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى». رواه البخاري ومسلم.
يقول الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، قال: حدثنا أبو رَوْح، عن شُعْبَة، عن واقد بن محمد، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ.
وحديث ابن عمر، قال: قال النبي ﷺ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ". يعني أن الأمر لرسول الله ﷺ، ولمن بعده من المسلمين، أن يقاتل الإمام الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ولكن بحسب القدرة والإمكانية.
"أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ"، وهنا فيه أنه لا يجوز قتال من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويأتي بأركان الإسلام، ولكن لو شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولكنه لم يأتِ بأركان الإسلام، لم يصلِ، يعني طائفة أو أهل بلد يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنهم لا يقيمون الصلاة، سواء كانت طائفة أو أهل بلد، هنا ماذا نفعل؟ هنا نقاتلهم .
طيب إذا كان يصلون ولكنهم لا يزكون؟ نقاتلهم أيضًا؛ لأن النبي ﷺ ذكر في هذا الحديث: ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ولذلك قال: فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وقد يصلي الشخص ويتمثل بالزكاة، لكنه يتصف بالنفاق، المهم أنه يكون معصوم المال والدم، أما كونه منافقًا فحسابه على الله جل وعلا.
طيب، هنا ما ذكر النبي ﷺ إلا الزكاة والصلاة، طيب لو هناك طائفة أو أهل بلد يصلون ويزكون، ويشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولكنهم لا يصومون هل نقاتلهم أم لا؟ هذا الحديث لم يذكر الصيام، ولا الحج، إلا أن يقال: إن النبي ﷺ قال: إلا بحق الإسلام، فالصيام والحج داخلة بحق الإسلام. إذًا نقاتلهم؛ لأنه وإن لم تذكر صريحة إلا أنها داخلة في دائرة الإسلام الذي هو حق الإسلام، ولهذا استنبط أبو بكر أولًا، ثم تبعه عمر، ووافقه على قتال مانعي الزكاة، بماذا استدل أبو بكر؟ هل استدل بهذا الحديث؟ الجواب: ما استدل أبو بكر بهذا الحديث، أبو بكر قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، ولم يستدل بهذا الحديث.
لهذا أخذ بعض العلماء أن أبا بكر وعمر ليس عندهم هذا الحديث، ولو كان عندهم لجاءوا به؛ لأنه صريح وواضح. وإن كان عند النسائي، وعند ابن خزيمة، أن أبا بكر استدل بهذا الحديث.
ولكن كثير من أهل الحديث قالوا: إن عمران القطان قد أخطأ في هذا الحديث، والمهم: إن كان أبو بكر، طبعًا لا نستطيع أن نجزم أن أبا بكر ليس معه هذا الحديث، وأن عمر ليس معه هذا الحديث، وإن كان بعض أهل العلم قال به، قال: لو كان عندهم لاستدلوا به مباشرة.
فإن كان كما قالوا، فدليل على أن العالم مهما بلغ في العلم، قد يفوته الدليل، ولكن العالم في الغالب حتى لو فاته دليل، فإنه يستنبط من أدلة أخرى.
ليس معنى ذلك أن نقول: إن الشيخ الفلاني ليس مُحَدِّثًا ولا هو ممن يُعَدّ من أهل الأسانيد، فلذلك قد يفوته الحديث، هل هو صحيح أو ضعيف، لا، الفقيه قد يعرف المسألة ولو ليس عنده دليلها الخاص من السنة، قد يكون دليلها من القرآن، أو من العموميات، أو من أدلة أخرى.
لذلك ما تستنقص الفقهاء في هذا الأمر، لا، وكم فقيه أفضل من مُحَدِّث!، لأن بعض المحدثين مثلًا ليس عندهم فقه، وإن كان عندهم حفظ، ممكن يأتي شخص ويأخذ دورة، ويحفظ الكتب الستة مثلًا في خلال سنة أو أقل، ولكنه لا يعرف فقه هذه الأحاديث.
ولذلك مثلًا لو تأتي إلى كتب الجرح والتعديل رأيت علماء لا تراهم في كتب الفقه، وتجده يقول مثلًا ابن أبي حاتم قال عن أبيه: إن هذا الرجل ضعيف أو ثقة، لكن لو تفتح المغني ما وجدت لأبي حاتم كلامًا في الفقه مثلًا. وغيرهم كثير، وليس يلزم أنه إذا لم يوجد أنه ليس عنده فقه، لكن منهم من ليس عنده الفقه الكافي.
ومن الفقهاء مثلًا لو فتحت كتاب الجرح والتعديل مثلًا (تهذيب التهذيب)، أو (تهذيب الكمال) ما وجدت أن ابن قدامة تكلم عن رجل، قال ابن قدامة: إن هذا ضعيف أو ثقة، لكن تعال لكتب الفقه تجد أن ابن قدامة مذكور في كتب الفقه، وله كتب فقه، طيب.
فنقول يعني: إن أبا بكر وعمر لم يستدلوا بهذا الحديث، لكن أبو بكر استدل بما فيه الكفاية، وهذا دليل على قوة علمه واستنباطه، وأبو بكر أعلم الناس بعد النبي ﷺ، ثم يليه عمر رضي الله عنه في العلم، طيب.
هناك أيضًا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه أمر خالد بن الوليد أن يقاتل من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصوم.
وجاء عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: "لو أن أهل بلد تركوا الحج لقاتلتهم"، المهم أن الطائفة أو أهل البلد لو تركوا من شعائر الإسلام الظاهرة شيئًا لقوتلوا علىه، حتى لو تركوا الأذان مثلًا، هم يصلون، لكن بدون أذان يُقاتَلُون، أي شعيرة ظاهرة لو تركها أهل البلد يُقاتَلون علىها.
لكن هل يُقتَل الشخص الفَرْد لتركه الزكاة، أو لتركه الصلاة، أو لتركه الحج، أو لتركه الصوم ؟
هذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: حتى الفرد الواحد لو أصر على ترك الصلاة يُقْتَل، وقال آخرون: لو أصر على ترك الزكاة يُقْتَل، وقال آخرون: لو أصر على ترك الصيام يُقْتَل، وقال آخرون: لو أصر على ترك الحج، بأنه لا يريد أن يحج في المستقبل ولا شيء أنه يُقْتَل، ولكن هذا طبعًا بعد الاستتابة.
قال: "فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ".
وتعرفون الحديث الذي في الصحيحين، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي ﷺ ماذا قال؟
"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ".
فقوله: التارك لدينه، المفارق للجماعة، يدخل فيها أشياء كثيرة، فالذي يترك الصلاة لا يصلي إطلاقًا، وإن كان يعتقد فرضيتها قد يُقْتَل، لأنه تارك لدينه، مفارق للجماعة.
وهكذا قد يدخل في ذلك أيضًا الزكاة وقد يدخل الصوم والحج، وإن كان مسألة الصوم والحج أضعف من قضية الصلاة والزكاة.
قال: "وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى"؛ يعني أن من أظهر لنا التلفظ بالشهادتين، وأظهر أنه يصلي، وأنه يزكي، فإنه بذلك يعصم ماله ودمه، ولكن يكون ذلك نفاقًا، كما كان على عهد النبي ﷺ، كان هناك منافقون يصلون، ويتلفظون بالشهادتين، ويفعلون بعض شعائر الدين، ولكنه نفاق وتقية من أجل أن يعصموا دماءهم وأموالهم.
هنا النبي ﷺ لم يقتلهم، ولكن حسابهم على الله جل وعلا يوم القيامة.
قال: رواه البخاري ومسلم؛ يعني أن الحديث متفق علىه.
الحديث التاسع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ الدَّوْسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ". رواه البخاري، ومسلم.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا إسماعيل، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ"، يعني أن ما نهانا الله جل وعلا عنه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، من الاعتقادات، والأقوال، والأفعال، وما هو داخل في ذلك، فعلينا أن نجتنبه جملة وتفصيلًا، وأن نجتنبه بالكلية، وهذا النهي هو النهي المجزوم به، الذي لم يأتِ دليل آخر يدل على أن هذا النهي ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة، على أن نهي الكراهية يُطلَب من المؤمن أن يتركه أيضًا، وأن يتجنبه، ولكنه ليس واجبًا عليه، وإنما ذلك من مُكمِّلات الدين ومُتمِّماته، فالمهم أن ما نُهِي عنه نهي تحريم يجب البعد عنه، ويجب تركه، وما نهي عنه نهي كراهية، وهو الذي جاء دليل آخر يدل على أن النهي ليس للتحريم، فإنما يُستَحَبّ البعد عنه، ويستحب تركه ولا يجب.
"مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ"، وهذا دليل على أن الأصل في المنهي عنه أنه يُحمَل على التحريم، حتى يدل الدليل على أن النهي محمول على الكراهية وليس على التحريم.
قال: "وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"؛ يعني كذلك ما أمرنا الله جل وعلا به في كتابه، أو أمرنا به رسوله ﷺ في سنته، فإننا نأتي منه ما استطعنا، كما قال جل وعلا: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾. [سورة التغابن: 16]
لأن الإنسان ليس في وسعه - بما يتعلق بالأمر - أن يأتي بكل ما أُمِر به، حيث قد يكون عاجزًا، مثلًا: أنت مأمور بأن تصلي قائمًا، فقد يكون الإنسان مريضًا فلا يستطيع أن يصلي قائمًا، فليصلِّ قاعدًا.
بخلاف النهي، فإن النهي هو ترك، والترك في استطاعة المسلم، اللهم إلا أن يضطر إليه، كأن يضطر مثلًا المسلم إلى أكل الميتة لجوع يخشى عليه من الهلاك، أو يضطر مثلًا إلى خمر لدفع غصة، لا يوجد غير هذا الخمر، فإن هذا مما اضطررنا إليه، وقد جاء الاستثناء في الشريعة أن الضرورة تبيح المحظور، ما يدل على هذه القاعدة: "أن الضرورات تبيح المحظورات"، وهو أن الله جل وعلا قال: ﴿إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ۗ [سورة الأنعام: 119] طيب.
هل معنى ذلك أن النهي أعظم من الأمر؛ حيث إن الأمر عُلِّق بالاستطاعة، وأن النهي لم يُعَلَّق بالاستطاعة؟
بعض أهل العلم ذهب إلى ذلك، ولكن هذا قول مرجوح، فالأمر أعظم؛ لأن الأمر يحتاج إلى نية، واحتساب، وإخلاص، أما الترك فإن الإنسان لو ترك شيئًا ولو بغير نية، فإنه لا يَلحَقُه مَذَمَّة، وإن كان قد لا يُؤجَر.
في كثير من الصور الترك يحتاج إلى احتساب، وإلى استحضار نية، ولكن على أية حال لو لم تستحضر النية، فإنك إما أن تكسب أجرًا، وإما أن لا يَلحَقَك إثم.
والصحيح: أن المراد بالحديث هو أن الأمر أعظم، ولكن لأن الأمر يتعلق بالاستطاعة جاء التقييد بالاستطاعة، وأما النهي فلأن الشخص لا يحتاج إلى ما يحتاجه الأمر من تعليق ذلك بالاستطاعة، جاء النهي من غير تعليق بالاستطاعة، وأيضًا أمر آخر، وهو أن ترك المُحَرَّم واجتناب المُحَرَّم مُقَدَّم على فعل المستحبات.
فمثلًا: ترك دينار حرام مُقَدَّم على أن تتصدق بمائة ألف دينار من الحلال؛ لأن الصدقة تطوع وليس واجبًا، وأما ترك هذا الدينار الحرام فهو واجب.
وكما في الحديث القدسي: "وَمَا تقرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشْيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عليْهِ".
قال: "فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ"؛ يعني أن الذين من قبلنا هلكوا بسبب كثرة مسائلهم، إحداث المسائل، وتوليد المسائل، التي إما أن يكون غير محتاج لها الإنسان، وإنما هي من باب الافتراضيات، أو قد تكون هذه المسائل من باب التعنت والتشدد، أو من باب - وذلك في وقت زمن النبوة - أن يكون أسئلة فيها تشديد على النفس.
مثل: قصة صاحب البقرة ﴿مَا لَوۡنُهَاۚ﴾ [سورة البقرة: 69] إلى آخره، بدؤوا يسألون أسئلة، لو ذبحوا أي بقرة لأجزأهم، بدأوا يسألون ويحدثون الأسئلة التي بها تشدد، فشدد الله عليهم، ولكن هذا في زمن النبوة لأنه ينزل من السماء الوحي، لكن بعد زمن النبوة حتى لو سأل الإنسان الأسئلة التشددية، فإنه طبعًا منهي عنه، ولكن لا يمكن أن يأتي بشرع جديد.
الأسئلة تنقسم إلى أقسام:
- هناك أسئلة عن أمور واجبة عليك.
أن تسأل مثلًا عن صفة الصلاة، أن تسأل مثلًا عن هذه البيعة: أهي حلال أم حرام؟، فهذا السؤال واجب عليك، أي أمر تجهله من الدين وأنت ستُقْدِم عليه أو مطالب به، فإنه لا بد أن تعرف ما المطلوب منك؟ هل مطلوب منك أن تصلي بالطريقة الفُلانية أو الطريقة الفُلانية؟، هل هذا العمل كالتجارة مثلًا، شراء سلعة معينة، بصفة بيع معينة، هل هذه الطريقة حلال أم حرام؟.
إذن هذا سؤال فرضٌ عليك وواجبٌ عليك أن تسأل، ما يأتي إنسان مثلًا ويذهب إلى بنك من البنوك ويستدين، يقترض بأرباح من غير أن يسأل لا يدري هو حلال أم حرام، لا بد أن يسأل، يسأل العالم عن صورة هذا البيع: أهي حلال أم حرام؟ شخص يريد أن يصلي فلا بد أن يسأل فيما يتعلق بصلاته: هل هذا وارد عن النبي ﷺ، أم ليس بوارد؟، هل هذا سنة أم بدعة؟ هل تصح الصلاة بهذا الفعل أم تفسد؟ طيب.
- السؤال الآخر، وهو السؤال من باب التفقه في الدين.
هذا السؤال ليس واجبًا على كل شخص، وإنما هو فرض كفاية بحيث إنه لا بد أن يوجد في الأمة عالم، يصدر الناس عن توجيهه في الحلال والحرام، والصحة والفساد، والسنة والبدعة، وغير ذلك.
إذًا السؤال من باب التفقه في الدين هذا فرض كفاية وليس فرض عين، وهو مطلوب من الإنسان أن يسأل من باب التعلم والتفقه.
كما قال ابن عباس: "أوتيت لسانًا سؤولًا، وقلبًا عقولًا".
-الأمر الثالث: السؤال الذي لا فائدة من ورائه، ولا طائل من ورائه.
ليس من باب العمل، ولا من باب الاستفادة لا دين ولا دنيا، وإنما من باب إحداث المسائل، فهذا منهي عنه.
لماذا ؟ لأنه لا يعنيك هذا السؤال، قد يكون أحيانًا بعض الأسئلة من باب - كما يقولون - التمرين العقلي، وفتح الآفاق، هذا ممكن ولكن لا يكثر منها؛ فإن هناك من الأسئلة التي أنت محتاج إليها اعتقادًا وقولًا وعملًا ما يغنيك عن هذه المسائل المُحدَثَة التي لا تُسمِن ولا تُغنِي من جوع، وإن كان فيها نوع من الرياضة العقلية والذهنية، المسائل المُحدَثَة والافتراضية قد تُولِّد النزاع والمشاكل والخلافات، وتضيع الوقت، ربما يعني طرح الأسئلة الافتراضية والنقاش فيها ليس قصد الإنسان العمل والعلم، وإنما قصده إما المراءاة، أو من أجل أن يجادل به العلماء، ويظهر نفسه، أو من باب مجاراة السفهاء، أو إظهار الغلبة، لكن ليس من باب العلم، ولا من باب العمل، فهذه أيضًا مسائل منهي عنها؛ لأن فيها تضييعًا للوقت، فيها الفرقة وعدم الألفة، فيها أنها سبب من أسباب الحزبية، إذًا مثل هذه المسائل هي التي فيها الهلكة.
وكذلك أن إحداث المسائل وهذا واقع في مثل هذا العصر، واضح وبَيِّن على وسائل التواصل الاجتماعي، تجد هناك أسئلة تطرح وكل يعني يدخل برأيه في مسائل الدين، والله أنا رأيي كذا! أنا أظن الجواب كذا!، مع وجود العلماء، وهذا ليس للإنسان إذا لم يكن عنده علم أن يدخل في مثل هذه المسائل، وإنما هذا يرجع إلى العلماء؛ لذلك يقع الاختلاف، ويقع البُعد عن الكتاب والسنة؛ لأن الإنسان لا يعرف في هذه المسألة، ما هو المطلوب منه شرعًا، لكن ترى الكثير يُدلِي بِدَلْوِه ظُنونًا، ﴿وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا﴾ [سورة النجم: 28]، فلذلك إحداث المسائل التي لا يستفاد منها علم ولا عمل، هذه إنما تسبب الاختلاف، والافتراق، والبغضاء، والشحناء، والبعد عن السنة، والبعد عن المطلوب، والبعد عن الأهم وعن المهم، هذه الأمور لابد أن ننتبه لها .... نعم.
الحديث العاشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ﴾ [سورة المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ﴾ [سورة البقرة: 172]، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حرامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ". رواه مسلم.
نعم، يقول الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الحديث يقول فيه أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "إنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا"، فالله جل وعلا طيب؛ أي: مُنَزَّه عن النقائص وعن المعايب، وهو جل وعلا الكامل في أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، في ألوهيته، في ربوبيته، وأُخِذ من هذا الحديث: أن من أسماء الله تعالى "الطيب ".
"إنَّ اللهَ تعالى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طيِّبًا"، أي: لا يَقْبَل من الاعتقادات، ولا من الأفعال، والأعمال، والأقوال، والتوجهات، والأفكار، والمناهج، إلا الطيب.
والطيب ما هو ؟ هو الذي لا يخرج عن الشريعة، هذا هو الطيب، وليس تحديد الطيب بالآراء، والأهواء، والعواطف، إنما تحديد الطيب بما دَلَّت عليه الشريعة أنه الطيب.
"إنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طيِّبًا"، القبول قد يراد به أن يُذكَر صاحبه في الملأ الأعلى، ويُثنَى عليه، وهذا القبول الكامل، والتام، والأعظم، والأكبر، والأعلى، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾ [سورة المائدة: 27]، وقد يكون القبول هو بمعنى الإجزاء والأجر عليه، ولذلك قد يُنفَى القبول والمراد بالنفي نفي الكمال، وقد يكون النفي نفي القبول الذي هو الإجزاء.
الله جل وعلا لا يقبل من الاعتقادات إلا الطيب، فما هو الاعتقاد الطيب؟
هو اعتقاد أهل السنة والجماعة، لكن اعتقاد الملاحدة، اعتقاد أهل البدع والضلالات كالخوارج والمعتزلة، أو أعظم منهم شرًّا كالجهمية وغير ذلك، فإن هذه الاعتقادات غير طيبة.
وكذلك المناهج: المنهج الطيب هو ماذا؟ السلف الصالح، ما يخرج عن منهج السلف الصالح فليس بطيب، وقد تجد من هو مسلم، ويحب الخير، ولكن منهجه ليس منهج أهل السنة والجماعة، سواء كان منهجه في أموره الكلية أو قد يكون منهجًا في جزئية معينة، فمثلًا: قد يكون منهجه صحيحًا في اعتقاده، فهو يعتقد معتقد أهل السنة والجماعة، وعنده القواعد التي قررها السلف، مثل ما جاء في الواسطية أو غيرها من الكتب الاعتقادية من القواعد والضوابط عنده، لكنه في جانب الدعوة فقط عنده منهج يخالف منهج السلف في الدعوة مثلًا، فهذا المنهج غير طيب.
فكما يجتمع في المسلم شعبة كفر وشعبة إسلام، قد يجتمع في المسلم عنده شعبة من المنهج السلفي الصحيح، وشعبة من المنهج غير الصحيح، الذي هو غير المنهج السلفي، وذلك بأن يسلك طريقًا معينًا، فلننتبه لهذا.
فبعضهم قد يكون منهجه في الدعوة، أو منهجه في الأسماء، أو منهجه في الصفات، أو منهجه في السلوك، أو في العبادة، أو نحو ذلك غير المنهج السلفي.
هنا يعني ننتبه لهذا الموضوع، العقيدة الطيبة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، والمنهج الطيب هو منهج السلف الصالح، وكذلك الأقوال فيها الطيب، وفيها الخبيث، فالأقوال الموافقة للكتاب والسنة والعقيدة عقيدة أهل السنة والجماعة، ومنهج السلف الصالح، هذه طيبة، هذه الأقوال، أما الأقوال البدعية فهي غير طيبة.
فمثلًا: الذي يحلف بغير الله، كالذي يحلف بالنبي ﷺ أو بغيره، هذا القول ليس بطيب، وإن كان هو يريد التعبد إلى الله جل وعلا.
كذلك الأفعال، فمثلًا الذي يتقرب إلى الله جل وعلا بفعل موافق للكتاب والسنة كالصلاة مثلًا التنفل، أو قراءة القرآن، أو غير ذلك مما يوافق الكتاب والسنة هذا يعتبر طيبًا، لكن الذي يتقرب إلى الله ببدعة، على سبيل المثال الذي نعيشه الآن مثل بدعة المولد، يتقرب إلى الله فيها، بأذكار معينة، ورقص، وأشعار بِدْعِيَّة، بل بعضها شِرْكِيَّة، فهذا لا يقبله الله جل وعلا، لا يقبله الله.
كذلك مثلًا من الأفعال: الصدقة، الله جل وعلا لا يَقبَل إلا الصدقة الطيبة، التي هي ماذا؟ من مال حلال، أما الصدقة من مال حرام فإن الله جل وعلا لا يقبلها.
كذلك الأخلاق مثلًا، إنسان قد يَتخَلَّق بخُلُق حسن مع صاحبه، وذلك من باب أن هذا هو الذي أمر الله به، هذا طيب، لكن لو تَخلَّق مع صاحبه بخُلُق حَسَن من أَجْل أن يَجُرَّه إلى الشر، يتلطف معه مثلًا، ويلين، وغير ذلك من خفض الجناح، وهذا من باب أن يَجُرَّه إلى فخٍّ وإلى شر، هذا ليس بخلق طيب.
