(بَيْنَ يَدَيْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ)
المُقَدِّمَةُ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ خُلَاصَةٌ مِنْ خِلَالِهَا نَتَعَرَّفُ عَلَى أَهَمِّ مَا يُعَرِّفُنَا بِالإِمَامِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللهُ - وَبِصَحِيحِهِ المَعْرُوفِ "بِصَحِيحِ مُسْلِمٍ"، أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ؛ إِذْ هُوَ أَصَحُّ كِتَابٍ فِي الحَدِيثِ بَعْدَ صَحِيحِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ -، وَقَدْ تَلَقَّتِ الأُمَّةُ الصَّحِيحَيْنِ بِالقَبُولِ، وَشَهِدَ العُلَمَاءُ، أَرْبَابُ الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، وَعِلْمِ الرِّجَالِ وَالعِلَلِ وَالتَّارِيخِ، فِي عَصْرِهِمَا وَبَعْدَهُ لِلصَّحِيحَيْنِ بِالصِّحَّةِ، وَأَنَّهُمَا أَصَحُّ مَصْدَرَيْنِ وَمَرْجِعَيْنِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَثْنَوْا عَلَى الشَّيْخَيْنِ: البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِالجَمِيلِ وَالذِّكْرِ الحَسَنِ، وَبِتَقَدُّمِهِمَا فِي عِلْمِ الحَدِيثِ وَصِنَاعَتِهِ، وَمَدَحُوهُمَا فِي الدِّيَانَةِ وَزَكُّوهُمَا، وَشَهِدُوا لَهُمَا بِسَلَامَةِ العَقِيدَةِ وَصِحَّةِ المَنْهَجِ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ: "أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحِيحِ البُخَارِيُّ وَتَلَاهُ مُسْلِمٌ، وَمُسْلِمٌ مَعَ أَنَّهُ أَخَذَ عَنِ البُخَارِيِّ وَاسْتَفَادَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُشَارِكُ البُخَارِيَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ، وَكِتَابَاهُمَا أَصَحُّ الكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ العَزِيزِ".
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: «اتَّفَقَ العُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللهُ - عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الكُتُبِ بَعْدَ القُرْآنِ العَزِيزِ، الصَّحِيحَانِ: البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَلَقَّتْهُمَا الأُمَّةُ بِالقَبُولِ».
(1) الإِمَامُ مُسْلِمٌ: نَسَبُهُ وَنَشْأَتُهُ
هُوَ الإِمَامُ أَبُو الحُسَيْنِ، مُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ وَرْدِ بْنِ كُوشَاذَ، القُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: فَلَعَلَّهُ مِنْ مَوَالِي قُشَيْرٍ.
وُلِدَ فِي نَيْسَابُورَ، إِحْدَى بُلْدَانِ خُرَاسَانَ، قِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ.
أَخَذَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ العِلْمَ أَوَّلًا عَنْ شُيُوخِ بَلَدِهِ، ثُمَّ رَحَلَ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ إِلَى أَئِمَّةِ الأَقْطَارِ وَالبُلْدَانِ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ فِي سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ مِنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ، وَحَجَّ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَهُوَ أَمْرَدُ، فَسَمِعَ بِمَكَّةَ مِنَ القَعْنَبِيِّ، فَهُوَ أَكْبَرُ شَيْخٍ لَهُ، وَسَمِعَ بِالكُوفَةِ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ وَجَمَاعَةٍ، وَأَسْرَعَ إِلَى وَطَنِهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بَعْدَ أَعْوَامٍ قَبْلَ الثَّلَاثِينَ، وَأَكْثَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الجَعْدِ، لَكِنَّهُ مَا رَوَى عَنْهُ فِي "الصَّحِيحِ" شَيْئًا، وَسَمِعَ بِالعِرَاقِ وَالحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ.
صَنَّفَ كِتَابَهُ الصَّحِيحَ، وَالذِي يُعْتَبَرُ ثَانِيَ أَصَحِّ كُتُبِ الحَدِيثِ بَعْدَ صَحِيحِ البُخَارِيِّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ الفَرَّاءُ: «كَانَ أَبُوهُ الحَجَّاجُ مِنَ المَشْيَخَةِ».
تُوُفِّيَ مُسْلِمٌ يَوْمَ الأَحَدِ فِي الخَامِسِ وَالعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِنَيْسَابُورَ، عَنْ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
(2) شُيُوخُهُ وَتَلَامِيذُهُ وَمُؤَلَّفَاتُهُ
لِلْإِمَامِ مُسْلِمٍ شُيُوخٌ فُضَلَاءُ، أَخْرَجَ عَنْهُمْ فِي "صَحِيحِهِ"، عِدَّتُهُمْ مِائَتَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا؛ فَمِنْهُمْ: أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَالزَّمِنُ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَبُنْدَارٌ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ.
