أَحْسَنُ الذِّكْر
1
ثَبَتَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ). رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ شَامِيٌّ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ الشَّامِيِّينَ قَوِيَّةٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَينَ سَلمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: ما شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ، قَالَ: فَإنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ، فلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخِرِ اللَّيْلِ، قالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: "إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ".
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)). رواه البُخاري.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا).
لَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَى عِبَادِهِ، وَأَوْجَبَ لِعِبَادِهِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ حُقُوقًا، وَفَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الحُقُوقِ، وَأَعْظَمُ الخَلْقِ حَقًّا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِلْآبَاءِ وَالأَوْلَادِ وَالأَزْوَاجِ وَالأَرْحَامِ وَالأَقْرِبَاءِ مِنَ النَّسَبِ وَالمُصَاهَرَةِ وَالجِيرَانِ وَالأَصْحَابِ وَالمُسْلِمِينَ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ حُقُوقٌ لَابُدَّ مِنْ أَدَائِهَا، وَمُرَاقَبَةِ اللهِ فِي القِيَامِ بِهَا.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
2
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ. قَالَ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ؛ فَيَتَّكِلُوا». متفق عليه.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
فَحَقُّ اللهِ جَلَّ وَعَلَا هُوَ تَوْحِيدُهُ بِإِخْلَاصِ الطَّاعَةِ لَهُ، وَعُبُودِيَّتُهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَفِعْلِ الوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، فَمَنْ أَخْفَقَ فِي هَذَا الحَقِّ فَتَعَدَّى حُدُودَ اللهِ، وَانْتَهَكَ مَحَارِمَهُ، وَضَيَّعَ فَرَائِضَهُ، أَوْ جَعَلَ مَعَهُ مَعْبُودًا آخَرَ كَصَنَمٍ أَوْ وَثَنٍ، أَوْ صَرَفَ لِمَخْلُوقٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ؛ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ).
أَمَّا الهَوَى، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الهَوَى، فَشَرُّ إِلَهٍ يُعْبَدُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَشَرُّ مَتْبُوعٍ لِتَابِعٍ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)؛ أي: آثَرُوا اتِّبَاعَ مَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ أَهْوَاؤُهُمْ وَشَهَوَاتُهُمْ، وَأَمَّلَتْهُ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمُ الشِّرِّيرَةُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ.
عِبَادَ اللهِ: تَعِسَ عَبْدُ الدُّنْيَا، ذَلِكُمُ الإِنْسَانُ الذِي يَلْهَثُ بِشَغَفٍ وَرَاءَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالوَظِيفَةِ وَالرِّئَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى فَرَّطَ فِي جَنْبِ اللهِ.
وَهَنِيئًا لِمَنْ أَدَّى حَقَّ اللهِ الذِي لَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَفِي الصِّحَّةِ وَالابْتِلَاءِ، وَفِي اليُسْرِ وَالعُسْرِ، وَفِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَفِي الخَلْوَةِ وَالجَلْوَةِ، وَفِي السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
3
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً". متفق عليه.
وَقَدْ جَاءَ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا).
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ وَخَاتَمَ رُسُلِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى "الجِنِّ وَالإِنْسِ"، إِلَى "العَرَبِ وَالعَجَمِ"، إِلَى "الأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ"، فَمَنْ تَرَدَّدَ فِي عُمُومِ رِسَالَتِهِ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ". رواه مسلم.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَقَدْ حُسِّنَ لِشَوَاهِدِهِ.
إِنَّ حَقَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا: الإِيمَانُ بِهِ، وَبِمَا جَاءَ عَنْهُ، تَصْدِيقًا كَامِلًا، وَإِقْرَارًا تَامًّا، يَنْبَعِثُ عَنْهُ إِذْعَانٌ وَخُضُوعٌ، وَانْقِيَادٌ وَتَسْلِيمٌ، لِكُلِّ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ المُتَعَلِّقَةِ بِكَافَّةِ شُؤُونِ الحَيَاةِ، وَتَصْدِيقُ أَخْبَارِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُخْرَوِيَّةِ، وَاتِّبَاعُ هَدْيِهِ وَالتَّمَسُّكُ بِسُنَّتِهِ، فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَلَا يُنْقَصُ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". رواه البخاري.
وَمِنْ حَقِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَحَبَّتُهُ المُقَدَّمَةُ عَلَى مَحَبَّةِ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الآنَ يَا عُمَرُ). رواه البخاري
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). متفق عليه.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
4
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». متفق عليه.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: (رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ - أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا - فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ). رواه مسلم.