كذلك العمل الذي هو لله ولكن دَخَلَه شرك، فإن الله جل وعلا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك مع الله غيره تركه وشركه، فلذلك العمل وإن كان مثلًا صورته صالحة، وعلى الكتاب والسنة، ولكن قد يكون الإنسان يريد به الرياء، يريد به السمعة، أو أشرك مع الله مخلوقًا، فإن هذا العمل ليس بطيب.
قال: "وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ﴾؛ أي من الحلال، ﴿وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ﴾، كأن هناك علاقة بين أكل الطيبات والعمل الصالح، لماذا؟، لأن أكل الحرام يصد عن العمل الصالح، ولأن أكل الحرام قد يكون هذا العمل الصالح قائمًا على هذا المال الحرام، كمن يحج مثلًا بمال حرام، إذًا إذا أردت أن تعمل عملًا صالحًا لا بد أن تأكل الحلال، حتى يكون عملك صالحًا، وأن تتوخى الحلال والطيب وهو المباح.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ﴾ هنا الله جل وعلا أمر الناس جميعًا، وخُصَّ المؤمنون؛ لأنهم ينتفعون بهذا الأمر، وهو أن يأكلوا الطيب ويعملوا الصالح، وهذا هو الطريق الموصل إلى الله جلا وعلا، لا أن يُخِلّ بشيء من ذلك، فلو أكل حرامًا وعمل صالحًا أَخَلّ، أو أكل حلالًا وعمل خبيثًا شركًا أو بدعة، أيضًا هذا قد أَخَلَّ، وإنما يجمع الإنسان بين أكل الطيبات وعمل الصالحات .. طيب.
"ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ"، هنا الآن ذكر النبي ﷺ مثالًا مما يتبين فيه أثر أكل الطيب والحلال، وأثر أكل الخبيث والحرام، فذكر ما يتعلق بالدعاء، وقُلْ نحو ذلك فيما يتعلق بأي عبادة من العبادات، لكن تعالوا لهذا المثال، وهو أن النبي ﷺ ذكر الرجل يطيل السفر، السفر وطول السفر من أسباب ماذا؟ إجابة الدعاء، فدعوة المسافر تستجاب، أو من أسباب الاستجابة، هذا أمر، ثم قال: أشعث أغبر، يعني قد يكون هذا الشَّعْر طبعًا الشعر والاغبرار ليس هو مطلوب شرعًا، ولكنه قد يكون مترتبًا على مطلوب شرعًا.
أرأيت لو أن إنسانًا ذهب ليحج، فذهابك مثلًا من عرفة إلى مزدلفة مثلًا تمشي على قدميك، هذا الذهاب مطلوب، سواء على قدميك أو على مركبة لكن بالتأكيد أن العبادة هذه ما تجعل لك فرصة أن تصلح شعرك؛ لأنك مشغول بالعبادة والدعاء، فيكون الشَّعْر في الغالب أشعث، ثم إن ذهابك مع سير الأقدام وسير السيارات وما تُحدِثُه من غبار، هذا الاغبرار الذي يكون على رأسك أيضًا من أسباب أن الإنسان قَدَّم عبادة لله، وهذا من أسباب إجابة الدعوة، وليس المقصود أن تبحث عن الاغبرار وأن يكون شعرك أشعث، ولكن هذا إذا حدث يكون غير مقصود، ولكن بسبب الانشغال بالعبادة والطاعة، وأداء العبادة والطاعة، طيب.
قال: "يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ"، وهذا أيضًا من أسباب إجابة الدعاء، أن يمد الإنسان يديه إلى السماء؛ لأن من أسباب إجابة الدعوة، ومن آداب الدعاء: أن ترفع يديك إلى السماء، ولكن رفع اليدين هناك بعض المواضع لم يرد فيها رفع اليدين، فلا ترفع فيها يديك، فمثلًا: في الخطبة في غير الاستسقاء ليس مشروعًا رفع اليدين، في الصلاة مثلًا، بعد أن تقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم تدعو بالدعاء الثابت، ليس مشروعًا أن ترفع يديك إلى السماء، طيب. لكن الأصل أن رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، فيما لم يكن مخالفًا للشريعة. طيب .
"يَا رَبِّ يَا رَبِّ"، وهنا أيضًا التوسل باسم من أسماء الله بل بالربوبية، وهذا من أسباب ماذا؟ استجابة الدعاء، أن الإنسان يتوسل بأسماء الله جل وعلا، وكذلك بألوهيته أو ربوبيته، طيب، أو بصفة من صفاته، وانظروا كيف كرر وأن هناك إلحاحًا: "يَا رَبِّ يَا رَبِّ"، ليس كمن قال: يارب، مرة واحدة، بل تكرير وإلحاح وكأنه لما كرر، التكرار يدل على أن القلب المتعلق بالله جل وعلا، طيب.
جميع هذه الأسباب متوفرة الآن، ومع ذلك يقول ﷺ: "وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حرامٌ، وَغُذِيَ بالحَرَامِ"، إذًا هذا الشخص قد تربى على الحرام، سواء جمع كل هذه الأشياء، أو قد يكون جمع أمرًا أو أمرين.
قال: "فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟!" يعني يَبْعُد أن يستجاب لمثل هذا، ولو أنه أتى بأسباب وربما أيضًا وسائل الاستجابة، لكن هذا يبعد أن يستجاب له، لماذا؟ لأن الحرام في مأكله، ومشربه، وملبسه، وغير ذلك، حال دون أن يكون أولًا مستجاب الدعوة، لا يمكن أن يكون شخص قد تربى على الحرام ويكون مستجاب الدعوة، وأيضًا فرصة ورجاء الاستجابة ضعيف، ولكنه ليس مستحيلًا، فقد يستجيب الله جل وعلا للشخص.
ومن ذلك مثلًا: أن بعض المفتونين بالاستغاثة بأصحاب القبور، وإن كان قد يعمل عملًا إما بدعة، بأن يذهب يدعو عند قبر، أو قد يعمل شركًا، كأن يستغيث بصاحب القبر، فإنه ربما خرجت منه الدعوة، هو صحيح أنه ذهب يدعو عند القبر، وهذه بدعة، لكنه يدعو الله جل وعلا، ومخلص لله، ولكن ذهابه لأن يدعو الله عند قبر فلان هذه بدعة، ليس شركًا، ولكن بدعة، وهو لم يَدْعُ صاحب القبر، ولا يستغيث به ولا يستنجد به، ولا يطلب منه المدد، ولا غير ذلك، لكن ذهب يدعو الله جل وعلا مخلصًا له الدين، لكن في بقعة وهي عند قبر فلان، يطلب ماذا؟ يطلب البركة، وأنه أقرب لاستجابة دعاء الله جل وعلا.
نقول: هذا العمل بدعي، ولكن مع ذلك قد يستجيب الله جل وعلا له، قد يستغيث بالمقبور، ويستنجد به، ولكن ربما تخرج منه دعوات لله جل وعلا، يُخلِص فيها لله، فتسمع عند أولئك الذين ابتلوا بالشرك وبالقبورية مثلًا: يطلب المدد من "البدوي" مثلًا أو غيره، ولكن بعد قليل يتجه إلى الله جل وعلا، ويدعو الله، فهنا قد يستجاب له.
لذلك بعض الجهلة قد يتصور حين يستجاب له أن هذا بسبب بركة هذا الشخص، سواء كان وليًّا أو فاجرًا، المقبور أو هذا الميت، وهذا جهل، ربما يستجاب له، فيظن أن ذلك بسبب المقبور، والله جل وعلا قد استجاب من ماذا؟ من إبليس، وهو الذي قد أبى أن يسجد، وأيضًا طلب البقاء إلى يوم البعث من أَجْل أن يضل ويغوي بني آدم، ومع ذلك استجاب الله جل وعلا له، والله جل وعلا عالِم بقصده وبنيته أنه يريد البقاء من أجل ذلك، ولكن الله استجاب له، واستجاب للمشركين إذا ركبوا في الفلك ودعوا الله مخلصين له الدين، وإن كان الله يعلم أنه إذا نجاهم سيعودون إلى الشرك، ومع ذلك استجاب الله جل وعلا لهم، فلذلك ليس هناك شيء يحول بينك وبين الاستجابة، لكن قد يكون هناك ما يضعف الاستجابة، وإما أن يضعفها بدرجة كبيرة، أو متوسطة، أو قليلة، المهم أنه بحسب الحرام، وبحسب البدعة، وبحسب الشرك، وغير ذلك .. طيب.
الحديث الحادي عشر
عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، سِبْطِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَرَيْحَانِتِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: "حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ". رواه الترمذي، والنَّسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
نعم، يقول الترمذي رحمه الله: حدثنا أبو موسي الأنصاري، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: حدثنا شعبة، عن بُرَيْد بن أبي مريم، عن أبي الحَوْرَاء، عن الحسن رضي الله عنه، أن النبي ﷺ، قال: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ".
هذا الحديث أولًا هو يدل على فضل الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن والحسين لهما فضائل في الإسلام .
قال: "حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ".
ثم ذكر أن الترمذي قال: حسن صحيح، يعني الترمذي صحح هذا الحديث، وهو حديث ثابت.
"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ". يعني دع ما تشك فيه من الشبهات هي حلال أم حرام إلى ما لا يريبك إلى ما لا تشك فيه، بمعنى شككت في هذه العملية، أهي حلال أم حرام فدعها، إلَّا أن تسأل عالمًا فيذكر لك أنها حلال وليست من المسائل التي يستحب التورع عنها، فإنك لا تُحَرِّم شيئًا أحله الله لك ..طيب.
"دَعْ مَا يَرِيبُكَ"، الريبة تضطرب لها النفس، ويضطرب لها القلب، والبر تسكن له النفس، ويطمئن له القلب، ولذلك قال النبي ﷺ للرجل: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ" فالقلب إذا كان على الفطرة السليمة الصحيحة لم يتلوث، ولم يتبدل، ولم يتغير، ولم ينتكس بسبب الاعتقادات الفاسدة، والتوجهات والأفكار المخالفة، ولم ينتكس بسبب الجُرأة على الحرام، فإن القلب مفتٍ، فتجده يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، يسكن للبر، ويضطرب للحرام، للإثم، ولذلك الإثم يتردد في الصدر، وقد لا يكون إثمًا لكنه شبهة قوية، فتجد الصدر يتردد فيه هذا الموضوع، ولا يرتاح المسلم، وكلما كان الشخص أتقى لله أَصْبَح قَلْبُه، وأصبحت نفسه، وأصبح ضميره الداخلي يعطيه الرسائل الصحيحة، فتجده يضطرب للشبهة وللحرام، والنفس لا تسكن وتضطرب، ويكون هناك تردد في الصدر، ويحيك في صدرك هذا الموضوع، لكن الإنسان إذا انتكس والعياذ بالله تنتكس عنده الأمور جميعًا، فلربما يسكن قلبه للحرام، ويضطرب قلبه في القربة إلى الله جل وعلا، فربما مثلًا يشمئز من مسألة اللحية يرى أنها كذا وكذا، بسبب انتكاس الفطرة والقلب، ومع ذلك يسكن لحلق اللحية، ويرتاح، ويتجمل بها عند الناس، مع أن القلب الصحيح يكره أن يطلع الناس على أمر مخالف، كما قال النبي ﷺ: "وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" طيب.
إذًا ينبغي منا أيها الأحبة أن نحافظ على هذا المفتي الذي في الصدر، أن نحافظ عليه، وذلك بتقوى الله جل وعلا، وبتزكية النفس، يصبح معك مفتيك، لا نقول هذا المفتي يدخل في التفاصيل، لا يمكن أن يرشدك قلبك إلى صفة الصلاة، لا يمكن، ما في مسألة حدثني قلبي عن ربي لا، ولكن هذا القلب يميز في الإجمالي الحلال من الحرام؛ لأنه يميز البر من الفجور، والطاعة من المعصية، في الجملة، أما التفاصيل: فهي راجعة إلى الكتاب والسنة، وإلى البرهان والدليل، ولذلك قد يكون عند الإنسان مثلًا نوع من التشدد، وعدم الرجوع إلى العلماء، فمثلًا: المسافر أثناء الصيام بعض الناس لا يطيعه قلبه أن يفطر، يحس أنه بحكم أنه تربي على الصيام وتعوده ما يرتاح أن يفطر ولو كان في سفر، أو كان مريضًا، تجد بعض كبار السن عنده مرض القلب أو سرطان - أعاذنا الله وإياكم منه - وقد نهاه الطبيب عن الصيام وأنه يضره، ومع ذلك لا يسكن قلبه، ولا يستجيب، ويشعر أن الفطر في نهار رمضان هذا شيء لا يسكن له القلب، نقول: هذا وإن كان هو قد يُمدَح لبقاء الفطرة، ولكن على أية حال هذا نوع من الغلو، بحكم أنه لم يرجع إلى الحكم الشرعي؛ لأنه يجب وينبغي أن تسلم للحكم الشرعي، إذا قال لك العالم: لا تجوز أن تصوم وأنت مريض فلا ينبغي أن يضطرب قلبك .. خلاص ؛ لأن هذه هي الشريعة، طيب ..
وهكذا يعني في الأمور مثلما قلنا: أحلال أم حرام؟، في الأشياء التي تعتبر شبهة، في الأشياء التي تشك هل هي بدعة أو غير بدعة؟ دعها دعها، ولكن مثلما قلت لك: إن هذا إذا كان عندك أدلة أو تسمع مفتيًا مثلًا هذا يقول بدعة، وآخر يقول صحيحة، وأنت قلبك يميل إلى أن هذا العالم هو الذي معه الحق مثلًا، هنا تترك هذا الشيء؛ لأنك تميل إلى أن هذا العالم أوثق، أو أن دليله أقوى، لكن ليس يعني الاختيار من باب الهوى، والتقليد الأعمى، والتعصب، نعم.
الحديث الثاني عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيْهِ". حديث حسن، رواه الترمذي وغيره هكذا .
نعم، يقول أبو عيسى الترمذي رحمه الله: حدثنا أحمد بن نصر النيسابوري وغير واحد قال: حدثنا أبو مسهر، عن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ"، هذه من القواعد في الإسلام، وهو أن ما لا يعنيك دعه، وما يعنيك خذه، قد يقول الإنسان: كيف أعرف ما يعنيني وأعرف الذي لا يعنيني؟ الذي يهمك في أمر دينك ودنياك فهو يعنيك، والذي لا يهمك في أمر دينك ولا دنياك فإنه لا يعنيك، يعني الآن إنسان مثلًا يسير فرأى رجلين يتحدثان سرًّا، فينصت ويتجسس، هل هذا يعنيك؟ ما الذي ستستفيد؟ يعني هذا لا يعنيك، الحرام هل هو يعنيك؟ لا يعنيك، إذًا دع الحرام، البدعة تعنيك أم لا تعنيك؟ لا تعنيك، إذًا دع البدع، وهكذا دع كل عقيدةٍ، كل منهج، كل فكر وتوجه، كل قولٍ، كل فعلٍ، حرام، أو بدعة، أو ضلالة: دعه، فإنه لا يعنيك بالاتفاق، مضيعة الوقت في القيل والقال الذي لا فائدة من ورائه ولا أجر فيه، يعني ليس من أجل إدخال السرور على أخيك، أو تؤانسه وإنما كلام وآخر، وتجاذب أطراف الحديث التي لا فائدة منها لا في دين ولا دنيا هذه لا نقول: إنها حرام، لكن لا تعنيك، ينبغي أن تدخل في شيء يعنيك، وهو الكلام المفيد، والمسائل العلمية، والعبادة، والطاعة، والذكر، هذا هو الذي يعنيك.
إذًا الإنسان قد يكون عمل بالإحسان، والإحسان أعلى درجات الدين، ولذلك ترك ما لا يعني هو من باب الإحسان، أنت تستحي أن الله جل وعلا يراك ويسمعك وأنت في فضول الكلام الذي لا فائدة منه، وأعظم من ذلك في الكلام المُحَرَّم، أو في فعل المُحَرَّم، أو أن يَطَّلِع على قلبك وفيه عقيدة فاسدة، أو فيه رياء وحب السمعة، أو فيه من الأمور المُحَرَّمَة، المهم أن المسلم يأخذ بأسباب الابتعاد عن كل ما لا يعنيه .. طيب.
قال: "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ" إذًا لو دخل الإنسان فيما لا يعنيه من أقوال أو أفعال أو معتقدات أو توجهات فكرية أو مناهج، أو غير ذلك، فإن هذا يَنزِل من درجة الإحسان، يَنزِل من مرتبة الإحسان، وأنه إذا اتقى الله في هذه الأمور وأخذ بالحزم والجِدّ، ولم يأخذ إلا ما يعنيه، فإنه يصل إلى درجة الإحسان، ثم إن ما يعنيك أولويات ودرجات، فالفَرْض أولى من النَّفْل، فبعض الناس مثلًا لو يرى عالمًا فبدأ يدخل معه في أسئلة، حتى وإن كانت مفيدة، لكن ترك ما هو واجب عليه، وفرض عليه، وبدأ في أسئلة لا تعنيه كثيرًا، وإن كانت قد تفيده، هنا نقول: دع ما لا يعنيك من ناحية الأهمية إلى ما هو يعنيك، وهو أن تسأل فيما يتعلق بالواجب أو بالسنة، ودع عنك الأشياء المستحبة الاجتهادية، أيضًا أن تسأل عما يتعلق بالاعتقاد والتوحيد أعظم من أن تسأل في مسائل مِلَحٍ وفوائد وثقافة، وهكذا .. يعني أن هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين ... نعم.
الحديث الثالث عشر
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، خَادِمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ". رواه البخاري ومسلم.
نعم، يقول الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا مُسَدَّد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله تعالى عنه، بهذا الحديث: أنَ النبي ﷺ قال: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
هنا نفي الإيمان لا يُنفَى إلا لترك واجب من الواجبات، من واجبات الإيمان، لا يمكن أن يُنفَى الإيمان لأمر مستحب، وإنما إذا نُفِي الإيمان فإن ما ترتب على هذا النفي يعتبر من الواجبات، يعني يجب عليك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، والإيمان إذا نُفِي فلا يعني ذلك زواله بالكلية، وإنما قد يكون نفي كمال الإيمان الواجب؛ لأن الإيمان فيه كمال مستحب، وفيه كمال واجب، وفيه ما ينفي الإيمان ومعناه زوال الإيمان بالكلية، ويَدخُل الإنسان في الكفر مباشرة، والعياذ بالله، لكن إذا نُفِي الإيمان بحكم ترك واجب تَرْكُه لا يخرج من الإسلام، فيعتبر هذا الشخص معه الإيمان الذي تصح مع الأعمال، ولكنه إما أن ينزل من الإيمان إلى الإسلام، وإما أن ينزل من رتبة الإيمان العالي إلى رتبة الإيمان الواجب، طيب.
"لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، أي أنه لا بد أن تحب لأخيك، من هو أخوك ؟ المسلم، وليس المقصود بهذا الحديث أخاك من أبيك وأمك، لأن الأخ الشقيق أو من أحد الأبوين قد يكون كافرًا والعياذ بالله، فلا يعتبر أخًا شرعيًّا، لا يعتبر أخًا في الدين، بل أخ في النسب، وأخوة النسب ليست كأخوة الدين، أخوك في الدين لا يجوز أن ترفع في وجهه السلاح، ولا أن تخيفه، ولا أن تقاتله، لكن الأخ الشقيق لو كان كافرًا ومن الممكن أن يكون في الجهاد قد يكون مثلًا هذا الأخ مع صفوف المشركين فتقاتله، طيب.
قال: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ"، قلنا: الأخوة هنا هي أخوة الدين، ولكن إذا اجتمعت أخوة الدين وأخوة النسب هذه أكبر وأكبر، فتحب لأخيك في دينك وفي نسبك أكثر مما تحبه لأخيك في الدين فقط، الكافر ليس بأخ؛ لذلك لا يجب عليك أن تحب له ما تحب لنفسك، إلا أن الإنسان طبعًا يحب أن يدخل في الإيمان كل أحد، ولذلك يقول النووي رحمه الله: الكافر يعتبر أخًا لك فيما يتعلق بأنك تحب له الإيمان كما تحب لنفسك، ولا شك أن المسلم يحب أن يدخل في دين الله جل وعلا اليهود والنصارى وغيرهم، ولكن لا تعني هذه المحبة أن تَصْرِف شيئًا لهم من الموالاة ونحوها. طيب. ولكن هذه المحبة تبعثك على دعوتهم إلى الإسلام، يعني أن تحب أن يدخل هذا الكافر في الإسلام، لذلك ربما تقدم له كتابًا إن كان ينطق بغير العربية، تأتي له بكتاب ليدخل في الإسلام، أو ربما تدعوه إلى الإسلام لو كان مثلًا عربيًا تأخذ معه في البراهين والأدلة وغير ذلك.
إذًا تحب لهذا الإنسان أن يدخل في الإسلام، هذا أمر مقطوع به، سواء كان هذا الشخص كافرًا أو مسلمًا، وتحب له أن يدخل في السنة سواء كان مبتدعًا أو غير مبتدع، لو جئت إلى قبوري مثلًا مبتدع، أو إلى جهمي، أو إلى شخص من الخوارج، أو إلى شخص من المعتزلة، أو غير ذلك، من القدرية، سواء الجبرية أو غيرهم، فإنك وإن كنت تبغض فيهم هذه البدعة لكن تحب أن يلتحق بحظيرة أهل السنة والجماعة، ولذلك تقدم له الأدلة والبراهين وتدعوه إلى ذلك، ولكن إذا ما دخل فأنت تبغضه وتكرهه، أو قد تكره فيه هذه البدعة، وهذه المعصية.
"أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ"، هل يعني ذلك أن تحب له أكثر مما تحب لنفسك؟
الحديث فقط جاء بأن تحب له ما تحب لنفسك، لكن لا يلزمك أن تحب له أكثر مما تحب لنفسك، هل تحب له أقل منك؟ لا، تحب له ما تحب لنفسك، تحب أنت الفردوس الأعلى، تحب لأخيك الفردوس الأعلى، تحب أن تكون أكمل الناس إيمانًا تحب لأخيك أن يكون أكمل الناس إيمانًا.
