الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ الحَمِيدِ المَجِيدِ، المُبْدِئِ المُعِيدِ، الفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الَّذِي جَعَلَ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الدُّنْيَا أَيَّامَ عِيدٍ، وَفِي الآخِرَةِ يَوْمَ المَزِيدِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَاحِبُ المَقَامِ المَحْمُودِ، وَالحَوْضِ المَوْرُودِ، القَائِلُ لَهُ رَبُّهُ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، وَالآمِرُ لَهُ بِقَوْلِهِ: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ.
يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ! لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ حِوَارَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ، حِينَ رَأَى أَنَّهُ يَذْبَحُهُ طَاعَةً للهِ.
قَالَ تَعَالَى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)؛ أَيْ: كَامِلِ العَقْلِ وَالرَّأْيِ، وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الَّذِي مَدَحَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)، إِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ، الآخِذُ بِشِغَافِ قَلْبِهِ؛ لِصَلَاحِهِ وَبِرِّهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ.
لَقَدْ بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَاقْدُرُوا لِلشَّيْخِ الكَبِيرِ قَدْرَهُ، يُولَدُ لَهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بَعْدَ ضَعْفِ بَدَنِهِ وَبَصَرِهِ.
وَمَعَ هَذَا جَادَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِفِلْذَةِ كَبِدِهِ لِرَبِّهِ، فَاللهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ؛ لِذَا قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، عَلَى مَا تُحِبُّهُ نَفْسُهُ وَتَهْوَاهُ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)؛ يَعْنِي شَبَّ وَتَرَعْرَعَ، وَصَارَ يَذْهَبُ مَعَ أَبِيهِ وَيُؤَانِسُهُ وَيَخْدِمُهُ، لَقَدْ تَعَلَّقَ أَبُوهُ بِهِ تَعَلُّقًا كَبِيرًا، وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ احْتِيَاجًا كَثِيرًا، فَمَا مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَجُودَ بِهِ للهِ، وَيَتْرُكَهُ لِمَوْلَاهُ، فَأَعْطَاهُ اللهُ مِنْ وَاسِعِ عَطَايَاهُ؛ قَالَ تَعَالَى: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)، وَثَبَتَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ - قَالَ الهَيْثَمِيُّ: بِأَسَانِيدَ، وَرِجَالُهَا رِجَالُ الصَّحِيحِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ)، فَرُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، لَقَدْ عَرَضَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذَا الأَمْرَ الكَبِيرَ، وَالبَلَاءَ المُسْتَطِيرَ، عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ، عَرْضَ الوَاثِقِ بِيَقِينِهِ وَإِيمَانِهِ، وَقُوَّةِ جَنَانِهِ، وَصَبْرِهِ وَبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ، قَالَ تَعَالَى: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
إِنَّهُ الإِيمَانُ الَّذِي يَزِنُ الجِبَالَ، وَيَرْجَحُ بِالأَثْقَالِ، فَمَا تَرَدَّدَ وَلَا تَشَكَّى؛ بَلْ أَجَابَ مُبَاشَرَةً: "افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ".
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ)؛ فَقَدْ صَدَقَ مَعَ خَالِقِهِ، وَصَدَقَ مَعَ وَالِدِهِ، وَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ.
قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا)؛ أَيْ: اسْتَسْلَمَا وَتَشَهَّدَا وَذَكَرَا اللهَ تَعَالَى، إِبْرَاهِيمُ عَلَى الذَّبْحِ، وَإِسْمَاعِيلُ عَلَى شَهَادَةِ المَوْتِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)؛ أَيْ: أَكَبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ؛ رُبَّمَا لِأَجْلِ أَلَّا يَرَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ أَوْثِقْنِي، لَا أَضْطَرِبُ فَيَنْتَضِحُ عَلَيْكَ مِنْ دَمِي إِذَا ذَبَحْتَنِي، فَشَدَّهُ، فَلَمَّا أَحَدَّ الشَّفْرَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ، نُودِيَ مِنْ خَلْفِهِ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِيهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَقَدِ اخْتَلَطَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ)؛ أَيْ: نَجَحْتَ فِي الامْتِحَانِ، وَاجْتَزْتَ الاخْتِبَارَ، وَحَقَّقْتَ الخُلَّةَ، وَهِيَ المَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلتِ القَلْبَ فَصَارَتْ فِي بَاطِنِهِ، فَلَا تَسَعُ إِلَّا لِمَحْبُوبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ اللهُ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، وَالإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَمَنْ أَحْسَنَ أَصْلَحَ اللهُ لَهُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، كَمَا جُمِعَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ الأَوَّاهِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).
ثَبَتَ عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟، قَالَ: (الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَاجَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
وَهَذَا مِصْدَاقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، فَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى رَقَبَةِ إِسْمَاعِيلَ فَلَمْ تَقْطَعْ شَيْئًا؛ بَلْ حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ صَفِيحَةٌ مِنْ نُحَاسٍ.
