الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَآوَانَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، وَأَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) ﴿ البقرة: ١٩٧﴾.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ اللَّيَالِيَ وَالأَيَّامَ وَالشُّهُورَ وَالأَعْوَامَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةٌ، أَرَأَيْتُمْ شَهْرَ شَعْبَانَ؟ فَإِنَّ لَهُ مَزِيَّةً وَخَاصِّيَّةً، فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ الْأَيَّامَ، يَسْرُدُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ الْأَيَّامَ حَتَّى لَا يَكَادَ أَنْ يَصُومَ، إِلَّا يَوْمَيْنِ مِنَ الْجُمُعَةِ، إِنْ كَانَ فِي صِيَامِهِ، وَإِلَّا صَامَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَصُومُ لَا تَكَادُ أَنْ تُفْطِرَ، وَتُفْطِرُ حَتَّى لَا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ، إِلَّا يَوْمَيْنِ إِنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ وَإِلَّا صُمْتَهُمَا، قَالَ: "أَيُّ يَوْمَيْنِ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ. قَالَ: "ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"، قَالَ: قُلْتُ: وَلَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: "ذَاكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي المُخْتَارَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ حُسِّنَ.
وَالحَدِيثُ يُفِيدُ أَنَّ شَهْرَ شَعْبَانَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ السَّنَةِ، وَهَذَا رَفْعٌ سَنَوِيٌّ، وَالرَّفْعُ الأُسْبُوعِيُّ يَكُونُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا الرَّفْعُ اليَوْمِيُّ؛ فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَإِذَا انْقَضَى عُمْرُ الإِنْسَانِ رُفِعَ عَمَلُهُ كُلُّهُ.
فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، خَاصَّةً فِي أَوْقَاتِ رَفْعِ الأَعْمَالِ وَعَرْضِهَا عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: "لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمٍ: (كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا).
وَعَنْهَا، قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ، بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
وَلَمَّا كَانَ شَهْرُ شَعْبَانَ كَالمُقَدِّمَةِ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، شُرِعَ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالصَّدَقَةِ، تَأْهِيلًا وَتَأَهُّبًا لِاسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ، فَتَرْتَاضُ النُّفُوسُ بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَتَتَدَرَّبُ وَتَتَعَوَّدُ.
رُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ المُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ انْكَبُّوا عَلَى المَصَاحِفِ فَقَرَؤُوهَا، وَأَخْرَجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ؛ تَقْوِيَةً لِلضَّعِيفِ وَالمِسْكِينِ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ.
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: كَانَ يُقَالُ: شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرُ القُرَّاءِ.
وَكَانَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ، قَالَ: هَذَا شَهْرُ القُرَّاءِ.
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المُلَائِيُّ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ، وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ القُرْآنِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَوَّى خَلْقَنَا، وَأَحْسَنَ صُوَرَنَا، أَمَّا بَعْدُ:
فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، وَذَلِكَ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَمَنْ كَانَ يَا عِبَادَ اللهِ عَلَيْهِ صَوْمُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ المَاضِي لَمْ يَقْضِهَا بَعْدُ، فَلْيَقْضِهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى دُخُولِ رَمَضَانَ الآخَرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى مَنْ فَرَّطَ - فَأَخَّرَ القَضَاءَ - حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ الثَّانِي القَضَاءُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ العِلْمِ، وَعَلَيْهِ الكَفَّارَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ أَخَّرَهُ.
اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَزِدْنَا عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَقْوًى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.