وَلَهُ شُيُوخٌ سِوَى هَؤُلَاءِ، لَمْ يُخَرِّجْ عَنْهُمْ فِي "صَحِيحِهِ"؛ كَعَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ، وَالبُخَارِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الكَثِيرُ؛ مِنْهُمْ: أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، أَخْرَجَ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَلِلْإِمَامِ مُسْلِمٍ مُؤَلَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، فُقِدَ عَدَدٌ مِنْهَا. قَالَ الذَّهَبِيُّ: "مُصَنَّفَاتُ إِمَامِ أَهْلِ الحَدِيثِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: كِتَابُ "المُسْنَدِ الكَبِيرِ" عَلَى الرِّجَالِ، وَمَا أَرَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ أَحَدٌ، كِتَابُ "الجَامِعِ عَلَى الأَبْوَابِ"، رَأَيْتُ بَعْضَهُ بِخَطِّهِ، كِتَابُ "الأَسَامِي وَالكُنَى"، كِتَابُ "المُسْنَدِ الصَّحِيحِ"، كِتَابُ "التَّمْيِيزِ"، كِتَابُ "العِلَلِ"، كِتَابُ "الوُحْدَانِ"، كِتَابُ "الأَفْرَادِ"، كِتَابُ "الأَقْرَانِ"، كِتَابُ "سُؤَالَاتِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ"، كِتَابُ "عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ"، كِتَابُ "الانْتِفَاعِ بِأُهُبِ السِّبَاعِ"، كِتَابُ "مَشَايِخِ مَالِكٍ"، كِتَابُ "مَشَايِخِ الثَّوْرِيِّ"، كِتَابُ "مَشَايِخِ شُعْبَةَ"، كِتَابُ "مَنْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا رَاوٍ وَاحِدٍ"، كِتَابُ "المُخَضْرِمِينَ"، كِتَابُ "أَوْلَادِ الصَّحَابَةِ"، كِتَابُ "أَوْهَامِ المُحَدِّثِينَ"، كِتَابُ "الطَّبَقَاتِ"، كِتَابُ "أَفْرَادِ الشَّامِيِّينَ". ثُمَّ سَرَدَ الحَاكِمُ تَصَانِيفَ لَهُ لَمْ أَذْكُرْهَا".
(3) ثَنَاءُ العُلَمَاءِ عَلَيْهِ
ذَاعَ صِيتُ الإِمَامِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللهُ - وَشَهِدَ لَهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ بِالإِمَامَةِ فِي الحَدِيثِ وَصِنَاعَتِهِ، مَعَ أَنَّ عَصْرَهُ كَانَ زَاخِرًا بِأَرْبَابِ الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، وَكُتُبُهُ التِي تَزِيدُ عَلَى العِشْرِينَ مُؤَلَّفًا فِي الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، وَعِلْمِ العِلَلِ وَعِلْمِ الرِّجَالِ وَالتَّارِيخِ: نَاطِقَةٌ بِإِمَامَتِهِ.
وَقَالَ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ: «كَانَ مُسْلِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ النَّاسِ وَأَوْعِيَةِ العِلْمِ، مَا عَلِمْتُهُ إِلَّا خَيِّرًا».
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: «رَفَعَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِكِتَابِهِ الصَّحِيحِ إِلَى مَنَاطِ النُّجُومِ، وَصَارَ إِمَامًا حُجَّةً، يُبْدَأُ ذِكْرُهُ وَيُعَادُ فِي عِلْمِ الحَدِيثِ، وَغَيْرِهِ مِنَ العُلُومِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ».
وَقَالَ ابْنُ الأَخْرَمِ: «إِنَّمَا أَخْرَجَتْ مَدِينَتُنَا هَذِهِ مِنْ رِجَالِ الحَدِيثِ ثَلَاثَةً: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمُسْلِمٌ».
وَقَالَ بُنْدَارٌ: «الحُفَّاظُ أَرْبَعَةٌ،: أَبُو زُرْعَةَ، وَالبُخَارِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَمُسْلِمٌ».
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ النَّيْسَابُورِيُّ: «رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ يُقَدِّمَانِ مُسْلِمَ بْنَ الحَجَّاجِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَشَايِخِ عَصْرِهِمَا».
وَنَظَرَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ إِلَى مُسْلِمٍ، فَقَالَ: «لَنْ نَعْدِمَ الخَيْرَ مَا أَبْقَاكَ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ».
وَقَالَ النَّوَوِيُّ عَنِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى إِمَامَتِهِ فِي عِلْمِ الحَدِيثِ: «أَحَدُ أَعْلَامِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَكِبَارِ المُبَرَّزِينَ فِيهِ، وَأَهْلِ الحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، وَالرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِهِ إِلَى أَئِمَّةِ الأَقْطَارِ وَالبُلْدَانِ، وَالمُعْتَرَفُ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ أَهْلِ الحِذْقِ وَالعِرْفَانِ».
