أَهَمِّيَّةُ الوَقْتِ

المَوضُوعُ: أَهَمِّيَّةُ الوَقْتِ.

الخُطبَةُ الأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".

أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ.

وَعَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ: (وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ). قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.

فَالعَصْرُ هُوَ: الزَّمَانُ وَالوَقْتُ.

وَإِقْسَامُ اللهِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى قِيمَتِهِ الكَبِيرَةِ، وَأَهَمِّيَّتِهِ العَظِيمَةِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يُوَظِّفُوا أَوْقَاتَهُمْ، وَلَمْ يُدِيرُوا أَيَّامَهُمْ كَمَا يَنْبَغِي؛ لِذَا فَهُمْ فِي خَسَارَةٍ فَادِحَةٍ.

وَالوَقْتُ أَنْفَسُ ما عَنِيتُ بِحِفْظِهِ ... وَأَرَاهُ أسهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ

أَمَّا الَّذِينَ وَظَّفُوا أَوْقَاتَهُمْ فِي العَمَلِ بِالإِيمَانِ وَشُعَبِهِ، وَالإِسْلَامِ وَخِصَالِهِ، فَقَدْ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ.

قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: "أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصًا عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ".

قَالَ مُوْسَى بنُ إِسْمَاعِيْلَ: لَوْ قُلْتُ لَكُم: إِنِّيْ مَا رَأَيتُ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ ضَاحِكًا، لَصَدَقْتُ، كَانَ مَشْغُوْلًا، إِمَّا أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَقْرَأَ، أَوْ يُسبِّحَ، أَوْ يُصَلِّيَ، قَدْ قَسَّمَ النَّهَارَ عَلَى ذَلِكَ.

إِنَّ أَثْمَنَ وَأَغْلَى مَا يَمْلِكُهُ الإِنْسَانُ هُوَ وَقْتُهُ، فَلَا يَنْبَغِي إِهْدَارُهُ وَإِضَاعَتُهُ؛ بَلْ يَنْبَغِي اسْتِغْلَالُهُ وَاسْتِثْمَارُهُ وَصَرْفُهُ فِي أَفْضَلِ وِجْهَةٍ رَابِحَةٍ، كَطَلَبِ العِلْمِ، وَحِفْظِ القُرْآنِ، وَالحَدِيثِ، وَمُطَالَعَةِ التَّفْسِيرِ، وَكُتُبِ السُّنَّةِ، وَالفِقْهِ، وَكَثْرَةِ الذِّكْرِ، وَالعِبَادَةِ، فَإِنَّ الثَّوَانِيَ وَاللَّحَظَاتِ، وَالدَّقَائِقَ وَالسَّاعَاتِ، وَالأَيَّامَ وَالسَّنَوَاتِ لَا تُقَوَّمُ بِالمَالِ؛ فَخَسَارَتُهَا أَكْبَرُ مِنْ خَسَارَةِ المَالِ، فَالمَالُ يُمْكِنُ تَعْوِيضُهُ، وَأَمَّا الوَقْتُ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِرْدَادُهُ وَاسْتِرْجَاعُهُ وَتَعْوِيضُهُ، فَلَا عِدْلَ لَهُ، وَلَا خَلَفَ عَنْهُ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ، نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي".

أَلَيْسَ مِنَ الخُسْرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا ... تَمُرُّ بِلَا نَفْعٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي

بَلَى واللهِ، إِنَّ الأَوْقَاتَ الَّتِي تَذْهَبُ بِلَا فَائِدَةٍ جَلِيَّةٍ خَسَارَةٌ وَإِفْلَاسٌ وَتَقْصِيرٌ فِي جَنْبِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

إِنَّ أَعْمَارَنَا يَا عِبَادَ اللهِ مَا هِيَ إِلَّا أَنْفَاسٌ مَحْدُودَةٌ، وَثَوَانٍ وَدَقَائِقُ مَعْدُودَةٌ:

دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قائِلَةٌ لَهُ ... إِنَّ الحَيَاةَ دَقائِقٌ وَثَوَانِي

