(بَيْنَ يَدَيْ صَحِيحِ البُخَارِيِّ)
القِسْمُ الأَوَّلُ
المُقَدِّمَةُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ نُبْذَةٌ مُخْتَصَرَةٌ وَمَعْلُومَاتٌ مُوجَزَةٌ، نَتَعَرَّفُ مِنْ خِلَالِهَا عَلَى أَهَمِّ مَا يُعَرِّفُنَا بِالإِمَامِ البُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - وَبِصَحِيحِهِ المُسَمَّى "الجَامِعُ الصَّحِيحُ المُسْنَدُ"، الذِي هُوَ أَصَحُّ كِتَابٍ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَتَنْتَظِمُ هَذِهِ الخُلَاصَةُ فِي الخُطَّةِ التَّالِيَةِ:
التَّعْرِيفُ بِالإِمَامِ البُخَارِيِّ.
التَّعْرِيفُ بِصَحِيحِهِ.
نَاهِجًا فِي ذَلِكَ الاكْتِفَاءَ بِالإِشَارَةِ وَمُخْتَصَرَ العِبَارَةِ، إِذْ مَحَلُّ البَسْطِ المُطَوَّلاَتُ، وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ بِتَيْسِيرِ اللهِ.
كَانَتْ حَيَاةُ الإِمَامِ البُخَارِيِّ العِلْمِيَّةُ وَسِيرَتُهُ الدِّينِيَّةُ مَدْرَسَةً بَاعِثَةً لِحَمَاسِ طُلَّابِ العِلْمِ، وَقَدْ جَمَعَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ البُخَارِيُّ وَرَّاقُ أَبِي عَبْدِ اللهِ فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ "شَمَائِلَ البُخَارِيِّ". وَكُتُبُ السِّيَرِ وَالتَّرَاجِمِ طَافِحَةٌ بِسِيرَتِهِ، وَقَدْ أُعِدَّتْ رَسَائِلُ عِلْمِيَّةٌ كَثِيرَةٌ فِي الدِّرَاسَاتِ العُلْيَا، كُلُّ رِسَالَةٍ مِنْهَا مُتَخَصِّصَةٌ بِوَحْدَةٍ مَوْضُوعِيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ دِرَاسِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالبُخَارِيِّ وَبِصَحِيحِهِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ شَأْنِهِ وَشَأْنِ كِتَابِهِ.
(1) نَسَبُ الإِمَامِ البُخَارِيِّ
هُوَ الإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ بَرْدِزْبَهْ بْنِ الْأَحْنَفِ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ المُؤَرِّخُونَ حَوْلَ أَصْلِهِ، فَارِسِيٌّ، أَمْ تُرْكِيٌّ، أَمْ عَرَبِيٌّ؟؛ فَذَكَرَ عَدَدٌ مِنَ العُلَمَاءِ أَنَّ جَدَّهُ الأَكْبَرَ هُوَ الأَحْنَفُ الجُعْفِيُّ، وَأَنَّ "بَرْدِزبَهْ" صِفَةٌ وَلَيْسَ اسْمًا، وَتَعْنِي "الفَلَّاحَ"، وَهُوَ مَا تَعَوَّدَ العَرَبُ عَلَيْهِ فِي البُلْدَانِ الأَعْجَمِيَّةِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا ابْنُ عَسَاكِرَ، وَابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ، وَتَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، وَزَيْنُ الدِّينِ العِرَاقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَذَهَبَ أَبُو الوَلِيدِ البَاجِيُّ، وَالخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ، وَالنَّوَوِيُّ، وَالذَّهَبِيُّ، وَغَيْرُهُمْ إِلَى مَا فِي كِتَابِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ "الكَامِلِ"، أَنَّ جَدَّهُ الأَكْبَرَ بَرْدِزبَهْ كَانَ فَارِسِيَّ الأَصْلِ، عَاشَ وَمَاتَ مَجُوسِيًّا. وَقَدْ أَسْلَمَ ابْنُهُ المُغِيرَةُ عَلَى يَدِ الْيَمَانِ وَالِي بُخَارَى، وَكَانَ الْيَمَانُ جُعْفِيًّا، فَنُسِبَ البُخَارِيُّ إِلَيْهِ بِالوَلَاءِ. وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ وَالِدُ الإِمَامِ البُخَارِيِّ أَحَدَ الصَّالِحِينَ، شَارَكَ فِي طَلَبِ العِلْمِ، قَالَ ابْنُهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ: سَمِعَ أَبِي مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَرَأَى حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ، وَصَافَحَ ابْنَ المُبَارَكِ بِكِلْتَا يَدَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الثِّقَاتِ: "إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالِدُ البُخَارِيِّ، يَرْوِي عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكٍ، رَوَى عَنْهُ الْعِرَاقِيُّونَ".
وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى إِسْمَاعِيلَ وَالِدِ أَبِي عَبْدِ اللهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مِنْ مَالِي دِرْهَمًا مِنْ حَرَامٍ وَلَا دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ. قَالَ البُخَارِيُّ: أَصْدَقُ مَا يَكُونُ الرَّجُلُ عِنْدَ المَوْتِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ البَلْخِيِّ، قَالَ: ذَهَبَتْ عَيْنَا مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي صِغَرِهِ، فَرَأَتْ وَالِدَتُهُ فِي المَنَامِ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ، قَدْ رَدَّ اللهُ عَلَى ابْنِكِ بَصَرَهُ؛ لِكَثْرَةِ دُعَائِكِ، فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ.
(2) مَوْلِدُهُ وَوَفَاتُهُ
قَالَ البُخَارِيُّ: "وُلِدْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعدَ الصَّلَاةِ، لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ"، بِبُخَارَى إِحْدَى مُدُنِ أُوزْبَكِسْتَانَ حَالِيًا.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بْنَ الحُسَيْنِ البَزَّازَ البُخَارِيَّ يَقُولُ: تُوُفِّيَ البُخَارِيُّ لَيْلَةَ السَّبْتِ، لَيْلَةَ الفِطْرِ عِنْدَ صَلَاةِ العِشَاءِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الفِطْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَعَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً إِلَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
لَقَدْ عَظُمَ الخَطْبُ عَلَى الإِمَامِ البُخَارِيِّ وَاشْتَدَّ البَلَاءُ بِهِ، حَيْثُ طَارَدَهُ فِي تَنَقُّلَاتِهِ الوُشَاةُ الحَاسِدُونَ وَالجَاهِلُونَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَيَخْرُجَ مِنَ البَلَدِ.
قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: جَاءَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَقْرِبَائِهِ بِخَرْتَنْكَ، «قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى سَمَرْقَنْدَ»، فَسَمِعْتُهُ يَدْعُو لَيْلَةً، إِذْ فَرَغَ مِنْ وِرْدِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. فَمَا تَمَّ الشَّهْرُ حَتَّى مَاتَ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ: لَوْ قَدَرْتُ أَنْ أَزِيدَ فِي عُمُرِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ عُمُرِي لَفَعَلْتُ، فَإِنَّ مَوْتِي يَكُونُ مَوْتَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَمَوْتَهُ ذَهَابُ العِلْمِ.