وَفَدَاهُ الرَّحِيمُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كَبْشٌ أَبْيَضُ أَقْرَنُ أَعْيَنُ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَتَّبِعُ ذَلِكَ الضَّرْبَ مِنَ الكِبَاشِ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
لَمَّا أَتَمَّ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَلِمَاتِ رَبِّهِ، حَيْثُ قَامَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَتَى بِالحَنِيفِيَّةِ وَافِيَةً لَا نَقْصَ وَلَا زِيَادَةَ: أَبْقَى اللهُ لَهُ الذِّكْرَ الجَمِيلَ وَالثَّنَاءَ الجَلِيلَ، وَجَعَلَهُ إِمَامَ الحُنَفَاءِ، وَأَبَا الأَنْبِيَاءِ، وَقُدْوَةَ الأَتْقِيَاءِ، فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةُ وَالكِتَابُ، وَرَفَعَ دَرَجَاتِهِمْ يَوْمَ الحِسَابِ، وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً جَمِيلًا، وَاجْتَبَاهُ وَاصْطَفَاهُ، وَأَكْثَرَ ذُرِّيَّتَهُ، فَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ الحَلِيمُ أَبُو العَرَبِ، وَابْنُهُ إِسْحَاقُ العَلِيمُ أَبُو بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَّا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَفَى.
فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وُلِدَ لِيَ اللَّيلةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَى وَأَجَلُّ.
وَمِنَ العِبَرِ: مَا رُوِيَ فِي الأَثَرِ، وَحُكِيَ فِي الخَبَرِ؛ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أُرِيَ ذَبْحَ ابْنِهِ، حَرَصَ الشَّيْطَانُ عَلَى فِتْنَتِهِمْ وَصَدِّهِمْ، فَلَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِهِ لِيَذْبَحَهُ، ذَهَبَ الشَّيْطَانُ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَ: ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِكِ لِيَذْبَحَهُ. قَالَتْ: وَلِمَ يَذْبَحُهُ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَتْ: فَقَدْ أَحْسَنَ أَنْ يُطِيعَ رَبَّهُ.
فَذَهَبَ الشَّيْطَانُ فِي أَثَرِهِمَا، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: ذَهَبَ بِكَ أَبُوكَ لِيَذْبَحَكَ. قَالَ: وَلِمَ يَذْبَحُنِي؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ. قَالَ: فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ اللهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَيَفْعَلَنَّ. فَيَئِسَ مِنْهُ، فَلَحِقَ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ غَدَوْتَ بِهِ لِتَذْبَحَهُ. قَالَ: وَلِمَ أَذْبَحُهُ؟ قَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ رَبَّكَ أَمَرَكَ بِذَلِكَ. قَالَ: فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ اللهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ لَأَفْعَلَنَّ. فَيَئِسَ أَنْ يُطَاعَ.
وَهَذِهِ الوَقْفَةُ الإِيمَانِيَّةُ مُعْلِمَةٌ بِثَمَرَةِ صَلَاحِ الأُسْرَةِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلِمَاتِ الحِوَارِ مَعَ هَذَا الابْنِ البَارِّ، خَرَجَ بِعِبْرَةٍ وَعِظَةٍ، قَالَ تَعَالَى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)؛ فَمِنْ تِلْكَ العِبَرِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ ذَبْحَ ابْنِهِ فِلْذَةِ كَبِدِهِ، أَفَيَعْجِزُ أَحَدُنَا أَنْ يُضَحِّيَ بِكَبْشٍ اسْتِجَابَةً لِرَبِّ العَالَمِينَ، وَاتِّبَاعًا لِسَيِّدِ المُرْسَلِينَ، وَإِصَابَةً لِسُنَّةِ المُسْلِمِينَ؟! قَالَ تَعَالَى: (فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ).
قَدْ تَشَبَّثَ أُنَاسٌ بِقَوْلِ الجُمْهُورِ القَائِلِينَ بِأَنَّ الأُضْحِيَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَا نُنْكِرُ ذَلِكَ أَوْ نُحَجِّرُ وَاسِعًا، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الرَّغْبَةِ عَنِ السُّنَّةِ، وَالزُّهْدِ فِي ثَوَابِ الأُضْحِيَةِ العَظِيمِ، شُحًّا بِثَمَنِهَا، مَعَ أَنَّ أَضْعَافَ قِيمَتِهَا يُنْفَقُ فِي وَلَائِمَ وَأَفْرَاحٍ، وَيُصْرَفُ فِي ثَانَوِيَّاتٍ وَكَمَالِيَّاتٍ وَسَفَرِيَّاتٍ.
ثُمَّ إِنَّ الخُرُوجَ مِنَ الخِلَافِ المُعْتَبَرِ مِنَ القُرُبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالمَقَاصِدِ المَرْعِيَّةِ، وَالقَوْلُ بِوُجُوبِ الأُضْحِيَةِ لَهُ قُوَّتُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ عِيْدٍ فَاضِلَةٍ، يَنْبَغِي فِيهَا دَوَامُ الشُّكْرِ، وَكَثْرَةُ الذِّكْرِ؛ لِكَمَالِ المِلَّةِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَيَوْمُ القَرِّ: هُوَ اليَوْمُ الحَادِيَ عَشَرَ، أَوَّلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ.
وَثَبَتَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ». رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».
وعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَيُسْتَحَبُّ الدَّوِيُّ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا، فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَعَلَى أَيِّ حَالٍ، وَمِنْ ذَلِكَ: التَّكْبِيرُ المُقَيَّدُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي التَّكْبِيرَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ.
وَفِي هَذَا اليَوْمِ: لَا مَانِعَ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى أَخِيكَ المُسْلِمِ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِقَبُولِ العَمَلِ؛ فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الأَلْهَانِيِّ، قَالَ: (رَأَيْتُ أَبَا أُمَامَةَ البَاهِلِيَّ يَقُولُ فِي العِيدِ لِأَصْحَابِهِ: تَقبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ). ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَرَوَاهُ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ جُبَيرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: (كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ العِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ). رَوَاهُ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
اللهُ أكبَرُ، اللهُ أكبَرُ، اللهُ أكبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ!!
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ!