الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عِبَادَ اللهِ، اعْلَمُوا - رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ -: أَنَّ مِنْ أَعْدَى أَعْدَاءِ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ الأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، فَهِيَ مِنْ شَرِّ الأَصْحَابِ وَأَضَرِّ القُرَنَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي).
فَقَوْلُهُ: "لَأَمَّارَةٌ" صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، فَهِيَ تَشْتَهِي الشَّرَّ، وَلَحُوحَةٌ فِي الأَمْرِ بِهِ، لَا تَمَلُّ وَلَا تَكِلُّ، تُزَيِّنُهُ لِصَاحِبِهَا وَتُهَوِّنُهُ عَلَيْهِ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ)؛ أَيْ بِسَبَبِ ذَنْبِهَا وَشُؤْمِ مَعْصِيَتِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى عَنِ السَّامِرِيِّ الضَّالِّ: (وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)؛ أَيْ حَدَّثَتْنِي وَزَيَّنَتْ لِي الفِتْنَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى عَنِ ابْنِ آدَمَ: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)؛ أَيْ زَيَّنَتْ لَهُ الجَرِيمَةَ فَارْتَكَبَهَا، فَهَلَكَ بِسَبَبِهَا وَشُؤْمِ مَعْصِيَتِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ)، فَالشَّحِيحَةُ هِيَ الحَرِيصَةُ عَلَى اتِّبَاعِ هَوَاهَا، وَإِنْ خَالَفَ مَوْلَاهَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فَمَنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي فِعْلِ وَاجِبٍ وَلَا فِي تَرْكِ مُحَرَّمٍ؛ فَقَدْ وَقَاهُ اللهُ شُحَّ نَفْسِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ أَدْرَكَهُ وَأَهْلَكَهُ.
وَعَنْ أَبِي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ بِالبَيْتِ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي إِذَا وُقِيتُ شُحَّ نَفْسِي لَمْ أَسْرِقْ، وَلَمْ أَزْنِ، وَلَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا، وَإِذَا الرَّجُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ.
وَللهِ دَرُّ القَائِلِ:
إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلَّا لِطُولِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي
إِبْلِيسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالهَوَى ... كَيْفَ الخَلَاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي؟!
وَلَمَّا كَانَتِ النَّفْسُ مَصْدَرَ شَرٍّ وَمَنْبَعَ سُوءٍ، شُرِعَتِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّهَا؛ فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا خُطْبَةَ الْحَاجَةِ، الْحَمْدُ لِلُهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ...) الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَغَيْرُهُمْ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ صُحِّحَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ، قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو لِنَفْسِهِ، وَنُفُوسُنَا أَحْوَجُ لِهَذَا الدُّعَاءِ؛ فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا أَقُولُ لَكَ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَيَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، الْمُسَوِّلَةُ لِصَاحِبِهَا الشَّرَّ، الْمُتَّصِفَةُ بِالشُّحِّ، الْمُتَسَبِّبَةُ لِصَاحِبِكِ بِشُؤْمِ مَعْصِيَتِكِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)؛ أَيْ مُكَلَّفٌ بِهَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، يَضْبِطُ وَيُحْصِي عَلَيْهَا مَا تَكْسِبُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَلَوْ كَمَثَاقِيلِ الذَّرِّ.