وَقَالَ مُحَمَّد صِدِّيق خَان: «وَالإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ البَغْدَادِيُّ، أَحَدُ الأَئِمَّةِ الحُفَّاظِ، وَأَعْلَمِ المُحَدِّثِينَ، إِمَامُ خُرَاسَانَ فِي الحَدِيثِ بَعْدَ البُخَارِيِّ».
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ عَنْهُ: "أَحَدُ أَرْكَانِ الحَدِيثِ".
(4) البُخَارِيُّ شَيْخٌ لِمُسْلِمٍ
لَقَدْ تَتَلْمَذَ مُسْلِمٌ عَلَى يَدِ البُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - إِلَّا أَنَّهُ التَّلْمِيذُ النَّجِيبُ المُجْتَهِدُ، المُسْتَقِلُّ بِشَخْصِيَّتِهِ العِلْمِيَّةِ، حَسْبُكَ مَسْأَلَةُ عَنْعَنَةِ المُعَاصِرِ غَيْرِ المُدَلِّسِ، خَالَفَ فِيهَا شَيْخَهُ البُخَارِيَّ، حَيْثُ حَمَلَهَا عَلَى الاتِّصَالِ، مَعَ اشْتِرَاطِ البُخَارِيِّ ثُبُوتَ اللِّقَاءِ وَلَوْ مَرَّةً.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَان: سَأَلْتُ الحَافِظَ ابْنَ عُقْدَةٍ عَنِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَيُّهُمَا أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: كَانَ مُحَمَّدٌ عَالِمًا، وَمُسْلِمٌ عَالِمًا. فَكَرَّرْتُ عَلَيْهِ مِرَارًا، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، قَدْ يَقَعُ لِمُحَمَّدٍ الغَلَطُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ كُتُبَهُمْ، فَنَظَرَ فِيهَا، فَرُبَّمَا ذَكَرَ الوَاحِدَ مِنْهُمْ بِكُنْيَتِهِ، وَيَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاسْمِهِ، يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمَا اثْنَانِ، وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَقَلَّمَا يَقَعُ لَهُ مِنَ الغَلَطِ فِي العِلَلِ؛ لِأَنَّهُ كَتَبَ المَسَانِيدَ، وَلَمْ يَكْتُبْ المَقَاطِيعَ وَلَا المَرَاسِيلَ. عَنَى بِالمَقَاطِيعِ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ البُخَارِيَّ أَجَلُّ مِنْ مُسْلِمٍ فِي العُلُومِ، وَأَعْرَفُ بِصِنَاعَةِ الحَدِيثِ، وَأَنَّ مُسْلِمًا تِلْمِيذُهُ وَخِرِّيجُهُ، وَلَمْ يَزَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ وَيَتَّبِعُ آثَارَهُ".
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: "لَوْلَا البُخَارِيُّ لَمَا ذَهَبَ مُسْلِمٌ وَلَا جَاءَ".
(5) تَثَبُّتُ الإِمَامِ مُسْلِمٍ
عُرِفَ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللهُ - كَشَيْخِهِ البُخَارِيِّ بِالتَّثَبُّتِ وَالتَّحَرِّي، وَالانْتِقَاءِ فِي إِخْرَاجِ الأَحَادِيثِ وَرِجَالِ الإِسْنَادِ فِي صَحِيحِهِ، وَشَرَطَا أَنْ لَا يُخْرِجَا إِلَّا الحَدِيثَ الصَّحِيحَ، الذِي تَوَفَّرَ لِرِجَالِهِ وَمَتْنِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُورِدَ فِي الشَّوَاهِدِ وَالمُتَابَعَاتِ سِوَى مَا نَدَرَ.
وَمِنْ أَمَارَاتِ تَثَبُّتِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ، مَا قَالَهُ مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَان: سَمِعْتُ مُسْلِمًا يَقُولُ: عَرَضْتُ كِتَابِي هَذَا "المُسْنَدَ" عَلَى أَبِي زُرْعَةَ، فَكُلُّ مَا أَشَارَ عَلَيَّ فِي هَذَا الكِتَابِ أَنَّ لَهُ عِلَّةً وَسَبَبًا تَرَكْتُهُ، وَكُلُّ مَا قَالَ: إِنَّهُ صَحِيحٌ لَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ، فَهُوَ الذِي أَخْرَجْتُ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الحَدِيثِ يَكْتُبُونَ الحَدِيثَ مِائَتَيْ سَنَةٍ، فَمَدَارُهُمْ عَلَى هَذَا "المُسْنَدِ". قَالَ الذَّهَبِيُّ: قُلْتُ: عَنَى بِهِ "مُسْنَدَهُ الكَبِيرَ".
وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ مَا وَضَعَ فِي كِتَابِهِ هَذَا المُسْنَدِ إِلَّا بِحُجَّةٍ، وَمَا أَسْقَطَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا بِحُجَّةٍ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: "وَأَمَّا مَا رُوِّينَاهُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الحَافِظِ النَّيْسَابُورِيِّ، أُسْتَاذِ الحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الحَافِظِ، مِنْ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ، فَهَذَا - وَقَولُ مَنْ فَضَّلَ مِنْ شُيُوخِ المَغْرِبِ كِتَابَ مُسْلِمٍ عَلَى كِتَابِ البُخَارِيِّ -، إِنْ كَانَ المُرَادُ بِهِ أَنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ يتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يُمَازِجْهُ غَيْرُ الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَعْدَ خُطْبَتِهِ إِلَّا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ، مَسْرُودًا غَيْرَ مَمْزُوجٍ بِمِثْلِ مَا فِي كِتَابِ البُخَارِيِّ فِي تَرَاجِمِ أَبْوَابِهِ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يُسْنِدْهَا عَلَى الوَصْفِ المَشْرُوطِ فِي الصَّحِيحِ؛ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ أَرْجَحُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الصَّحِيحِ عَلَى كِتَابِ البُخَارِيِّ".
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: "وَأَيُّ شَيْءٍ صَنَعَ مُسْلِمٌ؟ إِنَّمَا أَخَذَ كِتَابَ البُخَارِيِّ، فَعَمِلَ عَلَيْهِ مُسْتَخْرَجًا، وَزَادَ فِيهِ زِيَادَاتٍ".
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَلَا يَعْنِي أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ أَصَحُّ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، بَلْ وَلَا كُلُّ حَدِيثٍ فِي أَحَدِهِمَا أَصَحُّ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ فِي غَيْرِهِمَا.
(6) أَحْسَنَ مُسْلِمٌ التَّأْلِيفَ
لَقَدْ تَمَيَّزَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ بِحُسْنِ تَأْلِيفِ صَحِيحِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ: «أَجْمَعُوا عَلَى جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ، وَأَكْبَرُ الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُهُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي كِتَابٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِنْ حُسْنِ التَّرْتِيبِ وَتَلْخِيصِ طُرُقِ الحَدِيثِ».
وَقَالَ الحَافِظُ ابْنُ مَنْدَهْ: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيَّ الحَافِظَ يَقُولُ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحَّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوَخَّى أَلَّا يَرْوِيَ فِيهِ إِلَّا الأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ التِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا العُلَمَاءُ وَالمُحَدِّثُونَ، وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَى رِوَايَةِ الأَحَادِيثِ المَرْفُوعَةِ، وَتَجَنَّبَ رِوَايَةَ المُعَلَّقَاتِ وَالمَوْقُوفَاتِ، وَأَقْوَالِ العُلَمَاءِ وَآرَائِهِمُ الفِقْهِيَّةِ، إِلَّا مَا نَدَرَ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ: "وَمَنْ حَقَّقَ نَظَرَهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللهُ - وَاطَّلَعَ عَلَى مَا أَوْدَعَهُ فِي أَسَانِيدِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَحُسْنِ سِيَاقِهِ وَبَدِيعِ طَرِيقَتِهِ مِنْ نَفَائِسِ التَّحْقِيقِ وَجَوَاهِرِ التَّدْقِيقِ، وَأَنْوَاعِ الوَرَعِ وَالاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ، وَتَلْخِيصِ الطُّرُقِ وَاخْتِصَارِهَا، وَضَبْطِ مُتَفَرِّقِهَا وَانْتِشَارِهَا، وَكَثْرَةِ اطِّلَاعِهِ وَاتِّسَاعِ رِوَايَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مِنَ المَحَاسِنِ وَالأُعْجُوبَاتِ، وَاللَّطَائِفِ الظَّاهِرَاتِ وَالخَفِيَّاتِ: عَلِمَ أَنَّهُ إِمَامٌ لَا يَلْحَقُهُ مَنْ بَعُدَ عَصْرُهُ، وَقَلَّ مَنْ يُسَاوِيهِ بَلْ يُدَانِيهِ مِنْ أَهْلِ وَقْتِهِ وَدَهْرِهِ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ".
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "حَصَلَ لِمُسْلِمٍ فِي كِتَابِهِ حَظٌّ عَظِيمٌ مُفْرِطٌ لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِثْلِهِ، بِحَيْثُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ يُفَضِّلُهُ عَلَى صَحِيحِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَذَلِكَ لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنْ جَمْعِ الطُّرُقِ وَجَوْدَةِ السِّيَاقِ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ الأَلْفَاظِ كَمَا هِيَ مِنْ غَيْرِ تَقْطِيعٍ وَلَا رِوَايَةٍ بِمَعْنًى، وَقَدْ نَسَجَ عَلَى مِنْوَالِهِ خَلْقٌ مِنَ النَّيْسَابُورِيِّينَ فَلَمْ يَبْلُغُوا شَأْوَهُ، وَحَفِظْتُ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ إِمَامًا مِمَّنْ صَنَّفَ المُسْتَخْرَجَ عَلَى مُسْلِمٍ، فَسُبْحَانَ المُعْطِي الوَهَّابِ".
