الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَكْرَمِ الْأَكْرَمِينَ، وَأَجْوَدِ الْأَجْوَدِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَزَائِنُهُ مَلْأَى، وَيَمِينُهُ سَحَّاءُ، وَيَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ بِالْعَطَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ذُو النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ السَّخِيَّةِ، الْكَرِيمُ الْمِعْطَاءُ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ وَصِيَّتُهُ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱلِلَّهَ)، وَذَلِكَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ.
ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ، أَنَّ رَسُولَنَا مُحَمَّدًا – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلٌ أَعْلَى فِي سَخَاءِ النَّفْسِ، وَطُولِ الْيَدِ، وَبَذْلِ النَّدَى، وَاحْتِمَالِ الْأَذَى، فَلَوْ اجْتَمَعَ كَرَمُ الْكُرَمَاءِ، وَجُودُ الْأَجْوَادِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، مَا بَلَغَ مُدَّ كَرَمِهِ وَجُودِهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَصِيفَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "أَجْوَدُ الْعَرَبِ ثَلَاثَةٌ: كَعْبُ بْنُ مَامَةَ، وَحَاتِمٌ الطَّائِيُّ، وَكِلَاهُمَا ضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ، وَهَرَمُ بْنُ سِنَانٍ".
إِنَّ كَرَمَ هَؤُلَاءِ الْأَعْيَانِ وَأَمْثَالِهِمْ - وَأَنْعِمْ بِكَرَمِهِمْ - مَا هُوَ إِلَّا قَطْرَةٌ فِي بَحْرِ كَرَمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ كَرَمَهُ وَجُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَامِلٌ شَامِلٌ جَزْلٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا وَصَفَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: "أَجْوَدُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً، مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلَهُ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ». يُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ.
وَالْمُهِمُّ أَنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ، فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَعُ النَّاسِ قَلْبًا، وَأَفْسَحُهُمْ صَدْرًا، وَأَجْوَدُهُمْ فِي الْبَذْلِ وَالتَّحَمُّلِ، وَأَكْرَمُهُمْ فِي الِاتِّصَافِ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالْمُرُوءَةِ الرَّفِيعَةِ، وَمَعَالِي الْأُمُورِ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الرَّذِيلَةِ وَسَفَاسِفِ الْأَخْلَاقِ.
وَهُوَ أَصْدَقُ النَّاسِ لِسَانًا وَقَوْلًا، وَأَكْرَمُ النَّاسِ مُصَاحَبَةً، وَأَلْيَنُهُمْ طَبِيعَةً، سَلِسٌ مِطْوَاعٌ مُنْقَادٌ، مَعَ قُوَّةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، قَلِيلُ الْخِلَافِ وَالنُّفُورِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وَذَلِكَ أَدَبُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَدَّبَهُ اللَّهُ بِهِ، فَخُلُقُهُ جَامِعٌ مَانِعٌ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَمَالُ وَالتَّمَامُ بِمُسْتَغْرَبٍ، فَخُلُقُهُ الْقُرْآنُ.
وَالْكَرَمُ وَالْجُودُ يَا عِبَادَ اللَّهِ لَيْسَ فَقَطْ فِي إِطْعَامِ الطَّعَامِ وَبَذْلِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا الْجُودُ فِي شُؤُونٍ كَثِيرَةٍ: جُودٍ بِالنَّفْسِ، وَبِالْعِلْمِ، وَبِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَبِالْمَالِ، وَبِالْجَاهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَلْ جَمَعَهَا مَخْلُوقٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
قَالَتْ خَدِيجَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ: لَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ مَدَحَ الْفَرَزْدَقُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ زَيْنَ الْعَابِدِينَ، فَقَالَ:
مَا قَالَ: لَا، قَطُّ، إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ ... لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاءَهُ نَعَمُ
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرُدُّ سَائِلًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، وَلَقَدَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ حَتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ، فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: «أَعْطُونِي رِدَائِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هَذِهِ العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلاَ كَذُوبًا، وَلَا جَبَانًا». رَوَاهُ البُخَارِيُّ. وَ"العِضَاهُ": شَجَرٌ لَهُ شَوْكٌ.