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ ثَلَاثًا. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ .. الحديث». متفق عليه.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَقَدْ حُسِّنَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا).
لَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِرَّ الوَالِدَيْنِ فِي القُرْآنِ بِتَوْحِيدِهِ، الذِي هُوَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَى العِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
إِنَّ الوَاقِعَ اليَوْمَ يَشْهَدُ بِأَنَّ المُجْتَمَعَاتِ الإِسْلَامِيَّةَ بَاتَتْ تَعِيشُ حَالَاتِ عُقُوقٍ كَثِيرَةً، وَظَاهِرَةَ تَقْصِيرٍ وَتَفْرِيطٍ فِي جَنْبِ الوَالِدَيْنِ، لَقَدْ ضَيَّعَ كَثِيرٌ مِنَ الأَوْلَادِ حُقُوقَ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ؛ فَانْشَغَلُوا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُؤَانَسَتِهِمْ، وَتَكَاسَلُوا عَنْ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَتَلْبِيَةِ طَلَبَاتِهِمْ، وَتَحْقِيقِ رَغَبَاتِهِمْ.
إِنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى وُجُودِهِمْا فَوْقَ سَطْحِ الأَرْضِ أَحْيَاءً، بَلْ يَبْقَى أَنْوَاعٌ مِنَ البِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا كَذَلِكَ؛ وَمِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ لَهُمَا، وَقَضَاءُ دُيُونِهِمَا، وَالصَّدَقَةُ عَنْهُمَا، وَإِنْفَاذُ وَصِيَّتِهِمَا، وَالوَفَاءُ بِعَهْدِهِمَا، وَتَعَاهُدُ أَوْلَادِهِمَا، وَصِلَةُ قَرِيبِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
5
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ». متفق عليه.
لَقَدِ انْتَفَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِهَذَا الحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، كَانَتْ أُمُّهُ فِي بَيْتٍ وَهُوَ فِي آخَرَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أُمَّاهُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَتَقُولُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا بُنَيَّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَيَقُولُ: رَحِمَكِ اللهُ كَمَا رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا. فَتَقُولُ: رَحِمَكَ اللهُ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا). رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي "البِرِّ وَالصِّلَةِ" عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلِي حَمْلَ أُمِّهِ إِلَى المَرْفِقِ وَيُنْزِلُهَا عَنْهُ، وَكَانَتْ مَكْفُوفَةً كَبِيرَةً».
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ".
وَعَنْ أَبِى بُرْدَةَ؛ أَنَّهُ شَهِدَ ابْنَ عُمَرَ، وَرَجُلٌ يَمَانِيٌّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ - حَمَلَ أُمَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ - يَقُولُ:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ ... ... إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ
ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ! أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟ قَالَ: لَا. وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ. رَوَاهُمَا البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: (حَمَلْتُ أُمِّي عَلَى رَقْبَتِي مِنْ خُرَاسَانَ حَتَّى قَضَيْتُ بِهَا مَنَاسِكَ الحَجِّ، أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟. قَالَ: لَا، وَلَا بِطَلْقَةٍ مِنْ طَلَقَاتِهَا). ذَكَرَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي البِرِّ وَالصِّلَةِ.
الوَالِدَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الوَالِدَةُ؟، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أُمٌّ لَا يَزَالُ فِيهَا عِرْقٌ يَنْبِضُ فَلْيَلْزَمْ قَدَمَيْهَا؛ فَإِنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا. وَلْيَتَقَصَّدْ دَعَوَاتِهَا المُبَارَكَةَ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ صَلَاحِ الأُمُورِ وَدَفْعِ الشُّرُورِ فِي رَفْعِ كَفَّيْهَا.
وَفِي الحَدِيثِ: (ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَدْ حُسِّنَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ: (وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ).
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
6
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ».
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ خَيْرُ التَّابِعِينَ، وَفِي حَدِيثِهِ فَضْلُ بِرِّ الوَالِدَيْنِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: أُمِّي، قَالَ: فَأَبْلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرًا فِي بِرِّهَا، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهدٌ إِذَا رَضِيَتْ عَنْكَ أُمُّكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَبَرَّهَا". رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَابْنُ الجَوْزِيِّ فِي البِرِّ، قَالَ المُنْذِرُ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَحَسَّنَهُ العِرَاقِيُّ وَالهَيْثَمِيُّ.