(7) عَدَدُ أَحَادِيثِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ
إِنَّ الإِمَامَ مُسْلِمًا لَمْ يَقْصِدِ اسْتِيعَابَ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ، ذَلِكُمُ المُسْنَدُ الصَّحِيحُ المُخْتَصَرُ مِنَ السُّنَنِ، بِنَقْلِ العَدْلِ عَنِ العَدْلِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجَامِعُ لِأَبْوَابِ أَحَادِيثِ العَقَائِدِ وَالأَحْكَامِ وَالآدَابِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَالمَنَاقِبِ وَالرِّقَاقِ، المَسْبُوقُ بِمُقَدِّمَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَقَاصِدَ مُهِمَّةٍ فِي عُلُومِ الحَدِيثِ، ذَكَرَ فِيهَا مُسْلِمٌ مَنْهَجَهُ وَالبَاعِثَ عَلَى تَأْلِيفِهِ.
لَقَدْ أَجَابَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ أَبَا زُرْعَةَ، حِينَ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ تَأْلِيفَهُ لِلصَّحِيحِ يُحْدِثُ شُبْهَةً يَتَشَبَّثُ بِهَا أَهْلُ البِدَعِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا هَذَا القَدْرُ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ الاسْتِيعَابَ وَلَكِنَّهُ اشْتَرَطَ الصِّحَّةَ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ: «لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٌ وَضَعْتُهُ هَا هُنَا، إِنَّمَا وَضَعْتُ هَا هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ».
وَقَالَ مُحَمَّدٌ المَاسَرْجِسِيُّ: سَمِعْتُ مُسْلِمًا يَقُولُ: صَنَّفْتُ هَذَا "المُسْنَدَ الصَّحِيحَ" مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ.
لَقَدْ بَلَغَتْ أَحَادِيثُ جَامِعِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ بِالمُكَرَّرِ - بِاسْتِثْنَاءِ أَحَادِيثِ المُقَدِّمَةِ - سَبْعَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ حَدِيثًا، وَبِدُونِ المُكَرَّرِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا، وَأَحَادِيثُ المُقَدِّمَةِ عَشَرَةٌ، وَالمُعَلَّقَاتُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: "هِيَ مَوْصُولَةٌ مِنْ جِهَاتٍ صَحِيحَةٍ، لَا سِيَّمَا مَا كَانَ مِنْهَا مَذْكُورًا عَلَى وَجْهِ المُتَابَعَةِ، فَفِي نَفْسِ الكِتَابِ وَصَلَهَا".
عَلَى أَنَّ الاخْتِلَافَ فِي العَدَدِ وَارِدٌ لِاخْتِلَافِ طَرِيقَةِ العَدِّ، وَلِلزِّيَادَةِ النَّادِرَةِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ: كُنْتُ مَعَ مُسْلِمٍ فِي تَأْلِيفِ "صَحِيحِهِ" خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ: "وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ".
أَيْ بِالمُكَرَّرِ، فَتُحْسَبُ طُرُقُ الشَّوَاهِدِ وَالمُتَابَعَاتِ.
(8) اسْتِيعَابُ الصَّحِيحَيْنِ لِأُصُولِ السُّنَّةِ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: «البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى تَرْكِ إِخْرَاجِ أَصْلٍ مِنَ الأُصُولِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ. وَإِنْ وُجِدَتْ، فَهِيَ مَعْلُولَةٌ».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَخْرَمُ: "قَلَّ مَا يَفُوتُ البُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا مِمَّا ثَبَتَ مِنَ الحَدِيثِ".
فَمِمَّا يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَدَدَ مُتُونِ الأَحَادِيثِ المُحْتَجِّ بِهَا مِنْ صَحِيحٍ وَحَسَنٍ، لَا يُمْكِنُ الاتِّفَاقُ عَلَى حَصْرِهَا فِي رَقْمٍ مُحَدَّدٍ، وَإِنْ كَانَ لِلْعُلَمَاءِ آرَاءٌ تَقْرِيبِيَّةٌ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ: قَالَ لِي أَبُو زُرْعَةَ: أَبُوكَ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: ذَاكَرْتُهُ فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ الأَبْوَابَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: "هَذِهِ حِكَايَةٌ صَحِيحَةٌ فِي سَعَةِ عِلْمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فِي ذَلِكَ المُكَرَّرَ، وَالأَثَرَ، وَفَتْوَى التَّابِعِيِّ، وَمَا فُسِّرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالمُتُونُ المَرْفُوعَةُ القَوِيَّةُ لَا تَبْلُغُ عُشْرَ مِعْشَارِ ذَلِكَ". انْتَهَى.
وَالأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ التِي عَلَيْهَا مَدَارُ الدِّينِ وَأَدِلَّةِ الأَحْكَامِ، ذَكَرَ العُلَمَاءُ لَهَا عَدَدًا تَقْرِيبِيًّا. فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ فِي كِتَابِ "التَّمْيِيزِ" لَهُ، عَنْ شُعْبَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ، وَابْنِ المَهْدِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ جُمْلَةَ الأَحَادِيثِ المُسْنَدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ حَدِيثٍ».
وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: "نَظَرْتُ فِي الحَدِيثِ المُسْنَدِ، فَإِذَا هُوَ أَرْبَعَةُ آلَافِ حَدِيثٍ".
أَمَّا أُصُولُ أَدِلَّةِ الأَحْكَامِ فَأَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: "سُئِلَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: «كَمْ أُصُولُ السُّنَّةِ؟، فَقَالَ: «خَمْسُمِائَةٍ».
(9) الأَحَادِيثُ المُعَلَّةُ فِي الصَّحِيحِ
الإِمَامُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللهُ - مِنْ أَرْبَابِ الصَّنْعَةِ الحَدِيثِيَّةِ، وَإِمَامٌ فِي عِلْمِ العِلَلِ، وَبَيَّنَ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ أَنَّهُ سَيَشْرَحُ وَيُوَضِّحُ الأَخْبَارَ المُعَلَّةَ، فَيُفْهَمُ مِنْ طَرِيقَتِهِ أَنَّهَا عِلَّةٌ يُمْكِنُ الإِجَابَةُ عَنْهَا.
إِنَّ جُمْهُورَ الأَحَادِيثِ المُعَلَّةِ فِي الصَّحِيحِ عِلَّتُهَا غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي صِحَّةِ الحَدِيثِ وَالاحْتِجَاجِ بِهِ إِلَّا مَا نَدَرَ.
إِنَّ غَالِبَ الانْتِقَادَاتِ مُوَجَّهَةٌ لِأَسَانِيدَ سَاقَهَا مُسْلِمٌ فِي الشَّوَاهِدِ وَالمُتَابَعَاتِ، مَعَ صِحَّةِ الحَدِيثِ أَوْ صِحَّةِ أَصْلِهِ، لَكِنْ انْتُقِدَتْ لَفْظَةٌ مِنْهُ أَوْ كَانَ فِي مُقَدِّمَتِهِ فَلَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ.
قَالَ البَرْذَعِيُّ: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى نَيْسَابُورَ فِي المَرَّةِ الثَّانِيَةِ، ذَكَرْتُ لِمُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ إِنْكَارَ أَبِي زُرْعَةَ عَلَيْهِ رِوَايَتَهُ فِي هَذَا الكِتَابِ عَنْ أَسْبَاطَ بْنِ نَصْرٍ، وَقَطَنَ بْنِ نُسَيْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى، فَقَالَ لِي مُسْلِمٌ: إِنَّمَا قُلْتُ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا أَدْخَلْتُ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطَ وَقَطَنَ وَأَحْمَدَ مَا قَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ شُيُوخِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ إِلَيَّ عَنْهُمْ بِارْتِفَاعٍ، وَيَكُونُ عِنْدِي مِنْ رِوَايَةِ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْهُمْ بِنُزُولٍ، فَأَقْتَصِرُ عَلَى أُولَئِكَ، وَأَصْلُ الحَدِيثِ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ». انْتَهَى.
إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الإِلْزَامَاتِ المُوَجَّهَةِ لِمُسْلِمٍ قُصِدَ مِنْهَا تَنْبِيهُ مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ أَخَلَّ بِمَا يَنْبَغِي لِمَنِ الْتَزَمَ الصَّحِيحَ؛ أَنْ يُخَرِّجَ مَا كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ، وَسَلِيمًا مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «جُمْهُورُ مَا صَحَّحَاهُ كَانَ قَبْلَهُمَا عِنْدَ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ صَحِيحًا مُتَلَقًّى بِالقَبُولِ، وَكَذَلِكَ فِي عَصْرِهِمَا وَكَذَلِكَ بَعْدَهُمَا، قَدْ نَظَرَ أَئِمَّةُ هَذَا الفَنِّ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَوَافَقُوهُمَا عَلَى تَصْحِيحِ مَا صَحَّحَاهُ، إِلَّا مَوَاضِعَ يَسِيرَةً نَحْوَ عِشْرِينَ حَدِيثًا، انْتَقَدَهَا عَلَيْهِمَا طَائِفَةٌ مِنَ الحُفَّاظِ، وَهَذِهِ المَوَاضِعُ المُنْتَقَدَةُ غَالِبُهَا فِي مُسْلِمٍ، وَقَدِ انْتَصَرَ طَائِفَةٌ لَهُمَا فِيهَا، وَطَائِفَةٌ قَرَّرَتْ قَوْلَ المُنْتَقِدَةِ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ، فَإِنَّ فِيهَا مَوَاضِعَ مُنْتَقَدَةً بِلَا رَيْبٍ».