وَقَاعِدَةُ انْطِلَاقِ كَرَمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَا يَبْذُلُ هُوَ الْبَاقِي لَهُ، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا بَقِيَ مِنْهَا؟"، قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: "بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ كَانَ لَا حُدُودَ لِكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَسَخَائِهِ وَعَطَائِهِ وَبَذْلِهِ وَإِيثَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَنَظْرَتُهُ أُخْرَوِيَّةٌ لَا دُنْيَوِيَّةٌ، لَا يُرِيدُ مِنْ إِنْسَانٍ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، فَهُوَ مُسْتَغْنٍ بِرَبِّهِ.
وَقَدْ تَعَدَّى جُودُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْحَيَوَانِ وَالطَّيْرِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ نَمَاذِجِ جُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَاءَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا، وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ، فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: "فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا".
وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - يَعْنِي: فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ -، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي رِفَاعَةَ تَمِيمِ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ؟ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فأَتمَّ آخِرَهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، "أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبَّاسٍ: «يَا عَبَّاسُ، أَلَاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا»، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ رَاجَعْتِهِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ»، قَالَتْ: لَاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا رَأَيْتُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طِيبَ نَفْسٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ)، قَالَ لَهَا: (أَيَسُرُّكِ دُعَائِي؟) فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكِ؟! فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدُعَائِي لِأُمَّتِي فِي كُلِّ صَلَاةٍ). رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَجُودُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْقَطِعُ؛ بَلْ هُوَ بَاقٍ حَتَّى فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ المَقَامَ المَحْمُودَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
فَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْتَذِرُونَ عَنِ الشَّفَاعَةِ، وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ: نَفْسِي نَفْسِي إِلَّا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: «إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ نَمَاذِجِ جُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَفْوُ، وَالصَّفْحُ، وَالْإِحْسَانُ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مُرْسَلًا عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ... إِلَى أَنْ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ. وَلِلطُّلَقَاءِ ذِكْرٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيْثِ أَنَسٍ.
لَقَدْ عَفَا وَصَفَحَ عَنْهُمْ فَتَجَاوَزَ عَنْ إِسَاءَتِهِمْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ، وَأَعْرَضَ عَنِ التَّثْرِيبِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ، وَقَدْ مَكَّنَهُ اللَّهُ مِنْ رِقَابِهِمْ بَعْدَ عَدَاوَتِهِمُ الشَّدِيدَةِ الطَّوِيلَةِ، وَإِيذَائِهِمْ لَهُ الْمُتَوَاصِلِ، وَإِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُ مِنْ وَطَنِهِ، وَقِتَالِهِمُ الْمُسْتَمِيتِ لَهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ سَجِيَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: "أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ رسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا سَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ". رَوَاهُ الحَاكِمُ، وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ»، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَثَبَتَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ. فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَحَدُ إِسْنَادَيْ أَحْمَدَ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَصَدَقَ اللَّهُ الْقَائِلُ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)؛ أَيْ لَهُمْ جَمِيعِهِمْ، صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، شَرِيفِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ، صَالِحِهِمْ وَطَالِحِهِمْ، ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ"، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ سَجِيَّتُهُ بَذَلَ النَّدَى، وَتَحَمُّلَ الْأَذَى، وَذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَهَذَا جُودٌ لَا يَكَادُ يُقْدَرُ عَلَيْهِ.
فَمِنْ نَمَاذِجِ تَحَمُّلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا جَاءَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ، مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا أُنْمُوذَجٌ عَظِيمٌ فِي كَظَمِ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوِ، وَالْإِحْسَانِ.
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحَاكِي وَالْمَحْكِيُّ.
عِبَادَ اللَّهِ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَكَارِمِ جُودِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَالِي كَرَمِهِ، وَمَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ، مَا هُوَ إِلَّا غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ، وَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، وَبَعْضٌ مِنْ كُلٍّ.
قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ:
مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ .... فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ بِمِثْلِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ». قَالَ الهَيْثَمِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ وَالذَّهَبِيُّ وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ.
اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ، لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبُّنَا، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ، ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا، وَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، نَحْنُ بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، نَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إلَيْكَ.
اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.