قَالَ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
فَاَللَّهُ لَا يُعَاقِبُ نَفْسًا بِذَنْبٍ لَمْ تَعْمَلْهُ، أَوْ يَبْخَسُهَا ثَوَابَ عَمَلٍ عَمِلَتْهُ، وَلَكِنْ يُجَازِي الْمُحْسِنَةَ بِإِحْسَانِهَا، وَلَا يُعَاقَبُ الْمُسِيئَةَ إِلَّا بِإِسَاءَتِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)، فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يُؤْتَى بِالْأَعْمَالِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، فَتَفْرَحُ الْأَنْفُسُ بِحَسَنِهَا، وَتَتَمَنَّى أَنَّ سَيِّئَهَا فِي مَكَانٍ نَاءٍ عَنْهَا.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَسُرُّ أَحَدَهُمْ أَنْ لَا يَلْقَى عَمَلَهُ ذَاكَ أَبَدًا، يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاهُ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ كَانَتْ خَطِيئَةً يَسْتَلِذُّهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
فَكُلُّ نَفْسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُخَاصِمُ وَتَحْتَجُّ عَنْ نَفْسِهَا، لَا يُحَاجُّ عَنْهَا قَرِيبٌ وَلَا بَعِيدٌ، وَلَنْ يُسْمَعَ لِدَعْوَاهَا فِيمَا أُدِينَتْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، وَقَالَ تَعَالَى: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)، شَهِيدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَشَهِيدٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ النَّفْسَ، وَبَيَّنَ لَهَا الطَّاعَةَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَجَعَلَ فِيهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَعَرَّفَهَا جَزَاءَ الصَّالِحِينَ وَجَزَاءَ الْمُجْرِمِينَ، وَأَوْضَحَ لِلْعِبَادِ مَا يُصْلِحُ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يُفْسِدُهَا، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ إِرَادَةَ تَطْهِيرِ نَفْسِهِ، وَتَعْلِيمِهَا، وَتَأْدِيبِهَا، وَتَهْذِيبِهَا: أَعَانَهُ. وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ إِرَادَةَ تَدْنِيسِ نَفْسِهِ، وَتَرْكِهَا لِأَهْوَائِهَا وَشَهَوَاتِهَا: خَذْلَهُ وَتَخَلَّى عَنْهُ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا).
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا). فَنَفْسُكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَمَانَةٌ فِي عُنُقِكَ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ عَلَى عَاتِقِكَ، أَنْتَ مُطَالَبٌ بِأَنْ تَرْعَاهَا، وَتَعْتَنِيَ بِهَا، وَذَلِكَ بِتَعْلِيمِهَا، وَتَأْدِيبِهَا، وَإِصْلَاحِهَا، وَتَرْبِيَتِهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ الْجَلِيلَةِ، وَالْآدَابِ الْجَمِيلَةِ، وَتَعْوِيدِهَا الْخَيْرَ، وَتَذْكِيرِهَا بِاَللَّهِ تَعَالَى تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا.
فَمَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ غَشَّ نَفْسَهُ، وَضَيَّعَهَا، وَلَمْ يَنْصَحْ لَهَا. قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)، وَذَلِكَ لِإِهْمَالِهِمْ لَهَا، وَعَدَمِ رِعَايَتِهَا وَالْعِنَايَةِ بِهَا.
قَالَ الْبُوصِيرِيُّ:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمُ
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ تُجَاهَ نَفْسِهِ أَنْ يَقُومَ عَلَى ضَبْطِ مُرَاقَبَتِهَا، وَلُزُومِ مُحَاسَبَتِهَا، وَصِدْقِ مُعَاقَبَتِهَا، وَحُسْنِ مُعَاتَبَتِهَا، وَدَوَامِ مُجَاهَدَتِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَمَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
فَالْمُرَاقَبَةُ تَعْنِي الدِّقَّةَ فِي الْمُتَابَعَةِ، وَدَوَامَ الْمُلَاحَظَةِ، وَرَصْدَ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ، ثُمَّ نَهْيَهَا؛ لِئَلَّا تَتَحَوَّلَ إِلَى خَاطِرَةٍ، ثُمَّ فِكْرَةٍ، ثُمَّ رَغْبَةٍ، ثُمَّ إِرَادَةٍ، ثُمَّ عَزِيمَةٍ، ثُمَّ عَمَلٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ)، فَلَمَّا كَانَتْ نَفْسُ هَذَا الْخَائِفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَحْتَ مُرَاقَبَتِهِ، زَجَرَهَا مُنْذُ هَمَّتْ بِالْمَعْصِيَةِ، وَحَدَّثَتْهُ بِالسَّيِّئَةِ: فَانْزَجَرَتْ.