بعض العلماء أخرج الأمور الإنسانية الطبيعية، مثلما قال النووي رحمه الله أن الإنسان مثلًا: بينك وبين شخص عداوة، هل معنى ذلك أنا إذا كسبت مليون ريال أن أتمنى أن يكسب هو مليون ريال، لو أنك تمنيت ذلك هذا أكمل وأقرب إلى هذا الحديث، أن أتمنى لكل أحد أن ينال ما نلته من أمر الدين والدنيا، سواء كان وليًّا لي أو عدوًّا لي، ما دام أنه مسلم، هذا شيء طيب، لكن عمومًا المسلم يجاهد نفسه في هذا، ويحب الخير للغير، سواء كان قريبًا لك أو عدوًّا لك، صالحًا أو طالحًا، تحب الخير لهم، وهذا يعني يدخل فيه مسألة كمال الإيمان ونقصانه، فمثلًا الذي يحب الخير للغير من غير تفريق هذا لا شك أكمل من الذي يحب الخير لمن هو صديق له دون من هو عدو له، واقصد بالخير خير الدنيا، وأما خير الآخرة تتمناه لكل أحد .. طيب.
هناك ما يضاد هذا الحديث وهو أن الإنسان يزكي نفسه، ويطهر قلبه من الغل والحسد والحقد وغير ذلك من أعمال القلوب السلبية والمذمومة، فلا يمكن أن تحب بالأمر الهين لشخص الخير وأنت تحسده، لا يمكن، لذلك يحاول الإنسان أن يجاهد نفسه، قد يكون فعلًا في القلب هذا الشيء لكن كعمليًا لا أستجيب لما في قلبي، ولا يكاد كما قالوا: لا يخلو جسد من حسد، لكن عمومًا الكريم يخفيه، واللئيم يبديه، ممكن أدعو له وإن كان قلبي لا يطاوعني في هذا الموضوع، ولكن أدعو له بالخير، من باب أن أدحر الشيطان، وأن أدحر النفس الأمارة بالسوء، وأدعو له بالخير، أن يرفع الله شأنه، وأن يعلي درجته، وأدعو لنفسي طبعًا أولًا، و أدعو له.
الحسد يا إخوان إما أن يكون والعياذ بالله أن يتمنى الإنسان زوال نعمة الغير، فأحيانًا قد يكون يتمنى زوال نعمة الغير ولو أنه لا يريدها لنفسه، هذه شر الأمور، شر الحسد، أن يتمنى زوال نعمة الغير، ولو أنه لا يريدها لنفسه.
يليه في الدرجة الذي يتمنى زوال نعمة الغير ولكن يريدها لنفسه، شخص مثلًا في منصب هو رئيسك مثلًا : أنت تتمنى أن يُبعَد عن هذا المنصب من أجل أن تأتيه أنت، لأنه لا يمكن أن تأتيه وهو موجود، هذا بخلاف الذي يتمنى زوال هذا المنصب عن هذا الإنسان ولو هو ما يريده، شخص مثلًا يتمنى أن إمام المسجد يُفصَل ولو أنه ما يريد الإمامة، هذا شر الحسد، ويليه أن يتمنى أن تزول وظيفة الإمامة من هذا الشخص لأجل أن يأخذها هو، هذا يليه، أما إذا كان لا يتمنى زوال نعمة الغير، ولكنه يجد في نفسه شيئًا من الحسد له، فإنه يجاهد نفسه، ويحاول أن يجاهد نفسه، ويظهر على لسانه ما ليس في قلبه من الأدعية، ويكتم هذا الحسد، فإنه لا يؤاخذ بهذا.
الحديث الرابع عشر
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيْبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارَقُ لِلْجَمَاعَةِ». رواه البخاري ومسلم.
فهذا الحديث، يقول الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود رض الله عنه، عن النبي ﷺ. وهذا الحديث نأخذ من فوائده.
قال: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ"، إذًا دم المرء المسلم لا يحل، أما الكافر فإنه يحل، إلا أن يكون مُعاهَدًا أو مُستَأْمَنًا أو نحو ذلك مما هو معروف.
"لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، الثَّيِّبُ الزَّانِي"، يعني لا يجوز لمسلم أن يسفك دم مسلم إلا أن يكون من أصحاب هذه الأصناف الثلاثة، وطبعًا القتل ليس لكل إنسان، ولكن لولي الأمر، قال: الثيب الزاني، يعني هو الذي نكح نكاحًا صحيحًا هذا يعتبر ثيبًا، فإذا زنى فإنه يُرجَم، لكن لو أنه لم ينكح فلا يعتبر ثيبًا، فعقوبته ماذا؟ الجلد وليس الرجم، الثيب الزاني، سواء كان رجلًا أو امرأة، والنفس يعني أنه أيضًا النفس بالنفس، فإذا قتل نفسًا فإنه يُقتَل، وقوله: النفس بالنفس يدل على العموم، وهذا ما قاله بعض أهل العلم، أنه عام، فبعض أهل العلم يقول: إن النفس بالنفس معنى ذلك أن الحر يُقتَل بالعبد، وأن المسلم يُقتَل بالكافر، وأن الأب يُقتَل بولده، وأن الرجل يُقتَل بالمرأة، وأن الكبير يُقتَل بالصغير وهكذا، وقال آخرون: إن المسلم لا يُقتَل بالكافر.
وهذا هو القول الصحيح: أن المسلم لا يُقتَل بالكافر، وأما أن الحر يُقتَل بالعبد، هذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: الحر لا يُقتَل بالعبد، وأما الرجل فيُقتَل بالمرأة، نعم وهل يُقتَل الوالد بولده أيضًا، هذا محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: نعم يُقتَل الوالد بولده، وقال آخرون: لا يُقتَل الوالد بولده، وهذا قول كثير من أهل العلم، وقال آخرون: إنما يُقتَل الوالد بولده إذا كان القتل ليس بشبهة، فلو أنه أخذه وأضجعه وذبحه فهنا يُقتَل، أما لو أنه ضربه بشيء فلا يُقتَل، وهذا إجمال أقوال أهل العلم في هذه المسألة.
"وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ"، وعلى هذا فلا يُقتَل بالنفس أكثر من نفس واحدة، إلا أن تكون مشاركة في القتل، فلو أن جماعة قتلوا واحدًا فالصحيح أن الجماعة تُقتَل بالواحد، خلافًا لبعضهم، فبعض أهل العلم لا يَقتُل الجماعة بالواحد، وإنما النفس بالنفس، ولكن الراجح أن الجماعة تُقتَل بالواحد إذا شاركوا في القتل.
لكن المرفوض هو أمر الجاهلية، أن يقتل شخص شخصًا فيقول أهل القتيل لا يكفينا إلا أن نقتل عددًا منكم، هذا من أمر الجاهلية.
قال: "وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ، المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"، يعني أن الذي يترك دينه، يرتد عن دينه، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل.
كذلك قال النووي رحمه الله: أن الىهودي إذا ترك الىهودية وانتقل للنصرانية، فإنه يقتل لأنه ترك دينه وهو كالمعترف ببطلان دينه، لذلك فيقول له: إما أن تسلم، وإما أن نقتلك.
وقوله: "المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ"، يعني أن التارك لدينه قد فارق أهل السنة والجماعة، وليست هذه خصلة رابعة، أن من فارق الجماعة يقتل.
الحديث الخامس عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليوم الآخر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ". رواه البخاري ومسلم.
"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ". رواه البخاري ومسلم.
وهذا الحديث، قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكر الحديث.
ومن فوائد هذا الحديث: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوم الآخر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ...." إلى آخر الحديث، فيه دلالة على أن الإيمان يدخل فيه الأقوال، ويدخل فيه الأعمال، كما يدخل فيه الاعتقادات.
"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوم الآخر فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ...." يعني أن الإنسان يُمسِك لسانه فلا يتكلم إلا بالخير، " لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ" الآية. [سورة النساء: 114]
فإذا رأيت أن الكلام فيه خير ومصلحة فتكلم، إذا رأيت أن الكلام ليس فيه مصلحة ولا خير فلا تتكلم، ولو كان الكلام جائزًا، هذا هو الأصل.
لكن ممكن أن يكون الكلام لو أنه جائز من باب إدخال السرور على الآخرين، أو غير ذلك من المصالح والفوائد .. هذا يُشرَع، وعمومًا ليس الصمت واجبًا إلا عما حرم الله ويستحب الصمت عن المكروهات، عن فضول المباحات، والكلام يجب في ما أوجب الله، يجب أن تتكلم في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإظهار الحق، أو في ما غير ذلك، والساكت عن الحق ماذا؟ شيطان أخرس.
وقد يكون الكلام مستحبًّا وليس بواجب، إذا كان الكلام مستحبًّا، كإفشاء السلام، والسؤال عن حال المسلم، ونحو ذلك؛ فإنه يعتبر من المستحب.
وقد يكون الكلام محرمًا، فقد يتكلم الإنسان بسب أو شتم أو لعن أو غيبة أو نميمة، وقد يكون الكلام مكروهًا إذا كان في شيء مكروه، كما مثلا نعرف أن بعد العشاء يستحب عدم السهر فلذلك يكره الكلام بعد العشاء إلا لمصلحة.
وكما جاء في الحديث، أن الله جل وعلا: "كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"، وإلى ما غير ذلك، فبعض ما يكره حرام، وبعض ما يكره من باب المكروه، وليس من باب المحرم.
والله تعالى يقول: "مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ" الآية. [سورة ق: 18]
فالملائكة، هناك ملك يكتب الحسنات، وهناك ملك يكتب السيئات، وما لا يكتبه ملك الحسنات فمن الذي يكتبه؟ ملك السيئات ولكن معنى ذلك أنها سيئة، يعني لو أن الإنسان تكلم كلامًا فارغًا لا إثم ولا ذنب، فهنا ملك الحسنات لا يكتب هذا، لكن الذي سيكتبه والله أعلم ملك السيئات، وإن لم تكن سيئة تعاقب علىها.
ولذلك قال بعض أهل العلم أنه ما يتكلم أي كلمة إلا وتكتب، سواء كانت خيرًا أو شرًّا أو من الأمور المباحة، فإنها تكتب، وقال آخرون: إنما الذي يكتب هو الحسنات والسيئات ، أما التي ليست حسنة ولا سيئة فلا تكتب، وهذا والله أعلم أن الجميع يكتب.
قال: "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوم الآخر فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ". يعني أن من يؤمن بالله واليوم الآخر فعلىه أن يكرم جاره، وفي رواية: "فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ"، وفي رواية أخرى: "فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ"، وإكرام الجار واجب، وهو أن تكف أذاك عنه، وإكرام الجار فيه ما هو واجب وما هو مستحب، وعلى العموم أن هذه الكلمة عامة شاملة في جميع أنواع الإحسان والبر، فيدخل جميع البر والإحسان في إكرام الجار.
قال: "فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ"، هنا اختلف أهل العلم من هو الجار؟ فلا شك أن من يسكن معك في شقتك، كزوجتك، وأبيك، كأمك، كأخيك، كأختك، إلى آخره، يعتبرون جيرانًا لك، وهؤلاء أولى الناس بالإكرام، ثم من هو القريب من بيتك، وهو الملاصق جداره في جدارك، وأقربهم بابًا إلىك، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، ثم الأبعد ثم الأبعد، يعني ثم الأقرب فالأقرب، واختلف أهل العلم في حدود الجيرة، فمنهم من قال: إن الجار هو الملاصق فقط، الجار الملاصق، ومن بعده ليس بجار، وقال آخرون: إن الجار ما كان أربعون جارًا يمينًا وشمالًا، أمامًا وخَلْفًا، واستدلوا بذلك بحديث مرسل، وهو حديث أبو داود، وهو حديث ضعيف.
وقال آخرون: إن أهل المسجد الواحد يعتبرون جيرانًا، وقال آخرون: إن أهل الحي يعتبرون جيرانًا، وقال آخرون: إن أهل القرية يعتبرون جيرانًا، وقال آخرون: إن أهل المدينة يعتبرون جيرانًا.
وعمومًا: الأظهر والله أعلم أن الجار هو ما عرف عرفًا وتحديده بالعرف، ولكن كلما كان الجار أقرب إلىك فهو أولى من الذي هو أبعد ..طيب
"وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"، أيضًا الضيف له حق الضيافة، سواء جاء من سفر، أو كان من البلد، ولكن الذي يجب علىك أن تضيفه هو الذي جاء مسافرًا مستجازًا، وليس الذي هو في البلد، وإنما شخص جاء من بلد بعيد مسافر، وليس سيبقى في البلد ولكن سيذهب، أما أنه لو سيقيم أيامًا فإن هذا عند أهل العلم ليس الذي مقصودًا من الحديث .. طيب.
ثم من هو الذي يخاطب بهذا الحديث؟ لاشك أن إكرام الجار مخاطب به كل أحد، سواء كان في الحضر أو في السفر، سواء كان من أهل الحاضرة أو من أهل البادية، ولكن قال كثير من أهل العلم: إن الذي يجب علىه أن يضيف الضيف إنما هو الذي في البادية، أو الذي في القرية، وقال آخرون: لا، بل حتى الذي في المدينة، فالحديث عام، ولكن البعض قال: هو في المدينة وغيرها، لكن المدينة أنه يوجد من يأويه وعنده مال، مثلًا هناك فنادق، وشقق مفروشة، وهناك مطاعم، وعنده مال، فلا تعتبر ضيافته واجبة الآن، أما لو كان مستجازًا في طريق وليس هناك مطاعم ولا فنادق وشقق، فإنه يجب على أهل البلد أن يضيفوه، ثم إن الواجب يوم وليلة، كما ثبت في حديث أبي شريح: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَضِيَافَتُهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ"، هذه الضيافة التي هي ثلاثة أيام، أول يوم ماذا؟ واجب، وما بعده يعتبر مستحب وهو استحباب الكمال، وما بعد الثلاثة أيام كما أخبر النبي ﷺ صدقة، وهو مستحب.
إذا صنفنا الضيافة إلى ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولى: "واجب"، وهو اليوم والليلة.
المرتبة الثانية: "المستحب التمام والكمال"، وهو ثلاثة أيام.
المرتبة الثالثة: "بعد الثلاثة أيام"، فهو مستحب من باب الصدقة.
واليوم الأول تكون الضيافة فيه نوع من الاهتمام وتقديم الطعام والشراب والمأوى، أما اليوم الثاني والثالث إذا أراد الإنسان ألا يتكلف كما تكلف اليوم الأول فله ذلك، ولكن اليوم الأول أن تكرم الضيف بما يستحق.
الحديث السادس عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: "أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لَا تَغْضَبْ".
هذا الحديث في البخاري، حدثنا يحيى بن يوسف، أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الحديث فيه فوائد؛ منها أن النبي ﷺ نهى عن الغضب، قال: "لَا تَغْضَبْ"، فردد مرارًا للرجل قال ﷺ: "لَا تَغْضَبْ"، وهذا دليل على أهمية هذه الوصية، أنها تكررت.
النهي هنا "لَا تَغْضَبْ"، يدخل فيه أمور عظيمة:
أولًا: أن الإنسان يبتعد عن أسباب الغضب، فلا تذهب مكانًا سيثير غضبك ويهيج غضبك.
ثانيًا: أنك إذا غضبت فلا تبطش ولا تنتقم، وإنما اكظم غيظك.
ثالثاً: أنك إذا غضبت فخذ بالأسباب الشرعية والأسباب القدرية التي تزيل غضبك، فمثلًا إذا غضبت فتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الأمر الآخر أنك إذا غضبت فاسكت، وكل هذه قد جاءت بها السنة: (الاستعاذة – السكوت).
أيضًا جاء في السنة إذا كنت قائمًا فاقعد، وإذا كنت قاعدًا فاضطجع، وجاء أيضًا الوضوء، ولكن حديث الوضوء إسناده ضعيف، ولكنه أَمْر مستحب أن تتوضأ، وإن كان الحديث ضعيفًا.
الأمر الآخر: أن تأخذ بالأسباب الكونية، مثلًا وأنت تغضب تتذكر هيئة الغضب قبيحة، تتذكر عقوبة الغضب، ومن هذا القبيل حتى تهدأ، ومنها: أن تعرف أن الذي أغضبك هذا بقدر الله وقدرته، ولو شاء لاستطاع أن لا يغضبك، ذلك المهم أن تأخذ بالأسباب الشرعية والكونية في ترك الغضب.
والغضب لا يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، ولكن عمومًا يحاول بقدر الاستطاعة أن يربي نفسه ويدربها على ترك الغضب، وإذا غضب أن يكظمه وهكذا.
أما الغضب في ذات الله فهذا مطلوب، لو رأيت منكرًا فإنك تغضب، ولكن ليس معنى أن تغضب أن تبطش وتضرب، وإنما تغير هذا المنكر بقدر الاستطاعة، بالىد، فإن لم تستطع فبلسانك، وإن لم تستطع فبقلبك وهكذا.
وعمومًا جاءت أحاديث كثيرة في ترك الغضب، كما قال الراوي: "تأملت في الغضب فإذا به يجمع الشر كله".
الحديث السابع عشر
عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". رواه مسلم.
الإمام مسلم رحمه الله قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال هذا الحديث.
وهذا الحديث فيه من الفوائد:
أولًا: قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"، الإحسان هو أعلى مراتب الدين، يعني ماذا؟ إسلام وفوقه إيمان وفوقه إحسان، والإحسان هو أن تستحضر قرب الله تعالى، وتستحضر اطلاعه علىك، وتراقب بعين قلبك، هذا هو الإحسان، فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك جل وعلا. فالمهم الإحسان وضع الشيء في موضعه.
قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ".
وقوله: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ"، يدل على الوجوب، الإحسان واجب، الأصل في الإحسان الوجوب، ولكن هناك إحسان واجب، وهناك إحسان مستحب. طيب .
"إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ"، يعني أن تحسن القتلة، سواء كانت هذه القتلة قتلة حيوان، أوطائر، أو قتلة إنسان، وذلك في القصاص، وفي الحدود، فإن الإحسان مطلوب .. طيب.
وإن كان طبعًا إذا قتلنا أن نحسن القتلة في موضوع القصاص، لكن قد نعامل بالمثل، لو أن إنسانًا قتل إنسانًا ورَضَّ رأسه بحجر أن يقتل بِرَضِّ رأسه بحجر، وهذا أيضًا إحسان، طيب.
"وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ"، ذلك بأنه يذبحها في المكان المناسب، وأن يذبحها مستعجلًا، وأن لا يحد الشفرة أو السكين وهي تنظر، الإنسان إذا أراد أن يذبح بهيمة فإنه يحسن ذبحها، وأن لا يذبح أختها بين عينيها، وغيرها الكثير مما قاله أهل العلم، وإن لم يرد فيه أحاديث، ولكنها دخلت في الإحسان، عمومًا كل ما دخل في الإحسان بغير قيد أو حد فإنه يُعمَل.
قال: "وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"، يعني فليحد السكين، فلا يأتي بسكين مسمومة فيعذب الذبيحة، وليرح ذبيحته بماذا؟ أن يمر السكين بسرعة على رقبة الذبيحة، ويقطع الحلقوم والمريء وهكذا، المهم أن هذه قاعدة عظيمة في الإحسان، ولكن لا يدخل في ذلك أن ترى مثلًا حيوانًا مكسور القدم أو طائرًا مكسور الجناح، فتقول: إن من الإحسان أن أذبح هذا وأرميه، لا، الله جل وعلا أعلم بحاله وأرأف به منك وأرحم، ولكن إذا أردت أن تذبح شيئًا وتأكله فأحسن الذبحة.
الحديث الثامن عشر
عَنْ أَبِي ذَرٍّ جُندُبِ بْنِ جُنَادَةَ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ". رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حديث حسن صحيح.
هنا الترمذي رحمه الله يقول: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذر رضي الله عنه، وبهذا الإسناد قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ، يعني الأول عن أبي ذر، والثاني عن معاذ، وذكر الترمذي عن شيخه محمود بن غيلان أن حديث أبي ذر أصح من حديث معاذ، وعمومًا حبيب رواه عن ميمون بن أبي شبيب، وميمون لم يدرك أو لم يسمع من معاذ رضي الله عنه، ولم يسمع من أحد من الصحابة، فلذلك رأوا أن الحديث غير متصل، وتعلمون أن الخلاف الذي جرى بين الإمام البخاري ومسلم وكثير من أهل العلم: هل يشترط اللقيا أم يكفي المعاصرة مع عدم غلبة الظن بعدم اللقيا؟
الأظهر والله أعلم أنه لا بد من الإدراك والسماع ولو لمرة واحدة، عمومًا ولربما في بعض الأحاديث المستفيد من طولها قد يتغاضى عن هذا، وإلا فإن الأصل والأقرب والله أعلم لا بد من السماع ولا بد من اللقيا، و أما لو أن هذا التلميذ أو هذا الراوي يعني القرائن تدل على أنه لم يجتمع بهذا الشخص، فإنه لا يصح حديثه، ولو أدركه وعاصره يعني أن يكون في بلد ولم يخرج منها ومات فيها، وروى عن شخص في بلد بعيد، وهذا الشخص لم يأتِ إلى هذه البلد فهنا تدل القاعدة أنه لم يسمع منه .. طيب.
لكن هذا الحديث وإن عُلَّ بأنه غير متصل إلا أن له طرقًا أخرى وله شواهد، فلذلك هو حديث حسن، ولذلك استبعد ابن رجب أن يكون الترمذي قال عنه: حديث حسن صحيح، فلعل ابن رجب يرى أن أقرب وصف أنه يرى أنه حديث حسن، ولكن الترمذي إذا قال عن حديث: إنه حسن، فالأصل أنه ضعيف عند أهل العلم، لكن يعني الضعف يصلح هذا الحديث في الشواهد والمتابعات، وليس بضعف شديد، ليس فيه متهم هذا، لكن الأقرب والله أعلم أن تحسين الترمذي للحديث هو كسكوت أبي داود عن الحديث .. نعم.
