الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْنَا صِيَامَ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا فِيهِ القُرْآنَ، هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ، وَحَبَّبَ إِلَيْنَا الإِسْلَامَ وَالإِيمَانَ وَالإِحْسَانَ، وَكَرَّهَ إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ المَبْعُوثِ لِلْإِنْسِ وَالجَانِّ، الَّذِي جَاءَنَا بِالحِكْمَةِ وَالتِّبْيَانِ، وَالحُجَّةِ وَالبُرْهَانِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ نَصَرُوهُ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَالعِلْمِ وَالبَيَانِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ وَسِيلَةٌ لِلْفَهْمِ وَالعِلْمِ، قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ).
وَإِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ نَتَعَلَّمَ حُكْمَهُ وَأَحْكَامَهُ وَسُنَنَهُ وَآدَابَهُ، فَرْضِيَّةَ الصِّيَامِ، يَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلَا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فَقَدْ كَانَ فَرْضُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الهِجْرَةِ، وَصَامَ الرَّسُولُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ.
وَقَدْ كَتَبَ اللهُ الصِّيَامَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَفَرَضَهُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ.
وَفَضْلُ الصَّوْمِ عَظِيمٌ، وَثَوَابُهُ جَسِيمٌ، وَحَسْبُنَا فِي فَضْلِهِ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ اللَّهُ: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).
فَالأَعْمَالُ التَّعَبُّدِيَّةُ مَقَادِيرُ ثَوَابِهَا أَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللهُ، إِلَّا الصِّيَامَ؛ فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).
وَشَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ القُرْآنِ، شَهْرُ الغُفْرَانِ، شَهْرُ العِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، شَهْرٌ تُضَاعَفُ فِيهِ الحَسَنَاتُ، وَتُغْفَرُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ، رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ ثُمَّ انْسَلَخَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ.
مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
وَمَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ.
وَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَرَمَضَانُ شَهْرُ الجُودِ؛ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
إِذَا رَمَضَانُ أَتَى مُقْبِلًا ... فَأَقْبِلْ فَبِالخَيْرِ يُسْتَقْبَلُ
كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِ شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَدْ صُحِّحَ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: (لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ؛ فَلْيَصُمْ ذلِكَ الْيَوْمَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَصَحَّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: «مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ، فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: «حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَاليَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ هُوَ اليَوْمُ الثَّلَاثُونَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ دُخُولَ شَهْرِ رَمَضَانَ يَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِإِكْمَالِ العِدَّةِ ثَلَاثِينَ، لَا بِعِلْمِ الحِسَابِ.
وَيَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ سِتَّةٌ:
الأَوَّلُ: الإِسْلَامُ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ.
الثَّانِي: البُلُوغُ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَيُسْتَحَبُّ تَعْوِيدُهُ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: العَقْلُ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ المَجْنُونِ وَلَا الكَبِيرِ الَّذِي بَلَغَ الهَذَيَانَ.
الرَّابِعُ: القُدْرَةُ عَلَى الصَّوْمِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى المَرِيضِ، وَلَا عَلَى الكَبِيرِ الهَرِمِ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ الصَّوْمِ عَجْزًا مُؤَقَّتًا، قَضَاهُ وَقْتَ الاسْتِطَاعَةِ، وَمَنْ كَانَ عَجْزُهُ دَائِمًا أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَإِذَا خَافَتِ الحَامِلُ أَنْ تَتَضَرَّرَ هِيَ إِنْ صَامَتْ، أَوْ يَتَضَرَّرَ جَنِينُهَا: أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ.
الخَامِسُ: الإِقَامَةُ، أَمَّا المُسَافِرُ فَلَهُ الفِطْرُ.
السَّادِسُ: خُلُوُّ المَرْأَةِ مِنَ النِّفَاسِ وَالحَيْضِ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي سَائِرِ الأَزْمَانِ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ، وَمُنَّ عَلَيْنَا فِيهِ بِالغُفْرَانِ، وَالعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، فَغَفَرْتَ ذَنْبَهُ وَأَعْتَقْتَ رَقَبَتَهُ.
اللَّهُمَّ اجْمَعْ عَلَى الْهُدَى أَمْرَنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلِ التَّقْوَى زَادَنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْجَنَّةَ مَآبَنَا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.