يَا لَلَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمْ فَرَّطْنَا فِي أُجُورٍ عَظِيمَةٍ!
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟، قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكُمُ البِرّ، كَذَلِكُمُ البِرّ». رَوَاهُ الحَاكِمُ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَفِي البِرِّ وَالصِّلَةِ لِابْنِ الجَوْزِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرَّ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ بِأُمِّهِمَا: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَأَمَّا عُثْمَانُ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَا قَدَرْتُ أَنْ أَتَأَمَّلَ أُمِّي مُنْذُ أَسْلَمْتُ. وَأَمَّا حَارِثَةُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَفْلِي رَأْسَ أُمِّهِ، وَيُطْعِمُهَا بِيَدِهِ، وَلَمْ يَسْتَفْهِمْهَا كَلَامًا قَطُّ تَأْمُرُ بِهِ، حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ عِنْدَهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ، مَاذَا قَالَتْ أُمِّي؟.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ: بَاتَ أَخِي عُمَرُ يُصَلِّي، وَبِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ.
وَعَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ: «يَغْسِلُ رَأْسَ أُمِّهِ بِالخَطْمِيِّ، وَيُمَشِّطُهَا، وَيُقَبِّلُهَا، ويُخَضِّبُهَا».
وَعَنِ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: «اسْتَسْقَتْ أُمُّ مِسْعَرٍ مَاءً مِنْهُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، فَذَهَبَ، فَجَاءَهَا بِقِرْبَةِ مَاءٍ، فَوَجَدَهَا قَدْ ذَهَبَ بِهَا النَّوْمُ، فَبَاتَ بِالشُّرْبَةِ عِنْدَ رَأْسِهَا حَتَّى أَصْبَحَ».
وَكَانَ حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، أَحَدُ العُلَمَاءِ، تَأْتِيهِ أُمُّهُ فِي مَجْلِسِ تَعْلِيمِهِ لِلتَّلَامِيذِ، فَتَقُولُ لَهُ: قُمْ يَا حَيْوَةُ فَاعْلِفِ الدَّجَاجَ، فَيَقُومُ وَيَتْرُكُ التَّعْلِيمَ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
7
ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ". متفق عليه.
وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، حَفِظَ ذَلِكَ أَوْ ضَيَّعَهُ».
إِنَّ مِنْ مَهَامِّ الأَبِ وَمَسْؤُولِيَّتِهِ مَعَ أَوْلَادِهِ: تَعْلِيمَهُمْ وَتَأْدِيبَهُمْ وَتَرْبِيَتَهُمْ.
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ». وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِرَجُلٍ: "أَدِّبِ ابْنَكَ، فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ وَلَدِكَ، مَاذَا أَدَّبْتَهُ؟ وَمَاذَا عَلَّمْتَهُ؟، وَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِهِ لَكَ". رَوَاهُمَا البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ - : "قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُ الوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ حَقًّا، فَلِلابْنِ عَلَى أَبِيهِ حَقٌّ، فَكَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، قَالَ أَيْضًا: (قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ)، فَوَصِيَّةُ اللهِ لِلْآبَاءِ بِأَوْلَادِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى وَصِيَّةِ الأَوْلَادِ بِآبَائِهِمْ، فَمَنْ أَهْمَلَ تَعْلِيمَ وَلَدِهِ مَا يَنْفَعُهُ وَتَرَكَهُ سُدًى، فَقَدْ أَسَاءَ غَايَةَ الإِسَاءَةِ، وَأَكْثَرُ الأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الآبَاءِ، وَإِهْمَالِهِمْ لَهُمْ، وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ فَرَائِضَ الدِّينِ وَسُنَنَهُ، فَأَضَاعُوهُمْ صِغَارًا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ كِبَارًا، كَمَا عَاتَبَ بَعْضُهُمْ وَلَدَهُ عَلَى العُقُوقِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ عَقَقْتَنِي صَغِيرًا، فَعَقَقْتُكَ كَبِيرًا، وَأَضَعْتَنِي وَلِيدًا فَأَضَعْتُكَ شَيْخًا".
أيها الوالدان: إِنَّ لَكُمَا دَوْرًا فَعَّالًا فِي تَوَجُّهِ وَلَدِكُمَا الدِّينِيِّ إِيْجَابًا وَسَلْبًا، فَاتَّقُوا اللهَ فِي أَوْلَادِكُمْ!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ». رواه البخاري.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
8
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ». متفق عليه.
زَادَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: "وَعَرْفُهَا يُوجَدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا"، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ".
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ المُسْلِمِينَ - وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً» - فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ». متفق عليه.
مَا أَعْظَمَهَا مِنْ مَسْؤُولِيَّةً، وَمَا أَثْقَلَهَا مِنْ أَمَانَةٍ، فَكُلُّ قَائِدٍ وَمُعَلِّمٍ وَمُرَبٍّ، وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعْرِيفِ مَنْ تَحْتَ مَسْؤُولِيَّتِهِ وَرِعَايَتِهِ: مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَنْ يَسْعَى حَثِيثًا فِي تَهْيَئَةِ الأَسْبَابِ المُعِينَةِ لَهُمْ عَلَى إِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَأَنْ يَجْلِبَ لَهُمْ وَسَائِلَ الخَيْرِ المَقْرُوءَةَ وَالمَسْمُوعَةَ وَالمَرْئِيَّةَ، التِي تَغْرِسُ الفَضِيلَةَ، وَتُوَجِّهُ إِلَى الآدَابِ الجَمِيلَةِ، وَالمَبَادِئِ وَالقِيَمِ الحَمِيدَةِ، وَإِلَى المُرُوءَةِ وَمَعَالِي الأُمُورِ، وَأَنْ يُجَنِّبَهُمْ وَسَائِلَ الشَّرِّ وَعَوَامِلَ الهَدْمِ بِأَنْوَاعِهَا؛ حَتَّى لَا تَشْغَلَهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَتُفْسِدَ دِينَهُمْ وَأَخْلَاقَهُمْ، وَتُضْعِفَ هِمَمَهُمْ عَنْ تَحْصِيلِ العِلْمِ النَّافِعِ، وَتَعُوقَهُمْ عَنِ المُسَابَقَةِ وَالمُنَافَسَةِ عَلَى الخَيْرِ بِأَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ.
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". متفق عليه.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
9
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ». حَدِيثٌ صَحِيحٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَفِيهِ: «احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».
مَا أَعْظَمَهُ مِنْ حَدِيثٍ، وَمَا أَجَلَّهُ مِنْ تَعْلِيمٍ وَتَوْجِيهٍ وَتَرْبِيَةٍ، فَلَوْ أَخَذْنَا بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا، فَصِرْنَا لِأَوْلَادِنَا قُدْوَةً صَالِحَةً، يَسْمَعُونَ تِلْكَ الجُمَلَ دَائِمًا وَأَبَدًا مِنَّا، وَيَتَلَقَّوْنَ التَّطْبِيقَ بِاسْتِمْرَارٍ عَنَّا، وَنُفْهِمُهُمْ مَعَانِيَهُ، وَنُوَضِّحُ لَهُمْ مَغَازِيَهُ، وَنُتَرْجِمُ لَهُمْ تِلْكَ الإِرْشَادَاتِ المُبَارَكَةَ عَمَلِيًّا فِي حَيَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ المُتَغَيِّرَةِ، وَأَحْوَالِنَا المُتَجَدِّدَةِ المُتَقَلِّبَةِ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَفِي الحُلْوَةِ وَالمُرَّةِ، وَفِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ؛ لَعِشْنَا وَعَاشُوا فِي رَاحَةِ بَالٍ، وَسُكُونِ قَلْبٍ، وَطُمَأْنِينَةِ فُؤَادٍ، وَطِيبِ نَفْسٍ، وَسَعَادَةٍ دَائِمَةٍ، وَنَجَاحٍ فِي الدُّنْيَا، وَفَلَاحٍ فِي الآخِرَةِ.
وَرَحَى مَعَانِي هَذَا الحَدِيثِ تَدُورُ عَلَى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَدَبَّرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَدْهَشَنِي وَكِدْتُ أَطِيشُ، فَوَا أَسَفَا مِنَ الْجَهْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقِلَّةِ التَّفَهُّمِ لِمَعْنَاهُ!.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
10
عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ: دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: بَدَأَ بِالْعِيَالِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ، يُعِفُّهُمُ اللَّهُ أَوْ يَنْفَعُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ؟. رواه مسلم.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ». رواه مسلم.
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (إِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ). أَيْ فِي فَمِهَا. متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً). متفق عليه.