قال: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ"؛ يعني علىك بتقوى الله، وهناك تقوى واجبة وهناك تقوى كاملة مستحبة، الواجبة هي فعل الواجبات، وترك المحرمات، وأما المستحبة والكاملة فهي فعل الواجبات والمستحبات، وترك المكروهات وفضول المباحات، والمهم أن تقوى الله درجات.
"اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ"؛ يعني في أي مكان، وفي أي زمان، وفي أي حال، في حال الخلوة والجلوة، وفي حال الرضا والغضب، وفي حال المنشط والمكره، وإلى غير ذلك، "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ"، وهذه وصية عظيمة، أن توصي غيرك بتقوى الله بعدما توصي نفسك بتقوى الله جل وعلا، وهي وصية الله جل وعلا في الأولين والآخرين، والنبي ﷺ كان يوصي بها، والصحابة كانوا يوصون بعضهم بعضًا بها.
"اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا"؛ يعني أن الإنسان إذا عمل سيئة فليعمل حسنة، وأعظم الحسنات ما هي؟ التوبة. وهو أن يتوب الشخص من هذه السيئة، ولكن إن كانت السيئة في حق الله فهو أن تندم، وتتوب على فعله، وأن تعزم على أن لا تعود إلىها، وأن تقلع عنها، وأما إن كانت السيئة في حق المخلوق، كأن تأخذ منه مالًا بغير إذنه، ومثلًا أن تغتابه ونحو ذلك، فإنك تتحلل منها، وهذا التحلل هو حسنة، وعمومًا فإن الحسنات يذهبن السيئات، والحسنة بعشر أمثالها، بعض أهل العلم يقول: الحسنة لا تمسح إلا سيئة بهذا الحديث، ولكن هذا القول مرجوح، فالحسنة المضاعفة طبعًا بعشر أمثالها إلى غير ذلك ما هو معلوم، ربما الحسنة تستطيع أن تقضي على السيئة، وربما لا تستطيع لأنها أقل قدرًا منها، ولكن إذا جئت بالحسنة المكافئة أو حسنة عظيمة، فقد يكون المضاعفة أو حسنة عظيمة، وربما جزء من العشرة أجزاء يقضي على هذه السيئة ويمحوها، ويبقي لك الفاضل. طيب.
قال: "أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ"، ولذلك أتبعها مباشرة لا تتأخر من أنت تعمل سيئة أسرع بالحسنة بالتوبة وغيرها من أجل أن تذهب السيئة، ويذهب شؤمها معها، "وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"، طبعًا من أفضل الأعمال حسن الخلق، "وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"، المقصود أن الإنسان يربي نفسه على الأخلاق الحسنة، ومن ذلك: الصبر والتحمل والحلم وطيب الكلام وغير ذلك، "وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
الحديث التاسع عشر
عَنْ أَبِي العَبَّاسِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "يَا غُلَامُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ، وساق الحديث. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي ولكن إسنادها ضعيف من رواية عبد بن حميد ولكن الشواهد تقوىها، ومنه حديث الترمذي، وإسناده جيد.
قال الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد بن موسى، عن عبد الله بن المبارك، عن الليث بن سعد، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، وهذا الإسناد وإن كان فيه ما فيه، إلا أن له طرقًا وله شواهد، وهذا الإسناد الذي ساقه الترمذي هو أصح إسناد لهذا الحديث، وهذا الحديث هو حديث جيد.
لكن الضعيف ماذا؟ هو ما ذكره النووي في قوله وفي غير رواية الترمذي عمومًا. طيب
الحديث: قال: "يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ"، وهذا كان في النبي ﷺ يعلم الصغار والكبار، "أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ"؛ يعني احفظ الله في حدوده وأوامره ونواهيه، احفظها فلا تنتهك محارمه، ولا تضيع فرائضه، ولا تتعدى حدوده يحفظك، يحفظك في الدنيا والآخرة، ويحفظك من مصائب الدنيا، ويحفظك من المعايب في الآخرة، ولكن عمومًا هذا الحفظ قد يكون القدر ماضيًا لا يعني ذلك أنك إذا حفظت حدود الله جل وعلا وحفظت فرائضه وحفظت محارمه أنه لن يصيبك شيء، النبي ﷺ هو من هو أصابه ما أصابه من السحر، وأصابه ما أصابه من السم، وغير ذلك مما أصاب النبي ﷺ وشج رأسه، وشج وجهه، وكسرت رباعيته، وغير ذلك مما هو معلوم.
"احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ"، وفي رواية: "أَمَامَكَ"؛ يعني إذا حفظت الله جل وعلا فإن الله جل وعلا أمامك في كل مكان، ولكن هذا وهو في علوه، ومستوٍ على عرشه جل وعلا، هو معك بعلمه وقدرته وإحاطته ونصرته وتأييده وما إلى غير ذلك.
"إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ"؛ يعني السؤال وَجِّهْه إلى الله فيما يقدر علىه المخلوق أو فيما لا يقدر علىه إلَّا الله، لكن سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك والعياذ بالله، فسؤال الأموات وسؤال الغائبين من الجن وغيرهم، هذا لا يجوز وشرك، وسؤال المخلوق فيما هو قادر علىه، ولكن هو غائب أو عاجز لا يجوز أيضًا. لا يجوز أن تسأل مخلوقًا عاجزًا أو غائبًا تسأله عن أمر في استطاعة مخلوق. طيب .
"إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ"، حتى المخلوق إذا حاضر وقادر يستحب أن تسأل الله جل وعلا، وإذا كانت مصلحتك عند هذا المخلوق فاسأل الله جل وعلا أن يسخره لك، ويذللـه لك، ويأخذ بناصيته إلىك، لكن اسأل الله جل وعلا، وهنا يجوز أن تسأل المخلوق إن كان قادرًا، ولكن داخل قلبك أن الأمور بيد الله .. طيب.
وكان النبي ﷺ يوصي أصحابه ألا يسألوا أحدًا شيئًا، حتى إذا سقط أحد سوطه لا يقول: يا فلان ناولني إياه؛ لأن مسألة المخلوق ذل، وأدخل في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أن تقول لشخص: ادع لي، قال: حتى الدعاء أن تسأل شخصًا الدعاء داخل في هذا الحديث، والأظهر والله أعلم، والأفضل أن يتوجه الإنسان إلى الله جل وعلا.
"إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ"، الاستعانة بالله جل وعلا والتوكل عليه جل وعلا، إياك نعبد وإياك نستعين، ولا يجوز الاستعانة بمخلوق عاجز، ولا الاستعانة بمخلوق على شيء لا يقدر علىه إلا الله، ولا يستعينوا بأمور غير مجربة يعني مثلًا تأكل أو تفعل شيئًا في أن تلبس مثلًا شيئًا من الحديد أو غير ذلك وتظن أن في هذا دفع لضر حتى وإن قيل ما قيل وهو غير مجرب ولا أنه معروف من حيث العلم الطبي أو الشرعي فلا يجوز.
"وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ"، والتوكل قريب من الاستعانة قد يكون هو الاستعانة، عمومًا بينهما شيء من الفروق، وإن كانت طبعًا الاستعانة هي التوكل، والتوكل هي الاستعانة، والتوكل لا يجوز إلا على الله جل وعلا، فلا تقول لإنسان أنا متوكل علىك إطلاقًا، لكن يجوز أن تستعين به تقول: أستعين بك على هذا الموضوع، تقول: أعني يا فلان على هذا أو نحو ذلك، طيب .
"وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَنْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَنْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَىْكَ"، لو أن الإنسان اعتقد هذا صحيح ارتاح، وكما قلنا الاستعانة بالله تكون في أمور الدنيا والآخرة، كذلك أن تعلم لا يستطيع مخلوق أن ينفعك بشيء إلا والله تبارك وتعالى قد كتبه لك، ولا يستطيع أحد أن يضرك بشيء إلا قد قدره الله علىك.
قال: "رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"؛ يعني أن الأقلام قد رفعت من قديم، والصحف قد جفت، هذا قبل أن يخلق الله جل وعلا الخلائق، وقد قَدَّر المقادير، وهذه من الكناية العظيمة رفعت الأقلام وجفت الصحف، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"، معرفة الله جل وعلا معرفة عامة وخاصة، الكل يعرف أن الله موجود، وأنه على العرش استوى، ولكن هذه معرفة عامة، يعرفها المسلم والكافر، والبر والفاجر، إلا من طمس الله على قلبه، وأصبح من الملحدين، طيب .
لكن التعرف المقصود هنا مع التعرف العام تعرف خاص، هو أن تتعرف على أسماء الله وصفاته وعلى أفعاله وعلى ألوهيته وعلى ربوبيته، وأن تكون معرفة خاصة تذكر الله كثيرًا، وتستحضره بقلبك كثيرًا، هذه المعرفة الخاصة تهبك بإذن الله معية الله الخاصة، لأن الله جل وعلا يعرف عباده معرفة عامة ومعرفة خاصة، الله جل وعلا يعلم سبحانه وتعالى المخلوقات جميعًا، ومعرفة الله للعبد أيضًا عامة ولكن هناك معرفة خاصة وهي معرفة النصرة والتمكين والتأييد والتوفيق والتسديد إلى آخره، وطبعًا ليست معرفة الله التي يسبقها جهل؛ لأن بعض أهل العلم يفرقون بين العلم والمعرفة، فالعلم لا يسبقه جهل، أما المعرفة تسبقها جهل، فعلم الله جل وعلا لا يسبقه جهل، وكما قال في الحديث: "تَعَرَّفْ عَلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"، هذه المعرفة ليست يسبقها جهل ..طيب.
وتعرف على الله في الرخاء يعني في وقت أنت الحمد لله ليس في مصيبة ولا في حاجة، أن تذكر الله، وتتعرف على أسمائه، فإذا جاءت الشدة: "فَلَوۡلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطۡنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ" الآية. [سورة الصافات: 143 - 144] كان يونس علىه السلام عرف الله في الرخاء عرفه الله في الشدة. طيب.
"وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ"، هذا لا بد أن تعتقده، كل شيء مُقَدَّر، وبعلم الله وتقديره سبحانه وتعالى، ليس هناك صدفة، وليس هناك خطأ عشوائي، لا كل شيء بقدر.
الخير والشر بقدر الله جل وعلا وكل شيء مقيد ومكتوب.
"وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ"، لاشك أن الصبر من أعظم العبودية، والصبر قد جاء ذكره كثيرًا في القرآن، من صبر ظفر.
"وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ"، كلما اشتدت الكربة جاء الفرج، وأن مع العسر يسرًا، أيضًا إذا جاء العسر جاء الىسر، "فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا ٥ إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا" الآية. [سورة الشرح: 5 - 6]
فالعسر المعرف بالألف واللام فتكريره يعتبر شيئًا واحدًا لكن الىسر جاء نكرة، فدل على أن الىسر الأول غير الىسر الثاني، بخلاف العسر، فإن العسر الأول هو العسر الثاني، طيب
الحديث العشرون
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ البَدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِنْ لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ". رواه البخاري.
هنا البخاري رحمه الله قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا منصور، عن ربعي بن حراش، قال: حدثنا ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي ﷺ بهذا الحديث السابق.
وفي الحديث من الفوائد، أنه قال: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى" يعني أن الحياء أو هذه الجملة: "إِنْ لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ"، هذه تداولتها العصور والدهور والأزمان، والأنبياء قالوها، والناس تناقلوها، طيب.
إذًا هذه النبوة، هذا الكلام خارج من مشكاة النبوة: "إِنْ لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ".
معناه أن الإنسان إن لم يمنعه الحياء من الله ولا من الناس فليس شيء يمنعه من القبائح والرذائل، إن لم يستحِ الشخص من الله ولم يستحِ من الناس، فما الذي يمنعه من فعل القبيح والمجاهرة به؟ ولكن إذا كان يستحي من الله فسيمنعه الحياء من الله، أو كان يستحي من الناس فسيمنعه الحياء من المجاهرة، وقد يكون يفعل في السر ذلك ..طيب .
هذا التفسير جيد، وقال بعض أهل العلم: إن المعنى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت؛ يعني إذا أردت أن تعمل عملًا فانظر هل تستحي من الله لأنه حرام أو مكروه، هل تستحي فيه من الناس؟
يعني مستقبح عندهم، وربما نالوا من عرضك إذا لم يكن كذا ولا كذا، لا يستحي فيه من الله، ولا يستحي فيه من الخلق فافعله، يعني شبيه بحديث النبي ﷺ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ"، الذي يحاك في الصدر وكرهت أن يطلع علىه الناس، ولكن الأقرب الأول المعنى الأول، وعمومًا أن هذا جاء من باب التوبيخ والزجر الشديد، أن الإنسان إذا لم يستحِ.
ما هو الحياء؟ الحياء هو ما يمنعك من فعل الرذيلة، ويدفعك إلى فعل الفضيلة، هذا هو الحياء الشرعي، أما الضعف والخور عن فعل ما يرضي الله أو عن فعل المصالح الدنيوية، هذا ليس بحياء، ولكنه ضعف وهذا مذموم، وإنما الحياء كما ذكرت لكم. والحياء لا يأتي إلَّا بخير ...
الحديث الواحد والعشرون
عَنْ أَبِي عَمْرٍو - وَقِيلَ أَبِي عَمْرَةَ - سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ». رواه مسلم.
هنا سأل هذا الصحابي النبي ﷺ سؤالًا يريد أن يكون جامعًا لازم أن يكون منهجًا له في حياته، ويلقى بذلك ربه وهو راض عنه، فأراد أن يعطيه النبي ﷺ أمرًا جامعًا لا يحتاج بعد ذلك إلى أن يسأل أحدًا عن شيء، فيما يتعلق بــ ما يلقى به الله جل وعلا، فقال النبي ﷺ: (قُل آمَنتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)، أو (فَاسْتَقِمْ)، وهذا التوجيه جامع، وهو أن الإنسان يؤمن بالله جل وعلا، أن يوحد الله سبحانه وتعالى، ثم يستقيم على هذا التوحيد، والاستقامة تكون بأن الإنسان يتعلم ما يُكْمِل هذا التوحيد، وما واجبات هذا التوحيد، ويبتعد عن نواقضه، وعن مضاداته، عما يضاده، وعما ينقصه، فإن وقع في شيء من التقصير استدرك بالتوبة، كما جاء في الحديث: (اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا)، الذي رواه الإمام أحمد وغيره، (اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا)، فالإنسان مهما استقام فإنه لا يخلو أن تبدر منه بادرة، إما تقصير أو زلة، أو نحو ذلك، فكيف يفعل؟ يستدرك ذلك بالتوبة، نعم، والاستقامة أمرها عظيم، ولما نزلت: ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ﴾ [هود: 112]، قال ابن عباس: هذه أشق آية على رسول الله ﷺ، وهذه الآية من الآيات التي قيل: إنها سبب في قول النبي ﷺ: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا)، والله جل وعلا قال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ﴾. [فصلت: 30]
المقصود أن الاستقامة أمرها عظيم، الإنسان ممكن في لحظة من اللحظات يوحد الله جل وعلا، ويرجع إلى الله، ولكن الاستقامة لا تكون إلا من مُوَفَّق، ومن أعانه الله، ومن هداه، الاستقامة أمرها عظيم، نعم.
الحديث الثاني والعشرون
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». رواه مسلم.
ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته.
ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدًا حِلَّه.
نعم، يقول الإمام مسلم رحمه الله: حدثني سلمة بن شبيب، قال: حدثني الحسن بن أعين، قال: حدثني مَعْقِل وهو ابن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر: (أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ فقال: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ المَكْتُوبَاتِ)؛ يعني الفرائض، المكتوبات: الفرائض، وهي مكتوبة أي مفروضة، وممكن أن يدخل في ذلك أيضا المكتوبات من النوافل، كالسنن الرواتب، ولكنها مكتوبة ليست مفروضة، ليست مفروضة، وإنما نافلة، ولكن لا شك والله أعلم أن ظاهر الحديث المراد به المكتوبات، التي هي الفرائض، (أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ المَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ)، وصوم رمضان فرض، (وَأَحْلَلْتُ الحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ)، هنا لم يذكر بقية الفرائض، لم يذكر الحج، ولم يذكر الزكاة، ولكن هذا يعني يُفْهَم من سياق السؤال، السؤال كأنه يريد أن يسأل عما أوجب الله عليه، فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان، كأن هذه من الأمثلة، وإلا فالأشياء المفروضة أكثر من ذلك، فالزكاة مفروضة، والحج مفروض، وغير ذلك من الأمور الاعتقادية، والأمور العملية الواجبة، قال: (وَأَحْلَلْتُ الحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ)، يعني اعتقدت حل ما أحله الله، ففعلته على وجه أنه حلال، ولا أحرم على نفسي ما أحل الله لي، ولا أحرمه على الآخرين، وحرمت الحرام: اعتقدت تحريمه، واجتنبته، وابتعدت عنه، وربما يدخل أيضًا في مسألة وأحللت الحلال؛ أي: ما ليس حرامًا علي، وقد يدخل في ذلك الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وغير ذلك مما هو ليس من البدع، وإنما هو إما من الفرائض، وإما من السنن، أما البدع فهي مما حرم الله جل وعلا، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، فكل ما حرم الله جل وعلا على العبد، سواء من الأمور العملية، أو الأمور الاعتقادية، فإنه سيجتنبه هذا السائل، قال: ولم أزد على ذلك شيئًا، يعني: لا أفعل النوافل، أأدخل الجنة؟ يعني إذا قمت بما أوجب الله علي من الفرائض، ومن الواجبات، وابتعدت عما حرم الله علي، ولكني لم أفعل السنن والمستحبات، ولم أتجنب المكروهات، ولا الشُّبَه التي هي داخلة في الحرام، (وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ). رواه مسلم.
ومعنى حرمت الحرام: اجتنبته.
ومعنى أحللت الحلال: فعلته معتقدًا حله.
والمقصود أن هذا هو أدنى الواجب، بعض أهل العلم يقول: إن هذا السائل حين سأل النبي ﷺ بهذا الحرص وهذا الاجتهاد، أنه سيفعل الواجبات، وسيبتعد عن المحرمات، لا شك أن قلبًا يحمل مثل هذا لن يقصر، ولن يتخلف عن السنن، ولكن الفرائض والواجبات والمحرمات هي التي سأوليها اهتمامي بالكلية، ولن أقصر فيها ما استطعت، ولكن في قوله: (لَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا)؛ أي لا أوجب على نفسي شيئا من السنن وهي مستحبات، ولكن لا يعني ذلك أنه سيهجرها بالكلية، وسيرغب عنها، وأنت ترى في الواقع، أي إنسان يحرص كل الحرص على الفرائض، فلن تجده يتخلف عن النوافل أبدًا، ولهذا الإنسان الذي يتخلف عن النوافل، هو الذي في الغالب يفرط في الفرائض والواجبات؛ ولهذا الإمام أحمد رحمه الله قال عمن يدع السنن الرواتب، أو يترك الوتر: إنه رجل سُوء، وإنه لا تقبل له شهادة، لماذا؟ لأن قلبًا يزهد في مثل هذه السنن التي تواترت الأحاديث على فضلها وعلى استحبابها، ثم يَرْغَب عن ذلك بالكلية؛ فلا شك أن هذا القلب يعني فيه نوع من المرض، ولا شك أن مثل هذا القلب، والعلم عند الله، أنه سيقصر في الفرائض.
الحديث الثالث والعشرون
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الحَارِثِ بْنِ عاصمٍ الأَشْعَرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا». رواه مسلم.
يقول الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا حِبَّان بن هلال، قال: حدثنا أَبَان، حدثنا يحيى، أن زيدًا حدثه أن أبا سَلَّام، حدثه عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ)، الطهور هنا المراد به الوضوء، أم المراد به طهارة القلب؟ فمنهم من قال: إن المراد به طهارة القلب، ولذلك فإن طهارة القلب من الحسد، والغل، والحقد، والرياء، وغير ذلك من أعمال القلوب السيئة، والأدواء، والأمراض، شطر الإيمان؛ لأن الإيمان لا يَكْمُل ولا يَتِمّ إلا بسلامة القلب، (إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ). [الشعراء: 89]
فلذلك يعتبر هو الشطر أي: النصف، فالإيمان الظاهر نصف، والإيمان الباطن نصف، وقيل: إن الطهور شطر الإيمان، الطهور الذي هو الوضوء، وعلى هذا اختلفوا في توجيه الحديث؛ فبعضهم قال: إن الوضوء شطر الإيمان، الإيمان المقصود به هنا الصلاة؛ لأن الصلاة كما ذكر الله جل وعلا في القرآن، حيث سماها الإيمان، فالإيمان هنا المقصود به الصلاة، وهناك توجيهات أخرى، ولكن ما ذكرته أقربها، وأيضًا لا يشترط أن يكون معنى الشطر أن يكون النصف يساوي، كما يقول قائل، أو كما قال بعض القضاة: إن نصف المجتمع راضٍ عني ونصف المجتمع غير راضٍ، فهذا مما يستخدم في اللغة، ولا يقصد به فعلًا المساواة من كل جانب، فكما قال الله جل وعلا: (وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ)؛ يعني صلاتكم، هذا هوالأظهر والله أعلم في معنى الحديث.
(الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الِميزَانَ)، وهذا مما يدل على فضل الحمد، وكما جاء في الحديث وهو حديث يعني مقبول: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ للهِ)، المهم أن الحمد لله تملأ الميزان، وهذا دليل على فضل الحمد، ومعنى الحمد؛ أي: أنني أحمدك يا الله على كمالك، كمال أسمائه، وكمال صفاته، وكمال ذاته، وكمال أفعاله، وكمال ألوهيته، وكمال ربوبيته، وهلم جرًّا.
(وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ المِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)، هنا شك، سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ثم هل المقصود أن سبحان الله لوحدها تملأ ما بين السماء والأرض، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، أم أن سبحان الله والحمد لله هذه نصف، وهذه نصف، تملأ ما بين السماء والأرض؟.