(3) نَشْأَتُهُ العِلْمِيَّةُ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقُ البُخَارِيِّ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ؟ قَالَ: أُلْهِمْتُ حِفْظَ الحَدِيثِ وَأَنَا فِي الكُتَّابِ، قُلْتُ: وَكَمْ أَتَى عَلَيْكَ إِذْ ذَاكَ؟ فَقَالَ: عَشْرُ سِنِينَ أَوْ أَقَلُّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنَ الكُتَّابِ بَعْدَ العَشْرِ، فَجَعَلْتُ اخْتَلِفُ إِلَى الدَّاخِلِيِّ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ يَوْمًا فِيمَا كَانَ يقْرَأُ للنَّاسِ: سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا فُلَانٍ، إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ يَرْوِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَانْتَهَرَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى الأَصْلِ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ، فَدَخَلَ وَنَظَرَ فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ هُوَ يَا غُلَامُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ الْقَلَمَ وَأصْلَحَ كِتَابَهُ، فَقَالَ: صَدَقْتَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: ابْنُ كَمْ كُنْتَ إِذْ رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ: ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ: فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، حَفِظْتُ كُتُبَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٍ، وَعَرَفْتُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَ أُمِّي وَأخِي أَحْمَدَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا حَجَجْتُ رَجَعَ أَخِي وَتَخَلَّفْتُ بِهَا فِي طَلَبِ الحَدِيثِ، فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ جَعَلْتُ أُصَنِّفُ قَضَايَا الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَقَاوِيلَهُمْ.
(4) البُخَارِيُّ صَغِيرًا
ذَكَرَ البُخَارِيُّ أَنَّهُ أُلْهِمَ حِفْظَ الحَدِيثِ وَهُوَ فِي الكُتَّابِ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ، وَأَنَّهُ أَصْلَحَ الوَهْمَ الذِي حَصَلَ لِشَيْخِهِ الدَّاخِلِيِّ فِي الإِسْنَادِ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَأَذْعَنَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ سَلِيمُ بْنُ مُجَاهِدٍ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ البِيْكَنْدِيِّ، فَقَالَ: لَوْ جِئْتَ قَبْلُ لَرَأَيْتَ صَبِيًّا - يَعْنِي البُخَارِيَّ - يَحْفَظُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فِي طَلبِهِ حَتَّى لَحِقْتُهُ. قَالَ: أَنْتَ الذِي يَقُولُ: إِنِّي أَحْفَظُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَكْثَر. وَلَا أَجِيئُكَ بِحَدِيثٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَّا عَرَّفْتُكَ مَوْلِدَ أَكْثَرِهِمْ وَوَفَاتَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ، وَلَسْتُ أَرْوِي حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ إِلَّا وَلِي مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ أَحْفَظُهُ حِفْظًا عَنْ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِي يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيَّ هَذَا الصَّبِيُّ تَحَيَّرْتُ، وَأُلْبِسَ عَلَيَّ أَمْرُ الحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَلَا أَزَالُ خَائِفًا مَا لَمْ يَخْرُجْ.
(5) رَحَلَاتُهُ
بَدَأَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ الطَّلَبَ فِي بَلَدِهِ بُخَارَى، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الأَقَالِيمِ المُجَاوِرَةِ، وَتَنَقَّلَ فِي كَثِيرٍ مِنَ البُلْدَانِ وَالأَمْصَارِ الإِسْلَامِيَّةِ لِلسَّمَاعِ مِنْ عُلَمَائِهَا.
قَالَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ: «رَحَلَ فِي طَلَبِ العِلْمِ إِلَى سَائِرِ مُحَدِّثِي الأَمْصَارِ، وَكَتَبَ بِخُرَاسَانَ، وَالجِبَالِ، وَمُدُنِ العِرَاقِ كُلِّهَا، وَبِالحِجَازِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ: لَقِيتُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، لَقِيتُهُمْ كَرَّاتٍ، أَهْلَ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالجَزِيرَةِ مَرَّتَيْنِ، وَأَهْلَ البَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِالحِجَازِ سِتَّةُ أَعْوَامٍ، وَلَا أُحْصِي كَمْ دَخَلْتُ الكُوفَةَ وَبَغْدَادَ مَعَ مُحَدِّثِي خُرَاسَانَ - وَسَمَّى خَلْقًا - ثُمَّ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَخْتَلِفُ فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ؛ أَنَّ الدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَأَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ اللهِ.
لَقَدْ أَثْمَرَتْ تِلْكَ الرَّحَلَاتُ وَآتَتْ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، لَقَدْ جَمَعَ البُخَارِيُّ الأَحَادِيثَ حَتَّى عَجَزَ حُذَّاقُهُ وَحُفَّاظُهُ أَنْ يُغْرِبُوا عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَلِيٍّ الفَلَّاسَ، قَالَ: "حَدِيثٌ لَا يَعْرِفُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ لَيْسَ بِحَدِيثٍ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: مَا نِمْتُ البَارِحَةَ حَتَّى عَدَدْتُ كَمْ أَدْخَلْتُ مُصَنَّفَاتِي مِنَ الحَدِيثِ. فَإِذَا نَحْوُ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ مُسْنَدَة.
لَقَدْ أَخَذَ البُخَارِيُّ بِالجِدِّ وَالاجْتِهَادِ وَالحَزْمِ وَالقُوَّةِ فِي التَّحْصِيلِ العِلْمِيِّ.
وَعَنْ حَاشِدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: كَانَ البُخَارِيُّ وَهُوَ غُلَامٌ يَقُولُ: اعْرِضُوا عَلَيَّ مَا كَتَبْتُمْ، فَأَخْرَجْنَاهُ فَزَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَقَرَأَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، ثُمَّ قَالَ: أَتَرَوْنَ أَنِّي أَخْتَلِفُ هَدَرًا، وَأُضَيِّعُ أَيَّامِي؟! فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ أَحَدٌ.
(6) سِيرَتُهُ
لَقَدْ سَارَتْ الرُّكْبَانُ بِسِيرَةِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ العَطِرَةِ، بِمَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَصَلَاحِ دِينِهِ، وَحُسْنِ خُلُقِهِ، وَجَمِيلِ أَدَبِهِ، فَكَانَ عَابِدًا وَرِعًا زَاهِدًا، عَالِيَ الهِمَّةِ فِي طَلَبِ العِلْمِ، كَثِيرَ الرِّحْلَةِ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِهِ، حَتَّى كَانَ يَأْكُلُ حَشِيشَ الأَرْضِ لِسَدِّ الجُوعِ، وَقَدْ صَبَرَ عَلَى ابْتِلَاءِ مُنَاوِئِيهِ وَأَذَى حَاسِدِيهِ، الذِينَ كَانُوا يُطَارِدُونَهُ فِي بَعْضِ البُلْدَانِ التِي رَحَلَ إِلَيْهَا، وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ السِّيَرِ.
تَرَبَّى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي بَيْتِ دِينٍ وَصَلَاحٍ، وَقَدْ تُوُفِّيَ وَالِدُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَعَاشَ فِي حَجْرِ أُمِّهِ يَتِيمًا، فَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ فِيهِ، وَالحَظْوَةِ بِثَنَاءِ أَهْلِ الفَضْلِ وَالعِلْمِ عَلَيْهِ.
قَالَ سَلِيمُ بْنُ مُجَاهِدٍ: "مَا رَأَيْتُ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً أَحَدًا أَفْقَهَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ".