وَمِيزَانُ المُرَاقَبَةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ: مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ). قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَإِذَا حَسُنَ الْإِسْلَامُ، اقْتَضَى تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي كُلِّهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي الْمُسْلِمَ إِذَا كَمُلَ إِسْلَامُهُ. انْتَهَى.
قَالَ الْحَسَنُ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا وَقَفَ عِنْدَ هَمِّهِ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ مَضَى، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ تَأَخَّرَ.
وَيَنْبَغِي كَذَلِكَ مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)؛ أَيْ لِيَسْتَعْرِضْ الْمُسْلِمُ مَا قَدَّمَتْ نَفْسُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَلْيَزْدَدْ خَيْرًا، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَلْيَتُبْ وَيَسْتَغْفِرْ.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا.
وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: حَاسِبْ نَفْسَكَ فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ.
وَفِي "صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ"، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ).
قِيلَ: كَانَ تَوْبَةُ بْنُ الصِّمَّةِ بِالرَّقَّةِ، وَكَانَ مُحَاسِبًا لِنَفْسِهِ، فَحَسَبَ يَوْمًا فَإِذَا هُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، فَحَسَبَ أَيَّامَهَا فَإِذَا هِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ يَوْمٍ وَخَمْسُمِائَةِ يَوْمٍ، فَصَرَخَ وَقَالَ: يَا وَيْلَتَا! أَلْقَى الْمَلِكَ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ ذَنْبٍ وَخَمْسِمِائَةِ ذَنْبٍ! كَيْفَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ عَشَرَةُ آلَافِ ذَنْبٍ؟!.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هَبْ أَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ عُفِيَ عَنْهُ، أَلَيْسَ قَدْ فَاتَهُ ثَوَابُ الْمُحْسِنِينَ؟
هَكَذَا تَكُونُ الْمُحَاسَبَةُ.
وَأَمَّا عِقَابُ النَّفْسِ فَيَكُونُ بِالْحُسْنَى، قَالَ اللهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الخَيْلَ أَلْهَتْهُ عَنْ صَلَاةِ العَصْرِ: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ).
قَالَ الْحَسَنُ: لَا وَاَللَّهِ لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي، وَأَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ.
وَكَمَا رُوِىَ عَنْ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ، فَقَالَ: إِنَّمَا خَرَجْتُ إِلَى حَائِطِي، وَرَجَعْتُ وَقَدْ صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ، حَائِطِي صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ.
وَشَغَلَهُ أَمْرٌ عَنِ الْمَغْرِبِ حَتَّى طَلَعَ نَجْمَانِ، فَلَمَّا صَلَّاهَا أَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي جَمَاعَةٍ، فَأَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
إِخْوَانِي، مَا أَحْوَجَ أَنْفُسَنَا إِلَى الْعِتَابِ وَالتَّوْبِيخِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ - وَاَللَّهِ - مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا مَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيُوبِّخُهَا.
وَقَالَ أَنَسٌ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، وَدَخَلَ حَائِطًا، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، بَخٍ بَخٍ، وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ.
وَأَمَّا إِنْ سَأَلْتَ عَنْ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، فَاعْلَمْ - يَا رَعَاكَ اللَّهُ - أَنَّهُ جِهَادٌ شَاقٌّ، وَيَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ وَرِبَاطٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّ الصَّالِحِينَ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ تُوَاتِيهِمْ عَلَى الْخَيْرِ عَفْوًا، وَإِنَّ أَنْفُسَنَا لَا تُوَاتِيْنَا إِلَّا كَرْهًا.
عِبَادَ اللهِ، صَلُّوا عَلَى نَبِيِّ اللهِ، مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
"رَبّنا اغْفِرْ لَنَا خَطِيئَاتِنَا وَجَهْلَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا، وَعَمْدَنَا وَجَهْلَنَا وَهَزْلَنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَنَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا، وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
"اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.