وجاء عند النسائي وغيره بدل الحمد لله الله أكبر، يعني (وَسُبْحَانَ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ تَمْلَآنِ، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)، لأن الحمد لله سبق أنها ماذا تملأ الميزان، والميزان أكبر من السماوات والأرض، وفي الحديث: (لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ، لَرَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، فهذه السماوات والأرضون ما هي إلا في كفة من كفتي الميزان، والمقصود أن الميزان أكبر من السماوات والأرض، فعلى هذا يكون الحمد لله أفضل من كلمة سبحان الله ومن كلمة الله أكبر، ولكن لا إله إلا الله أيضًا كلمة عظيمة، وجاء في الحديث السابق ذكره لكم أن أفضل الدعاء الحمد لله، وأفضل الذكر لا إله إلا الله، ولكن العلماء اختلفوا في الترجيح بين أيهما أفضل: الحمد لله، أم كلمة التوحيد لا إله إلا الله؟، وعلى أية حال ممكن أن يقال مثلًا: إن الحمد لله دعاء، ولا إله إلا الله ذكر؛ ولذلك جاء في الحديث (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمْدُ للهِ، وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، والمهم أن هذه الكلمات العظيمة؛ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أَحَبّ الكلام إلى الله، وهو الكلام الذي اصطفاه الله، ففضلها عظيم عند الله جل وعلا، والحمد لله كما أسلفنا أنها أفضل من كلمة سبحان الله؛ لأن الحمد هو وصف الله جل وعلا بالكمال، وسبحان الله تنزيه لله جل وعلا عن النقصان، والإثبات أفضل من التنزيه، فمثلًا حين تصف إنسانًا بأنه كريم أفضل وأكمل من أن تقول عنه: إنه ليس ببخيل، إذا قلت: ليس ببخيل، فليس المعنى أنك تصفه بأنه كريم، لكن لما أقول عن إنسان: إنه كريم، فلا شك أنني أقول: ليس ببخيل، وأيضًا هو جواد ومعطاء وهكذا.
قال: (وَالصَّلَاةُ نُورٌ) لماذا؟ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصلاة نور في القلب، ونور في الوجه، ولها أثر إيجابي عظيم، سبب للبعد عن الفحشاء والمنكر، قال: (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ)؛ أي أن الإنسان إذا تصدق بصدقة، سواء كانت مفروضة كالزكاة، أو مستحبة؛ فإنها برهان على إيمانه، البرهان هو الدليل؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يجود بشيء محبوب إلى النفس إلا وهو دليل على كرم نفسه، وزكاء نفسه، فالمال محبوب لدى النفس، صعب إخراجه، فإذا أخرجه الإنسان لله، هذا دليل على إيمانه، وبرهان على إسلامه، طيب، قال: (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ)، الضياء هو الذي يضيء لك، الصبر يضيء لك وجه الأمور، فالإنسان إذا صبر فإنه مع الصبر سيتبين له الوضع، سيتبين له وجه الأمر، سيكون له تصور، ولكن وصف النبي ﷺ الصلاة بأنها نور، ووصف الصبر بأنه ضياء، وهناك فرق بين النور والضياء، فمثلًا القمر نور، لكن الشمس ضياء؛ لأن الشمس بها حرارة، والقمر ليس به حرارة، نور بلا حرارة، هكذا الصلاة، الصلاة وأنت تصلي ليس عندك في جوفك شيء من الحرارة على هذه الصلاة، وإنما هي نور، لكن الصبر تشعر بداخلك بشيء من الحرقة، ولذلك ناسب وصف الصبر بالضياء، وناسب وصف الصلاة بالنور، طيب، قال: (وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)، نعم القرآن ليس هناك أمر ثالث بين إما لك أو عليك، ليس هناك شيء وسط، فهو إما أن يكون حجة لك بأن أقمت حدوده، وحللت حلاله، وحرمت حرامه، فكان حجة لك، أو حجة عليك؛ لأنك ضيعت وفرطت شيئًا من أوامر الله، أو نواهيه، أو من حدوده، وأحكامه، قال: (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا)؛ أي أن الناس سيغدون على الله جل وعلا، والناس في كل يوم أيضًا يغدون، فإما أن الإنسان بائع نفسه لله، وذلك بإقامة حدوده، والإتيان بفرائضه، والابتعاد عن محرماته، وامتثال الأوامر، وامتثال النواهي، فهذا قد أعتق نفسه، إذ باعها لله جل وعلا، أو موبقها أي: مهلكها، كيف الإنسان يهلك نفسه؟ وذلك بأن لا يجعلها لله، فالجنة ثمنها هذه النفس، فربما فرط في جنب الله، ضيع شيئًا من الفرائض، تعدى شيئًا من الحدود، انتهك شيئًا من المُحرَّمات، لم يمتثل أمرًا، لم يمتثل نهيًا، فهذا قد أهلك نفسه. نعم.
الحديث الرابع والعشرون
عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. رواه مسلم.
يقول الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا عبد الله بن بَهْرَامَ الدارمي، حدثنا مروان الدمشقي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخَوْلَانِيّ، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه عز وجل، وهذا ماذا يُسَمَّى؟ حديث قدسي، الحديث القدسي هو الذي يقول فيه النبي ﷺ: قال الله جل وعلا، أما الحديث النبوي فهو الذي النبي ﷺ يعني يأتي بالكلام دون أن ينسبه لأن الله قاله، وإن كان طبعًا الحديث القدسي والحديث النبوي كله من عند الله جل وعلا، وهناك أحاديث نبوية وأحاديث قدسية، والأحاديث القدسية هي يعني وإن كان فيها قال الله جل وعلا، إلا أنها لا تُعْقَد بها الصلاة، ولا يعني الحديث القدسي أن كل حديث قدسي فهو صحيح، هناك أحاديث قدسية ولكنها فيها ضعف أو ضعيفة، والقول الراجح أن الحديث القدسي والحديث النبوي كله من عند الله جل وعلا، لكن الحديث النبوي لا يَبْتَدِئُه النبي ﷺ بقوله: قال الله، أما الحديث القدسي فإن النبي ﷺ يَبْتَدِئُه بــقال الله جل وعلا، طيب.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)؛ يعني الله جل وعلا حَرَّم الظلم على نفسه، فيستحيل أن الله جل وعلا يظلم مخلوقًا شيئًا، لا قليلًا ولا كثيرًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا، ولكن لا أن الله سبحانه وتعالى عاجز عن الظلم، لا، هو قادرعلى الظلم، ولكنه حَرَّم الظلم على نفسه، وطبعا كل شيء ملك لله، والمالك له أن يتصرف في مملوكه، ولكن الله جل وعلا لكرمه وجوده حَرَّم الظلم على نفسه، وأما أن الله سبحانه وتعالى عاجز عن الظلم هذا ليس مدحًا وإنما قدح، كما يقول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ *** وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
هو الآن يسبهم ويذمهم لأنهم عاجزون عن الظلم، وهذه مسبة، والدليل على أنه يريد أن يسبهم أنه صَغَّر القَبِيلَة، لم يقل: قَبِيلَة، إنما قال: قُبَيِّلَة، وكأنه يستصغرها ويحتقرها، والمهم أن الله جل وعلا قادر على الظلم ولكنه حَرَّمَه على نفسه، (إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)، فالظلم بجميع أنواعه وأشكاله وصوره حرام، وجعلته بينكم مُحَرَّمًا فلا تظالموا، ولذلك ظلم العباد بعضهم لبعض لا بد فيه من التوبة ومن أن يتحلل الإنسان من أخيه المظلمة بأن يرد له حقه سواء كان من مال أو من عرض، أو من سفك دم، أو من ضرب بدن، أو غير ذلك، يستحله من ذلك، فإن أَحَلَّه فالحمد لله، وإلا اقتص منه، الأمر عظيم يا عباد الله، ولا تكفي التوبة، يعني لو أن إنسانًا أخذ من إنسان مالًا سرقة أو نحو ذلك، فلا يكفي أن يتوب، لا بد أن يرد المال، ولو أنه ضربه فلا يكفي أن يتوب، لا بد أن يمكن نفسه لهذا الإنسان أن يضربه، أو أن يعفو عنه، قال: (يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)، يعني أن الأصل في الإنسان أنه ضال، كما قال جل وعلا: ﴿أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فََٔاوَىٰ ٦ وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ﴾. [الضحى: 6 - 7]
ولكن ما معنى هذا الضلال، هو أن الله جل وعلا فطر الإنسان على الفطرة الصحيحة، كل مولود يُولَد على الفطرة، فهداه بهذه الفطرة، ولولا هذه الفطرة لكان الإنسان في ضلال، ثم إن الله جل وعلا يهدي المسلم، ويهدي من هو أهل للهداية، بأن يعينه على نفسه، وعلى شيطانه، وعلى شهوات النفس، وعلى مَلَاذِّ الدنيا، وعلى صوارفها، وأما لو ترك الله جل وعلا هذا الإنسان لنفسه ولشيطانه لضل، فالنفس كالذئب، والشيطان كالذئب، ولكن الله جل وعلا إذا أراد أن يهدي إنسانًا حال دون هذه النفس الشريرة ودون هذا الإنسان، ودون هذا الشيطان وهذا الإنسان، قال: (فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ)، إذًا لا يمكن أن تكون الهداية إلا بيد الله جل وعلا، إلا أن يهدي الله جل وعلا هذا العبد، لذلك نتوجه إلى الله جل وعلا دائمًا وأبدًا أن يهدينا، ونحتاج إلى الهداية في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل دقيقة وجليلة، ونحتاج لها في كل وقت، وفي كل ثانية من حياتنا نحتاج إلى الهداية، ولذلك تكرر الفاتحة في كل صلاة، وفي كل ركعة: (ٱهۡدِنَا
ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ)، [الفاتحة: 6] لأنك في كل شيء تحتاج إلى هداية، في العقيدة، في الفقه، في الآداب، في الأخلاق، حتى في أمورك الدنيوية، تحتاج إلى هداية في كل شيء، طيب.
(يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ)، إذًا نتوجه إلى الله جل وعلا بطلب الرزق، وإلا فإن الإنسان الأصل فيه أنه يعيش جائعًا لا مال له، ولا زاد له، طيب، (كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ)، المهم أن الأصل في الإنسان أنه جائع عارٍ ضال ولكن الله جل وعلا هو الذي أنعم عليك بالهداية، وبالمال، والرزق، والكسوة، وغير ذلك، (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)، الإنسان مهما احتاط، ومهما حرص، ومهما استقام، فإنه سيقع في الخطيئة:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمّا *** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ مَا أَلَمَّا؟
ليس هناك إنسان معصوم أبدًا، ولا النبي ﷺ معصوم عن الصغائر، ولكنه الموفق من إذا وقع هُدِي إلى التوبة والاستغفار، والله جل وعلا يَغفِر ولا يبالي، فالمهم أن الإنسان يتوجه إلى الله دائمًا وأبدًا لطلب المغفرة، ويتوب إلى الله جل وعلا دائمًا وأبدًا توبة عامة وتوبة خاصة، ولهذا كان النبي ﷺ يُحْصَى له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، وأكثر من مائة مرة يتوب إلى الله في المجلس أعدادًا كثيرة، ويستغفر إلى الله في المجلس أعدادًا كثيرة، أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، لأن الإنسان قد يخطئ ويقع في معصية وهو لا يدري أنها معصية، وإن كان يعرف لو سئل عنها أنها معصية، يعني الإنسان يعرف أن الغيبة حرام، ولكنه قد يقع في الغيبة، ويعرف أن النميمة حرام، ولكنه قد يقع في النميمة، لذلك الإنسان دائمًا وأبدًا يستغفر الله جل وعلا، (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي)، لا شك أنه لا يمكن أن يستطيع الإنسان، أو أي مخلوق أن ينفع الله جل وعلا، أو أن يضر الله، والله جل وعلا لا يضره شيء، ولا ينفعه شيء سبحانه وتعالى، ولذلك أعمالك الصالحة لك، وليست لله، كما قال الله جل وعلا: (لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا). [الحج: 37]
فالمقصود أن الأضحية هي مِن أَجْل أن تُؤجَر أنت، وتكسب الأجر، لا أن الله يحتاج إلى هذا اللحم، طيب.
ولا أن الذنوب والمعاصي والكفر والشرك والنفاق وغير ذلك يضر الله، وإنما الإنسان يضر نفسه، العاصي يضر نفسه، طيب.
(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا)، لأن الله جل وعلا غير محتاج إلى عبادتنا ولا إلى طاعتنا، ولو أن جميع المخلوقات من إنس وجن وغيرها، كانوا على أتقى قلب رجل، ما نفع الله ذلك شيئًا، ولكن كل إنسان ينفع نفسه، طيب.
(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا)، نعم مهما لو اجتمع، لو كان الخَلْق كلهم يعني على أفجر قلب رجل، ما ضر الله جل وعلا شيئًا، ولا نقص مما عنده شيئًا، طيب.
(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ).
يعني لو أن المخلوقات كلها قامت في صعيد واحد، في مكان واحد، وسألوا الله، كل سأل مسألته، وأعطى الله سبحانه وتعالى كل مخلوق مسألته، هل سينقص ذلك من ملك الله شيئًا، لا، لا ينقص، لا قليل ولا كثير، لا صغير ولا كبير، فخزائن الله مَلْأَى، ويمينه سَحَّاء، ولكن جاء في الحديث هنا: (إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ)، يعني أكبر شيء في الوجود مما نراه الذي هو الماء، وطبعًا لست أقصد أنه أكبر من السماوات، لا، لكن أقصد شيء ما هو معهود عندنا ومتعارف بيننا، البحر كبير جدًّا، أكبر من اليابس، وأصغر شيء تقريبًا الإبرة، المخيط، فلو أنك أدخلت رأس الإبرة في البحر ثم رفعتها لا ترى على رأس هذه الإبرة شيئًا من الماء، ولا يقل البحر بسبب لو قُدِّر أنه عَلَق في رأس الإبرة شيء من القطرات لا ينقص البحر، المهم أن هذا مثال على أنه لا يَنْقُص من مُلْك الله شيئًا، إما أن يكون هذا من باب ضَرْب المثل، أو أن المخيط لا يَعْلَق به شيء، أو أن البحر والمخيط وما عَلَق به كله أصلًا ملك لله جل وعلا، فبذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا، طيب.
قال: (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ)، الله جل وعلا هو الذي يحصيها ويكتبها، (أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ) [المجادلة: 6]، فلا يمكن يفوت لا صغيرة ولا كبيرة، (مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ). [الكهف: 49] فيحصي الحسنات والسيئات، فمن وجد خيرًا فليحمد الله جل وعلا، أن الله جل وعلا بارك في هذا الخيروكتبه، ولم يظلم العبد هذا الخير، ومن وجد شرًّا فلا يلومن إلا نفسه، هو الذي جنى على نفسه، نعم.
الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أيضًا، أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ. رواه مسلم.
نعم، يقول الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا عبد الله الضبعي، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا واصل، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود، عن أبي ذر رضي الله عنه، أن أناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا للنبي ﷺ: (يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ)، أي أهل الأموال؛ لأن عندهم أموالًا يستطيعون أن يتصدقوا، يستطيعون أن يحجوا، وهكذا، وغير ذلك من أوجه البر والإحسان التي تحتاج إلى مال، (ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي)، الصلاة لا تحتاج إلى مال، لذلك يشترك فيها الفقراء والأغنياء، ويصومون كما نصوم، كذلك لا تحتاج إلى مال، فيشترك فيها الفقراء والأغنياء، (وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)، وهذه الصدقة لا يستطيعها إلا الأثرياء والأغنياء، أما الفقير فلا يستطيع، قال: (أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً)، يعني دين الله واسع، وفضل الله عظيم، فليست الصدقة حصريًّا على الأغنياء، وهناك أشياء كثيرة تستطيع أن تُقَدِّم فيها الصدقة، أولًا أنك لو قدمت ولو قليلًا من المال ربما تسبق شيئًا كثيرًا مما تصدق به الغني، الفقير لو تصدق بالقليل، يعني مثلًا عنده ألف ريال فتصدق مثلًا بخمسمائة، يعتبر تصدق بكم؟ بشطر ماله، والغني الذي عنده مائة ألف لو تصدق بخمسة آلاف، ولو أنها عدد أكثر مما عند الفقير؛ لأنها لا تبلغ ما بلغت به صدقة الفقير؛ لأن الفقير تصدق بشطر ماله، وإن كان طبعًا الإخلاص والاحتساب ونحو ذلك له دوره، طيب، (إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً)، وطبعًا هذه الأشياء صدقات، ومثل ذلك: الاستغفار والتوبة وتلاوة القرآن وغير ذلك من الأقوال والأفعال التعبدية، (وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ)، وطبعًا سواء كانت العبودية التي قدمتها واجبة أو مستحبة فهي صدقة، صلاة الفريضة تعتبر صدقة، والسنن الرواتب تعتبر صدقة، وسنة الضحى تعتبر صدقة وهكذا، قال: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)، يعني في جماعه لزوجته صدقة، كما أن ملاعبة الزوجة ومداعبتها أيضًا أجر، فالمقصود أن الشيء الذي أحله الله جل وعلا وفيه إحسان على نفسك، أو على مسلم، فهو صدقة، المهم لا يكون باطلًا، ولا يكون يعني ضياعًا، فإن هذا لا يعتبر صدقة، يعني الإنسان مثلًا لو جلس لوحده يضحك لا تعتبر صدقة، ولكن لو أنه ضحك من أجل أن يضحك غيره هذه تعتبر صدقة، والمهم أن هذه الأشياء تعود إلى نية الإنسان واحتسابه، كما كان السلف الصالح رضي الله عنهم يحتسب أحدهم النوم، وبعضهم يحتسب رمي القمامة، وغير ذلك من الأشياء يحتسبها فتكون صدقة، طيب، قالوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ فَيَكُونُ لَهُ بِهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ كَذَلِكَ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)، يعني هذا قياس العكس، أنه الإنسان مثلًا إذا أكل الحلال له أجر، كيف وهو يأكل؟ نعم، أرأيتم لو أكل حرامًا أليس عليه وزر؟، نعم، عليه وزر، إذًا إذا أكل الحلال فله أجر، لكنه يكون قاصدًا أنه يأكل الحلال، ويستغني به عن الحرام، لكن لو كان إنسان يأكل ما يقع في يده من حرام وحلال، لا يؤجر على أكله للحلال، كما لو أن إنسانًا والعياذ بالله يضع هذه النطفة، ويقضي هذه الشهوة، في فرج حرام وحلال، ما يُفَرِّق، هذا لا يكون له أجر في جماعه لزوجته، لو كان يستعف بهذا الفرج الحلال عن الحرام هنا له أجر، وحتى لو وضعه في الحلال وهو يحتسب، ولو أنه قد يقع في الحرام، لكن يحتسب هنا له أجر أيضًا، طيب، والمقصود أن هذا أيضًا دليل على مسألة القياس الفقهي، الذي اختلف فيه أهل العلم، جمهور العلماء مع الظاهرية، فالظاهرية لا يرون القياس، والصحيح أن القياس أصل من أصول الشريعة، ولكنه لا شك أنه بعد النصوص الشرعية، يعني بعد الكتاب والسنة والإجماع، نعم.
الحديث السادس والعشرون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ. رواه البخاري ومسلم.
نعم، يعني البخاري رحمه الله رواه من طريق إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا الحديث يقول النبي ﷺ: (كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ)، السلامى هي أعضاء الإنسان، أو مفاصل الإنسان، ومفاصل الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلًا، فأنت مطالب في كل يوم أن تشكر الله جل وعلا على هذه النعمة العظيمة، نعمة الأعضاء، ونعمة المفاصل، تتحرك بكل سهولة ويسر، من غير آلام ولا أوجاع ولا تصلبات وتشنجات، فهذه النعم تحتاج إلى شكر، ولذلك من شكرها أن تتصدق عن كل مِفْصَل، وأن تتصدق عن كل عضو وهكذا، لكن الصدقة ليست محصورة ومقصورة على المال، هناك أشياء كثيرة صدقة، كتسبيح وتهليل وصلاة وصيام وغير ذلك، قال: (كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ)، المهم أن أوجه الصدقة كثيرة، سواء على نفسك، أو على أهلك، أو على جيرانك، أو على أقاربك، أو على المسلمين، أو على الحيوانات، فكل هذه الأمور تعتبر صدقة، لكن على الإنسان أن يحتسبها، وأن يصلح النية، قال: (وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ)، لكن الكلمة الخبيثة ماذا؟ وزر، وهكذا الكلمة الطيبة صدقة، والإنصات عن الكلمة الطيبة نوع من البخل، يعني إنسان مثلًا قَدَّم لك معروفًا، تقول: جزاك الله خيرًا، لكن لو سكت ما قلت شيئًا، نوع من البخل، وأنت مستحضر غير غافل ولا لاه، طيب، (وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)، المهم أن هذا الحديث متفق عليه، بَيَّن لنا أن هذه الأشياء كلها صدقة، وأن الإنسان يحرص على الصدقات، ويجزئ من ذلك أن تركع ركعتين من الضحى، فتعتبر قمت بشكر هذه المفاصل، وإن كانت طبعًا مهما عملت من أعمال صالحة لا توازي هذه النعمة، لكن الله جل وعلا كريم، يَقْبَل من عبده اليسير، أرأيت مثلًا حين تأكل طعامًا وتقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، أديت شكر هذه النعمة، وغُفِر لك ما تَقَدَّم من ذنبك، هذا من كرم الله جل وعلا، وجوده سبحانه وتعالى، نعم.
الحديث السابع والعشرون
عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. رواه مسلم.