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ العُلَمَاءَ بِالبَصْرَةِ يَقُولُونَ: مَا فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي المَعْرِفَةِ وَالصَّلَاحِ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: نَظَرْتُ فِي الحَدِيثِ، وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ، وَجَالَسْتُ الْفُقَهَاءَ وَالزُّهَّادَ وَالعُبَّادَ، فَمَا رَأَيْتُ مُنْذُ عَقَلْتُ، مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ فِي زَمَانِهِ كَعُمَرَ فِي الصَّحَابَةِ.
وَعَنْ قُتَيْبَةَ أَيْضًا، قَالَ: لَوْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي الصَّحَابَةِ لَكَانَ آيَةً.
وَقَدْ وَرِثَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ مِنْ أَبِيهِ مَالًا جَلِيلًا، وَكَانَ يُعْطِيهِ مُضَارَبَةً، فَقَطَعَ لَهُ غَرِيمٌ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَقِيلَ لَهُ: اسْتَعِنْ بِكِتَابِ الْوَالِي، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْتُ مِنْهُمْ كِتَابًا طَمِعُوا، وَلنْ أَبِيعَ دِينِي بِدُنْيَايَ، ثُمَّ صَالَحَ غَرِيمَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهِ كُلَّ شَهْرٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَذَهَبَ ذَلِكَ المَالُ كُلُّهُ. وَمِنْ وَرَعِهِ قَوْلُهُ: مَا تَوَلَّيْتُ شِرَاءَ شَيْءٍ قَطُّ وَلَا بَيْعَهُ، كُنْتُ آمُرُ إنْسَانًا فَيَشْتَرِي لِي، قِيلَ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِمَا فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّخْلِيطِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَلَامُ العُلَمَاءِ وَالأَئِمَّةِ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى.
(7) مَكَانَةُ البُخَارِيِّ
جَمَعَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عُلُومًا كَثِيرَةً، وَفُنُونًا عَدِيدَةً، وَتَفَجَّرَ بِالمَعَارِفِ، وَتَبَحَّرَ فِي الحَدِيثِ وَفِقْهِهِ. قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الحَافِظُ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُنَصِّبُوا آخَرَ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ: "مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَفْقَهُ عِنْدَنَا وَأَبْصَرُ بِالْحَدِيثِ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: جَاوَزتَ الْحَدَّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُصْعَبٍ: لَو أَدْرَكْتَ مَالِكًا وَنَظَرْتَ إِلَى وَجْهِهِ وَوَجْهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، لَقُلْتَ: كِلَاهُمَا وَاحِدٌ فِي الحَدِيثِ وَالْفِقْهِ".
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهَا الْخَطِيبُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ.
وَسُئِلَ قُتَيْبَةُ عَنْ طَلَاقِ السَّكْرَانِ، فَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ قُتَيْبَةُ لِلسَّائِلِ: هَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيُّ؛ قَدْ سَاقَهُمُ اللهُ إِلَيْكَ، وَأَشَارَ إِلَى البُخَارِيِّ.
قَالَ العِجْلِيُّ: وَرَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ يَسْتَمِعَانِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ، دَيِّنًا فَاضِلًا، يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ بِكَذَا وَكَذَا.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ: قَدْ رَأَيْتُ العُلَمَاءَ بِالحَرَمَيْنِ وَالحِجَازِ وَالشَّامِ وَالعِرَاقِ، فَمَا رَأَيْتُ فِيهِمْ أَجْمَعَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ أَعْلَمُنَا وَأَفْقَهُنَا وَأَكْثَرُنَا طَلَبًا.
وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ مَحْمُودُ بْنُ النَّضْرِ الفَقِيهُ: دَخَلْتُ البَصْرَةَ وَالشَّامَ وَالحِجَازَ وَالكُوفَةَ، وَرَأَيْتُ عُلَمَاءَهَا، فَكُلَّمَا جَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ العُلَمَاءَ بِمِصْرَ يَقُولُونَ: مَا فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي المَعْرِفَةِ وَالصَّلَاحِ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَأَنَا أَقُولُ قَوْلَهُمْ.
وَقَالَ رَجَاءٌ الحَافِظُ: فَضْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى العُلَمَاءِ، كَفَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ؟! فَقَالَ: هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ.
(8) ضَبْطُهُ وَقُوَّةُ إِتْقَانِهِ
اُشْتُهِرَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ بِضَبْطِهِ وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِغَرِيبٍ عَلَى رَجُلٍ وَهَبَهُ اللهُ سُرْعَةَ الحِفْظِ، وَشِدَّةَ الرَّغْبَةِ، وَقُوَّةَ الإِرَادَةِ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الكَلْوَذَانِيِّ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، كَانَ يَأْخُذُ الكِتَابَ مِنَ العِلْمِ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ اطِّلَاعَةً، فَيَحْفَظُ عَامَّةَ أَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ أَبُو الْأَزْهَرِ: كَانَ بِسَمَرْقَنْدَ أَرْبَعُمِائَةِ مُحَدِّثٍ فَتَجَمَّعُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُغَالِطُوا مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيَّ، فَأَدْخَلُوا إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ العِرَاقِ، وَإسْنَادَ العِرَاقِ فِي إِسْنَادِ الشَّامِ، وَإسْنَادَ الحَرَمِ فِي إِسْنَادِ اليَمَنِ، فَمَا اسْتَطَاعُوا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَتَعَلَّقُوا عَلَيْهِ بِسَقْطَةٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَدِيٍّ الحَافِظُ: سَمِعْتُ عِدَّةً مِنْ مَشَايِخِ بَغْدَادَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيَّ قَدِمَ بَغْدَادَ، فَسَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ الحَدِيثِ، فَاجْتَمَعُوا وَأَرَادُوا امْتِحَانَ حِفْظِهِ، فَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا وَأَسَانِيدَهَا، وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الإِسْنَادِ لِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَإسْنَادَ هَذَا المَتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَكُلَّ إِسْنَادٍ إِلَى مَتْنِهِ، فَأَقَرَّ النَّاسُ لِلبُخَارِيِّ بِالحِفْظِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْفَضْلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَمَا العَجَبُ مِنْ رَدِّهِ الْخَطَأَ إِلَى الصَّوَابِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ حَافِظًا؛ بَلِ العَجَبُ مِنْ حِفْظِهِ لِلْخَطَأِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا أَلْقَوْهُ عَلَيْهِ مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
(9) سَعَةُ حِفْظِهِ
كَانَ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - حَافِظَةَ الحُفَّاظِ، جَمَعَ فَأَوْعَى، فَلَوْ وُضِعَ مَا خَلَّفَ أَضْلُعَهُ مِنَ الأَحَادِيثِ وَالتَّارِيخِ وَالتَّرَاجِمِ فِي كَفَّةٍ، وَوُضِعَ جَبَلٌ فِي كَفَّةٍ؛ لَرَجَحَ مَا خَلَّفَ أَضْلُعَهُ.
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ القَطَّانُ إِمَامُ كَرْمِينِيَّةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيَّ يَقُولُ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ وَأَكْثَرَ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ وَأَكْثَرُ، مَا عِنْدِي حَدِيثٌ إِلَّا أَذْكُرُ إِسْنَادَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ خَمِيرَوَيْهِ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيَّ يَقُولُ: أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَأَحْفَظُ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ.
وَقَالَ الفَرَبْرِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيَّ يَقُولُ: "صَنَّفْتُ الجَامِعَ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ".