مَا أَرْحَمَ اللهَ بِعِبَادِهِ وَأَلْطَفَهُ بِهِمْ!؛ أَثَابَهُمْ حَتَّى عَلَى النَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ لِمَنْ تَحْتَ مَسْؤُولِيَّتِهِمْ وَرِعَايَتِهِمْ، مِنْ وَلَدٍ وَوَالِدٍ وَزَوْجَةٍ وَإِخْوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ عَلَى بَهَائِمِهِمْ، فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَحْتَسِبَ الأَجْرَ وَنُحْسِنَ فِي البَذْلِ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، لَا قَبْضَ بُخْلٍ وَتَقْتِيرٍ، وَلَا بَسْطَ إِسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ، وَإِنَّمَا العَدْلُ وَالتَّوَسُّطُ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ رَحِمَهُ اللهُ: يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ، غَيْرَ مُقَتِّرٍ عَمَّا يَجِبُ لَهُمْ، وَلَا مُسْرِفٍ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا". وَهَذِهِ النَّفَقَةُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ وَمِنْ جَمِيعِ النَّفَقَاتِ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
11
عَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: {أَلَا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا}. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا). متفق عليه.
وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: {اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}. رواه مسلم.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ؛ (أَيْ: لَا يَبْغَضْ) مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ». رواه مسلم.
وَيَجْمَعُ القُرْآنُ أُصُولَ التَّعَامُلِ وَهَيْكَلَةَ التَّنْظِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
هَذِهِ التَّوْصِيَاتُ وَالتَّوْجِيهَاتُ النَّبَوِيَّةُ عِمَادُ اسْتِقَامَةِ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَبَقَاءِ الرَّابِطَةِ، وَدَوَامِ المَوَدَّةِ، وَاسْتِمْرَارِ الرَّحْمَةِ، وَثَبَاتِ المَحَبَّةِ.
وَعَنِ الحُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ: أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟، قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ. قَالَ: "فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالحَاكِمُ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ المُنْذِرِيُّ.
وَالأَحَادِيثُ فِي عَظِيمِ حَقِّ الزَّوْجِ وَفَضْلِ حُسْنِ التَّبَعُّلِ لَهُ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ: طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهَا. وَقَالَ: لَا يَلْزَمُهَا طَاعَةُ أَبَوَيْهَا فِي فِرَاقِ زَوْجِهَا، وَلَا زِيَارَةٍ وَنَحْوِهَا؛ بَلْ طَاعَةُ زَوْجِهَا أَحَقُّ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
12
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ، قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ؛ أُولَئِكَ الذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. متفق عليه.
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ، قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ. متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ المَلّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ). رواه مسلم.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: (لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الوَاصِلُ الذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا). رواه البخاري.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ – أي: يُؤَخَّرَ لَهُ فِي أَجَلِهِ وَعُمْرِهِ -؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). متفق عليه.
دَلَّتِ الأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ، وَقَطِيعَتَهَا بِالهَجْرِ وَالمُشَاحَنَةِ وَالإِعْرَاضِ: كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ.
وَاخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حَدِّ الرَّحِمِ التِي تَجِبُ صِلَتُهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَحْرَمِيَّةٌ، وَهُمَا كُلُّ شَخْصَيْنِ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآخَرُ أُنْثَى لَمْ يَتَنَاكَحَا، وَمَا لَا فَصِلَتُهُمْ مُسْتَحَبَّةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَجِبُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ المَحْرَمِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ نَصُّ الإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّحِمَ كُلَّمَا كَانَتْ أَقْرَبَ فَحَقُّهَا أَوْجَبُ، وَصِلَتُهَا أَعْظَمُ أَجْرًا، وَقَطِيعَتُهَا أَشَدُّ إِثْمًا؛ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ: «ثُمَّ الأَقْربَ فَالأَقْرَبَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَالصِّلَةُ تَكُونُ بِقَدْرِ الاسْتِطَاعَةِ؛ بِالعَطِيَّةِ وَالإِحْسَانِ وَالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ، فَإِنْ كَانَتِ المُقَابَلَةُ شَاقَّةً، فَيُجْزِئُ التَّوَاصُلُ عَنْ بُعْدٍ، بِوَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، فَمَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
13
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟). متفق عليه.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ مِثْلُ أَبِيهِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ حَقِّ العَمِّ.