نعم، هنا الإمام مسلم رحمه الله رواه من طريق محمد بن حاتم، عن ابن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس رضي الله تعالى عنه، أن النبي ﷺ قال: (البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ)، يعني أن حسن الخلق هو البر، وحسن الخلق قاعدة أو أصل أو جامعة، كل ما كان يُعَدّ من الأخلاق الحسنة هو داخل في ذلك، وهو من البر، كما أن الإثم سوء الخُلُق، هو قاعدة جامعة، فكل ما كان سيئ الأخلاق فهو إثم، وهناك ما هو ليس من الإثم، ولكنه خارم للمروءة، (البِرُّ حُسْنُ الخُلُق، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)، إذًا طبعا الإثم والحرام هو ما جاءت به الشريعة أنه حرام، والبر ما جاءت به الشريعة أنه بر وإحسان وحُسْن خُلُق، فليس كل ما ظنه الإنسان أنه من حُسْن الخلق أنه معتبر من حُسْن الخُلُق، وأنه مأجور عليه، بعض الأشياء قد يتصور الإنسان أنها حُسْن خُلُق وهي من مساوئ الأخلاق، والميزان في ذلك الشريعة، والفطرة السليمة، والعقل الصحيح، وإن كان ولله الحمد قد لا يخفى أن هذا من حُسْن الخلق وهذا من مساوئ الأخلاق، طيب، ولكن ترى الإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، لا شك أن النفس إذا كانت محافظة على ذكائها، والإنسان محافظ على فطرته، لم تنتكس عنده الأمور، ولم تنعكس، فهنا سيكون إذا جاء شيء من الإثم يكرهه، تجد الناس تكره هذا الشيء، ويكره أن يطلع الناس عليه، وهو يعمل هذا الشيء، وإلا فإن إذا انتكست الفطر وانعكست، فإنه بالعكس قد يفرح أن الناس يطلعون على أعماله السيئة، ولا يكره، وربما يكره أن يطلع الناس على أعماله الحسنة الصالحة، لكن هذا والعياذ بالله من الانتكاس في الفطر، طيب، إذًا الإنسان يحافظ على هذا القلب الذي يضطرب للحرام، وعلى هذه النفس التي تكره الحرام، ولا يجني عليها بالتبديل والانتكاسة، والمهم أن الإنسان يعرض الأمور على قلبه، هل النفس تطمئن؟، هل القلب يطمئن لهذا العمل؟، هل النفس تضطرب؟ هل القلب يضطرب؟ هل يكره أن يطلع الناس على ذلك؟ وهذا نوع من الميزان، ولكن بعض الأمور قد تضطرب النفس، لكن تدفعك إلى السؤال، سؤال العَالِم، هل هذا حلال أو حرام؟، يعني مثلًا بعض الناس لتشدده وأنه يرى مثلًا أنه لا بد أن يصوم، ربما أنه لا يستطيع أن يفطر، ولو أنه مسافر، ولو أنه مُتْعَب، ولكن هذا نوع من الغلو، فهذا الشيء الذي جَعَلَتْ نَفْسُك تضطرب وتأبى تدعوك إلى السؤال، لا أن تقول: والله سأعرض على نفسي، ولا أنظر إلى أي عالم، ولا إلى أي دليل أنا عندي مُفْتٍ بداخل جوفي، هوالنفس والقلب، لا، ولكن على أية حال بعض الأشياء أيضًا لا يدري عنها المفتي من نفسك، وأنت تدري عنها، مثلًا، إنسان أوقع الطلاق ممكن يأتي إلى المفتي ويقول: والله أنا غضبان، ولا أدري أنا في أرض أم في سماء، وأنا يعني لا أعرف ماذا يبدر مني، وهو يعلم من نفسه أنه ما وصل لهذه الدرجة، المفتي ممكن يقول: طلاقك لا يقع، لا طلاق في إغلاق، لكن أنت تعرف أنك ما وصلت إلى هذه الدرجة وهذه الرتبة، إذًا إذا حاك وأنت قلبك سليم وفطرتك سليمة، لن تستطيع أن تجامع هذه الزوجة، ولن تستطيع أن ترتاح معها؛ لأنك ما ذكرت الحقيقة للمفتي، وأنك واقع في مُحَرَّم، وأحيانًا قد يكون الشيء شبهة، مثلًا تجد مالًا واقعًا في الأرض، فتقول: هذا أنا دخلت المسجد، ووقع من جيبي، ممكن أن الإنسان يزين الكلام للمفتي، يعني كذا وكذا ممكن يقول هذا لك، لكن هو في الحقيقة يعلم من نفسه أن ما عنده هذا المال، أو أو إلى آخره من الأشياء، مما هو يعرف أنها شبهة قوية، قد لا يقطع أنه ليس له، لكن عنده شبهة قوية أنه ليس له، هنا لن ترتاح النفس ولن يطمئن القلب، ولو أن المفتي أفتاه أنه له، طيب، إذًا والإنسان العاقل يكره أن يطلع الناس عليه وهو على أمر يخالف الشريعة، إما مخالفة صريحة، وهو المُحَرَّم، وإما مخالفة شبهة، لأجل أن يحفظ دينه وعرضه، وهذا أمر مطلوب من الإنسان، والإنسان الذي تسره حسنته، وتسيئه سيئته، ويكره أن يطلع الناس على سيئته، هذا علامة إيمان، أما الإنسان الذي لا يبالي، بعض الناس يقول: لا يا أخي، أنا سأراقب الناس؟، يعني لا يبالي بالناس إطلاقًا، وممكن يقول أهم شيء هو حلال أم حرام؟، حتى لو قلت: إنه شبهة لا يبالي، ما دام ليس حرامًا لا يهمني الناس، ولا يعنيني الناس، هذا ليس من الدين، وإن كان أيضًا ليس من الدين أن الإنسان يراعي الناس ولو على الشرع، يعني قد يكون عند الناس سنون وعادات تخالف الشريعة، فربما يراعي الناس في هذه السنون والعادات، ولو أنه واقع في الحرام، لا، أو يُحَرّم على نفسه حلالًا أو يُحَلِّل لنفسه حرامًا، لا، نعم.
الحديث الثامن والعشرون
عَنْ أَبِي نَجِيحٍ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، أَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَعَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي سَيَرَى اخْتِلَافًا كثيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوْا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
نعم، يقول أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن حنبل، عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن السلمي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: (وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ)؛ لأنها موعظة بليغة قوية، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا؛ لأن المودع هو الذي يوصي، الإنسان قد يكون في نفسه وصية لأولاده، ولكن لا يتفوه بها إلا عند الموت، أو قد يكون ولو ليس عنده وصية، إذا جاءه الموت بدأ لأجل الحرص والنصح أن يظهر الوصية، (كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا)، وغالبًا ما تكون موعظة المودع قوية بليغة، قال: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)، ولا شك أن تقوى الله هي وصيته جل وعلا للأولين والآخرين، وهي وصية النبي ﷺ لأصحابه، ووصية الصحابة بعضهم لبعض، وهي كلمة عظيمة، وكان سلفنا الصالح رضي الله عنهم من علماء وعُبَّاد يوصي بعضهم بعضًا بهذه الكلمة العظيمة، أوصيك بتقوى الله عز وجل، قال: (وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَعَلَيْكُمْ عَبْدٌ)، أي أن تسمع وتطيع لأميرك، لأن الله جل وعلا قد أوجب طاعة الأمير في المعروف، وأما في المُحَرَّم فلا، لا سمع ولا طاعة، فطاعة الأمير من طاعة الله، ومعصية الأمير من معصية الله، والمقصود بالأمير أميرك، رئيسك، وحتى لو كان أمير السفر فإنك تطيعه، لكن الجميع طاعتهم في المعروف، ليس في المُحَرَّم، قال: (وَإِنْ تَأَمَّرَعَلَيْكُمْ عَبْدٌ)، طبعا العبد لا يمكن أن يُؤَمَّر؛ لأن من شروط الإمارة: الحرية، وأيضًا من قريش، هذا فيما يتعلق بالإمارة التي هي الخلافة، وعلى أية حال أنك تسمع وتطيع، ولو كان هذا المتأمر عبدًا، ولا يكون هو الأمير، إلا أنه يغلب بالسيف، ربما يأتي عبد ويكون هو الأمير بالقوة، عندما يكون أميرًا بالقوة يطاع، ولو أنه عبد، وعلى أية حال إن مسألة الطاعة لا يكون فيها الأنساب ولا الأحساب، طاعة الأمير لا تدخل في مسألة الأحساب والأنساب والجاه والمنصب وغير ذلك، وإنما ما دام أن هذا الأمير قد أُمِّر ونَصَّبَه أهل الشأن، فإنه يجب طاعته بالمعروف، طيب، (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وهذا واقع في كل عصر وفي كل مصر، هذا الاختلاف الكثير، هذا يُحَرِّم وهذا يُحَلِّل، وهذا يُوجِب وهذا لا يُوجِب، وهذا يُبَدِّع وهذا يُضَلِّل، وهذا يُفَسِّق وهذا يقول: هذه هي السنة، والاختلاف كثير، لكن هناك خلاف معتبر، وهناك خلاف غير معتبر، فالمعتبر هوالذي له أصل وله دليل، وغير المعتبر الذي لا يرتكز على أصل ودليل، المهم سترى اختلافًا كثيرًا؛ ولهذا تختلف هذه الأُمَّة على ثلاثة وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي أهل السنة والجماعة، وهي الطائفة المنصورة، فترى الاختلاف الكثير، سواء اختلاف مُخْرِج من المِلَّة، كخلاف الرافضة، والجهمية، أو خلاف لا يُخْرِج من المِلَّة، كبعض الطوائف، أو بعض الجماعات، أو بعض الفِرَق، أو بعض المذاهب، المذاهب السنية وليست البدعية، المهم سترى اختلافات، قال النبي ﷺ: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)، المهم أن الإنسان يتحرى سنة النبي ﷺ أولًا، قبل سنة غيره، قبل سنة أبي بكر وعمر، ثم ينظر في سنة أبي بكر وعمر، ثم في سنة بقية الخلفاء، وهي سنة عثمان وعلي، وأيضا بعد ذلك ينظر ما عليه عمل الصحابة، وما عليه عمل التابعين، وما عليه عمل أهل الفضل والعلم، هكذا، فلا يمكن مثلًا أن يكون هناك حديث صحيح ولم يعمل به أهل العلم وأهل الفضل أبدًا، وما عمل به أهل العلم وأهل الفضل، ولو كان الحديث ضعيفًا فيعتبر تلقته الأمة بالقبول، وفي شهرته بينهم والعمل به ما يغني عن إسناده، طيب، (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)، هذا طبعًا في كل شيء، في أمور العقائد، في أمور المعاملات، وأمور الفقه، وأمور الآداب، وأمور الأخلاق، هذه أمور عامة، لكن لا شك أن هناك أولويات، فالعقيدة مُقَدَّمة على الفقه، والفقه مُقَدَّم على الآداب وهكذا، قال: (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)؛ أي البدع والضلالات التي أحدثها ضعفاء العلم، أو ضعفاء الدِّين، (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)، لا شك أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والعياذ بالله، وليست هناك محدثة وبدعة وهي حسنة أبدًا، إلا أن تكون بدعة لغوية، كما قال عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح لما جمعهم: نعمت البدعة هذه، هذه بدعة لغوية وإلا فإن الجماعة في صلاة التراويح، قد فعلها النبي ﷺ، إذًا ليس هناك بدعة بيضاء وبدعة سوداء، ولا بدعة حسنة وبدعة سيئة، لا، كل البدع ضلالات، وكل بدعة في النار، والعياذ بالله، نعم، وهذا الحديث حديث صحيح، نعم.
الحديث التاسع والعشرون
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ)، حَتَّى بَلَغَ (يَعۡمَلُونَ) [السجدة: 16 - 17]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذَرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذَرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكُ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
نعم، الترمذي رحمه الله رواه من طريق ابن أبي عمر، عن عبد الله الصنعاني، عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قلت: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ)، وهكذا ينبغي أن يكون طموح الإنسان، هو أن يهتم بأمر الآخرة، ويسأل عن ما يقربه إلى رضى الله، ويباعده عن سخط الله، ويقربه من الجنة، ويباعده عن النار، وهكذا، قال: (قَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ)، ليس كل عظيم يسيرًا على الإنسان، العلم أمره عظيم، لكن الإنسان قد لا يستطيع أن يطلب العلم، إلا أن ييسره الله جل وعلا على الإنسان، صلاة الليل عظيمة، ولكن ليس كل عظيم يستطيعه الإنسان، الذكر عظيم، وهكذا، أشياء كثيرة عظيمة، ولكن من يسرها الله عليه سهلت عليه، ومن لم ييسرها الله عليه لا يمكن أن يفعلها، وإن كان يعلم أن أجرها كبير وعظيم، ولذلك العبد يسأل الله جل وعلا دائمًا وأبدًا التيسير، قال: (تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)، أي أن توحد الله جل وعلا، ولا تشرك لا شركًا أكبر ولا أصغر، لا شركًا جليًّا ولا شركًا خفيًّا، جميع أنواع الشرك تتجنبها، قال: (تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ)، يعني تفعل الأركان الخمسة، وما يتبعها من نوافل، ومن أعمال البر، قال: (أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ)؛ أي: ستر، الجُنَّة هي الستر، (وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئ المَاءُ النَّارَ)، يعني أن الإنسان يحرص على الصيام؛ لأن الصيام يستر الذنوب، والصيام سبب لمغفرتها، والصيام لا يدخله الرياء، وفضله عظيم، والصدقة تطفئ الخطيئة؛ لذلك الإنسان يكثر من الصدقة، وإذا أخطأ الإنسان فليتصدق، وكما قال النبي ﷺ للنساء: (رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ)، ثم أمرهن بالصدقة، قال: (وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)، يعني صلاة الليل خاصة في جوفه، وفي آخره حين يتنزل الإله، من أفضل الأعمال ومن أعظمها، ثم تلا: (تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ)، حَتَّى بَلَغَ (يَعۡمَلُونَ) [السجدة: 16 - 17]، المهم أن صلاة الليل من أفضل الأعمال، والإنسان يحرص عليها، سواء حرص على أن يأتي بالسنة كاملة، مثلًا إحدى عشر ركعة، وبنفس إطالة النبي ﷺ، أو قريب من ذلك، سواء عددًا أوهيئة، المهم أنه يحرص، وخاصة الوتر، ألا يضيع الوتر، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليؤخر الصلاة إلى آخر الليل، ومن خشي أن ينام فليصل أول الليل، وكله يعتبر صلاة ليل، لكن جوف الليل أفضل وهو – خاصة - إذا كان بعد نوم، هو التهجد، ثم قال: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذَرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)، هنا فيه دليل على الإنسان دائمًا يحرص على الأعمال الصالحة، لكن يسأل أيضًا، ويحرص على أعظمها، فليس كل عمل صالح في مستوى واحد، هناك ما هو أجره عظيم وكبير، وهناك ما هو أقل، فليحرص الإنسان على دائمًا وأبدا الأعمال الصالحة الكبيرة، والأجور العظيمة، قال: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامِ)، لاشك أن الإسلام هو رأس الأمر، ولو أن الإنسان ما عنده إسلام، ما نفعه شيء، مهما قَدَّمَ من أعمال صالحة، (وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا). [الفرقان: 23] فشرط صحة الأعمال الإسلام، كما أن شرط صحة الصلاة الوضوء، (وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ)، إذًا عمود الإسلام الصلاة، وهذا به دلالة على أن الصلاة من تركها ولو كان تكاسلًا مع إقراره بوجوبها وفرضيتها، أن ترك الصلاة كفر والعياذ بالله، مُخْرِج من دائرة الإسلام؛ لحديث جابر في صحيح مسلم: (بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ)، ولحديث: (العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ)، وهو حديث صحيح في السنن: (العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)، لأن العمود إذا سقط، سقط الفسطاط، سقطت الخيمة، ما في بنيان يسقط عموده ويبقى، أبدًا، لكن الأطناب لو سقطت ما سقط البنيان، وإنما يضعف وينقص، ولكن ما يسقط، قال: (وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذَرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ) في سبيل الله، ليس لأن الجهاد هو أفضل الأعمال، وإن كان العلماء قد اختلفوا في بعض الأعمال أيها أفضل، فمنهم من يقول: العلم، ومنهم من يقول: الجهاد أفضل، ومنهم من يقول بحسب الحاجة، أو بحسب الحال، وبحسب الإنسان، المهم أن الجهاد، والعلم يعتبر جهادًا أيضًا، لأن الجهاد جهاد العدو بالسيف، والجهاد بالعلم، وكله يعتبر جهادًا في سبيل الله، وهو من أفضل الأعمال وأعظمها عند الله، ثم قال: (أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟)؛ أي مقصوده، بما يجمعه، (قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)؛ يعني لأن اللسان هو الذي يورد الإنسان المهالك، فاللسان أدواؤه كثيرة، وأمراضه متعددة، ومتنوعة، وسهلة، ممكن يغتاب الإنسان شخصًا في لحظة، ولا يشعر بملل، ولا بتعب، ولا بأوجاع، ولا يحتاج إلى دفع مال، ولا إلى جهد بدني، ولا إلى غير ذلك، ولهذا هذا اللسان قليل أن يتعطل، وفيه عضلات كثيرة، سهل أن تَلْهَج، سواء بذكر الله أو بالمُحَرَّم؛ غيبة، وسب، وشتم، ونميمة، وغير ذلك، المهم أن الإنسان يكون حارسًا وخبيرًا على لسانه، ويزن الكلمة، قل: خيرًا أو اصمت، فقال: (يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟) طبعًا معاذ بن جبل هو أعلم هذه الأُمَّةِ بالحلال والحرام، فقد يقال: إن الإنسان قد يغيب عنه الشيء، ولو كان عالمًا، وقد يقال: إن الإنسان وإن كان عالمًا بالشيء، لكن قد ينبهر في لحظة من اللحظات، ولهذا عمر رضي الله عنه لما تلي عليه الآية، التي تدل على موت النبي ﷺ، قال هذه في كتاب الله؟ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ)، قال: هذه في كتاب الله؟ هو يعلم أنها في كتاب الله، لكن الإنسان قد أحيانًا تكون مناسبة قوية وفي محلها، فينبهر، المهم أنه قال: (وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكُ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟)، طبعًا حصائد الألسن كثيرة جدًّا، ذكرها أهل العلم، حصائد الألسنة المحرمة كثيرة؛ كالغيبة، والنميمة، والسب، والشتم، والاستخفاف، والتحقير، وغير ذلك من حصائد الألسنة، وآفات الألسنة الكثيرة، نعوذ بالله، كما أن هذا الإنسان ممكن أن يذكر الله جل وعلا، ويشغل لسانه عن المعصية بالطاعة والذكر.
قال: رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، نعم يعني هذا حديث صحيح.
الحديث الثلاثون
عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ جُرْثُومِ بْنِ نَاشِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا). حديث حسن، رواه الدارقطني، وغيره.
نعم، هنا الدارقطني رحمه الله رواه من طريق القاسم بن إسماعيل، وهو المحاملي، عن يعقوب بن إبراهيم، وعن محمد بن حسان، عن إسحاق الأزرق، عن داود ابن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا)، يعني الله جل وعلا فرض أشياء؛ مثل الحج، مثل الصلاة، مثل الصدقة، مثل الصيام، مثل الزكاة، المهم الفرائض وغير ذلك من الفرائض، (فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا)، فلا يهملها الإنسان، ولا ينجرف خلف الصوارف، فيضيع، وإنما يأخذ بأسباب المحافظة عليها، (وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا)، أيضا هناك حدود ما يتعداها الإنسان، فمثلًا الوضوء، الحد النهائي ثلاث مرات في غَسْل العضو، فلا يتعداه الإنسان ويغسل أربعًا وخمسًا وستًّا، وفي مسألة الخفين للمقيم يوم وليلة، فلا يتعداها الإنسان، فيمسح وهو مقيم ثلاثة أيام، أو خمسة أيام، ولي اليتيم يأكل إذا كان محتاجًا وفقيرًا بالمعروف، لكن ما يتعدى ويأكل مال اليتيم، وهكذا، فالشيء قد يكون مباحًا وحلالًا لكن في حد معين، فلا يتجاوزه الإنسان، (وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا)، المُحَرَّمات أيضًا كثيرة، فلا ينتهكها الإنسان، ويهتك ستر هذه المُحَرَّمات فيخترفها، (وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)، يعني هذا في أول الأمر، سكت الله عن أشياء، فما كان ينبغي أن يُذْهَب إلى النبي ﷺ ويُسْأَل عنها، ما كذا وما كذا؟، لا، لأنه قد ينزل التحريم، بعد النبي ﷺ، الحمد لله، لا يمكن أن ينزل تحريم، لكن عمومًا، هناك أشياء لا ينبغي البحث عنها، مثلًا، لو أتيت إلى ماء في فلاة، لا ينبغي أن تبحث وتسأل: هل تَرِد السباع على هذا الماء أما لا؟ هل يشرب منها الحمار أم لا؟ هل يشرب منها الذئب أم لا؟ تسأل تبحث، لا، توضأ دون أن تحتاج لسؤال، مثلًا، تسير في الطريق ويعني أصابك ماء مما في الأرض، ما يحتاج أن تذهب وتطرق الباب الذي خرج منه الماء، تقول: هل هذا الماء الذي في الخارج من بيارة، أم نجس أم طاهر؟ ما يحتاج هذه الأشياء، ما يحتاج السؤال، فهذا من الأشياء المسكوت عنها، كذلك مثلًا لو جاءك طعام ولا تدري أذكر اسم الله على هذه الذبيحة أم لا، لا يحتاج تسأل وتكشف، وإنما تذكر اسم الله وتأكل، طيب، أما غير ذلك فالإنسان لو وجد شيئًا لا يدري أهو حلال أم حرام، فإنه يسأل العلماء، أو وجد شيئًا شبهة لا يدري هو لفلان أو لفلان، فإنه يسأل ويتحرى، إذا وجد يعني ضالة، والمقصود أن الإنسان يتمشى مع نصوص الشريعة، فما أحله الله عمل به، وما حَرَّمَه الله عمل به، وما فرضه الله أتى به، وما سكت عنه فإنه لا يحتاج أن يتكلف الأشياء.
الحديث الواحد والثلاثون
وهذا الحديث الذي هو حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي، والذي رواه ابن ماجه حين قال: حدثنا أبوعبيدة، حدثنا شهاب، حدثنا خالد بن عمرو القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ). قال النووي رحمه الله: حديث حسن، رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.