وَقَالَ سَلِيمُ بْنُ مُجَاهِدٍ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: لَا أَجِيءُ بِحَدِيثٍ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، إِلَّا عَرَفْتُ مَوْلِدَ أَكْثَرِهِمْ وَوَفَاتَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ.
وَيَكْشِفُ لَنَا البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - أَحَدَ أَسْرَارِ تَوَقُّدِ حَافِظَتِهِ وَعَجِيبَ ذَاكِرَتِهِ حَيْثُ قَالَ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا أَنْفَعَ لِلْحِفْظِ مِنْ نَهْمَةِ الرَّجُلِ، وَمُدَاوَمَةِ النَّظَرِ.
إِنَّ الهِمَّةَ العَالِيَةَ وَشِدَّةَ الاهْتِمَامِ قَدْ صَرَفَهُمَا البُخَارِيُّ فِي العُلُومِ النَّافِعَةِ، فَلَا شَيْءَ يُزَاحِمُهَا. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: كُنْتُ بِنَيْسَابُورَ مُقِيمًا، فَكَانَ تَرِدُ إِلَيَّ مِنْ بُخَارَى كُتُبٌ، وَكُنَّ قَرَابَاتٌ لِي يُقْرِئْنَ سَلَامَهُنَّ فِي الكُتُبِ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ كِتَابًا إِلَى بُخَارَى، وَأَرَدْتُ أَنْ أُقْرِئَهُنَّ سَلَامِي، فَذَهَبَ عَلَيَّ أَسَامِيهِنَّ حِينَ كَتَبْتُ كِتَابِي، وَلَمْ أُقْرِئْهُنَّ سَلَامِي، وَمَا أَقَلَّ مَا يَذْهَبُ عَنِّي مِنَ العِلْمِ!.
(10) البُخَارِيُّ مُحَدِّثًا
أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى إِمَامَةِ البُخَارِيِّ فِي عِلْمِ الحَدِيثِ وَعُلُومِهِ، قَالَ إِمَامُ الأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ إِمَامُ أَهْلِ الحَدِيثِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الحَافِظُ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُنَصِّبُوا آخَرَ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ الحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ وَهُوَ يُثْنِي عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيِّ: لَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِثْلَهُ، كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ إِلَّا لِلْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: لَمْ تُخْرِجْ خُرَاسَانُ قَطُّ أَحْفَظَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَا قَدِمَ مِنْهَا إِلَى العِرَاقِ أَعْلَمُ مِنْهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَاصِمٍ البِيْكَنْدِيُّ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ يَقُولُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ مِنْ كِتَابِي، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: أَوَ تَعْجَبُ مِنْ هَذَا القَوْلِ، لَعَلَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا عَنَى نَفْسَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُولُ: أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَأَحْفَظُ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ غَيْرِ صَحِيحٍ.
(11) البُخَارِيُّ وَعِلْمُ الرِّجَالِ وَالعِلَلِ
عِلْمُ الرِّجَالِ وَعِلْمُ العِلَلِ صَنْعَةُ الإِمَامِ البُخَارِيِّ وَمِهْنَتُهُ، التِي مَارَسَهَا طِيلَةَ حَيَاتِهِ وَأَيَّامَ عُمُرِهِ، فَهُوَ فَارِسُ هَذَا المَيْدَانِ، وَأَحَدُ مُعْجِزَاتِ الزِّمَانِ.
قَالَ سُلَيمُ بْنُ مُجَاهِدٍ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: "لَا أَجِيءُ بِحَدِيثٍ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَّا عَرَفْتُ مَوْلِدَ أَكْثَرِهِمْ وَوَفَاتَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ".
وَقَالَ البُخَارِيُّ: تَفَكَّرْتُ أَصْحَابَ أَنَسٍ، فَحَضَرَنِي فِي سَاعَةٍ ثَلَاثُمِائَةٍ.
وَهَذِهِ المَعْرِفَةُ تُعْرَفُ بِعِلْمِ التَّارِيخِ، وَهِيَ عُدَّةُ المُشْتَغِلِ بِعِلْمِ العِلَلِ، وَلِلْبُخَارِيِّ التَّارِيخُ الكَبِيرُ، وَهُوَ السِّحْرُ الحَلَالُ. وَالتَّارِيخُ الصَّغِيرُ أَوِ الأَوْسَطُ.
لَقَدْ فَاقَ هَذَا الإِمَامُ أَقْرَانَهُ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ الحَافِظُ: رَأَيْتُ البُخَارِيَّ فِي جَنَازَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ يَسْأَلُهُ عَنِ الأَسْمَاءِ وَالعِلَلِ، وَالبُخَارِيُّ يَمُرُّ فِيهِ مِثْلَ السَّهْمِ، كَأَنَّهُ يَقْرَأُ "قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ".
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الخَوَّاصُ: رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ كَالصَّبِيِّ جَالِسًا بَيْنَ يَدَيْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، يَسْأَلُهُ عَنْ عِلَلِ الحَدِيثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الحَافِظُ يَقُولُ (تحذف من الصوت): سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الحَجَّاجِ بَيْنَ يَدَيِ البُخَارِيِّ، يَسْأَلُهُ سُؤَالَ الصَّبِيِّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ القَصَّارُ الأَعْمَشُ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الحَجَّاجِ، وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَقَبَّلَ بَين عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ المُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ أَعْلَمَ بِالعِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الأَسَانِيدِ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ.
(12) البُخَارِيُّ فَقِيهًا
لَقَدْ ضَمَّ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - مَعَ العِلْمِ بِالحَدِيثِ العِلْمَ بِالفِقْهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَيُفَهِّمْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى فَهْمٍ، وَمَنْ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ الحِفْظِ وَالفَهْمِ، فَهُوَ العَالِمُ الفَقِيهُ الذِي يُشَارُ إِلَيْهِ بِالبَنَانِ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الخُزَاعِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ فَقِيهُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَار: هُوَ - يَعْنِي البُخَارِيَّ - أَفْقَهُ خَلْقِ اللهِ فِي زَمَانِنَا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السِّرْمِارِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَقِيهٍ بِحَقِّهِ وَصِدْقِهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى حَجْرِهِ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَّا وَهُوَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَخْبَرَ البُخَارِيُّ عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَرْوِيَ فِي مَجْلِسٍ عَشَرَةَ آلَافِ حَدِيثٍ، فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: اكْتُبُوا عَنْ هَذَا الشَّابِّ - يَعْنِي: البُخَارِيَّ - فَلَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الحَسَنِ لَاحْتَاجَ إِلَيْهِ النَّاسُ؛ لِمَعْرِفَتِهِ بِالحَدِيثِ وَفِقْهِهِ.
وَقَالَ حَاشِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: كُنْتُ بِالبَصْرَةِ، فَسَمِعْتُ قُدُومَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ بُنْدَارٌ: اليَوْمَ دَخَلَ سَيِّدُ الفُقَهَاءِ.
وَعَنْ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَعْلَمُ مَنْ دَخَلَ العِرَاقَ.
(13) شيوخه
لَقَدْ تَتَلْمَذَ البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - وَسَمِعَ مِنْ خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَطَبَقَاتُهُمْ مُتَفَاوِتَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنْ عَوَالِي شُيُوخِهِ وَعَوَالِي طُلَّابِهِ، وَمِنْهُمُ المُتَوَسِّطُونَ وَدُونَ ذَلِكَ، وَفِيهِمُ المُكْثِرُونَ وَالمُتَوَسِّطُونَ وَالمُقِلُّونَ، وَقَالَ: "كَتَبْتُ عَنْ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ نَفْسًا، لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا صَاحِبُ حَدِيثٍ، وَقَالَ أَيْضًا: لَمْ أَكْتُبْ إِلَّا عَمَّنْ قَالَ: الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ".
