المَوضُوعُ: أَطْوَارُ الإِنْسَانِ
الخُطْبَةُ الأُولَى:
(ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٌ فِى ٱلْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ)، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أَمَّا بَعْدُ: "فإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ: تَعَالَوْا بِنَا لِنَقِفَ وَقْفَةَ تَدَبُّرٍ وَتَأَمُّلٍ مَعَ مُنَاظَرَةٍ قُرْآنِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِالإِجَادَةِ وَالإِعَادَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ مُكَابَرَةُ هَذَا الخَصِيمِ الحَقِيرِ، وَاعْتِرَاضُهُ عَلَى خَالِقِهِ القَدِيرِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِمَّ خُلِقَ، قَالَ تَعَالَى: (كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ)، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا خُلِقْتَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ قَذَرٍ، فَاتَّقِ اللهَ.
وَعَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ، قَالَ: (بَزَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَفِّهِ، ثُمَّ وَضَعَ أُصْبُعَهُ السَّبَّابَةَ، وَقَالَ: يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: أَنَّى تُعْجِزُنِي ابْنَ آدَمَ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟!). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ البُوصِيرِيُّ.
وَقَالَ تَعَالَى: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ) سُبْحَانَكَ، فَبَلَى.
وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ).
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ أَمَرَ اللهُ أَمْرَ إِيجَابٍ وَإِرْشَادٍ، بِأَنْ يَنْظُرَ الإِنْسَانُ إِلَى نَشْأَتِهِ نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَتَفَكُّرٍ، قَالَ تَعَالَى: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ).
لَقَدْ خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ وَجَعَلَ خَلْقَهُ يَتَوَلَّدُ وَيَتَكَوَّنُ مِنْ مَاءٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ، وَهُوَ ظَهْرُهُ، وَتَرَائِبِ المَرْأَةِ وَهِيَ عِظَامُ صَدْرِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا).
وَأَمَّا أَصْلُ الإِنْسَانِ فَإِنَّهُ مُنْحَدِرٌ مِنْ أَبِيهِ آدَمَ وَمِنْ أُمِّهِ حَوَاءَ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين).
وَقَالَ تَعَالَى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا).
وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)،
وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبُو الإِنْسِ، خَلَقَهُ اللهُ مِنْ طِينٍ وَهُوَ التُّرَابُ المَمْزُوجُ بِالمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ).
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا هَذَا الطِّينَ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِنْ طِينٍ لَاصِقٍ.
وَإِنَّمَا وَصَفَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِاللُّزُوبِ؛ لِأَنَّهُ تُرَابٌ مَخْلُوطٌ بِمَاءٍ، وَكَذَلِكَ خُلِقَ ابْنُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ وَنَارٍ وَهَوَاءٍ، وَالتُّرَابُ إِذَا خُلِطَ بِمَاءٍ صَارَ طِينًا لَازِبًا.
وَقَالَ تَعَالَى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)؛ أَيْ مِنْ طِينٍ يَابِسٍ كَالفَخَّارِ، وَهُوَ الطِّينُ الَّذِي طُبِخَ بِالنَّارِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)؛ أَيْ مِنْ طِينٍ يَابِسٍ أَسْوَدَ مُنْتِنٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جَعَلَهُ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ - قَالَ: فَكَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ - ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ». فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَفِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثِقَةٌ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ وَأَحْسَنَ خَلْقَهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، وَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
فَأَيْنَ عُقُولُ أَصْحَابِ النَّظَرِيَّاتِ الإِلْحَادِيَّةِ فِي إِيجَادِ الإِنْسَانِ وَأَهْلِ الحِيْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
إِنَّ الأَطْوَارَ وَالأَحْوَالَ الَّتِي يَتَدَرَّجُ فِيهَا الإِنْسَانُ عَلَامَةٌ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالأُلُوهِيَّةِ وَالوَحْدَانِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّٰكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)؛ يَعْنِي: لَا فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَلَا أُلُوهِيَّتِهِ وَلَا أَفْعَالِهِ وَلَا أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ اللهُ الحَقُّ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ).
وَقَالَ تَعَالَى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً).
فَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يُذَكِّرُنَا بِأَطْوَارِ خَلْقِنَا لِلاعْتِبَارِ وَالاتِّعَاظِ، وَلِنُقِرَّ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَلَهُ نُذْعِنُ وَنَنْقَادُ، وَنَتَذَلَّلُ وَنَخْضَعُ، وَنَعْبُدُهُ وَنُخْلِصُ لَهُ العِبَادَةَ.
فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَقَدْ أَوْجَدَكُمُ اللهُ وَأَنْشَأَكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَهَا، وَجَعَلَهَا تَشُقُّ طَرِيقَهَا فِي النُّمُوِّ حَتَّى سَوَّى خَلْقَكُمْ، وَنَفَخَ فِيكُمُ الرُّوحَ، فَإِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَسْمَعُونَ وَتُبْصِرُونَ وَتَنْطِقُونَ، وَبَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ فِي حَالِ ضَعْفٍ لِكَوْنِكُمْ صِغَارًا تَرْضَعُونَ، ثُمَّ أَطْفَالًا تَأْكُلُونَ، جَعَلَكُمْ شَبَابًا أَسْوِيَاءَ أَقْوِيَاءَ، ثُمَّ جَعَلَ خَلْقَكُمْ فِي تَرَاجُعٍ وَضَعْفٍ، حَيْثُ كَبِرْتُمْ فَجَعَلَكُمْ كُهُولًا، ثُمَّ شُيُوخًا قَدِ اشْتَعَلَتْ رُؤُوسُكُمْ شَيْبًا مِنَ الشَّيْخُوخَةِ، ثُمَّ أَدْرَكَكُمُ الهَرَمُ فَصِرْتُمْ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، ضَعُفَتِ الأَجْسَادُ وَذَبُلَتِ العُقُولُ، وَتَرَدَّتِ الصِّحَّةُ، وَعَادَ الإِنْسَانُ الهَرَمُ إِلَى الطُّفُولَةِ مِنْ جَدِيدٍ، لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَيَحْتَاجُ إِلَى رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ وَخِدْمَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وَقَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ).
ثُمَّ إِنَّ النُّطَفَ الَّتِي تَسْتَقِرُّ فِي الأَرْحَامِ، مِنْهَا المُخَلَّقَةُ وَهِيَ المُصَوَّرَةُ الَّتِي تَنْمُو حَتَّى تَصِيرَ إِنْسَانًا حَيًّا، وَمِنْهَا غَيْرُ المُخَلَّقَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْفَعُهَا الأَرْحَامُ قَبْلَ التَّصْوِيرِ وَنَفْخِ الرُّوحِ، أَوْ تُلْقِيهَا سِقْطًا.
وَمِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا أَوْ شَابًّا أَوْ كَهْلًا أَوْ شَيْخًا أَوْ هَرَمًا.
إِنَّ خَلْقَ الإِنْسَانِ وَالأَطْوَارَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا آيَةٌ وَعِبْرَة، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ المَلَاحِدَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، وَقَالَ تَعَالَى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).
فَخَلْقُ الإِنْسَانِ وَمَرَاحِلُ تَكَامُلِهِ وَنَقْصِهِ، وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، وَحَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ، وَقَبْرِهِ وَنَشْرِهِ؛ آيَةٌ وَاضِحَةُ العَلَامَةِ، بَيِّنَةُ الدِّلَالَةِ عَلَى الخَالِقِ.
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ
اقْرَأْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ).
فَهَذِهِ سَبْعُ تَارَاتٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِخَلْقِ ابْنِ آدَمَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، وَهَذَا إِعْجَازٌ رَبَّانِيٌّ قُرْآنِيٌّ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا).
وَقَالَ تَعَالَى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).
إِنَّ تَلْقِيحَ البُوَيْضَةِ وَتَخْصِيبَهَا بِالحَيَوَانِ المَنَوِيِّ وَاكْتِمَالَ نُمُوِّهَا وَتَخْطِيطِهَا آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَذَلِكَ تَكْوِينُ الحَمْلِ وَرِحْلَةُ نُمُوِّ الجَنِينِ، وَتَشْكِيلُ خَلْقِهِ خِلَالَ مُدَّةِ الحَمْلِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ آيَةٌ أُخْرَى؛ فَسُبْحَانَ مَنْ كَوَّنَ أَجْزَاءَ جِسْمِ الجَنِينِ المُتَنَوِّعَةَ شَيْئًا فَشَيْئًا فِي ظُلْمَةِ البَطْنِ، وَظُلْمَةِ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةِ المَشِيمَةِ، وَبَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ الجَنِينُ يَشُقُّ رِحْلَتَهُ فِي النُّمُوِّ طِفْلًا، ثُمَّ شَابًّا، ثُمَّ كَهْلًا، ثُمَّ شَيْخًا، ثُمَّ هَرَمًا.