وَاللهُ سَائِلُنَا عَنْ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ مِنْ أَعْمَارِنَا فِيمَا أَفْنَيْنَاهَا، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي: مَنِ المُحَافِظُ مِنَّا عَلَى وَقْتِهِ فَنُهَنِّيَهُ؟ وَمَنِ المُضَيِّعُ لَهُ فَنُعَزِّيَهُ؟

وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الفَقِيهِ سُلَيْمِ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ: حُدِّثْتُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى الأَنْفَاسِ، لَا يَدَعُ وَقْتًا يَمْضِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، إِمَّا بِنَسْخٍ أَوْ بِدَرْسٍ، أَوْ يَقْرَأُ، وَنَسَخَ شَيْئًا كَثِيرًا.

وَلَقَدْ حَدَّثَنِي عَنْهُ شَيْخُنَا أَبُو الفَرَجِ: أَنَّهُ نَزَلَ يَوْمًا إِلَى دَارِهِ وَرَجَعَ، فَقَالَ: قَدْ قَرَأْتُ جُزْءًا فِي طَرِيقِي.

وَحَدَّثَنِي المُؤَمِّلُ بْنُ الحَسَنِ: أَنَّهُ رَأَى سُلَيْمًا وَقَدْ جَفَا عَلَيْهِ القَلَمُ، فَإِلَى أَنْ قَطَّهُ جَعَلَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَعَلِمَ أَنَّهُ يَقْرَأُ أَثْنَاءَ إِصْلَاحِهِ القَلَمَ لِئَلَّا يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ وَهُوَ فَارِغٌ".

لَا تَعْرِضَنَّ بِذِكْرِنَا فِي ذِكْرِهِــــمْ ... لَيْسَ الصَّحِيحُ إِذَا مَشَى كَالمُقْعَدِ

أَيْنَ الجِبَالُ مِنَ التِّلَالِ أَوِ الرُّبَى ... أَيْنَ القَوِيُّ مِنَ الضَّعِيفِ القَعْدَدِ

إِنَّ وَقْتَ المُسْلِمِ نَفِيسٌ، وَفَرَاغَهُ قَيِّمٌ ثَمِينٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: "أَكْثَرُ النَّاسِ حِسَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الصَّحِيحُ الفَارِغُ".

فَالصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ رَأْسُ الْمَالِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَغِلَّهُمَا الإِنْسَانُ فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ فَيَكْسِبَ أَجْرًا وَيَرْبَحَ ثَوَابًا فَإِنَّهُ قَدْ ضَيَّعَ وَفَرَّطَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، حَيْثُ ذَهَبَ سَبْهَلَلًا بِلَا مُقَابِلٍ يُسَاوِيهِ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الغَبْنُ بِعَيْنِهِ، جَرَّهُ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ حَيْثُ خَدَعَهُ وَغَلَبَهُ وَبَخَسَ هُوَ نَفْسَهُ، حَيْثَ وَكَسَهَا وَنَقَصَهَا.

حُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَا: «إِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرَى أَحَدَكُمْ سَبَهْلَلًا، لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا فِي عَمَلِ آخِرَةٍ».

وَقَوْلُهُ: "سَبَهْلَلًا"؛ أَيْ: فَارِغًا، لَيْسَ مَعَه مِنْ عَمَل الْآخِرَةِ شَيْءٌ.

لَقَدْ هَاجَ الفَرَاغُ عَلَيْكَ شُغْلًا ... وَأَسْبَابُ البَلَاءِ مِنَ الفَرَاغِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ: "صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ، سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الوَقْتُ سَيْفٌ، فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ، وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالحَقِّ شَغَلَتْكَ بِالبَاطِلِ".