وَقَالَ وَرَّاقُهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: دَخَلْتُ بَلْخَ، فَسَأَلُونِي أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ لِكُلِّ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ حَدِيثًا، فَأَمْلَيْتُ أَلْفَ حَدِيثٍ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِمَّنْ كَتَبْتُ عَنْهُمْ.
وَمِنْ عَوَالِي شُيُوخِهِ: مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْ مُتَوَسِّطِيهِمْ: عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ ابْنَا أَبِي شَيْبَةَ، وَشُعْبَةُ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَدُونَهُمْ مِثْلُ: أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ، وَقَرِينِهِ العَلَّامَةِ المِصْرِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، وَقَدْ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ البُخَارِيِّ مَا لَا يَخْفَى عَلَى المُطَّلِعِينَ، فَعَفَى اللهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ، وَمِنْ كَمَالِ عَقْلِ البُخَارِيِّ وَإِنْصَافِهِ، رَوَى عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ، لَكِنَّهُ يُدَلِّسُهُ، وَمِنْ حَزْمِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ، تَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمَا فِي صَحِيحِهِ.
وَعَنِ البُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، قَالَ: لَا يَكُونُ المُحَدِّثُ كَامِلًا حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَعَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، وَعَمَّنْ هُوَ دُونَهُ.
(14) تلامذته
لَقَدْ تَتَلْمَذَ لِلْإِمَامِ البُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ -، وَسَمِعَ مِنْهُ سَوَادٌ عَظِيمٌ، لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَهُمْ مُنْتَشِرُونَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةَ: "كُنْتُ أَسْتَمْلِي لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِبَغْدَادَ، فَبَلَغَ مَنْ حَضَرَ المَجْلِسَ عِشْرِينَ أَلْفًا".
وَكَانَ أَهْلُ المَعْرِفَةِ مِنَ البَصْرِيِّينَ يَعْدُونَ 00:33 خَلْفَهُ فِي طَلَبِ الحَدِيثِ وَهُوَ شَابٌّ، حَتَّى يَغْلِبُوهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُجْلِسُوهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ أُلُوفٌ، أَكْثَرُهُمْ مِمَّنْ يُكْتَبُ 00:45 عَنْهُ. وَكَانَ شَابًّا لَمْ يَخْرُجْ وَجْهُهُ.
وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ: أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو بَكْرِ 00:55 بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفَرَبْرِيُّ (01:07) رَاوِي "الصَّحِيحِ"، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَأُمَمٌ لَا يُحْصَوْنَ، وَرَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ فِي غَيْرِ "صَحِيحِهِ".
قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَقِيلَ: إِنَّ النَّسَائِيَّ رَوَى عَنْهُ فِي الصِّيَامِ مِنْ "سُنَنِهِ"، وَلَمْ يَصِحَّ، لَكِنْ قَدْ حَكَى النَّسَائِيُّ فِي كِتَابِ "الكُنَى" لَهُ أَشْيَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ الخَفَّافِ، عَنِ البُخَارِيِّ. وَقَدْ رَتَّبَ أَبُو الحَجَّاجِ المِزِّيُّ شُيُوخَ البُخَارِيِّ وَأَصْحَابَهُ عَلَى المُعْجَمِ كَعَادَتِهِ.
وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الفَرَبْرِيِّ (01:45)، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سَمِعَ كِتَابَ "الصَّحِيحِ" لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ تِسْعُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ يَرْوِيهِ غَيْرِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيُّ: رَوَى "صَحِيحَ" البُخَارِيِّ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ: الفَرَبْرِيُّ (02:03)، وَحَمَّادُ بْنُ شَاكِرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ، وَطَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ النَّسَفِيَّانِ.
وَقَالَ الأَمِيرُ الحَافِظُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا: آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ البُخَارِيِّ بِـ "الصَّحِيحِ"، أَبُو طَلْحَةَ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ البَزْدِيُّ مِنْ أَهْلِ بَزْدَةَ. وَكَانَ ثِقَةً، تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
(15) مُنَاوَأَةُ البُخَارِيِّ
البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - عَلَى عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ وَمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَكُتُبُهُ مِثْلُ "صَحِيحِهِ"، "وَخَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ" وَغَيْرِهَا؛ تَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ، وَشَهِدَ العُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ بِإِمَامَتِهِ وَسَلَامَةِ مُعْتَقَدِهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ: مَا جَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ لَمَّا وَقَعَ فِي شَأْنِهِ مَا وَقَعَ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَالَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَالقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَفْضَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، عَلَى هَذَا حَيِيتُ، وَعَلِيهِ أَمُوتُ، وَعَلِيهِ أُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
فَمَنْ كَانَ شَأْنُهُ الاشْتِغَالَ بِالحَدِيثِ جَمْعًا وَتَنْقِيَةً وَتَصْفِيَةً، يَسِيرُ عَلَى أَثَرِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدِ المُرْسَلِينَ، يَنْهَلُ مِمَّا وَرِثَهُ، وَيَذُبُّ عَنْهُ مَا لَا يَصِحُّ، سَلَفِيَّ العَقِيدَةِ وَالمَنْهَجِ، سَلِيمَ الصَّدْرِ، نَاصِحًا مُخْلِصًا، نَحْسَبُهُ كَذَلِكَ، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا نُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا، وَكِتَابُهُ "الجَامِعُ الصَّحِيحُ المُسْنَدُ"، وَحِيدُ دَهْرِهِ فِي الحَدِيثِ، لَا يُعْرَفُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، إِنَّ مِثْلَ هَذَا الجَبَلِ لَا يَبْغَضُهُ إِلَّا بَغِيضٌ، وَلَا يَسْتَنْقِصُهُ إِلَّا نَاقِصٌ، وَلَا يَطْعَنُ فِي صَحِيحِهِ إِلَّا مَطْعُونٌ فِي عَقِيدَتِهِ، مَجْرُوحٌ فِي دِيَانَتِهِ.
قَالَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ لِلْبُخَارِيِّ: "لَا يَبْغَضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ".
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ المُسْنَدِيُّ: "مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِمَامٌ، فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ إِمَامًا فَاتَّهِمْهُ".
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الخَفَّافُ: حَدَّثَنَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ، العَالِمُ الَّذِي لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِالحَدِيثِ مِنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا بِعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَمَنْ قَالَ فِيهِ شَيْئًا، فَعَلَيهِ مِنِّي أَلْفُ لَعْنَةٍ -.
(16) صَحِيحُ الإِمَامِ البُخَارِيِّ
المُسَمَّى: "الجَامِعَ الصَّحِيحَ المُسْنَدَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتِهِ وَأَيَّامِهِ". وَهُوَ أَصَحُّ الكُتُبِ المُصَنَّفَةِ فِي الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ بِالاتِّفَاقِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "رُوِّينَا بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي هَذِهِ الكُتُبِ كُلِّهَا أَجْوَدَ مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ". انتهى.
إِنَّ كُلَّ مَنْ صَنَّفَ بَعْدَ البُخَارِيِّ عِيَالٌ عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ ثَانِيْ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي جَمْعِ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَهُوَ الإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللهُ –، وَالَّذِي قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيَّ: "لَوْلَا البُخَارِيُّ لَمَا ذَهَبَ مُسْلِمٌ وَلَا جَاءَ". وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: وَأَيَّ شَيْءٍ صَنَعَ مُسْلِمٌ؟! إِنَّمَا أَخَذَ كِتَابَ البُخَارِيِّ، فَعَمِلَ عَلَيْهِ مُسْتَخْرَجًا، وَزَادَ فِيهِ زِيَادَاتٍ".
قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَأَمَّا "الصَّحِيحُ"، فَهُوَ أَعْلَى مَا وَقَعَ لَنَا مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعْتُ الحَدِيثَ، لَوْ رَحَلَ الرَّجُلُ مِنْ مَسِيرَةِ سَنَةٍ لِسَمَاعِهِ لَمَا فَرَّطَ، كَيْفَ وَقَدْ دَامَ عُلُوُّهُ إِلَى عَامِ ثَلَاثِينَ!، وَهُوَ أَعْلَى الكُتُبِ السِّتَّةِ سَنَدًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحَادِيثِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَسَنُّ الجَمَاعَةِ، وَأَقْدَمُهُمْ لُقْيَا لِلْكِبَارِ، أَخَذَ عَنْ جَمَاعَةٍ يَرْوِي الأَئِمَّةُ الخَمْسَةُ عَنْ رَجُلٍ عَنْهُمْ".
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: تَحْفَظُ جَمِيعَ مَا أَدْخَلْتَ فِي المُصَنَّفِ؟، فَقَالَ: لَا يَخْفَى عَلَيَّ جَمِيعُ مَا فِيهِ.
(17) البَاعِثُ عَلَى جَمْعِ الصَّحِيحِ
إِنَّ البَاعِثَ لِلْبُخَارِيِّ عَلَى تَصْنِيفِ صَحِيحِهِ: أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللهُ - رَأَى عَدَمَ وُجُودِ مُصَنَّفٍ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَاصَّةً مُجَرَّدًا عَنْ كَثْرَةِ الآثَارِ وَالأَقْوَالِ. وَقَوَّى هِمَّتَهُ مَا سَمِعَهُ مِنْ شَيْخِهِ الإِمَامِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: كُنَّا عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ: لَوْ جَمَعْتُمْ كِتَابًا مُخْتَصَرًا لِصَحِيحِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –، قَالَ: فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلْبِي، فَأَخَذْتُ فِي جَمْعِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرُوِّينَا بِالإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَأَنَّنِي وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِيَدِي مِرْوَحَةٌ أَذُبُّ بِهَا عَنْهُ، فَسَأَلْتُ بَعْضَ المُعَبِّرِينَ فَقَالَ لِي: أَنْتَ تَذُبُّ عَنْهُ الكَذِبَ. فَهُوَ الذِي حَمَلَنِي عَلَى إِخْرَاجِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ.
رَوَى الإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْهُ قَالَ: لَمْ أُخَرِّجْ فِي هَذَا الكِتَابِ إِلَّا صَحِيحًا.
لَقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صَحِيحَ البُخَارِيِّ أَصَحُّ وَأَنْفَعُ كِتَابٍ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَصَحُّهَا صَحِيحًا، وَأَكْثَرُهَا فَوَائِدَ.
إِنَّ صَحِيحَ البُخَارِيِّ كِتَابٌ جَامِعٌ عَظِيمُ النَّفْعِ، كَبِيرُ القَدْرِ، لَيْسَ لِأَنَّهُ جَمَعَ الأَحَادِيثَ المَقْطُوعَ بِصِحَّتِهَا، وَغَالِبُهَا فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ، وَرُوَاتُهَا فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّوْثِيقِ فَحَسْبُ؛ بَلْ أَوْدَعَ فِيهِ أُصُولَ الأَحْكَامِ، وَأَثْرَاهُ بِالفَوَائِدِ الكَبِيرَةِ، وَالاسْتِنْبَاطَاتِ الفِقْهِيَّةِ الدَّقِيقَةِ المُوجَزَةِ، وَالَّتِي تَشْهَدُ بِتَضَلُّعِهِ فِي العُلُومِ وَالفُنُونِ.
(18) شَرْطُ البُخَارِيِّ
شَرَطَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَتَحَرِّيهِ أَشَدَّ مِنْ شَرْطِ وَتَحَرِّي غَيْرِهِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَدَالَةِ رِجَالِ الإِسْنَادِ، وَبِاتِّصَالِ السَّنَدِ، وَبِسَلَامَةِ الحَدِيثِ مِنَ العِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ قَادِحَةٍ.
فَفِي الجُمْلَةِ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ فَهُوَ عَلَى شَرْطِ غَيْرِهِ دُونَ العَكْسِ.
لَقَدِ الْتَزَمَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنْ لَا يُخَرِّجَ إِلَّا الحَدِيثَ المُتَّفَقَ عَلَى ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ المَشْهُورِ، مُعْتَمِدًا فِي الأُصُولِ غَالِبًا عَلَى الرُّوَاةِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، وَطُولِ المُلَازَمَةِ لِلشَّيْخِ فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَارَسُوا حَدِيثَهُ. وَيَكُونَ إِسْنَادُهُ مُتَّصِلًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ، حَتَّى شَدَّدَ فِي الإِسْنَادِ المُعْنَعَنِ، فَلَمْ يَكْتَفِ بِتَعَاصُرِ المُعَنْعِنِ وَمَنْ عَنْعَنَ عَنْهُ حَتَّى يَثْبُتَ اجْتِمَاعُهُمَا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ.
لَمْ يَأْخُذِ البُخَارِيُّ عَلَى نَفْسِهِ اسْتِيعَابَ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُولُ: مَا أَدْخَلْتُ فِي هَذَا الكِتَابِ إِلَّا مَا صَحَّ، وَتَرَكْتُ مِنَ الصِّحَاحِ كَيَ لَا يَطُولَ الكِتَابُ.
لَقَدْ ذَاعَ صِيتُ الصَّحِيحِ، وَانْكَبَّ طَلَبَةُ العِلْمِ عَلَى سَمَاعِهِ وَحِفْظِهِ وَدِرَاسَةِ مَا بَيْنَ دَفَّتَيْهِ، وَذَكَرَ الفَرَبْرِيُّ: "أَنَّ صَحِيحَ البُخَارِيِّ سَمِعَهُ مِنْهُ تِسْعُونَ أَلْفًا".
لَقَدْ تَسَابَقَ العُلَمَاءُ عَلَى خِدْمَةِ "الجَامِعِ الصَّحِيحِ" بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّصَانِيفِ فِي مُخْتَلِفِ الفُنُونِ، وَاجْتَهَدُوا فِي شَرْحِهِ وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهِ، وَتَوْضِيحِ لَطَائِفِهِ وَنُكَتِهِ، وَتَبْيِينِ مَبْنَاهُ وَمَغْزَاهُ.
(19) تَثَبُّتُ البُخَارِيِّ فِي الحَدِيثِ
مَا أَشَدَّ انْتِقَاءَ البُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللهُ - لِأَحَادِيثِ جَامِعِهِ الصَّحِيحِ!
قَالَ الفَرَبْرِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيَّ يَقُولُ: "صَنَّفْتُ الجَامِعَ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَعَلْتُهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللهِ".
