الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَمَّا بَعْدُ: "فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
عِبَادَ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)؛ أَيْ: إِنْ تَرَكْتُمُ اقْتِرَافَ الكَبَائِرَ نُكَفِّرْ عَنْكُمُ الصَّغَائِرَ بِحَسَنَةِ اجْتِنَابِ الكَبَائِرِ، وَبِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبِمَا يُصِيبُكُمْ مِنْ مَصَائِبَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ ٱلْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ)، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ). رواهُ التِّرْمذيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ).
وَفِي الْمُوَطَّإِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُرَّةَ مُرْسَلًا: الزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ: فَوَاحِشُ.
فَالذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ مُهْلِكَاتٍ، وَأَعْظَمُهَا المُكَفِّرَاتُ، وَإِلَى صَغَائِرَ لَا يَجُوزُ احْتِقَارُهَا؛ فَإِنَّهَا تَجْتَمِعُ عَلَى العَبْدِ حَتَّى تُهْلِكَهُ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَلَا أُنَبِّئُكمْ بِأكْبَرِ الْكَبائِرِ؟" ثلاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "الإِشْراكُ بِاللَّهِ، وعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ"، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجلَسَ، فَقَالَ: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ"، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
"الْيَمِينُ الْغَمُوسُ": الَّتِي يَحْلِفُهَا كَاذِبًا عَامِدًا، سُمِّيَتْ غَمُوسًا؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ الحَالِفَ فِي الإِثْمِ.
وَعَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ والِدَيْهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟، قَالَ: "نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟، قَالَ: "يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ - يَعْنِي المُهْلِكَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: "... الِانْتِقَالُ إِلَى الْأَعْرَابِيَّةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ". وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَفَعَهُ نَحْوُهُ، وذَكَرَ: "التَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ". وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ: "الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ".
وَلِابْنِ عَمْرٍو فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ"، وَالطَّبَرِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْخَرَائِطِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَذَكَرَ: "الْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ". وَلِأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ.
وَأَخْرَجَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَذَكَرَ: "عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ".
وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَذَكَرَ: "فِرَاقُ الْجَمَاعَةِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ".
وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّهُمْ تَذَاكَرُوا الْكَبَائِرَ، وَذَكَرُوا الغُلُولَ وَالزِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فَأَيْنَ تَجْعَلُونَ (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)؟!".
وَعِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ".
وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَكَرَ: "الْبُهْتَانُ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَ: "عَدَمُ التَّنَزُّهِ مِنَ البَوْلِ، وَالمَشْيُ بِالنَّمِيمَةِ"،
وَلِابْنِ مَاجَهْ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ: يُعَذَّبُ فِي الغِيبَةِ، بَدَلَ النَّمِيمَةِ.
وَلِإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ ذَكَرَ: "الزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ".
وَلَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ: "شَتْمُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". وَهُوَ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ قَوْلِ مُغِيرَةَ بْنِ مِقْسَمٍ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: "الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ".
وَعَنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ رَفَعَهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عُمَرَ قَوْلُهُ. وَعِنْدَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَ: "النُّهْبَةُ". وَمِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: "مَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ، وَمَنْعُ طُرُوقِ الْفَحْلِ".
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ: "الصَّلَوَاتُ كَفَّارَاتٌ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ"، ثُمَّ فَسَّرَ نَكْثَ الصَّفْقَةِ بِالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ، وَتَرْكَ السُّنَّةِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ.
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْد ابْنِ مَرْدَوَيْهِ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ".
وَمِنَ الضَّعِيفِ فِي ذَلِكَ: "نِسْيَانُ الْقُرْآنِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: "نَظَرْتُ فِي الذُّنُوبِ فَلَمْ أَرَ أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أُوتِيهَا رَجُلٌ فَنَسِيَهَا". وَحَدِيثُ: "مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَهَذَا جَمِيعُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، مِمَّا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، أَوْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، صَحِيحًا وَضَعِيفًا، مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَقَدْ تَتَبَّعْتُهُ غَايَةَ التَّتَبُّعِ ... قَالَ: وَهِيَ السَّبْعَةُ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ». وَالِانْتِقَالُ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ، وَالْعُقُوقُ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالنَّمِيمَةُ، وَتَرْكُ التَّنَزُّهِ مِنَ الْبَوْلِ، وَالْغُلُولُ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ، وَفِرَاقُ الْجَمَاعَةِ؛ فَتِلْكَ عِشْرُونَ خَصْلَةً".