أَلَا نَعْجَبُ يَا عِبَادَ اللهِ مِنْ خَبَرِ القُرْآنِ عَنْ كَيْفِيَّةِ تَوَلُّدِ الإِنْسَانِ وَنُمُوِّهِ فِي الرَّحِمِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الحَقِيقَةَ لَمْ تُكْتَشَفْ إِلَّا مِنْ قَرِيبٍ، بَعْدَ اخْتِرَاعِ وَسَائِلِ الأَشِعَّةِ الحَدِيثَةِ.
وَيُصَوِّرُ لَنَا القُرْآنُ رِحْلَةَ الإِنْسَانِ مِنَ البِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ، قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى تَنَقُّلِ الإِنْسَانِ فِي أَطْوَارِ الخَلْقِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَأَصْلُهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عِظَامًا، ثُمَّ يُكْسَى لَحْمًا، وَيُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَاهِنَ القُوَى، ثُمَّ يَشِبُّ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ صَغِيرًا، ثُمَّ حَدَثًا، ثُمَّ مُرَاهِقًا، ثُمَّ شَابًّا، وَهُوَ القُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ فَيَكْتَهِلُ، ثُمَّ يَشِيخُ ثُمَّ يَهْرَمُ، وَهُوَ الضَّعْفُ بَعْدَ القُوَّةِ، فَتَضْعُفُ الهِمَّةُ وَالحَرَكَةُ وَالبَطْشُ، وَتَشِيبُ اللِّمَّةُ، وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالبَاطِنَةُ".
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إِلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ، وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَهَذَا الإِخْبَارُ بِأَنَّ الحَمْلَ يَتَقَلَّبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فِي ثَلَاثَةِ أَطْوَارٍ، مُعْجِزَةٌ نَبَوِيَّة.ٌ
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذْكُرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ الدَّقِيقُ لِأَطْوَارِ الجَنِينِ المَذْكُورُ فِي القُرْآنِ وَالحَدِيثِ قَبْلَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ عَامٍ، المُوَافِقُ لِلْأَشِعَّةِ التِّلِيفِزيُونِيَّةِ الحَدِيثَةِ، وَطِبِّ الأَطِبَّاءِ العَصْرِيِّينَ؛ لَإِحْدَى المُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ وَالدِّلَالَاتِ الظَّاهِرَةِ عَلَى صِدْقِ الرِّسَالَةِ المُحَمَّدِيَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ)؛ أَيْ جَمِيلًا أَوْ قَبِيحًا، طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ شَبَهٍ: أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالحَزْنُ وَالخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – المَدِينَةَ، فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَقَالَ: (إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ؟، وَمَا بَالُ الوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟، قَالَ: «أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا»؛ «أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ المَشْرِقِ إِلَى المَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ: فَزِيَادَةُ كَبِدِ الحُوتِ، وَأَمَّا الوَلَدُ: فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ نَزَعَ الوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الوَلَدَ». قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ إِذَا احْتَلَمَتْ وَأَبْصَرَتِ الْمَاءَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ ذَلِكِ، إِذَا عَلَا مَاؤُهَا مَاءَ الرَّجُلِ، أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَخْوَالَهُ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَهَا أَشْبَهَ أَعْمَامَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ. قَالَ: «يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟» قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ، قَالَ: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ، أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ، آنَثَا بِإِذْنِ اللهِ». قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ، وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى أَتَانِيَ اللهُ بِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَوْجَدَنَا مِنَ العَدَمِ، وَرَبَّانَا بِالنِّعَمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا صَوَّرَ لَنَا بِإِيجَازٍ بِدَايَةَ الإِنْسَانِ وَمَسِيرَتَهُ وَنِهَايَتَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ).
سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ، اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا أَعْمَالَنَا، إِنَّكَ تَغْفِرُ الذُّنُوبَ لِمَنْ تَشَاءُ وَأَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، يَا غَفَّارُ اغْفِرْ لَنَا، يَا تَوَّابُ تُبْ عَلَيْنَا، يَا رَحْمَنُ ارْحَمْنا، يَا عَفُوُّ اعْفُ عَنَّا، يَا رَءُوفُ ارْؤُفْ بِنَا، يَا رَبِّ أَوْزِعْنَا أَنْ نَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيْنَا وَطَوِّقْنَا حُسْنَ عِبَادَتِكَ، يَا رَبِّ نسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، يَا رَبِّ افْتَحْ لَنَا بِخَيْرٍ، وَاخْتِمْ لنا بِخَيْرٍ، وَآتِنا شَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، وَقِنا السَّيِّئَاتِ، وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.