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ العُقَيْلِيُّ: لَمَّا أَلَّفَ البُخَارِيُّ كِتَابَ الصَّحِيحِ عَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ وَغَيْرِهِمْ، فَاسْتَحْسَنُوهُ وَشَهِدُوا لَهُ بِالصِّحَّةِ، إِلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، قَالَ العُقَيْلِيُّ: وَالقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ البُخَارِيِّ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الوَرَّاقُ: "كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ إِذَا كُنْتُ مَعَهُ فِي سَفَرٍ يَجْمَعُنَا بَيْتٌ وَاحِدٌ إِلَّا فِي القَيْظِ، فَكُنْتُ أَرَاهُ يَقُومُ فِي اللَّيْلَةِ الوَاحِدَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً إِلَى عِشْرِينَ مَرَّةً، فِي كُلِّ ذَلِكَ يَأْخُذُ القَدَّاحَةَ فَيُورِي نَارًا بِيَدِهِ، وَيُسْرِجُ وَيُخَرِّجُ أَحَادِيثَ فَيُعَلِّمُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَضَعُ رَأْسَهُ".
قَالَ البُخَارِيُّ: لَمْ تَكُنْ كِتَابَتِي لِلْحَدِيثِ كَمَا كَتَبَ هَؤُلَاءِ. كُنْتُ إِذَا كَتَبْتُ عَنْ رَجُلٍ سَأَلْتُهُ عَنِ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ وَنِسْبَتِهِ وَحَمْلِهِ الحَدِيثَ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ فَهِمًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَأَلْتُهُ أَنْ يُخْرِجَ إِلَيَّ أَصْلَهُ وَنُسْخَتَهُ. فَأَمَّا الآخَرُونَ لَا يُبَالُونَ مَا يَكْتُبُونَ، وَكَيْفَ يَكْتُبُونَ.
(20) تَفْضِيلُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ
انْعَقَدَ اتِّفَاقُ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ صَحِيحَ البُخَارِيِّ أَصَحُّ كِتَابٍ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّرْتِيبُ وَالتَّنْسِيقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَخَارِجٌ عَنِ الاتِّفَاقِ.
قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحِيحِ البُخَارِيُّ، وَتلَاهُ مُسْلِمٌ، وَمُسْلِمٌ مَعَ أَنَّهُ أَخَذَ عَنِ البُخَارِيِّ وَاسْتَفَادَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُشَارِكُ البُخَارِيَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ شُيُوخِهِ، وَكِتَابَاهُمَا أَصَحُّ الكُتُبِ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ العَزِيزِ. وَأَمَّا مَا رُوِّينَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ كِتَابًا فِي العِلْمِ أَكْثَرَ صَوَابًا مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ، قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ - يَعْنِي بِلَفْظٍ أَصَحَّ مِنَ المُوَطَّأِ -، فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ كِتَابَيِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، ثُمَّ إِنَّ كِتَابَ البُخَارِيِّ أَصَحُّ الكِتَابَيْنِ صَحِيحًا وَأَكْثَرُهُمَا فَوَائِدَ، وَأَمَّا مَا رُوِّينَاهُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الحَافِظِ النَّيْسَابُورِيِّ أُسْتَاذِ الحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الحَافِظِ، مِنْ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَصَحَّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمِ بْنِ الحَجَّاجِ، فَهَذَا وَقَوْلُ مَنْ فَضَّلَ مِنْ شُيُوخِ المَغْرِبِ كِتَابَ مُسْلِمٍ عَلَى كِتَابِ البُخَارِيِّ، إِنْ كَانَ المُرَادُ بِهِ أَنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يُمَازِجْهُ غَيْرُ الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَعْدَ خُطْبَتِهِ إِلَّا الحَدِيثَ الصَّحِيحَ مَسْرُودًا غَيْرَ مَمْزُوجٍ بِمِثْلِ مَا فِي كِتَابِ البُخَارِيِّ فِي تَرَاجِمِ أَبْوَابِهِ مِنَ الأَشْيَاءِ التِي لَمْ يُسْنِدْهَا عَلَى الوَصْفِ المَشْرُوطِ فِي الصَّحِيحِ؛ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ أَرْجَحُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِ الصَّحِيحِ عَلَى كِتَابِ البُخَارِيِّ، وَإِنْ كَانَ المُرَادُ بِهِ أَنَّ كِتَابَ مُسْلِمٍ أَصَحُّ صَحِيحًا؛ فَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ يَقُولُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رُوِّينَا بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ، وَهُوَ شَيْخُ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي هَذِهِ الكُتُبِ كُلِّهَا أَجْوَدُ مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ.
(21) نَقْدُ أَحَادِيثَ بِالصَّحِيحِ
الكَمَالُ المُطْلَقُ لِكِتَابِ اللهِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الصَّحِيحَانِ فَلَهُمَا مُطْلَقُ الكَمَالِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الجَهْمِ:
وَمَنْ ذَا الذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّهَا كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهْ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ العُقَيْلِيُّ: لَمَّا صَنَّفَ البُخَارِيُّ كِتَابَ الصَّحِيحِ، عَرَضَهُ عَلَى ابْنِ المَدِينِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِمْ، فَاسْتَحْسَنُوهُ وَشَهِدُوا لَهُ بِالصِّحَّةِ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، قَالَ العُقَيْلِيُّ: وَالقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ البُخَارِيِّ وَهِيَ صَحِيحَةٌ.
وَحَكَى الإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ الإِجْمَاعَ عَلَى تَلَقِّي صَحِيحِ البُخَارِيِّ بِالقَبُولِ، وَالتَّسْلِيمِ لِصِحَّةِ جَمِيعِ مَا فِيهِ، إِلَّا مَوَاضِعَ يَسِيرَةً انْتَقَدَهَا عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيَّ وَغَيْرُهُ.
وَهَذِهِ الانْتِقَادَاتُ اليَسِيرَةُ - إِلَّا مَا نَدَرَ مِنْهَا - مَحَلُّ النَّقْدِ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغِ الدَّرَجَةَ العُلْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً.
وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الانْتِقَادَاتِ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي مُقَدِّمَتِهِ "هَدْيِ السَّارِي" بِجَوَابٍ مُجْمَلٍ عَامٍّ، وَجَوَابٍ مُفَصَّلٍ خَاصٍّ بِكُلِّ حَدِيثٍ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي الجَوَابِ المُجْمَلِ: "وَعِدَّةُ مَا اجْتَمَعَ لَنَا مِنْ ذَلِكَ مِمَّا فِي كِتَابِ البُخَارِيِّ وَإِنْ شَارَكَهُ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِهِ مِائَةً وَعَشَرَةَ أَحَادِيثَ ... وَالجَوَابُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ أَنْ نَقُولَ: لَا رَيْبَ فِي تَقْدِيمِ البُخَارِيِّ ثُمَّ مُسْلِمٍ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِمَا وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الفَنِّ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ وَالمُعَلَّلِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ عَلِيَّ بْنَ المَدِينِيِّ كَانَ أَعْلَمَ أَقْرَانِهِ بِعِلَلِ الحَدِيثِ، وَعَنْهُ أَخَذَ البُخَارِيُّ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ: مَا اسْتَصْغَرْتُ نَفْسِي عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ إِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنِ البُخَارِيِّ يَقُولُ: دَعُوا قَوْلَهُ فَإِنَّهُ مَا رَأَى مِثْلَ نَفْسِهِ.