وَقَالَ الهَيْتَمِيُّ: "قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: كَبَائِرُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ كَبَائِرِ الْجَوَارِحِ".
وَمِنْ الْأَمْرَاضِ القَلْبِيَّةِ: الشِّرْكُ، والْكُفْرُ، وَالنِّفَاقُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ -، وَالْكِبْرُ، وَالْفَخْرُ، وَالْخُيَلَاءُ، وَالْحَسَدُ، وَالْغِلُّ، وَالْحِقْدُ، وَالْبَغْيُ، وَالْغَضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالْغَيْظُ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالرِّيَاءُ، وَالسُّمْعَةُ، وَالْغِشُّ، وَالْبُخْلُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْحَقِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا، يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، فَهُوَ المُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِنْ عَبْدٍ يُصَلِّي الْخَمْسَ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ السَّبْعَ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ .... الْحَدِيثَ".
وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: "إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ، وَمَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ مُحْتَسِبًا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَمِ الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: هِيَ تِسْعٌ، أَعْظَمُهُنَّ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ، أَحْيَاءً أَمْوَاتًا، لَا يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، إِلَّا رَافَقَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّةٍ، أَبْوَابُهَا مَصَارِيعُ الذَّهَبِ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بَعْضُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. وَقَالَ الهَيْتَمِيُّ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.
وَهَذَا الحَصْرُ بِالعَدَدِ - وَاللهُ أَعْلَمُ - مِنْ بَابِ ضَرْبِ المَثَلِ.
وَإِلَّا فَإِنَّ هَذَا الفَضْلَ العَظِيمَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ تَجَنَّبَ جَمِيعَ الكَبَائِرِ فَلَمْ يُصِرَّ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ عَبَدَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ؛ فَلَهُ الْجَنَّةُ".
وَالكَبَائِرُ هِيَ مَا جَاءَ فِي الكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ ذَنْبٌ كَبِيرٌ، أَوْ عَظِيمٌ، أَوْ مُوبِقٌ، أَوْ مُهْلِكٌ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ نَحْوُ لَعْنٍ، أَوْ غَضَبٍ، أَوْ وَعِيدٍ شَدِيدٍ كَعَذَابٍ، أَوْ دُخُولٍ فِي النَّارِ، أَوْ حِرْمَانٍ مِنَ الجَنَّةِ، أَوْ تَكْفِيرٍ، أَوْ تَفْسِيقٍ، أَوْ تَبْدِيعٍ، أَوْ وَجَبَ فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا كَجَلْدٍ، وَرَجْمٍ، وَقَتْلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "كُلُّ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: كَمِ الْكَبَائِرُ؟ سَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: "إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ".
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا يَا عِبَادَ اللهِ؛ فَلْنَحْذَرْ كُلَّ الحَذَرِ مِنْ تَضْيِيعِ فَرَائِضِ اللهِ، وَتَعَدِّي حُدُودِهِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، وَلْنَبْتَعِدْ عَنِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا، كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، القَلْبِيَّةِ وَالقَوْلِيَّةِ وَالفِعْلِيَّةِ، وَلْنَتَجَنَّبْ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهَا تَجْتَمِعُ عَلَى العَبْدِ حَتَّى تُهْلِكَهُ، وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: لَا تَنْظُرْ إلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى مَنْ عَصَيْتَ.
اللَّهُمَّ لَا حَوْلَ لَنَا وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا خَطِيئَاتِنَا وَجَهْلَنَا، وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا، وَعَمْدَنَا وَجَهْلَنَا وَهَزْلَنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.