وَقَالَ المَنَاوِيُّ: فَتَعْظِيمُهُ كَتَعْظِيمِهِ، وَإِيذَاؤُهُ كَإِيذَائِهِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى القِيَامِ بِحَقِّ العَمِّ، وَتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الأَبِ فِي الطَّاعَةِ وَعَدَمِ العُقُوقِ. انتهى
وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (الخَالَةُ بمَنْزِلَةِ الأُمِّ). متفق عليه.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: "أَيْ فِي البِرِّ وَالإِكْرَامِ وَالصِّلَةِ" انتهى.
وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَبِرَّهَا). رواه الترمذي.
دَلَّ الحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الخَالَةَ تَلِي الأُمَّ فِي المَرْتَبَةِ، وَأَنَّ فِي بِرِّهَا وَصِلَتِهَا بِرًّا بِالأُمِّ، إِذْ هِيَ أُخْتُهَا.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى، قَالَ: (فَاكْتَنِي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ)؛ يَعْنِي عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، ابْنَ أُخْتِهَا أَسْمَاء، فَكَانَتْ تُكَنَّى بِأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ.
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ أُخْتِهَا بِمَنْزِلَةِ ابْنِهَا، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الخَالَةَ هِيَ الأُمُّ الثَّانِيَةُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ أُمَّ المُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً؛ (أَيْ جَارِيَةً)، وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟، قَالَ: «أَوَفَعَلْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ».
فَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ: أَنْ يُعَامِلَ العَمَّ وَالعَمَّةَ لِقَرَابَتِهِمْ بِأَبِيهِ، وَالخَالَةَ وَالخَالَ لِقَرَابَتِهِمْ بِأُمِّهِ؛ مُعَامَلَةً طَيِّبَةً، فَيَصِلَهُمْ بِالبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَيَتَلَطَّفَ بِهِمْ، وَيَتَوَدَّدَ إِلَيْهِمْ، وَيَعْطِفَ عَلَيْهِمْ؛ لِيَنَالَ بِذَلِكَ أَجْرَ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَثَوَابَ بِرِّ الوَالِدَيْنِ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
14
عَنْ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ، امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهَا وَامْرَأَةٌ أُخْرَى سَأَلَتَا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَهُمَا أَجْرُ القَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ". متفق عليه.
وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي "صَحِيحَيْهِمَا"، وَالحَاكِمُ وَقَالَ: "صَحِيحُ الإِسْنَادِ".
وَلَفْظُ ابْنِ خُزَيْمَةَ: قَالَ: "الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى القَرِيبِ صَدَقَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ".
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا تَصَدَّقَ ببَيْرُحَاءَ، قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأقْرَبِينَ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ. متفق عليه.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ أُمَّ المُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي؟. قَالَ: أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ».
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّدَقَاتِ: أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحِ". قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَإِسْنَادُ أَحْمَدَ حَسَنٌ.
وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ مَرفُوعًا: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ: الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحِ".
قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الكَبِيرِ"، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي "صَحِيحِهِ"، وَالحَاكِمُ وَقَالَ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ".
(الكَاشِحُ): هُوَ الذِي يُضْمِرُ عَدَاوَتَهُ فِي كَشْحِهِ، وَهُوَ خَصْرُهُ، يَعْنِي: أَنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ المُضْمِرِ العَدَاوَةَ فِي بَاطِنِهِ.
تَدُلُّ هَذِهِ الأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى القَرِيبِ، بَلِ الأَقْرَبِ فَالأَقْرَبِ، وَأَنَّهَا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَى البَعِيدِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَاجَةُ البَعِيدِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ.
وَعَنْ جَرِيرٍ البَجَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمِهِ، فَيَسْأَلُهُ فَضْلًا أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ؛ إِلَّا أَخْرَجَ اللهُ لَهُ مِنْ جَهَنَّمَ حَيَّةً يُقَالُ لَهَا: (شُجَاعٌ) يَتَلَمَّظُ، فَيُطَوَّقُ بِهِ".
قَالَ المُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي "الأَوْسَطِ"، وَ"الكَبِيرِ" بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.
(التَّلَمُّظُ): تَطَعَّمُ مَا يَبْقَى فِي الفَمِ مِنْ آثَارِ الطَّعَامِ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
15
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. متفق عليه.
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى). متفق عليه.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ: لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ) متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ: لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ؛ كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: عِرْضُهُ، وَمَالُـهُ، وَدَمُهُ. التَّقْوَى هَاهُنَا، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ؛ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ: لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، وَلَا يَخْذُلُـهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا (وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ؛ كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُـهُ، وَعِرْضُهُ). رواه مسلم.
لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِالاجْتِمَاعِ بَعْدَ النِّزَاعِ، وَبِالأُلْفَةِ بَعْدَ الفُرْقَةِ، حَقَنَ دِمَاءَنَا وَعَظَّمَ حُرُمَاتِنَا، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)؛ أَيْ لَا تُفَرِّقُهُمْ حُدُودٌ جُغْرَافِيَّةٌ، وَلَا اخْتِلَافُ أَلْسِنَةٍ، وَلَا تَعَدُّدُ أَلْوَانٍ، وَلَا تَبَايُنُ أَنْسَابٍ وَأَحْسَابٍ، بَلْ أُخُوَّةُ الإِسْلَامِ مُهَيْمِنَةٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَاقْدُرُوا لِلْمُسْلِمِ قَدْرَهُ، وَاحْفَظُوا حُرْمَتَهُ، وَأَعْطُوهُ حَقَّهُ، وَاعْرِفُوا لَهُ فَضْلَهُ، لِنَتَعَاوَنْ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلْيَنْصُرْ بَعْضُنَا بَعْضًا، لَابُدَّ أَنْ تَنْبِضَ قُلُوبُنَا بِالأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ، وَتَجْرِيَ فِي عُرُوقِنَا رُوحُ اللُّحْمَةِ الإِسْلَامِيَّةِ.
إِذَا اشْتَكَى مُسْلِمٌ فِي الهِنْدِ أَرَّقَنِي *** وَإِنْ بَكَى مُسْلِمٌ فِي الصِّيْنِ بَكَّانِي
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
16
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ). متفق عليه.
وَلِمُسْلِمٍ: (خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: وَذَكَرَهَا)
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ)، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ). رواه مسلم.
وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِسَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإِبْرَارِ المُقْسِمِ، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ. متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فُكُّوا العَانِيَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ). العَانِي: أَيِ الأَسِير. رواه البخاري.
وَهَذِهِ الحُقُوقُ، وَيَلْحَقُ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا فِيهِ جَلْبُ المَوَدَّةِ وَشَدُّ الأَزْرِ، مِنْهَا الوَاجِبُ العَيْنِيُّ، وَمِنْهَا الوَاجِبُ الكِفَائِيُّ، وَمِنْهَا المُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا.
فَالبَدْءُ بِالسَّلَامِ مِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلَامِ، وَعَوَامِلِ المَحَبَّةِ بَيْنَ الأَنَامِ، وَرَدُّ السَّلَامِ عَلَى المَقْصُودِ بِهِ وَاجِبٌ، وَيَكْفِي عَنِ الجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ، بِخِلَافِ العَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللهَ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.
وَعِيَادَةُ المَرِيضِ وَتَشْيِيعُ الجَنَازَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَتَجِبُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ الخَاصَّةِ؛ لِحَدِيثِ: (وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". متفق عليه.
إِلَّا أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ ثَمَّةَ مَعْصِيَةٌ.
وَالنَّصِيحَةُ وَنُصْرَةُ المَظْلُومِ وَإِطْعَامُ الجَائِعِ وَفَكُّ العَانِي وَاجِبَةٌ بِحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ، وَيُسْتَحَبُّ إِبْرَارُ القَسَمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، بَلْ قِيلَ بِالوُجُوبِ وَلَهُ قُوَّتُهُ.
فَحَرِيٌّ بِالمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ - جَلَّ وَعَلَا -، وَيُعْطِيَ كُلَّ مُسْلِمٍ؛ عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ أَعْجَمِيًّا، أَبْيضَ أَوْ أَسْوَدَ، شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا حَقَّهُ الذِي كَتَبَهُ اللهُ لَهُ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
17
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) . متفق عليه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ). وَفِي رِوَايَةٍ: (فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ). متفق عليه.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خيْرُهُمْ لِجَارِهِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيْرَانَكَ». رواه مسلم.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟، قَالَ: "إِلَى أَقْرَبِهِمِا مِنْكِ بَابًا". رواه البخاري.
اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي حَدِّ الجَارِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقْرَبُهَا - وَاللهُ أَعْلَمُ - أَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى العُرْفِ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُرْسَلًا: (حَقُّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ قُدَّامًا وَخَلْفًا وَيَمِينًا وَشِمَالًا). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ - رَحِمَهُ اللهُ -:
"وَإِنْ وَصَّى لِجِيرَانِهِ، فَهُمْ أَهْلُ أَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْجَارُ الْمُلَاصِقُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَارُ الدَّارُ وَالدَّارَانِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْجِيرَانُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ إنْ جَمَعَهُمْ مَسْجِدٌ، فَإِنْ تَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فِي مَسْجِدَيْنِ صَغِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، فَالْجَمِيعُ جِيرَانٌ، وَإِنْ كَانَا عَظِيمَيْنِ، فَكُلُّ أَهْلِ مَسْجِدٍ جِيرَانٌ، وَأَمَّا الْأَمْصَارُ الَّتِي فِيهَا الْقَبَائِلُ، فَالْجِوَارُ عَلَى الْأَفْخَاذِ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
18
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي. قَالَ: لَا تَغْضَبْ. فَرَدَّدَ مِرَارًا. قَالَ: لَا تَغْضَبْ». متفق عليه.
وَزَادَ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، قَالَ: "تَفَكَّرْتُ فِيمَا قَالَ، فَإِذَا الغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ".
قَالَ الخَطَّابِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا تَغْضَبْ؛ اجْتَنِبْ أَسْبَابَ الغَضَبِ، وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يَجْلِبُهُ. انتهى.
وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ: لَا تَفْعَلْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ الغَضَبُ.
وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: جَمَعَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ: لَا تَغْضَبْ، خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. انتهى.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَقَدْ حُسِّنَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي قَوْلًا أَنْتَفِعُ بِهِ وَأَقْلِلْ، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، وَلَكَ الجَنَّةُ".
وَمِنَ الأَسْبَابِ التِي تُعِينُ عَلَى كَفِّ الغَضَبِ: العَمَلُ بِمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، فَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ» متفق عليه.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ حُسِّنَ.
وَأَغْضَبَ رَجُلٌ أَبَا ذَرٍّ وَكَانَ قَائِمًا فَجَلَسَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لِمَ جَلَسْتَ ثُمَّ اضْطَجَعْتَ؟، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ العِرَاقِيُّ.
وَعَنْ عَطِيَّةَ بْنِ عُرْوَةَ السَّعْدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ.
19
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ». متفق عليه.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟، قَالَ: قُلْنَا: الذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ». رواه مسلم.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَدْ حُسِّنَ، مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ؛ أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الصُّرَعةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ - كَرَّرَهَا ثَلَاثًا - الذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ».
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَوْمٍ يَصْطَرِعُونَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: فُلَانٌ مَا يُصَارِعُ أَحَدًا إِلَّا صَرَعَهُ، قَالَ: أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟، رَجُلٌ كَلَّمَهُ رَجُلٌ، فَكَظَمَ غَيْظَهُ، فَغَلَبَهُ وَغَلَبَ شَيْطَانَهُ، وَغَلَبَ شَيْطَانَ صَاحِبِهِ". قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ البَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
إِنَّ امْتِلَاكَ النَّفْسِ وَضَبْطَ الأَعْصَابِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ ثَوَرَانِ الغَضَبِ وَهَيَجَانِهِ؛ كَيْ لَا يَنْفَلِتَ لِسَانُهُ، فَيَنْدَمَ عَلَى كَلِمَةٍ أَخْرَجَهَا، وَلَا تَمْتَدَّ يَدُهُ، فَيَنْدَمَ عَلَى بَطْشِهَا، إِنَّهَا قُوَّةٌ لَا تَعْدِلُهَا قُوَّةٌ، وَبُطُولَةٌ لَا تُسَاوِيهَا بُطُولَةٌ، وَهَلْ رَأَيْتَ أَشَدَّ مِنْ مُجَاهَدَةِ العَدُوِّ الظَّاهِرِ وَهُوَ الخَصْمُ وَشَيَاطِينُ الإِنْسِ الذِينَ يُحِبُّونَ الفِتْنَةَ، وَمُجَاهَدَةِ العَدُوِّ البَاطِنِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، فَيَقْهَرُهُمْ جَمِيعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ.
إِنَّ التَّغَلُّبَ عَلَى النَّفْسِ - حَتَّى تَكْظِمَ غَيْظَهَا وَتَكُفَّ أَذَاهَا - عُبُودِيَّةٌ وَشَجَاعَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا الكُمَّلُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّدِيدَ لَيْسَ الذِي يَغْلِبُ النَّاسَ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ». رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَقَدْ صُحِّحَ.
كَتَبَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ النُّمَيُّ