فَإِذَا عُرِفَ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُمَا لَا يُخَرِّجَانِ مِنَ الحَدِيثِ إِلَّا مَا لَا عِلَّةَ لَهُ، أَوْ لَهُ عِلَّةٌ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ عِنْدَهُمَا، فَبِتَقْدِيرِ تَوْجِيهِ كَلَامِ مَن انْتَقَدَ عَلَيْهِمَا، يَكُونُ قَوْلُهُ مُعَارِضًا لِتَصْحِيحِهِمَا، وَلَا رَيْبَ فِي تَقْدِيمِهِمَا فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَيَنْدَفِعُ الاعْتِرَاضُ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةُ".
(22) نَقْدُ رُوَاةٍ بِالصَّحِيحِ
البُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - صَيْرَفِيُّ الرُّوَاةِ، فَهُوَ يَنْتَقِي مِنَ الثِّقَاتِ أَوْثَقَهُمْ، وَمِنْ صَحِيحِ مَرْوِيَّاتِهِمْ أَصَحَّهَا؛ لِيُخَرِّجَ فِي صَحِيحِهِ مَنْ يَحْتَلُّ أَعْلَى مَرَاتِبِ التَّوْثِيقِ، وَيُودِعَ فِيهِ مَا اسْتَقَامَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ، وَمَا هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّحَّةِ، وَمُعْظَمُ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِمْ لَمْ يَكُنِ الكَلَامُ فِيهِمْ قَادِحًا، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ تَخْرِيجِ أَحَادِيثِهِمْ، وَيَنْتَقِي مِنْ أَحَادِيثِهِمْ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَحِيحٌ، وَأَكْثَرُ أُولَئِكَ مِنْ شُيُوخِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِهِمْ وَصَحِيحِ أَحَادِيثِهِمْ، وَمُعْظَمُهَا يُورِدُهُ فِي الشَّوَاهِدِ وَالمُتَابَعَاتِ لَا فِي الأُصُولِ.
كَمَا أَجَابَ عَنِ الطَّعْنِ المُوَجَّهِ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، خَاصَّةً الَّذِينَ أَخْرَجَ لَهُمْ فِي الأُصُولِ وَاحِدًا وَاحِدًا. وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ المَقْدِسِيُّ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ الَّذِي يُخَرَّجُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ: "هَذَا جَازَ القَنْطَرَةَ"؛ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَا قِيلَ فِيهِ.
إِنَّ الأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَتَلَقِّيهَا لِأَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ بِالقَبُولِ يَجْعَلُنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ تِلْكَ الأَحَادِيثَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَحَادِيثَ مَعْدُودَةً عَلَى الأَصَابِعِ فِيهَا نَظَرٌ.
وتسمية الأمة لهما بالصحيحين يدل على أن ما أخرجا له في الأصول لا الشواهد والمتابعات تعديل وفي الجملة فرواتهما من أهل الصدق.
(23) عَدَدُ أَحَادِيثِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ
يَخْتَلِفُ العَدَدُ بِاخْتِلَافِ مَنْهَجِ العَادِّينَ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الحَدِيثِ، وَوَافَقَهُ النَّوَوِيُّ: "عَدَدُ أَحَادِيثِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ (يَعْنِي المُسْنَدَةَ)؛ سَبْعَةُ آلَافٍ وَمِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ بِالأَحَادِيثِ المُكَرَّرَةِ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهَا بِإِسْقَاطِ المُكَرَّرِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ".
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَجَمِيعُ أَحَادِيثِهِ بِالمُكَرَّرِ - سِوَى المُعَلَّقَاتِ وَالمُتَابَعَاتِ - عَلَى مَا حَرَّرْتُهُ وَأَتْقَنْتُهُ سَبْعَةُ آلَافٍ وَثَلَاثُ مِائَةٍ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ حَدِيثًا.
فَجُمْلَةُ مَا فِي الكِتَابِ مِنَ التَّعَالِيقِ: أَلْفٌ وَثَلَاثُ مِائَةٍ وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا، وَأَكْثَرُهَا مُكَرَّرٌ مُخَرَّجٌ فِي الكِتَابِ أُصُولِ مُتُونِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ المُتُونِ التِي لَمْ تُخَرَّجْ فِي الكِتَابِ وَلَوْ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَّا مِائَةٌ وَسِتُّونَ حَدِيثًا، قَدْ أَفْرَدْتُهَا فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ لَطِيفٍ مُتَّصَلِةَ الأَسَانِيدِ إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ.
وَجُمْلَةُ مَا فِيهِ مِنَ المُتَابَعَاتِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثًا.
فَجَمِيعُ مَا فِي الكِتَابِ عَلَى هَذَا بِالمُكَرَّرِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ حَدِيثًا.
وَهَذِهِ العِدَّةُ خَارِجٌ عَنِ المَوْقُوفَاتِ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَالمَقْطُوعَاتِ عَنِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْتُ وَصْلَ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ "تَغْلِيقِ التَّعْلِيقِ".
(24) تَعْلِيقَاتُ البُخَارِيِّ
مَا عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، سَوَاءٌ بِصِيَغةِ الجَزْمِ كَقَالَ، أَوْ بِصِيغَةِ التَّمَرُّضِ كَقِيلَ؛ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَوْضُوعِ الكِتَابِ وَشَرْطِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ عُنْوَانِهِ؛ "الجَامِعِ الصَّحِيحِ المُسْنَدِ"، وَالمُعَلَّقُ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِمُسْنَدٍ؛ لِذَا فَإِنَّ الانْتِقَادَاتِ المُوَجَّهَةَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ أَوِ المَتْنُ لَا تَطْعَنُ فِي مَوْضُوعِ الكِتَابِ وَأَصْلِهِ.
وَالمُرَادُ بِالتَّعْلِيقِ مَا حُذِفَ مِنْ مُبْتَدَأِ إِسْنَادِهِ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَلَوْ إِلَى آخِرِ الإِسْنَادِ.
فَمَا عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، إِنْ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الجَزْمِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي اتِّفَاقِ الأُمَّةِ عَلَى تَلَقِّي صَحِيحِهِ بِالقَبُولِ، وَإِنْ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فَمِنْهُ الصَّحِيحُ، وَمِنْهُ الضَّعِيفُ المَقْبُولُ الذِي العَمَلُ مُوَافِقٌ لَهُ، وَمِنْهُ الضَّعِيفُ غَيْرُ المَقْبُولِ، وَهُوَ الذِي لَا عَاضِدَ لَهُ، وَهُوَ نَادِرٌ، وَيُنَبِّهُ البُخَارِيُّ عَلَى ضَعْفِهِ.
وَالبُخَارِيُّ مُعْتَدِلٌ فِي الحُكْمِ عَلَى الرِّجَالِ، يَتَوَرَّعُ وَيَتَحَفَّظُ فِي عِبَارَاتِ الجَرْحِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي تَعَالِيقِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ صِيغَةِ الجَزْمِ وَصِيغَةِ التَّمْرِيضِ.
وَقَدْ أَفْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ تَصْنِيفًا حَافِلًا سَمَّاهُ: "تَغْلِيقَ التَّعْلِيقِ"، ذَكَرَ فِيهِ جَمِيعَ التَّعْلِيقَاتِ المَرْفُوعَةِ وَالمَوْقُوفَةِ، وَذَكَرَ مَنْ وَصَلَهَا.
وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.