الْخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَمَّا بَعْدُ: "فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).
فَالقُرْآنُ: هُوَ حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وَصِرَاطُهُ المُسْتَقِيمُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَهُمْ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقَالَ: (قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: (إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). رَوَاهُ الحَاكِمُ، وَقَالَ: ذِكْرُ الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ غَرِيبٌ.
وَرَوَى الإِمَامُ مَالِكٌ بَلَاغًا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ).
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: "وَهَذَا مَحْفُوظٌ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، شُهْرَةً يَكَادُ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنِ الْإِسْنَادِ".
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ). رَوَاهُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ تَوَافَرَتْ آيَاتُ الكِتَابِ وَأَحَادِيثُ السُّنَّةِ فِي الأَمْرِ بِالاجْتِمَاعِ وَالأُلْفَةِ، وَتَرْكِ الاخْتِلَافِ وَالفُرْقَةِ، وَذَلِكَ بِالتَّمَسُّكِ بِالقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمَا عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ: عَقِيدَةً وَمَنْهَجًا وَعِبَادَةً وَسُلُوكًا وَمَرْجِعًا عند الاختلاف، وَهَذَا هُوَ الإِسْلَامُ المُوَصِّلُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اللهُ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ".
قَالَ مُجَاهِدٌ: (مِنْ قَبْلُ)، قَالَ: "فِي الكُتُبِ كُلِّهَا وَالذِّكْرِ، (وَفِي هَذَا) يَعْنِي القُرْآنَ".
فَاللهُ الَّذِي سَمَّانَا مُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ القُرْآنِ، وَفِي القُرْآنِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالإِسْلَامِ وَالإِيمَانِ جَمِيعًا.
وَعَنِ الحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ المُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الاخْتِلَافِ الكَثِيرِ، وَالتَّفَرُّقِ الكَبِيرِ بَعْدَهُ، مِنْ مِلَلٍ وَنِحَلٍ وَمَذَاهِبَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِهِ، وَفِي العَقِيدَةِ وَالتَّوْحِيدِ.
وَتَفَرَّقَتِ الأُمَّةُ الإِسْلَامِيَّةُ؛ حَيْثُ ظَهَرَتْ فِرَقٌ وَجَمَاعَاتٌ، وَأَحْزَابٌ وَحَرَكَاتٌ وَتَنْظِيمَاتٌ، وَأَفْكَارٌ وَأَهْوَاءٌ وَآرَاءٌ، كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ إِمَّا لِعَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، أَوْ لِمَنْهَجِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَالعِبَادَةِ وَالسُّلُوكِ، مَا بَيْنَ غُلُوٍّ وَتَفْرِيطٍ، وَجَفَاءٍ وَإِرْجَاءٍ وَتَشَدُّدٍ وَتَمْيِيعٍ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةُ هُمُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنَ النَّارِ لِإِيمَانِهَا وَعَدَمِ كُفْرِهَا، وَتَمَسُّكِهَا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَقِيدَةً وَمَنْهَجًا، وَلِهَجْرِهَا البِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَتَجَنُّبِهَا الغُلُوَّ فِي الدِّينِ وَالجَفَاءَ عَنْهُ، وَعَدَمِ تَفْرِيطِهَا بِارْتِكَابِ الكَبَائِرِ وَالإِصْرَارِ عَلَيْهَا.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةُ هِيَ الطَّائِفَةُ المَنْصُورَةُ، عَلَى الحَقِّ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا وَلَا مَنْ خَذَلَهَا، وَهِيَ السَّوَادُ الأَعْظَمُ، وَهُمْ أَهْلُ الحَدِيثِ، وَمِنْ صِفَاتِهَا أَنَّهَا أُمَّةٌ تَعْمَلُ بِالوَحْيِ، وَأَنَّ اللهَ جَعَلَهَا أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُنْحَرِفَيْنِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، وَقَالَ تَعَالَى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ فِينَا، فَقَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى اثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً – يَعْنِي الْأَهْوَاءَ –، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلا دَخَلَهُ». قَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «وَاللهِ يَا مَعْشَرَ العَرَبِ، لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَغَيْرُكُمْ مِنَ النَّاسِ أَحْرَى أَنْ لَا يَقُومَ بِهِ». صَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَجَوَّدَهُ العِرَاقِيُّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ.
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْجَمَاعَةُ). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، قَالَ البُوصِيرِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ مَقَالٌ ... وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً. قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَحَسَّنَهُ العِرَاقِيُّ.
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فُرْقَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحَرِّمُونَ الحَلَالَ وَيُحَلِّلُونَ الحَرَامَ». رَوَاهُ البَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ الهَيْثَمِيُّ: رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).
لَقَدْ هَدَانَا اللهُ - يَا عِبَادَ اللهِ - لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذِهِ نِعْمَةٌ تُذْكَرُ فَتُشْكَرُ:
تَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ: قَدْ حَذَّرَنَا سَلَفُنَا الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِنَ التَّسَمِّي بِالأَسْمَاءِ المُحْدَثَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "مَنْ أَقَرَّ بِاسْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَسْمَاءِ المُحْدَثَةِ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ".
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: "إِيَّاكُمْ وَكُلَّ اسْمٍ يُسَمَّى بِغَيْرِ الإِسْلَامِ".
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: "إِذَا تَسَمَّى الرَّجُلُ بِغَيْرِ الإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ؛ فَأَلْحِقْهُ بِأَيِّ دِينٍ شِئْتَ".
وَلَمَّا قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْتَ عَلَى مِلَّةِ عَلِيٍّ؟، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: -لَا وَاللهِ - وَلَا عَلَى مِلَّةِ عُثْمَانَ، أَنَا عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَسُئِلَ الإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَقَالَ: «أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ لَقَبٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، لَا جَهْمِيٌّ، وَلَا قَدَرِيٌّ، وَلَا رَافِضِيٌّ».
يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَيْسَ لَهُمْ اسْمٌ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ سِوَى السُّنَّةِ، خِلَافًا لِأَهْلِ البِدَعِ؛ فَإِنَّهُمْ تَارَةً يُنْسَبُونَ إِلَى مَقَالَتِهِمُ المُبْتَدَعَةِ كَالقَدَرِيَّةِ، وَتَارَةً إِلَى القَائِلِ كَالجَهْمِيَّةِ، وَتَارَةً إِلَى الفِعْلِ كَالرَّوَافِضِ وَالخَوَارِجِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ بَرِيئُونَ مِنْ هَذِهِ النِّسَبِ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا نِسْبَتُهُمْ إِلَى الحَدِيثِ
وَالسُّنَّةِ تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ أَهْلِ البِدْعَةِ.
وَأَجَابَ الإِمَامُ مَالِكٌ مَرَّةً أُخْرَى لَمَّا سُئِلَ عَنِ السُّنَّةِ، فَقَالَ: «هِيَ مَا لَا اسْمَ لَهُ غَيْرُ السُّنَّةِ»، وَتَلَا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا وَغُمُومِنَا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا.
اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا صَادِقًا، وَإِسْلَامًا كَامِلًا، وَعَمَلًا صَالِحًا خَالِصًا، وَيَقِينًا دَائِمًا.
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.