وَرَحِمَ اللهُ ابْنَ عَقِيلٍ يَقُولُ: "إِنِّي لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أُضَيِّعَ سَاعَةً مِنْ عُمُرِي، حَتَّى إِذَا تَعَطَّلَ لِسَانِي عَنْ مُذَاكَرَةٍ وَمُنَاظَرَةٍ، وَبَصَرِي عَنْ مُطَالَعَةٍ، أَعْمَلْتُ فِكْرِي فِي حَالَةِ رَاحَتِي وَأَنَا مُسْتَطْرِحٌ، فَلَا أَنْهَضُ إِلَّا وَقَدْ خَطَرَ لِي مَا أُسَطِّرُهُ، وَأَخْتَارُ سَفَّ الكَعْكِ وَتَحْسِيَةً بِالمَاءِ عَلَى الخُبْزِ، لِأَجْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَفَاوُتِ المَضْغِ، تَوَفُّرًا عَلَى مُطَالَعَةٍ، أَوْ تَسْطِيرِ فَائِدَةٍ لَمْ أُدْرِكْهَا".

وَكَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ يَشْرَبُ الْفَتِيتَ وَلَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: بَيْنَ مَضْغِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْفَتِيتِ قِرَاءَةُ خَمْسِينَ آيَةً.

وَقَالَ عُثْمَانُ البَاقِلَّانِيُّ: أَبْغَضُ الأَشْيَاءِ إِلَيَّ وَقْتُ إِفْطَارِي؛ لِأَنِّي أَشْتَغِلُ بِالأَكْلِ عَنِ الذِّكْرِ.

وَقَالَ السَّخَاوِيُّ عَنْ أَحْمَدَ البُلْقَاسِيِّ: "كَانَ إِمَامًا عَلاَّمَةً فِي العِلْمِ وَالمُذَاكَرَةِ وَالمُبَاحَثَةِ، غَيْرَ مُنْفَكٍّ عَنِ التَّحْصِيلِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ يُطَالِعُ فِي مَشْيِهِ، وَيُقْرِئُ القِرَاءَاتِ فِي حَالِ أَكْلِهِ خَوْفًا مِنْ ضَيَاعِ وَقْتِهِ".

وَالحِكَايَاتُ كَثِيرَةٌ عَنِ السَّلَفِ فِي تَغَانُمِ اللَّحَظَاتِ، وَالنَّدَمِ عَلَى الفَوَاتِ، وَاشْتِغَالِهِمْ بِالعِلْمِ وَالذِّكْرِ فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ، وَفِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ حَتَّى عِنْدَ مَمَاتِهِمْ.

أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ ... إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ

وَلَمَّا قَالَ رَجُلٌ لِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ: تَعَالَ أُكَلِّمْكَ، قَالَ: أَمْسِكِ الشَّمْسَ. يَعْنِي أَنَّ الوَقْتَ يَمْضِي سَرِيعًا، فَلْنَغْتَنِمْ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ.

قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: كُنَّا بِمِصْرَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، لَمْ نَأْكُلْ فِيهَا مَرَقَةً، كُلُّ نَهَارِنَا مُقَسَّمٌ لِمَجَالِسِ الشُّيُوخِ، وَبِاللَّيْلِ: النَّسْخُ وَالمُقَابَلَةُ.

قَالَ: فَأَتَيْنَا يَوْمًا أَنَا وَرَفِيقٌ لِي شَيْخًا، فَقَالُوا: هُوَ عَلِيلٌ، فَرَأَيْنَا فِي طَرِيقِنَا سَمَكَةً أَعْجَبَتْنَا، فَاشْتَرَيْنَاهَا، فَلَمَّا صِرْنَا إِلَى البَيْتِ، حَضَرَ وَقْتُ مَجْلِسٍ، فَلَمْ يُمْكِنَّا إِصْلَاحُهُ، وَمَضَيْنَا إِلَى المَجْلِسِ، فَلَمْ نَزَلْ حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكَادَ أَنْ يَتَغَيَّرَ، فَأَكَلْنَاهُ نَيْئًا، لَمْ يَكُنْ لَنَا فَرَاغٌ أَنْ نُعْطِيَهُ مَنْ يَشْوِيهِ. ثُمَّ قَالَ: لَا يُسْتَطَاعُ العِلْمُ بِرَاحَةِ الجَسَدِ.

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَيْسَ تَحَسُّرُ أَهْلِ الجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهَا.

وَقَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ صُحْبَةِ البَطَّالِينَ! لَقَدْ رَأَيْتُ خَلْقًا كَثِيرًا يَجْرُونَ مَعِي فِيمَا قَدْ اعْتَادَهُ النَّاسُ مِنْ كَثْرَةِ الزِّيَارَةِ ... فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنَّ الزَّمَانَ أَشْرَفُ شَيْءٍ، وَالوَاجِبُ انْتِهَابُهُ بِفِعْلِ الخَيْرِ، كَرِهْتُ ذَلِكَ، وَبَقِيتُ مَعَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِنْ أَنْكَرْتُ عَلَيْهِمْ، وَقَعَتْ وَحْشَةٌ، لِمَوْضِعِ قَطْعِ المَأْلُوفِ! وَإِنْ تَقَبَّلْتُهُ مِنْهُمْ، ضَاعَ الزَّمَانُ! فَصِرْتُ أُدَافِعُ اللِّقَاءَ جَهْدِي: فَإِذَا غُلِبْتُ، قَصَّرْتُ فِي الكَلَامِ، لِأَتَعَجَّلَ الفِرَاقَ.

ثُمَّ أَعْدَدْتُ أَعْمَالًا تَمْنَعُ مِنَ المُحَادَثَةِ لِأَوْقَاتِ لِقَائِهِمْ؛ لِئَلَّا يَمْضِيَ الزَّمَانُ فَارِغًا، فَجَعَلْتُ مِنَ المُسْتَعَدِّ لِلِقَائِهِمْ: قَطْعَ الكَاغَدِ (يَعْنِي الأَوْرَاقَ)، وَبَرْيَ الأَقْلَامِ، وَحَزْمَ الدَّفَاتِرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى فِكْرٍ، وَحُضُورِ قَلْبٍ، فَأَرْصَدْتُهَا لِأَوْقَاتِ زِيَارَتِهِمْ، لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ وَقْتِي. نَسْأَلُ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُعَرِّفَنَا شَرَفَ أَوْقَاتِ العُمْرِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِاغْتِنَامِهِ. وَلَقَدْ شَاهَدْتُ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى الحَيَاةِ: فَمِنْهُمْ مَنْ أَغْنَاهُ اللهُ عَنِ التَّكَسُّبِ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَهُوَ يَقْعُدُ فِي السُّوقِ أَكْثَرَ النَّهَارِ، يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ، وَكَمْ تَمُرُّ بِهِ مِنْ آفَةٍ وَمُنْكَرٍ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْلُو بِلَعِبِ الشَّطَرَنْجِ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْطَعُ الزَّمَانَ بِكَثْرَةِ الحَدِيثِ عَنِ السَّلَاطِينِ، وَالغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُطْلِعْ عَلَى شَرَفِ العُمْرِ وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ أَوْقَاتِ العَافِيَةِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ وَأَلْهَمَةُ اغْتِنَامَ ذَلِكَ: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالحَمْدُ للهِ أَطْرَافَ النَّهَارِ وَزُلَفَ اللَّيْلِ، وَالحَمْدُ للهِ وَقْتَ الشُّرُوقِ وَوَقْتَ الغُرُوبِ، وَالحَمْدُ للهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَالحَمْدُ للهِ غُدُوًّا وَآصَالًا، وَالحَمْدُ للهِ حِينَ نَنَامُ وَحِينَ نَسْتَيْقِظُ، وَالحَمْدُ للهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ المُتَأَمِّلَ لِمَرَاحِلِ الوَقْتِ وَأَطْوَارِ العُمْرِ، وَكَيْفَ تَمُرُّ سَرِيعًا: يُدْرِكُ أَهَمِّيَّةَ اليَقَظَةِ وَالانْتِبَاهِ لِقِيمَةِ الوَقْتِ.