(10) الطَّعْنُ فِي بَعْضِ رِجَالِ مُسْلِمٍ
لَا يَعْنِي وُجُودُ رَاوٍ ضَعِيفٌ فِي الصَّحِيحِ طَعْنًا فِي مَوْضُوعِ الكِتَابِ وَأَصْلِهِ؛ لِأَنَّ البُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا قَدْ يُخَرِّجَا لِلضَّعِيفِ فِي المُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ لَا فِي الأُصُولِ، وَقَدْ يَنْتَقِيَانِ مِنْ أَحَادِيثِهِ مَا كَانَ صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا مَوْصُولًا؛ فَإِنَّهُمَا مَلِيئَانِ فِي عِلْمِ الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، وَقَدْ أَوْضَحَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَتِهِ ذَلِكَ، فَمُلَخَّصُ مَا قَالَ: "إِنَّا نَتَوَخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الأَخْبَارَ التِي هِيَ أَسْلَمُ مِنَ العُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَنْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُوهَا أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ فِي الحَدِيثِ وَإِتْقَانٍ لِمَا نَقَلُوا، فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالمَوْصُوفِ بِالحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، كَالصِّنْفِ المُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا وَصَفْنَا دُونَهُمْ، فَإِنَّ اسْمَ السَّتْرِ وَالصِّدْقِ وَتَعَاطِي العِلْمِ يَشْمَلُهُمْ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ قَوْمٍ هُمْ عِنْدَ أَهْلِ الحَدِيثِ مُتَّهَمُونَ أَوْ عِنْدَ الأَكْثَرِ مِنْهُمْ، فَلَسْنَا نَتَشَاغَلُ بِتَخْرِيجِ حَدِيثِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَنِ الغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ المُنْكَرُ أَوِ الغَلَطُ أَمْسَكْنَا أَيْضًا عَنْ حَدِيثِهِمْ. وَقَالَ: الوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا، وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنَ المُتَّهَمِينَ؛ أَنْ لَا يَرْوِيَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ، وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ".
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ: «وَأَمَّا مُسْلِمٌ فَلَا يُخَرِّجُ إِلَّا حَدِيثَ الثِّقَةِ الضَّابِطِ، وَمَنْ فِي حِفْظِهِ بَعْضُ شَيْءٍ، وَتُكُلِّمَ فِيهِ لِحِفْظِهِ، لَكِنَّهُ يَتَحَرَّى فِي التَّخْرِيجِ عَنْهُ، وَلَا يُخَرِّجُ عَنْهُ إِلَّا مَا لَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِمَّا وَهِمَ فِيهِ».
وَقَالَ المُبَارَكْفُورِيُّ: «أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَذْكُرُ أَوَّلًا الحَدِيثَ بِأَسَانِيدَ نَظِيفَةٍ وَيَجْعَلُهُ أَصْلًا، ثُمَّ يُتْبِعُهُ بِإِسْنَادٍ أَوْ أَسَانِيدَ فِيهَا بَعْضُ الضُّعَفَاءِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ.
(11) جَوَابُ الانْتِقَادِ المُوَجَّهِ لِمَنْهَجِ مُسْلِمٍ
ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَتِهِ مَا مُلَخَّصُهُ: إِنَّا نَتَوَخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الأَخْبَارَ التِي هِيَ أَسْلَمُ مِنَ العُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا وَأَنْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُوهَا أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ فِي الحَدِيثِ وَإِتْقَانٍ لِمَا نَقَلُوا، فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالمَوْصُوفِ بِالحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، كَالصِّنْفِ المُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ، عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِيمَا وَصَفْنَا دُونَهُمْ، فَإِنَّ اسْمَ السَّتْرِ وَالصِّدْقِ وَتَعَاطِي العِلْمِ يَشْمَلُهُمْ.
وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الصَّلَاحِ عَلَى مَنِ انْتَقَدَ الإِمَامَ مُسْلِمًا فِي رِوَايَتِهِ عَنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ أَوِ المُتَوَسِّطِينَ الوَاقِعِينَ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيةِ فَقَالَ: «وَالجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَحَدِ أَسْبَابٍ لَا مَعَابَ عَلَيْهِ مَعَهَا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ ثِقَةٌ عِنْدَهُ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ وَهَذَا تَقْدِيمٌ لِلتَّعْدِيلِ عَلَى الجَرْحِ؛ لِأَنَّ الذِي ذَكَرْنَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الجَرْحُ غَيْرَ مُفَسَّرِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي الشَّوَاهِدِ وَالمُتَابَعَاتِ لَا فِي الأُصُولِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَذْكُرَ الحَدِيثَ أَوْلًا بِإِسْنَادٍ نَظِيفٍ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَيَجْعَلَهُ أَصْلًا، ثُمَّ يُتْبِعَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ أَوْ أَسَانِيدَ فِيهَا بَعْضُ الضُّعَفَاءِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ بِالمُتَابَعَةِ، أَوْ لِزِيَادَةٍ فِيهِ تُنَبِّهُ عَلَى فَائِدَةٍ فِيمَا قَدَّمَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ضَعْفُ الضَّعِيفِ الذِي احْتَجَّ بِهِ طَرَأَ بَعْدَ أَخْذِهِ عَنْهُ بِاخْتِلَاطٍ حَدَثَ عَلَيْهِ، غَيْرِ قَادِحٍ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي زَمَانِ سَدَادِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَعْلُوَ بِالشَّخْصِ الضَّعِيفِ إِسْنَادُهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ بِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ نَازِلٌ، فَيَذْكُرُ العَالِيَ وَلَا يُطَوِّلُ بِإِضاَفَةِ النَّازِلِ إِلَيْهِ، مُكْتَفِيًا بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ الشَّأْنِ بِذَلِكَ».
(12) لَمْ يُخَرِّجْ مُسْلِمٌ لِلْبُخَارِيِّ
لِلْإِمَامِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللهُ - رَأْيُهُ الشَّخْصِيُّ وَوِجْهَةُ نَظَرِهِ الخَاصَّةُ، فِي تَرْكِ الرِّوَايَةِ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ؛ لَقَدْ سَمِعَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الجَعْدِ وَأَكْثَرَ عَنْهُ، لَكِنَّهُ مَا رَوَى لَهُ فِي "الصَّحِيحِ" شَيْئًا، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: ثِقَةٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ جَهْمِيًّا.
وَإِنَّ مِنْ بَيْنِ أُولَئِكَ المَشَايِخِ الإِمَامَ البُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللهُ - حَيْثُ لَمْ يُخَرِّجْ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُوَضِّحِ السَّبَبَ الذِي حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَى البُخَارِيِّ ثَنَاءً جَمِيلًا. قَالَ أَحْمَدُ القَصَّارُ الأَعْمَشُ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الحجَّاجِ وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ المُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ الحَافِظُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الحَجَّاجِ بَيْنَ يَدَيِ البُخَارِيِّ يَسْأَلُهُ سُؤَالَ الصَّبِيِّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الحَافِظُ: "لَمَّا اسْتَوْطَنَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ أَكْثَرَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ الاخْتِلَافَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ البُخَارِيِّ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ، وَنَادَى عَلَيْهِ، وَمَنَعَ النَّاسَ عَنْهُ، انْقَطَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ غَيْرَ مُسْلِمٍ. فَقَالَ الذُّهْلِيُّ يَوْمًا: أَلَا مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَنَا. فَأَخَذَ مُسْلِمٌ رِدَاءً فَوْقَ عِمَامَتِهِ، وَقَامَ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، وَبَعَثَ إِلَى الذُّهْلِيِّ مَا كَتَبَ عَنْهُ عَلَى ظَهْرِ جَمَّالٍ. وَكَانَ مُسْلِمٌ يُظْهِرُ القَوْلَ بِاللَّفْظِ وَلَا يَكْتُمُهُ".
فَرُبَّمَا يَكُونُ السَّبَبُ هُوَ هَذَا؛ لِيَصُونَ كِتَابَهُ مِنْ تَشْوِيشِ المُتَحَامِلِينَ عَلَى البُخَارِيِّ، فَتَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ وَعَنِ الذُّهْلِيِّ.
وَرُبَّمَا كَانَ السَّبَبُ طَلَبًا لِعُلُوِّ الإِسْنَادِ، حَيْثُ شَارَكَ مُسْلِمٌ البُخَارِيَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ، وَالمُهِمُّ أَنَّ البُخَارِيَّ لَا مَدْخَلَ عَلَيْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ عَدَالَتِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِ وَعَقِيدَتِهِ وَمَنْهَجِهِ، وَإِعْرَاضُ مُسْلِمٍ عَنِ التَّخْرِيجِ لَهُ فِي الصَّحِيحِ لَا يَضُرُّ البُخَارِيَّ شَيْئًا، وَلَا يَخْفِضُ مِنْ رُتْبَتِهِ أَوْ يَغُضُّ مِنْ شَأْنِهِ وَيَحُطُّ مِنْ مَقَامِهِ.