وتحسين النووي رحمه الله لهذا الحديث متعقب، وقد تعقبه ابن رجب فقال: في ذلك نظر، وذلك لأن خالدًا القرشي قد تكلموا فيه، وقد أنكر هذا الحديث الإمام أحمد رحمه الله وغيره، وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده خالد بن عمرو وهو ضعيف، متفق على ضعفه، ومعنى هذا الحديث صحيح، ويستفاد من هذا الحديث: أن الإنسان يحرص على محبة الله جل وعلا، ثم على محبة الناس، والعبد إذا عمل الأعمال التي يحبها الله جل وعلا، ثم أحبه الله، فإن الله جل وعلا يجعل له القبول في الأرض، فيحبه الناس، قال: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ)، وهذا أولًا فيه إثبات المحبة لله، وهي صفة من صفاته جل وعلا التي يجب الإيمان بها، وألا تكيف، ولا تمثل، ولا تمثل صفة الله جل وعلا، ولا تشبه، ولا تكيف، ولا تعطل، ولكن تجرى على ظاهرها، والمحبة معلومة في اللغة، ولكن نثبتها على ما يليق بالله جل وعلا.
(ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ)، الزهد في الدنيا هو ألا تكون الدنيا في القلب، وإنما تكون في اليد، ولهذا يقولون: إن الحكم على إنسان بأنه زاهد لا يمكن، لماذا؟ لأن الزهد في القلب، فممكن ترى إنسانًا فقيرًا وثيابه رثة، وتظن أنه زاهد، وهو غير زاهد، الدنيا في قلبه، يتطلع ويتشوف لها، ويتمناها، ويلهث خلفها، وآخر ربما ترى مظهره جميلًا، ثيابه حسنة، ومركبه حسنة، وبيته حسن، ولكنه زاهد؛ لأنه جاءت هذه النعمة فجعلها في يده، ولم يتعلق بها في قلبه، ولذلك قالوا: الزهد في القلب، الزهد هو ترك ما يبعد عن الله من المحرمات والمكروهات والمشتبهات، والبعد عن ما يشغل عن الله من فضول المباحات، ويختلف الزهد عن الورع، الورع شيء والزهد شيء، الورع هو ترك ما يخشى ضرره في الآخرة، والزهد هو ترك ما لا يرجى نفعه في الآخرة، قال: وازهد فيما عند الناس يحبك الناس، يعني إذا ابتعدت عن ما يحب الناس فلم تنازعهم في أملاكهم، ولا في مناصبهم، فإنه في هذه الحالة سيحبونك، أما لو نازعتهم ، وزاحمتهم على مناصبهم، وعلى أموالهم، وعلى ممتلكاتهم فإنهم سيبغضونك، وإن رأوك تنافسهم على الدنيا فإنهم أيضًا سيستثقلونك، لكن إن رأوك بعيدًا عن الدنيا فإنهم سيطمئنون إليك، ويحبونك، ولكن لا يعني هذا العطالة والبطالة، فهناك سعي لا بد منه واجب عليك، هو أن تسعى في تحصيل الدنيا؛ من أجل أن تعف نفسك، وتعف من تحت مسؤوليتك، ولكن الإكثار من الدنيا والتزود منها من باب الإكثار والافتخار هذا مذموم، وأما إذا جاءك نعمة الله جل وعلا من غير تكلف فهذه نعمة من الله، ولو أن الإنسان أحسن النية بأن طلب الدنيا، ولكن من أجل أن يتصدق، ويحسن للفقراء والمساكين، ويتبرع في المشاريع الخيرية وغير ذلك؛ فهذه أيضًا نية حسنة، والزهاد يختلفون، أحد لا يريد الدنيا إطلاقًا حتى لو قيل له أنك من أجل تتصدق وتنفع في الأمورالخيرية وتبني مسجدًا، قال: أنا لا أريد، أنا لا أريد الدنيا، ولو أنه ما حصل لي هذا الموضوع، وآخرون لا، قد يرون أن التوسع في الدنيا من أجل نفع المحتاجين، وتمويل المشاريع الخيرية، أفضل من تركها، وإنما المذموم لا شك هو أن تلهث وراءها، وتجعلها في قلبك، هذا هو الزهد، والناس كما قلنا يتفاوتون في الزهد، منهم من زهده عالٍ، ومنهم من زهده متوسط، ومنهم من زهده أقل، ومنهم من ليس بزاهد، ولا شك أن الإنسان يحرص على طلب ما يكفيه ويكفي أهله، ويجعله لا يحتاج إلى من قد يستخدمه، سواء أن يستخدم لحاجته، لوظيفته، ومنصبه، أو لعطائه وغير ذلك، ربما استخدم في أمر غير مشروع من باب الضغط عليه من جهة حاجته إلى المال، ولهذا قال سفيان الثوري يعني اطلبوا المال حتى لا يتمندل بكم المتمندلون، طيب.
الحديث الثاني والثلاثون
ثم ساق النووي رحمه الله الحديث الآخر، وهو حديث أبي سعيد سعد بن مالك أبي سنان الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ).
وقال: حديث حسن، رواه ابن ماجه، ورواه الدارقطني من طريق إسماعيل الصفار، عن العباس بن محمد، عن عثمان بن محمد، عن عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدِيّ، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: (لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ).
والحديث حديث ثابت، وله شواهد.
ومعنى الحديث هو أنه لا ضرر ولا ضرار، مجمل الحديث ينهى عن الضرر بجميع صوره وأشكاله وألوانه، لكن لا ضرر؛ أي أنك لا تبتدئ إنسانًا بالضرر، ولا ضرار أنك لا تعاقبه بالإضرار به، الأولى أن تعفو، أو تحتسب ذلك عند الله، أو تأخذ مظلمتك في الآخرة؛ لأن الآخرة خير لك من الدنيا، أو على الأقل ألا تضر لا إضرار، أو لا ضرر ولا ضرار، حتى لا توقعه في إضرار عقوبة، فتزيد مظلمتك على مظلمته، ولو أنه قد أخطأ عليك، وهذا الحديث - كما قال النووي رحمه الله - رواه مالك في الموطأ مُرسَلًا عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي ﷺ والمهم أن هذا الحديث جاء موصولًا ومُرسَلًا، وله طرق يدل على أنه حديث ثابت، وقد حمل بعضهم لا ضرر؛ أي لا ضرر بقصد يعني أنه خطأ، ولا إضرار أي لا إضرار بقصد، والمهم أن التفسيرات لمعنى لا ضرر ولا ضرار اختلف فيها العلماء ولكن كلهم متفقون على أن معناه أنك تجتنب أن تضر مسلمًا، أو أن تضر حيوانًا أو أن تضر كافرًا لا يجوز لك الإضرار به، كأن يكون معاهدًا ونحو ذلك. طيب.
الحديث الثالث والثلاثون
ثم ساق النووي رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: (لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنَّ البَيِّنَةَ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ).
قال النووي رحمه الله: حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين.
لا شك أن البيهقي هو الذي رواه بهذا السياق الطويل، والبيهقي رواه من طريق أبي الحسن، عن أحمد الصفار، عن جعفر الفريابي، عن الحسن بن سهل، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن مليكة، عن ابن عباس مرفوعًا، والحديث أصله في الصحيحين من طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، ومن طريق نافع عن ابن عمر، عن ابن أبي مليكة، والمهم أن الحديث في الصحيحين، لكنه ليس بهذا اللفظ، فزيادة (وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ) هذه هي التي تفرد بها البيهقي، وإسنادها حسن، فالحديث ثابت.
معنى الحديث: لو يعطى الناس بدعواهم، أي كل من ادعى شيئًا من مال، أو من مظلمة، أو من عين، أو غير ذلك من شؤون الحياة.
لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لأن الأنفس ضعيفة، وكل يريد مصلحة نفسه، وكل يرى أنه مظلوم، وكل يرى أن هذا الحق هو له، إلا من عصمه الله، ومن رحمه الله، فلذلك لو ترك الناس لادعى الكثير أشياء ليست لهم من دماء وأموال و عِرْض، يعني من شتم وضرب وغير ذلك، قال النبي ﷺ وهذا يعني هو الفيصل والذي يتحاكم إليه، لكن البينة على المدعي، المدعي قد يكون مدعيًا في أمور جزائية، وقد يكون مدعيًا في أمور مالية، وقد يكون مدعيًا في أمور وأحوال شخصية، على أية حال أي شخص مدعٍ عليه البينة، والدعاوى ما لم تقم عليها بينات أبناؤها أدعياؤها لا بد من البينة، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، والبينة قد تكون شهادة، وقد تكون بينة، مثلًا وثيقة ونحوها، وقد تكون إقرارًا، وقد تكون يمينًا، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، الذي ينكر عليه ماذا؟ اليمين، فلو ترافع شخصان إلى القاضي هنا القاضي ماذا سيفعل؟ سينظر ويحدد من هو المدعي، ومن هو المدعى عليه، وقد اختلف العلماء في تحديد المدعي والمدعى عليه من هو، اختلفت عباراتهم ونظرتهم في هذا الموضوع، ولكن ممكن أن يقال: إن المدعي يعني هذا أقرب شيء تقريبًا أن المدعي هو الذي يدعي شيئًا خلاف الأصل، والمدعى عليه هو الذي معه الأصل، وأن المدعي هو الذي لو تَرك القضية تُرك، وأما المدعى عليه لو ترك القضية ما ترك، وأيضًا يقال المدعي الذي يطالب بالبينة، والذي يطالب باليمين هو المدعى عليه. طيب.
المهم أن المدعي يطالب بالبينة، عندك بينة، إذا كان عنده بينة ما يحتاج خلاص، ما يحتاج أن يقال للمدعى عليه احلف، لكن إذا ما كان عنده بينة يقال للمدعى عليه ماذا؟ احلف، هنا في هذه الحالة إذا حلف تبقى القضية على الأصل، وهي مثلًا أن المدعى عليه فيه أنه بريء من دعوى المهم إذا وجه القاضي له اليمين لأن المدعي ما معه بينة هنا في هذه الحالة إن نكل يكون الحق مع من؟ مع المدعي، إذا نكل عن اليمين، ولكن ليس هذا في جميع الصور، فأحيانًا إذا نكل يكون الحق مع المدعي، وأحيانًا إذا نكل ترجع اليمين إلى المدعي، وهذا أحيانًا يكون مثلًا المدعي ليس عنده علم، وإنما العلم عند من؟ المدعى عليه، فإذا نكل عن اليمين نرجع إلى من؟ إلى المدعي نقول: احلف، لكن لو كان العلم مع المدعي المدعى عليه ليس عنده علم، يعني إذا كان المدعي معه علم والمدعى عليه ليس معه علم، فهنا إذا نكل المدعى عليه ترجع اليمين إلى من؟ إلى المدعي. ولكن لو كان العلم مع المعدى عليه، والمدعي ليس معه العلم، فهنا يقضى بالنقول. طيب.
الحديث الرابع والثلاثون
ثم ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ).
رواه الإمام مسلم رحمه الله، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي سعيد، وهذا الحديث أصل عظيم في أن الإنسان إذا رأى المنكر وجب عليه ماذا؟ أن ينكره بيده، يغير هذا المنكر، لكن هذا إذا كان في استطاعته، وكان من صلاحياته، طبعًا الأصل أنه من صلاحية المسلم أن ينكر المنكر، لكن قد يكون هناك بعض الأشياء ليست من صلاحياته بحكم أنه تسبب فتنة مشكلة عظيمة، فترجع الصلاحيات إلى ولي الأمر، لكن الأصل أن كل منكر - أو نقول: في الغالب أو في كثير من الأمور - أنه من صلاحيات المسلم أن يغيرها بيده، فلو رأى مثلًا إنسان يشرب الخمر فإنه من صلاحيته أن يأخذ هذا الخمر ويريقه، يأخذه بيده، لكن عمومًا إذا لم يستطع أن ينكر بيده فبماذا ينكر؟ بلسانه، يا أخي اتق الله، هذا حرام، ما يجوز، كبيرة من كبائر الذنوب، وممكن أن يرفع موضوعه إلى الجهات المختصة، إنكار هذا، لكن لو أنه يستطيع أن ينكر بيده ولكنه تساهل وأنكر بلسانه قال: يا أخي حرام عليك، اتق الله، ما غير بيده، هنا يكون آثمًا، ولو أنه أنكر بلسانه؛ لأن المرتبة الأولى الإنكار باليد، وهكذا لو أنكر بقلبه وهو قادر على أن ينكر بلسانه هو آثم أيضًا، وأما ألا ينكر بيده ولا بقلبه ولا بلسانه فليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود عند الإمام مسلم. طيب. هنا نقول يعني هذه هي مراتب إنكار المنكر، ولا شك طبعا أن هناك فرقًا بين ولي الأمر والإنسان العادي، فهناك أحكام وفقه تخص ولي الأمر في إنكار المنكر عليه، تكلم عليها أهل العلم، وكتبوا في ذلك، ليس هذا موضع تفصيله. طيب. قال: فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، هناك أن أضعف الإيمان هو مسألة الإنكار بالقلب؛ لأن ما وراء الإنكار بالقلب شيء، ما بقي إلا ماذا؟ زوال الإيمان، وعمومًا أن أضعف الإيمان ليس معناه أن الإنسان الذي عاجز عن إنكار المنكر باليد وعاجز عن إنكار المنكر باللسان ولم يبق معه إلا الإنكار بالقلب، فمعنى ذلك أن هذا الشخص ضعيف الإيمان؟.. لأ.
خلاص هذا أضعف الإيمان، وقد جاء به كاملًا ولله الحمد، فليس هذا معناه أنه ضعيف الإيمان، لكن ضعيف الإيمان ماذا؟ لو أنه أنكر بقلبه وهو قادر أن ينكر بيده، أو قادر على أن ينكر بلسانه، فهنا نقول: هذا ضعيف الإيمان. طيب.
ولا شك أن الإيمان يكون قويًّا ويكون ضعيفًا، كما قال النبي ﷺ: (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ). فالإيمان يكون قويًّا ويكون ضعيفًا، والمؤمن يكون قويًّا ويكون ضعيفًا، بحسب إيمانه.
الحديث الخامس والثلاثون
ثم ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: (لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا ....) إلى آخر الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم من طريق عبد الله بن مسلمة، عن داود بن قيس، عن أبي سعيد مولى عامر بن قريظة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (لَا تَحَاسَدُوا)، لا شك أن هنا تحريم التحاسد والحسد محرم، وقد سبق الكلام والتفصيل فيما يتعلق بالحسد، وأن الإنسان لا يمضي حسده، ممكن يكون الإنسان في قلبه حسد وفي نفسه حسد، لكن يكبته ويتغلب عليه، ولا يضره إن شاء الله، ما دام أنه يجاهد نفسه، لكن إن أمضى حسده بأن حاول الإحساد فهذا يأثم، وإلا فإنه ما خلا جسد من حسد، هذا هو الأصل والغالب يعني، قال: (لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا)، النجش هو أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها، سواء كان يريد أن ينفع صاحب السلعة أو يريد أن يضر بالمشتري، أو حتى لو كان عبثًا، هذا نجش، أما إذا كان الإنسان يريد أن يشتري السلعة فلا يعتبر من النجش، والنجش حرام، قال: (وَلَا تَبَاغَضُوا)، لا يجوز أيضًا التباغض بين المسلمين، والإنسان قد يبغض إنسانًا لكن عمومًا لا يظهر هذا البغض ولا يترجم عمليًّا، وأما القلب هو بيد الله سبحانه وتعالى، ولكن الإنسان يدافع نفسه، ويأخذ بأسباب زوال البغض، وعلى أية حال حتى إن أبغضت إنسانًا فلا تظهر هذا البغض، لا تظهره بما يضره، قال: (وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا)، يعني لا تتقاطعوا وكل منكم يعطي ظهره للآخر، خيرهما الذي يبدأ بالسلام، والمهم أن الإنسان حتى لو وجد في نفسه شيئًا من البغض أو شيئًا من الانتقام والانتصار فإنه يتغلب على نفسه بكظم غيظه، وكف غضبه، قال: (وَلَا تَدَابَرُوا)، أي لا تقاطعوا، سواء كان غريبًا أو كان مسلمًا، (وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)، يعني كيف لا يبع بعضكم على بيع بعض؟ ما يأتي الشخص إلى شخص باع سلعته على شخص وهما في زمن الخيار الآن، فيأتي ويقول: استرجع هذه البضاعة أنا سأشتريها منك بأكثر ، (وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)؛ يعني لا يأتي شخص إلى شخص قد باع سلعته على شخص فيأتي للمشتري زمن الخيار، أو حتى لو كان قد انقطع الخيار فيقول: بكم اشتريتها مثلًا؟ فيقول: مائة ريال، يقول: عندي لك مثلها ب 90 ريال، فإن كان في زمن الخيار سيردها ذاك إلى صاحبها أو يدعي الغبن أو على الأقل سيدخل عليه الضيقة والإحساس بالتظلم، فلا يبع بعضكم على بيع بعض، كذلك لا يشتري بعضكم على بيع بعض، كيف يشتري بعضكم على بيع بعض؛ يعني مثلًا شخص اشترى سلعة بمائة ريال فتأتي للبايع وتقول: ارجعها وأنا أشتريها منك بمائة وعشرة، أنا أشتريها منك، يعني في الصورة الأولى تقول: أنا أبيعك، وفي الصورة الثانية تقول: أنا أشتري، كل هذا محرم، (وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)، لأن أخوة الدين فوق أخوة النسب، إنما المؤمنون إخوة، والأخ لا شك أنه لا يدخل الضرر على أخيه، (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ) هذه أخوة عظيمة ورابطة كبيرة، هي من أكبر الروابط، أكبر من رابطة الزوجية، وأكبر من رابطة النسب، (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ)، الظلم حرام صغيره وكبيره، دقيقه وجليله، وظاهره وباطنه، (لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ)، أي لا يتخلى عنه في موقف، هو في حاجة إليه ولا يكذبه، أيضًا الكذب حرام، (وَلَا يَحْقِرُهُ)، أي أن يرى نفسه أرفع منه أو على الأقل أن يزدريه، سواء يحقره بقوله أو بإشارته أو بتصرفه، (التَّقْوَى هَا هُنَا) يعني أشار النبي ﷺ إلى صدره؛ يعني أن التقوى في الصدر وفي القلب، والتقوى مقام عظيم جدًّا، وهي التي أوصى الله بها الأولين والآخرين، وهي التي كان النبي ﷺ يوصي بها أصحابه، وأصحابه يوصي بعضهم بعضًا بالتقوى، التقوى ها هنا، ولا شك أن التقوى إذا جاءت في القلب صلحت الأعمال الظاهرة، (أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ)، والقلب صلاحه بماذا؟ بالتقوى، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، لكن لا يعني ذلك أن التقوى ها هنا أن الإنسان يعمل أشياء ما دام يزعم أن قلبه متقٍ، لا، ولا شك أن التقوى إذا تمكنت في القلب لا يمكن أن تخالف الجوارح القلب أبدًا ومن رأينا جوارحه تعمل المعاصي لو يدعي إلى عنان السماء أنه تقواه في قلبه، وأنه متقٍ نقول: لا، ما هو صحيح، لو كان القلب صالحًا لظهر ذلك على الجوارح. طيب.
(بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ)، يعني أن تحقر أخاك المسلم هذه من الشر العظيم.
(كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ). رواه مسلم.
إذًا المسلم حرمته عظيمة، حتى روي أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، و المسلم حرام سواء دمه، أو جسده، أو ماله، أو عرضه، المهم أن كل المسلم على المسلم حرام، ثم ذكر يعني أنه أي إنسان قد يخطئ على مسلم فإنه لا بد أن يتوب، وأن يتحلل من هذه المظلمة، سواء كانت مظلمة من دم، أو بدن، أو مال، أو غير ذلك. طيب.
الحديث السادس والثلاثون
ثم ذكر الإمام النووي رحمه الله حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ).
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم، من طريق يحيى التميمي، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهنا في قول النبي ﷺ: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً)، أي شدة، أن الإنسان ينفس عن المسلم شدة وقع فيها، سواء مثلًا شدة مأزق مالي أو غير ذلك من الأمور الشديدة التي تكرب الإنسان، (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ)، ولا شك أن التنفيس يوم القيامة أعظم من تنفيس المسلم على المسلم في الدنيا، فليس تنفيس الدنيا معادلًا لتنفيس الآخرة، وإن اشتركا في الاسم، وأنه كله يعتبر تنفيسًا لكربة، وبهذا نعلم أن ليس إذا اشترك الاسمان اتفقا في المعنى وفي القَدْر، فمثلًا الإنسان له يد، والله جل وعلا له يد، ولكن يد الله جل وعلا تليق بجلاله جل وعلا، ويدك أيها الإنسان تليق بك، وإن اتفقت في الاسم، اتفق الاسمان يد ويد، إلا أنه يختلف، وكذلك مثلًا في الجنة، ثمار الجنة وإن اتفقت في الأسماء مع ثمار الدنيا لأنه هناك فرق بين ثمر الدنيا وثمر الآخرة وهذا مما هو معروف ومعلوم بالضرورة. طيب.
قال: (وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، التيسير على المعسر مثلًا أنت تريد من شخص مالًا، ولكن هذا الشخص ما عنده وفاء يجب عليك أن تيسر وأن تمهل وتنظر إلى ميسرة، ولكن لو عفوت عنه هذا أعظم أجرًا، ولذلك من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، قال: (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، أن تستر مسلمًا لا شك أن الإنسان قد يقع في ما لا يريد أن يظهر، مثلًا إنسان عنده مثلًا فقر، ولا يريد أن الناس يعلمون أنه فقير، ولأنه عزيز نفس لا يقبل مساعدة، هنا أستر عليه ولا أنشر موضوعه وأقول: هذا فقير لا، شخص وقع في معصية، اطلعت عليه وهو يعمل معصية لكنه مختبئ ومختفٍ ولا يريد أحد يدري عنه فلا آتي وأنشر موضوعه عند الناس وأقول: هذا فعل معصية كذا، لا، أستره ولكني أعظه وأنصحه، أما إن كان مظهرًا لهذه المعصية، فلا مانع أن ترفع موضوعه إلى السلطات، ولا مانع أن تشهد ضده، أما إن كان ساترًا على نفسه وغلبه الشيطان وغلبته نفسه، هنا في هذه الحالة تستر عليه و تعظه وتنصحه. طيب.
قال: (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، لو تأملت الحديث كله في المؤمن وفي المسلم، مما يدل على أن الكافر لا يدخل في ذلك، ولكن هذا الكلام هو الأصل، وإن كان طبعًا قد يكون له حظ ونصيب في بعض الأشياء، لا أعني الكافر المحارب ولكن الكافر المعاهد ونحوه.