فَالإِنْسَانُ يَطْوِي عُمْرَهُ الثَّانِيَةُ، وَالدَّقِيقَةُ، وَالسَّاعَةُ، وَاليَوْمُ، وَاللَّيْلَةُ، وَالأُسْبُوعُ، وَالشَّهْرُ، وَالسَّنَةُ:

 

نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَعْمَارُنَا تُطْوَى؛ وَهُنَّ مَرَاحِلُ

ﺗَرَحَّلْ مِنَ الدُّﻧْﻴَﺎ ﺑِزَاﺩٍ مِنَ التُّقَى ... فَعُمْرُكَ ﺃَيَّامٌ، ﻭَﻫُنَّ قَلَائِلُ

وَتَمُرُّ عَلَى الإِنْسَانِ سَاعَاتُ النَّهَارِ: الشُرُوقُ، ثُمَّ البُكُورُ، ثُمَّ الغُدْوَةُ، ثُمَّ الضُّحَى، ثُمَّ الهَاجِرَةُ، ثُمَّ الظَهِيرَةُ، ثُمَّ الرَّوَاحُ، ثُمَّ العَصْرُ، ثُمَّ القَصْرُ، ثُمَّ الأَصِيلُ، ثُمَّ العَشِيُّ، ثُمَّ الغُروبُ. وَسَاعَاتُ اللَّيلِ: الشَّفَقُ، ثُمَّ الغَسَقُ، ثُمَّ العَتَمَةُ، ثُمَّ السُّدْفَة، ثُمَّ الفَحْمَةُ، ثُمَّ الزُّلَّةُ، ثُمَّ الزُّلْفةُ، ثُمَّ البُهْرَةُ، ثُمَّ السَّحَرُ، ثُمَّ الفَجْرُ، ثُمَّ الصُّبْحُ، ثُمَّ الصَّبَاحُ.

يَقُولُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: "إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ فَاعْمَلْ فِيهِمَا".

وَتَأْتِي عَلَى الإِنْسَانِ أَطْوَارٌ سَرِيعَةٌ: فَهُوَ جَنِينٌ حَتَّى يُوضَعَ، ثُمَّ صَبِيٌّ حَتَّى يُفْطَمَ، ثُمَّ غُلَامٌ إِلَى سَبْعٍ، ثُمَّ يَافِعٌ إِلَى عَشْرٍ، ثُمَّ حَزَوَّرٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ، ثُمَّ قُمُدٌّ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ عَنَطْنَطٌ إِلَى ثَلَاثِينَ، ثُمَّ مُمْلٍ إِلَى أَرْبَعِينَ، ثُمَّ كَهْلٌ إِلَى خَمْسِينَ، ثُمَّ شَيْخٌ إِلَى ثَمَانِينَ، ثُمَّ هَرَمٌ.

مَا أَعْجَلَ مَرَاحِلَ الإِنْسَانِ إِنْ كَتَبَ اللهُ لَهُ عُمْرًا طَوِيلًا؛ فَفِي سُرْعَةِ الحُلْمِ تَعِيشُ طِفْلًا، ثُمَّ شَابًّا، ثُمَّ كَهْلًا، ثُمَّ شَيْخًا، ثُمَّ هَرَمًا، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرُهَا فِي أَيَّامِ الصِّبَا، وَفِي نَوْمٍ، وَأَكْلٍ، وَخَلَاءٍ، وَقَلِيلٌ الَّذِي يُفْلِتُ مِنْ صَبْوَةِ الحَدَثِ وَالمُرَاهَقَةِ.

إِنَّ الصَّحِيحَ المُعَافَى حِينَ يَتَأَمَّلُ فِي حَيَاتِهِ، يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ لَمْ يَعِشْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.

قَالَ أَبُو الوَلِيدِ البَاجِيُّ: إِذَا كُنْتُ أَعْلَمُ عِلْمًا يَقِينًا بِأَنَّ جَمِيعَ حَيَاتِي كَسَاعَةٍ، فَلِمَ لَا أَكُونُ ضَنِنًا بِهَا، وَأَجْعَلُهَا فِي صَلَاحٍ وَطَاعَةٍ؟

وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ الدِّينَوَرِيُّ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَعَزُّ وَأَلْطَفُ مِنَ الوَقْتِ، وَالقَلْبِ، وَأَنْتَ مُضَيِّعٌ لِلْوَقْتِ وَالقَلْبِ!

اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا، وَأَعِذْنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا.

اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ، وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.