قال: (وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)، ولا شك أن عون الله جل وعلا أعظم من عون العبد للعبد، أعظم، (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ)، طبعًا طريق العلم قد يكون طريقًا حسيًّا وهو أن تمشي إلى المسجد أو طريق إلكتروني مثلا أن تدخل على المواقع الإلكترونية الإسلامية؛ لتعرف درجة الحديث، أو لتعرف حكمًا فقهيًّا، أو أن تطلب العلم عن بُعْد مثلًا، كل هذا يعتبر طريقًا لطلب العلم، وطبعًا الطرق لا يمكن حصرها، فالمهم أن من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة، فلا شك أن طريق العلم طريق إلى الجنة، وأن الله جل وعلا سيسهل عليك ويعينك، فالطريق الذي يوصلك إلى العلم إن شاء الله يوصلك إلى الجنة.
قال: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ)، طبعًا البيت من بيوت الله هي المساجد، وهذا هو الأصل، أن العلم في المساجد، لا يكون العلم في البيوت، العلم في المساجد، ولكن على أية حال إذا كان هناك مصلحة أن يكون العلم في البيت فهو أيضًا داخل في هذا الحديث، لكن لا يترك الناس طلب العلم وبث العلم في المساجد إلى أن يطلبونه في البيوت سرًّا، والمقصود في السرأن يكون في البيوت ولو أن الناس يعلمون، ولهذا قال بعضهم: إذا كان العلم في البيوت فاتهمه، يعني أن يسرون الناس العلم في البيوت ولا يريدون المساجد، ولكن لا بد أن يكون هناك علم في البيوت لكن لا يزهدون في العلم في المساجد، فالأصل أن العلم في المسجد سواء تقديمًا أو تلقيًا، ومع ذلك يستفاد من الوسائل الأخرى، ويستفاد من الأماكن الأخرى. طيب.
قال: (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ)، السكينة بمعنى الطمأنينة، وغشيتهم الرحمة، ولا شك أنها تنزل عليهم أيضًا، وتغشاهم الرحمة تجللهم، وحفتهم الملائكة بأن تكون الملائكة حولهم، وذكرهم الله فيمن عنده، والله جل وعلا عنده الملائكة وكما قال الله جل وعلا: (مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ)، والمهم أن كل هذه حوافز ومشجعات ومرغبات.
قال: (وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ)، وذلك لأن العمل فاسد أو عمل ضعيف، (لَا يُسْرِعُ بِهِ نَسَبُهُ)، الإنسان لا يغتر بنسبه ولو كان شريفًا، فقد يكون العمل الصالح يرفع الوضيع في نسبه، ويكون العمل الفاسد يضع الشريف في نسبه، وإن كان نسبه يعود لآل البيت، المقصود العمل لكن إذا كان العمل صالح زان من الشخص الذي نسبه شريف، وإذا كان العمل فاسد شان من الذي نسبه شريف، أعظم من الذي نسبه ليس بشريف.طيب.
الحديث السابع والثلاثون
ثم ساق المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله ﷺ، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، يعني أنه حديث قدسي، والحديث القدسي هو الذي لفظه ومعناه من الله جل وعلا، وأما الحديث النبوي الذي لفظه من النبي ﷺ ومعناه من الله، وقيل: إن الحديث القدسي كله من الله لفظًا ومعنى، وقيل: إن الحديث سواء قدسي أو نبوي كله لفظه ومعناه من الله، ولكن القدسي هو الذي يبدأ فيه بقال الله جل وعلا، ولا شك أن هناك حديثًا نبويًّا وليس قدسيًّا وهو ماذا؟ حركات النبي ﷺ وسكناته وتقريره؛ لأن الحديث هو ما قاله النبي ﷺ أو فعله أو أقره، وكل حركات النبي ﷺ وكل سكناته تعتبر حديثًا، بل حتى الرؤى في المنام حديث، وكل هذه ليست يعني من الله جل وعلا ألفاظها. طيب.
وحديث ابن عباس هذا يقول المؤلف رحمه الله: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله ﷺ يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ)، ثم ذكر المؤلف رحمه الله أن هذا الحديث طبعًا في الصحيحين، قد رواه الإمام البخاري رحمه الله، من طريق أبي معمر، عن عبد الوارث، عن جعد بن دينار، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأيضًا رواه مسلم قال: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، يعني الله جل وعلا كتب الحسنات والسيئات حتى قبل أن يخلق العباد، ومراتب القدر لا بد منها، هي أن تعتقد أن الله جل وعلا علم الحسنات والسيئات قبل وجودها، وأن الله جل وعلا كتبها عنده في كتاب قبل أن توجد، وأن الله جل وعلا خلقها، وأن الله جل وعلا ليس شيء يصدر من العبد إلا بعد مشيئته (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ )، ومع ذلك أعطى العبد مشيئة واختيارًا، هذه مراتب القدر الأربعة، المهم أن الله كتب الحسنات والسيئات قبل أن يخلق الخلائق، ثم أيضًا كلما عمل العبد حسنة أو سيئة فإن هناك كتبة، ملك يكتب الحسنات وملك يكتب السيئات، (ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)، يعني أنه هم بالحسنة كما لو أن الإنسان مثلًا هم أن يتصدق، ثم ما حصل أن تصدق بسبب أن الفقير مثلًا ذهب، أو أراد أن يخرج ماله فما وجد في جيبه شيئًا، هنا هذا الهم كتبت حسنة أو حتى لو هممت بأقل من ذلك، المهم عندك هم في أي عمل خيري وعمل صالح هنا تؤجر عليه، وثم تأمل قول النبي ﷺ حسنة كاملة، لكن المضاعفة ليست للهم وإنما للعمل، (وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ)، إذا عملتها هنا تأتي المضاعفة، والمضاعفة تختلف من شخص إلى شخص، بحسب ما وقر في قلبه من الإخلاص، وبحسب حاله وزمانه، والمهم أن المضاعفة بيد الله جل وعلا، ما تحصر بعدد، ولكن الأصل أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وهناك بعض الأعمال كالصيام مثلًا أجره على الله و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ)، وهناك أعمال قد تكون محدودة حسناتها، وأجرها جاء في الحديث مثلًا منصوص عليها لكن عمومًا المضاعفات لا أحد يستطيع أن يحجر على الله جل وعلا، قال: (فَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)، هنا الآن هم بسيئة فلم يعملها، لكن تركها لله جل وعلا، هنا تكتب له حسنة، لكن لو أنه هم بسيئة ولكنه عجز عنها ما تكتب له حسنة، لكن إن كان مشى فيها وحاول، ولكنه عجز، تكتب عليه سيئة، أما لو هم ولكنه تغلب على نفسه، ولو لم يكن لله فلا تكتب، فلو تركها لله كتبت حسنة، يعني ممكن الإنسان مثلًا يهم بسيئة ولكن يتركها من باب المروءة، هنا ما يؤجر على ذلك والله أعلم هنا ما تركها لله، لكن تركها لله كتبت حسنة، وإن تركها عاجزًا وقد مشى فيها، ولكن عجز، تكتب عليه سيئة.طيب.
(وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)، ثم تأمل في قوله (عنده) دليل على العناية والرعاية، (وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)، والعجيب الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها، وأيضًا يعفو الله، وأيضًا هناك مكفرات، ومع ذلك النار تمتلئ، فالإنسان يتعجب: كيف أن الله جل وعلا غفور ورحيم ويعفو، وهناك شفاعة الأنبياء، وشفاعة الصالحين، وهناك أن الله جل وعلا يخرج من النار يعني أناس، وهناك مكفرات ذنوب، والسيئة قد لا تكتب أصلًا لأجل الهم، وقد يكون تكتب بسيئة واحدة، والحسنة تكتب مضاعفة، ثم هناك من يدخل النار والعياذ بالله؟! هذا شيء عجيب!.طيب. رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
الحديث الثامن والثلاثون
ثم ساق المؤلف رحمه الله الحديث الثامن والثلاثون، وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ).
وهذا الحديث رواه الإمام البخاري رحمه الله، من طريق محمد بن عثمان، عن خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث عظيم قال فيه الله جل وعلا، حديث قدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ)، كل مؤمن هو ولي لله جل وعلا كل مؤمن، كان عاصيًا أو غير عاصٍ، ما دام أنه مسلم فهو ولي لله، لكن الولاية درجات، فكلما كان الإنسان لربه أتقى كان أعظم ولاية، والولاية ليست بنسب، ولا بحسب، ولا بمال، ولا ببلد، ولا قطر، ولا غير ذلك، إنما الولاية حسب التقوى، والإسلام، والإيمان، والإحسان، فمن كان لله تقيًّا كان لله وليًّا، وليست تقاس الولاية بالكرامات والخوارق للعادات، أنه قد يجري الله جل وعلا على الولي كرامة على يده كرامة، لكن لسنا نحدد أن هذا ولي وهذا غير ولي بحسب خوارق العادات، بل قال الشافعي رحمه الله وغيره من أهل العلم: (أن من رأيته يطير في الهواء ويسير على الماء اعلم أنه مبتدع) وخاصة بذلك إذا كان ليس على عمل صالح، إنسان مثلًا فاسد ثم يشعوذ على الناس بأن يطير في الهواء، أو يسير على الماء، هذا مبتدع وضال، لكن لو أنه تقي لله جل وعلا، وأجرى الله على يديه الكرامة، بأن سار على الماء، فهنا هذه كرامة، ولكن ليس معنى ذلك أن يأتي يتباهى عند الناس ويتعالى ويجتمع ويجمع الناس بأن يطير في الهواء أو يسير على الماء أو يمشي على الجمر وغير ذلك، هذا من الشعوذة والبدع والضلالات، والولي لا يمكن أن يقول للناس: تعالوا انظروا إلى أعمالي، ولكن الصوفية وقعت في هذه البدع والخرافات.طيب.
قال: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ)، ولا شك أن الله جل وعلا لا يقاومه أحد ولا يستطيع، (فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ)، يعني أن الفرائض أعظم أجرًا من النوافل، وكل ما كان الشيء فرضًا فهو أعظم، ولذلك أعظم فرض ما هو؟ التوحيد، وهو أعظم أجرًا من غيره، طيب، (وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)، كلما كان الإنسان يتقرب إلى الله بالنوافل أحبه الله جل وعلا، وإن كان طبعًا أن الله يحب التقرب بالفرائض وأكثر من التقرب بالنوافل، لكن أيضًا النوافل سبب من أسباب جلب محبة الله جل وعلا، (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ...) إلى آخره، يعني أن الله جل وعلا إذا أحب عبدًا حفظه، فأصبح هذا العبد موفقًا في نظره، وفي سمعه، وفي مشيه، وفي بطشه، وغير ذلك محفوظ، وأيضًا أن العبد إذا كان الله جل وعلا في قلبه أي مراقبة الله، فإن الإنسان لا شك إذا كان يراقب الله جعل الله جل وعلا في قلبه سيكون عنده واعظ، وسيكون لا ينظر إلا لما أحل الله له، ويبتعد عما حرم عليه، ولا يتكلم إلا بما أحل الله له، ويبتعد عما حرم عليه وهكذا، وليس هذا فيه ما يدعيه الحلولية أن الله جل وعلا حال في كل مكان، ولا الاتحادية أن يكون أنه اتحد اللاهوت بالناسوت، لا، هذا كله عقيدة فاسدة وكفرية والعياذ بالله، وإنما الله جل وعلا علمه في كل مكان، وأما هو سبحانه وتعالى كما قال النبي ﷺ للجارية: (أَيْنَ اللهُ؟) قالت: في السماء، طيب.
قال: (وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ)، لأنه أصبح من أولياء الله جل وعلا، ويحبه الله، فإذا سأل الله شيئًا فالأصل أنه يعطيه إياه، سواء في الدنيا، أو يدخره له في الآخرة، أو يدفع عنه من الشر مثل ذلك، (وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)، ولذلك لا يمكن أن تحارب وليًّا لله جل وعلا؛ لأنه لو استعاذ بالله جل وعلا سينصره الله جل وعلا، سينتقم له، سواء في الدنيا أو في الآخرة.طيب.
الحديث التاسع والثلاثون
ثم ساق المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ).
قال: حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما، وهذا الحديث رواه الإمام ابن ماجه، من طريق محمد الحمصي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ، وهذا الحديث خرجه ابن حبان في صحيحه، لكن قال ابن رجب رحمه الله: إن ظاهر الإسناد الصحة، وصححه الحاكم، ولكن له علة، وقد أنكره الإمام أحمد إنكارًا شديدًا، وذكر أن المروي عن الحسن مُرسَلًا، وتكلم عن إسناد هذا الحديث أيضًا أبو حاتم، وأما البوصيري في الزوائد فقال: إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع، هذا الحديث حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ). وهو معناه صحيح إذا قلنا: إنه حديث حسن كما قال النووي، أو قلنا: إنه ضعيف لكن معناه صحيح، قد دلت عليه عمومات الشريعة، والمهم أن الله جل وعلا تجاوز عن الإنسان الخطأ، أي خطأ لا يؤاخذ عليه الإنسان، ولكن يرفع عنه الإثم، وقد يؤاخذ عليه في الدنيا، لو أن الإنسان أخطأ فقتل إنسانًا خطأ هنا غير آثم، لكن لا بد أن يدفع الدية والكفارة أيضًا، والنسيان كذلك إنسان نسي شيئًا لا يؤاخذ، إنسان صلى ناسيًا أنه ما توضأ ما يؤاخذ، ولكنه إذا ذكر يأتي بالوضوء والصلاة، ولكن أيضًا لا يعني أنه أمور الدنيا لا يؤاخذ على نسيانه، مثلًا إنسان أخذ وديعة عنده ثم نسي وتركها في مكان وضاعت، ما يقول: أنا نسيت ولا علي حرج، نقول: عند الله ما عليك حرج، لابد أن تأتي بالثمن أو بمثلها.
قال: (وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)، لا شك أن الإكراه تجاوز الله عنه حتى في الكفر، لو الإنسان أكره على الكفر فإنه لا يؤاخذ، لو كفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن في الدنيا قد يُكره الإنسان، ويؤاخذ في الدنيا والآخرة، كيف؟ لو الإنسان أكره على أن يقتل إنسانًا آخر فقتله، هنا يؤاخذ عند الله، ويؤاخذ في الدنيا أنه يقتل، لماذا؟ لأنه ليست حياتك بأغلى من حياة هذا الإنسان، ينبغي أن تصبر ولو قتلت، واعلموا أن هناك فرقًا بين الإكراه والخوف، الخوف لا يعذر عليه الإنسان، يعني الإنسان قد يخاف فيشرك أو يكفر خوفًا من الكفار، أو يظاهرهم يواليهم خوفًا، هنا هذا الخوف لا يعذر فيه الإنسان، بخلاف لو أكرهوه على الكفر فنطق الكفر، هنا غير مؤاخذ، لكن أن يخاف منهم فيظهر الكفر وهم لا يكرهوه بعد لا يعذر، ولهذا الخوف لا يعتبر من الأعذار.طيب.
ولهذا قد يترك الإنسان إنكار منكر خوفًا، لكن ما قال لك أحد شيئًا من الآن ولا أكرهت ولا أيضًا هددت، ولكن خوفًا فلا يعذر بتركه للمنكر خوفًا، إلا أن تكون طبعًا قرائن قوية والشواهد قوية والتجارب بينة، قد يعذر الإنسان في بعض الصور.
الحديث الأربعون
حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ). رواه البخاري.
رواه من طريق علي بن عبد الله، عن محمد الطُّفَاوِيّ، عن الأعمش، قال: حدثني مجاهد، عن ابن عمر، وتكلم غير واحد من أهل العلم في قول الأعمش: حدثني مجاهد؛ لأن الأعمش لم يسمع هذا الحديث من مجاهد، وإنما سمعه من الليث بن أبي سليم كما روى ذلك الترمذي وغيره، وأنكروا على علي بن المديني هذه اللفظة، والمهم: أن الحديث في صحيح البخاري، ومعناه أيضا صحيح.
قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ).
يعني أنك كن في الدنيا غريبًا، الغريب ماذا يفعل؟ يتقلل في كل شيء، الغريب ما تجده يبني ويؤسس أشياء لا، يشعر أنه سينتقل في أي لحظة؛ فلذلك يأخذ متاع الراكب، فهذا فيه دلالة على أنك في هذه الدنيا غريب، وأنما دارك الصحيحة هي الآخرة، تزود من دنياك لآخرتك، وتقلل من الدنيا، قال: (أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)، لا شك أن عابر السبيل الذي مثلًا ذاهب في الطريق يتقلل من الأشياء، ويأخذ أدنى الأشياء، ما تجده مثلًا ينبسط في أكله، وفي منامه، وغير ذلك، وإنما ما تجده تبسط في هذه الأشياء، وإنما يأخذ ما يكفيه في عجالة، ويتقلل، ويأخذ أدنى الأمور. طيب.
كان ابن عمر رضي الله عنه يقول: (إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ)؛ يعني هذا من باب قصر الأمل، لا تتصور أنك ستعيش؛ بل إذا جاء الصباح يعني حَدِّث نفسك أنك ممكن لا تمسي، وإذا كنت في المساء حَدِّث نفسك أنك لا تصبح إلا وأنت جنازة ميت، قال: (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)؛ يعني تزود دائمًا، خذ من صحتك لمرضك، المريض لا يستطيع أن يكثر من التعبدات؛ لذلك ما دمت صحيحًا فأكثر وخذ من حياتك لموتك، تزود أكثر في حال الحياة إذا ما انقطع العمل إلا من ثلاث، كذلك خذ من فراغك لشغلك، وخذ من شبابك لهرمك وهكذا.
الحديث الواحد والأربعون
ثم ساق الإمام النووي رحمه الله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ).
قال النووي رحمه الله: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
هذا الحديث ممن رواه أيضًا أبو نعيم في كتاب الأربعين، وخرجه من طريق الطبراني، عن أبي زيد المرادي، عن نعيم بن حماد، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، وهذا الحديث أيضًا مما تعقب فيه ابن رجب النووي، النووي ماذا؟ صحح إسناده، لكن ابن رجب رحمه الله قال: هذا بعيد جدًّا من وجوه، وذكرها؛ فمنها: أن نعيم بن حماد متكلم فيه، وأيضًا أنه قد اختلف على نعيم في إسناده، ومنها أيضًا أن عقبة بن أوس قيل: إنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو، ففيه انقطاع، لكن طبعًا الحديث حسنه غير النووي، فهو حديث حتى وإن قلنا: في إسناده مقال، إلا أن معناه صحيح، فقال: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ).
أي أنه يهوى ما جاءت به الشريعة ولا يتبع هواه في المحرمات، (أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ).
وإنما يجعل هواه موافقًا للشريعة، يتبع ولا يبتدع، يطيع ولا يعصي، وهكذا.
(لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ)، معناه لا يؤمن الإيمان الكامل الواجب، وإن كان أحيانًا يؤدي اتباع الهوى إلى الكفر، لكن أحيانًا قد يكون الإنسان ليس هواه لما جاء به الرسول في كل شيء، لكن يعتبر أخفق في الإيمان الكامل الواجب، قد ينزل إلى منزلة الإسلام، وقد يكون ناقص الإيمان، وقد والعياذ بالله يكون اتباعه للهوى اتباعًا كليًّا فيكفر.
الحديث الثاني والأربعون
ثم ساق آخر حديث النووي وهو حديث أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: (يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي).
وهذا الحديث ذكره وخرجه الترمذي رحمه الله، من طريق عبد الله الجوهري، عن أبي عاصم، عن كثير بن فائد، عن سعيد بن عبيد، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: حدثنا أنس بن مالك بهذا الحديث، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأيضا صححه ابن القيم، وقال ابن رجب: لا بأس به، فهو حديث ثابت بل أصله هناك شاهد أنه قوي، عن أبي ذر في صحيح مسلم.
معنى الحديث في عجالة أن الله جل وعلا يقول: (يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي)، طبعًا الدعاء يكون معه رجاء، ولو لم يكن معه رجاء لكان يأسًا والعياذ بالله، (مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي) سواء كان الدعاء دعاء مسألة، كاللهم اغفر لي، أو دعاء عبادة كالصلاة، وأنت تصلي ترجو الله جل وعلا أن يغفر لك.
(مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي)، يعني الله جل وعلا لا يحجر عليه أحد، ولا يخشى من أحد، وقد يغفر الذنوب العظام، فالمشرك إذا تاب تاب الله عليه، ولو أنه قتل ما قتل، وزنى ما زنى، وفعل الشرك الذي هو أعظم الذنب، وأعظم الظلم.
قال: (يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ)، يعني السحاب، (ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ)، طبعًا هناك استغفار وهناك توبة، التوبة تَجُبُّ ما قبلها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، الذي يتوب توبة صادقة كاملة الشروط فيعتقد أن الله جل وعلا قد غفر له ذنبه، لكن الاستغفار ليس توبة، الاستغفار دعاء، إن شاء غفر الله لك، وإن شاء لم يغفر لك.
(ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا)، أي بما يعادل الأرض في حجمها وزنتها أي ثقلها، (ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)، طبعا أتيتني لا تشرك بي شيئًا على التوحيد، التوحيد فضله عظيم، وقد يكفر الذنوب العظام، كما جاء في حديث صاحب البطاقة، أن الرجل الذي معه تلك المعاصي والذنوب لما جعلت في كفة، وجعلت لا إله إلا الله في كفة طاشت بها، ولكن ليس كل من قال: لا إلا إلا الله ستكون هذه الكلمة تطيش بجميع سيئاته، لا، يعود ذلك إلى توفيق الله، ورحمته، ولطفه، ثم إلى إخلاص العبد واحتسابه وغير ذلك، ولكن على أية حال أنه كما قال جل وعلا: (إِنَّ اللهَ لَا يَغفِرُ أَنْ يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فلو أن إنسانًا جاء بذنوب عظيمة جدًّا ولكن على التوحيد، وليس معنى على التوحيد أن يقول: لا إله إلا الله فحسب، لا بد من شروط لا إله إلا الله، لا بد من شروطها، فإنه في هذه الحالة قد يغفر الله جل وعلا له جميع الذنوب، وقد يعذبه بحسب ذنوبه. قال: رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.